لم يكن ضيق الوقت مشكلتي الوحيدة، التفاصيل التي لم يعد يتسع لها الوقت، محاولات السيطرة على حماقات الآخرين، كنت أحاول نفض كل ذلك والتركيز في مشوار الغد: رحلة عمل إلى مدينة قريبة تستلزم السفر اليوم لأكون هناك مبكرا، المشوار ليس هينا قرابة خمسمائة كيلو متر أقطعها بالسيارة وحيدا أخطط لكثير من المشروعات القادمة، لكن السيارة خذلتني حين اكتشفت تعطل المكيف في بلد يستحيل الحياة فيها بدونه.
لم يكن هناك من يستعان به، خيار واحد بدا متاحا للوفاء بموعد الغد، الاستعانة بسيارة من خلال أوبر أعرف أن الرحلة ستكون مكلفة ولكن ….
تخففت من كثير مما خططت لحمله، و طلبت سيارة فكانت الاستجابة أسرع مما أتوقع ، لم أتفحص السائق ، كان كل همي قطع المسافة حتى المقصد .
خرجت للطريق أنتظر ، وحين وصلت السيارة فوجئت بها سيدة أربعينية ، حين رأيتها رحت أحدق في التطبيق والسيارة ولما لاحظت ارتباكي أشارت لي ألا خطأ هناك ، ترددت قليلا أين أركب ( تعودت أن أجلس بجوار السائق تجنبا لشعوره بالتعالي عليه ) ، حسمت الأمر بقولها : يمكنك الجلوس في الأمام على ألا تنازعني سلطة القيادة أنتم الرجال ، وغمغمت بكلام لم أتبينه وراحت تؤكد كونها خبيرة وتفضل القيادة وجربت كثيرا من وسائل التأمين والأمان و….
خلال الطريق كنت أراجع أوراقي وتفاصيل الموعد، تصفحت بريدي، تابعت بعض أخبار الأصدقاء، واتصلت بوالدتي أتزود من اطمئنانها للحياة، بدا صوتها ضعيفا وهي تدعو لي كعادتها، وتستجدي كلماتي للاطمئنان عن كل التفاصيل، ولما أخبرتها أنني في طريق سفر قالت بكل يقين : ربنا يسلم طريقك، وحين هممت أن أخبرها أنني في سيارة تقودها امرأة تراجعت كيلا أستفز قلقها .
حين أنهيت اتصالاتي كان الطريق لم يزل طويلا ، ولما كنت أدرك خارطة الطريق كنت أنبه السائقة لما هو قادم لكنها كانت تتذمر بالقدر الذي جعلني أدرب نفسي على الصمت .
أخذتني الصحراء فجربت الاسترخاء ورحت أفكر في كتابة نص عنها ، تأرجحت السيارة أو خيل لي ذلك رحت أحذرها من مناطق الخلل في الطريق لكنها زجرتني بعيونها فغادرت اللحظة عائدا إلى ماقبل السفر .
أغمضت عيوني ورحت ألملم حواسي لاستيعاب التفاصيل، فلم أشهد ماحدث كل ما أدركته أن السيارة تنحرف مندفعة للصحراء صاعدة هضبة حتى قمتها ثم زاحفة من الناحية الأخرى ، وصرخات السائقة تقلقل الرمال، حتى إذا استقرت كانت تنشج بالبكاء، وهي تصرخ أنها لم تخطئ وووو…
كانت تحملني المسؤولية ( لا أدري كيف) ، وكنت أحاول إفهامها إنني لست المسيح الذي يتحمل أخطاء البشر ، ربما قمت بهذا الدور سابقا ، ولما لم تحاول الفهم تركتها تنازع ذئاب الصحراء العواء .
التزمت الصمت لمراجعة الموقف ، سيارة مغروسة في الصحراء ، أبوابها تستعصي على الفتح ، وجسم تتزاحم فيه الرضوض والسجحات ، لم يكن هناك دماء فقط آلام موزعة على جسمي بعناية فائقة .
حذرتها من الخروج لأنني أدرك طبيعة المكان وكونه مليئا بالهوام وفي مقدمتها العقارب والثعابين، لكنها أصرت على الخروج ولما لم يستجب لها الباب راحت تبكي نادبة حظها العاثر ويقينها المتعثر.
بدت الصحراء موحشة، وحين قررت استخدام الجوال لم أجده، ربما طار من النافذة أو تحطم، وقد فهمت منها أن جهازها لم يعد يعمل بكفاءة.
شعرت بالعطش الشديد فلم أسألها عن الماء، كأنني نفضت القلق أو تخلصت منه للأبد دخلت حالة من الاستسلام المريح، طلبت منها أن تتركني لأفكاري ربما أجد حلا..
استغرقني الظلام تدثرت به مستسلما لأفكاري، أغمضت عيوني إمعانا في الابتعاد ( تماما كما أفعل حين أريد النوم هروبا من الواقع) ، لم أكن أدرك الحالة ، ولم أشعر بشيء سوى أنها تلمسني ، هامسة حمدا على سلامتك ، حملقت فيها فابتسمت ، متى جاءت و كيف اهتدت لي ، لم أسألها ، فقط كانت تمنحني بعض دفء أمومتها ، وتحكي لي عن رحلتها مع والدي الذي رحل منذ سنوات ، عن جدي وعن حبه للعلم ، عن الرؤيا التي رأتها حين كنت جنينها السابع: قبيل ميلادي جاءها والدها وأعطاها كتابا استبشرت خيرا ونذرتني للكتب .
ألقيت إليها كل هموم السنين وغدر الأيام وغلاء الحياة وتبدل الأجيال وسقوط الأخلاق وووووو
ربما غفوت أو دخلت في حالة من الإغماء ، كانت السائقة مازالت تبكي ، وكانت تستقطبني حالة من الهدوء تمنيت أن تطول.
(إلى روحها ” بنت الشيخ عبد الحليم فريجة ” وقد رحلت في مثل هذا اليوم منذ خمس سنوات)