الراوي الذي أعرفه

بقلم: سيد الوكيل

ربما هو نوع من الخجل المفرط، الذي يصل إلى حد الاعتزاز بالذات، وربما الكبرياء. طوال الوقت أحاول تجاوزه لكني دائما ما أفشل. لا يمكنني أن أطلب شيئا لنفسي، أو أقدم عملا من أعمالي لناقد مهما كانت مكانته، ومع ذلك فابتسامه عابرة أو كلمة طيبة يبدأ بها شخص ما، أقدم له روحي على طبق من فضة. مرات كثيرة كنت أندم عندما يتكشف لي الوجه الآخر من وراء الابتسامة… هكذا أنا، وهذا مأزقي الوجودي.  لكن الأمر ع الأستاذ محمد الراوي مختلف. إذ كان قلبا يسع العالم.

 مرة واحدة حاولت أكسر هذا الهاجس، مرة واحدة قدمت فيها مجموعتي القصصية الأولى ( أيام هند ) إلى الناقد الكبير إبراهيم فتحي، وأنا أقول له مداعبا لأبرر وقاحتي: ممكن حضرتك تقرا القصة الأولى، إذا لم تعجبك ألق بالكتاب على طول ذراعك. نظر إلى بغضب وقال: أنت هتعلمني ماذا اقرأ وكيف اقرأ؟

لكن من الخطأ أن نحكم على شخص ما من موقف واحد، البشر بداخلهم ذوات متعددة، وربما متناقضة، وعلينا أن نحترم هذا فيهم. الغريب في الأمر أنني أصبحت أكثر تشببا بكتابات إبراهيم فتحي النقدية، فقرأت جل إنتاجه بنهم، وتمنيت أن أكون مثله.

 بعد أكثر من عشرين عاما تصادف أن تواجدنا في مؤتمر واحد. كان ثمة حديث بيني وبين محمد الراوي على جانب في قاعة المؤتمر، عندما مر بنا إبراهيم فتحي، فنهض محمد الراوي ليصافحه. وجدتني مضطرا أن أقوم وأصافحه أنا أيضا.

 كعادته أخذ محمد الراوي على عاتقه مهمة رعايتي أدبيا، لقد فعل هذا من تلقاء نفسه، وبعشم كأننا أصدقاء من زمن طويل، كان يقدمني لأصدقائه القدامى، ويكلمهم عني كثيرا بكرم وافر، عندئذ قاطعه إبراهيم فتحي وقال:

– أنا عارفه يا محمد.. مش بتاع أيام هند وكامليا!

اطلق الراوي ضحكة مجلجلة كعادته أيضا، وقال: لأ.. هند من غير كامليا…هند وكامليا ده فيلم يا ابراهيم.. طب أنا عاوزك تقرا روايته الجديدة، اسمها فوق الحياة قليلا.. لازم تقراها، هتعجبك قوي.. معاك نسخة يا سيد.. ؟

.. تعالي يا إبراهيم نقعد هنا شويه.. أنت واحشني والله.

لا أحد يمكنه أو يوقف مع الراوي ولا أحد يجاريه في طلاقته، وبساطته. روح منفتحة على العالم لا تعرف غير الحب، نبرة فرح أحسها في صوته، وهو يحكي عن ذكرياته مع يحي  الطاهر عبد الله، ومحمد مستجاب خلال  إقامتهما في السويس، وعن مباريات الكرة التي يلعبونها في شوارع السويس ليلاً، البيوت أيضا خاوية خلال سنوات التهجير. حكايات مخاتلة، لا تعرف منها الواقع والخيال، كتلك التي كتبها في رائعته ( الزهرة الصخرية) حتى في حكاياته عن سنوات المقاومة في السويس مخاتلة أيضا وتبدو أسطورية، يحكيها وهو يضحك كأنه يحكي فيلما كوميديا، بالرغم ما فيها من مأساوية.

هذا رابط فيديو يؤكد ما نذهب إليه في شخص محمد الراوي:

من الملامح التي لفتت انتباهي في محمد الراوي، ليس كتاباته الملهمة، والمميزة فحسب، بل شجاعته في طرق عوالم غير مألوفة، كتلك التي كتبها في ( الزهرة الصخرية ، وتل القزم ) التي أعتبرها استباقا في الرواية التاريخية الحديثة. المدهش في الأمر شجاعته، وثقته التي بلا حدود في أصدقائه، لدرجة أن الرسائل التي كانت متبادلة بيننا تتضمن أراء شجاعة، ووقائع شخصية يحكيها وهو يضحك ويتساءل : ( لا أصدق أنني فعلت هذا.. لكنه الشباب.. اوع تقول لحد الكلام ده يا سيد .. ويضحك)

خمس سنوات على الأقل تبادلنا الرسائل، وأفصحنا فيها عن الأراء والأسرار، فضلا عن زياراته الخاطفة، كلما نزل القاهرة، زارني في مقر عملي بجامعة عين شمس. بعد انتهاء أوقات العمل الرسمية، نمضي بضع ساعات نتكلم. في إحدى هذه الزيارات راح يحدثني عن رواية يكتبها وقتها اسمها ( حارس البحر ) ومن المصادفات العجيبة، أنني كنت قد شرعت في كتابة رواية بعنوان (منزل خشبي أمام البحر ) كنا نسرب بعض المقاطع والمشاهد في روايتينا عبر الرسائل، حتى انقطعت الرسائل تماما، ولا أعرف لماذ؟  لكن مكالمات تليفونية استمرت لبعض الوقت أيضا، مكالمات عابرة وكابية، تؤذن بصمت قادم، صمت استمر طويلا بعد أن توقف عن الرد على التليفون، وعندما سألت المرحوم عصام استاتي عنه، أخبرني أنه الراوي دخل في عزلة، ولم نعد نعرف عنه شيئا. أثار هذا دهشتني، كيف لرجل يمتلك كل هذه الطاقة المنفتحة على الحياة، ينتهي إلى عزلة مقيتة.

لا أعرف على وجه اليقين إذا كانت روايته ( حارس البحر ) قد نشرت فعلا أم لا؟ لكن روايتي ( منزل خشبي أمام البحر )  ظلت في الأدراج وتحولت إلى وريقات صفراء مهترأة. وضعتها في مظروف كبير مع رسائلة/ ومازلت احتفظ بها على سبيل الذكري، ولا أدري لماذا توقفت كن كتابتها، وكأنني ارتبطت روحيا ونفسيا بحارس البحر. فعندما صمت، صمتُ أنا ايضا.

حكاية الزهرة الصخرية:

رأيت من الأفضل أن ننشر هذه الرواية القصيرة، الكثيفة، المخاتلة. حتى نتمكن من قرائتها، ونعرف طبيعة المغامرة السردية عند محمد الراوي.

 أما أنا فسأحكي لكم عن ما حكاه الراوي عن ملابسات تلك المرحلة التي تحكمت فيها صراعات مؤدلجة أفسدت الفن والأدب بدعوى أن وظيفة الأديب هي أن يصور قضايا مجتمعة فحسب. هكذا يصبح الأديب موظفا بقرار سياسي من ستالين على حد تعبير الراوي نفسه. إنه الأدب الملتزم.. كان لهذا التعريف الضيق حراسه في الحياة الأدبية، حتى أن أي محاولة لمفارقة أنماط الأدب الملتزم، كانت تعامل بوصفها خيانة وطنية.

 في هذا السياق الضيق اعتبر الدكتور ( عبد المحسن طه بدر ) أن رواية الزهرة الصخرية عودة إلى الرومانسية القديمة ، ولا يمكن نشرها في دار المستقبل العربي. وبعد ذلك نشرت الرواية في الهيئة العامة لقصور الثقافة، وهي مؤسسة حكومية، ومع ذلك فلا تضع قيودا فنية على الرواية،  بينما الناقد اليساري الكبير صاحب ( الروائي والأرض) يرفض رواية بهذا الجمال.

المفارقة أن الرواية نالت شهرة واسعة بين الأجيال الجديدة من الكتاب، وهذا يعني أن كتاب هذه المرحلة بالتحديد، كانوا ينظرون إلى الوراء بضغب، وضجر من أنماط الكتابة المؤدلجة، وأن محمد الراوي كان سابقا وشجاعا ليفعل هذا بالكتابة، ولا يكتفي بالكلام. إنه يفعل هذا على الرغم من تأكيد انتماءه اليساري

لنقرأ هذه العبارة التي كتبها محمد الراوي، تعقيبا على وعي المستقبل العربي اليساري : ”  هذا التقرير الذي يلقى الضوء على الأيدلوجية عندما تطل من نافذتها الضيقة على أي عمل  إبداعي فتتعامى عن كل عنصر جمالي وكل تخييل إنساني في سبيل تحقيق أغراضها وفرض مفاهيمها وتثبيت رؤيتها الجامدة المقولبة إلى العالم والإنسان ، مما أودى بها إلى صندوق نفايات التاريخ . مع  العلم بأني لا أقصد بالأيدلوجية اليسار أو اليمين.. فأنا يساري في صميمى “

رسائل الراوي:

حتى وقت قريب كنت أعتقد أن  لعبة المراسلات الورقية بيننا، تقتصر علينا فقط، لكنى عرفت أنها لعبة محمد الراوي المفضلة، التي تكررت مع أصدقاء وثق في وعيهم.

كانت رسائلنا تصل إلى 12 صفحة ورقية، لهذا حملت كثيرا من الأحلام، والذكريات، والأراء تدور كلها حول الأدب والفن، موضوعات لم يعد من المجدي الكلام عنها الآن، العالم يتغير بسرعة أكبر من توقعاتنا. لكني على سبيل الامتنان انشر رسالة واحدة مختصرة، تكون وفاء لهذا الرجل النبيل، وقدرته على متابعة الحراك الأدبي، ولا سيما الشباب الذي كانوا يتلمسون طريقهم في هذا الوقت.

محمد الراوي، هو الوحيد الذي امتلك شجاعة أن يكتب عن روايتي ( فوق الحياة قليلا ) وقت صدورها. وعبر عن دهشته من صمت النقاد وتجاهلهم لها، إذ أحدثت الرواية ما يشبه الصدمة لهم. وعبرت عن روح مغامرة لتجاوز أنماط الواقعية المؤدلجة، بل تناولت على نحو ساخر عددا كبيرا من شخصيات أدبية، كان أمثال الدكتور/عبد المحسن طه بدر يعتبرهم قادة في مجالهم، وفي نفس الوقت يعتبر الزهرة الصخرية ردة إلى رومانسية عتيقة.

سلاما لروح محمد الراوي، وتقديرا لزهرته الصخرية، ننشرها كاملة هنا. كما ننشر هذه الرسالة امتنانا مني لشخصة النبيل. هو فعلا قلب يسع العالم.

فكرة واحدة بشأن "الراوي الذي أعرفه"

أضف تعليق