أرشيف التصنيف: سيد الوكيل

عن المتعة والرغبة. بقلم: سيد الوكيل

في كتابه ( تطور المتع البشرية ـ رغبات وقيود) يطرح ( شارل كورنريخ) سؤالاً طريفًا ربما دار برؤوسنا يومًا، لكن أحداً منا لم يهتم بالإجابة عليه :لماذا نطعم قطتنا ونتركها تهز ذيلها على الأريكة في سعادة، فيما علينا أن نكدح في الشوارع ونشقى في المصانع ونتعرق في المزارع لنحصل على طعامنا؟ وقبل أن تفكر في  إجابة يطرح عليك سؤالاً جديدًا: هل ترضى بمبادلة حياتك بحياة قطة؟

 هكذا يبدو الأمر دعوة لأن نرضى بما نحن عليه. لكنه في الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك. وخلاصته أن ما نحصل عليه من متعة أكثر بمئات المرات مما يحصل عليه أي كائن على وجه الأرض. كما أن إحساسنا بالمتعة يزيد كلما كان ثمنها أكثر فداحة. مثلاً، كلما كان عملنا شاقًا وصعبًا فإن متعتنا بقيمة النجاح تتضاعف. الطريف أن هذه المتعة ترتبط برغبة عميقة لأن نكررها ونضاعف من معاناتنا  لنحصل عليها. بما يعني أن درجة من التفاعل العاطفي تنشأ بيننا وبين متعنا تكون أكثر وضوحًا عندما تلقم الأم ثديها لوليدها أول مرة بعد معاناة الحمل والولادة. في كل مرة تفعل ذلك تستدعى مشاعر المتعة الأولى. بل تزيد مع الوقت بسبب التفاعل العاطفي بينهما، الابتسامات والمناغاة بل والبكاء الذي يعكس توتر الطفل رغبة في ثدي أمه. هكذا.. سيمفونية المتع لا تتوقف عن العزف بداخلنا، ولو كانت في مجال واحد ومحدد وظيفيًا كغريزة الأمومة. فما بالنا بالمتع المكتسبة والعابرة كالتدخين،  اللعب، والغناء، والــ…

 إن المتع البشرية كلما كانت مؤقتة ولا تستهدف غير مجرد المتعة، تكون أكثر إلحاحًا لتصل حد الإدمان، لأنها لا تمنحنا إشباعًا عاطفيًا كذلك الذي نجده بين الأم وطفلها. لهذا فمثلث المتعة البشرية، يتحقق عبر العاطفة، والرغبة واللذة التي هي المرجع لإحساسنا بالسعادة. ونحن مستعدون لمزيد من المعاناة لنحصل على لذة أعظم رغم علمنا أن الألم هو الوجه المقابل للذة. 

استمر في القراءة عن المتعة والرغبة. بقلم: سيد الوكيل

أفئدة فارغة يداويها العشق. بقلم: سيد الوكيل

***

سأل أحد المتصوفة تلميذه: لماذا يخشى بعضنا الإيمان؟

أجاب التلميذ: خشية المسئولية.

 فقال الشيخ: بل خوفًا من التلاشي والذوبان والفنائية.

المغزي: أن رحلة العشق في مراتب الصوفية هي حالة تسامٍ روحي تصل إلى الوجد. وعندما يصبح الوجود البشري رهن بوجود كلي وأعلى، يصل الشعور إلى ما يشبه مفارقة الروح للجسد، حتى تفنى الذات الإنسانية في الذات الإلهية تمامًا. إنه التماهي في وجود كلي أكبر، لا يزول ولا يضيق بنا ولا يهجرنا.

استمر في القراءة أفئدة فارغة يداويها العشق. بقلم: سيد الوكيل

تقنيات عرض الحدث الروائي عند سيد الوكيل.د. نجدي عبد الستار

31 مارس، 2021 مرفت يس أضف تعليقا تحرير

تعددت التقنيات المستخدمة في أعمال الوكيل، كتقنية الإحالة، وتقنية المحاكاة الساخرة والتفكيك، الذي قاده المؤلف الضمني في التعبير عن الحدث، بوصفه لقطات مصورة، دون الاتكاء على عقدة واحدة، تاركًا الحدث يتنامى في أعماله التي ترك نهايتها مفتوحة؛ يرجع ذلك لتشابك أعماله برباط دقيق، يحتاج من القارئ بذل المزيد من الجهد رابطًا إياها، من خلال أنساقها الدالة على هدف سعى له المؤلف، وهو الحديث عن معاناة الإنسان، الإنسان وحده الذي يعيش الواقع بما فيه من أزمات تحيطه بصفة عامة، والمبدع بصفة خاصة، هذا الاتجاه فُهم من السياق، فالمؤلف الضمني وضع نصب عينه أن يتحدث عن واقع مغلف بالسخرية المضحكة حد البكاء، وعن الظروف التي يعيشها المبدع وبين خياله المجنح نحو طموح لا يجد له سبيلاً، إنها الإشكالية بين الجمال الذي تهدف له الكتابة الأدبية وبين الواقع المعيش، وما فيه من قسوة تدفع حينًا للمطاردة وحينًا للمعاناة وحينًا للحديث عن اغتراب مؤرق للأرواح، حتى وهي تعيش بين الزحام .

إننا أمام حضور قوي للسارد، منذ بداية الأعمال حتى نهايتها، متداخلاً في النصوص، منظرًا مرة وشاهدًا مرة، ومشاركًا في الأحداث مرة أخرى، ولعل استخدامه لتلك التقنيات، تعني وجود عملية سردية، ذات شفرات خاصة تحتاج من القارئ المشاركة للسارد في نصه، أو بالمعنى الصحيح في نصوصه، الذي استخدم معه تقنية الإحالة، بعودته لنصوص خارج سرب رواياته، بمعنى آخر جاءت في مجموعاته القصصية.

فهذا جزء من التقنيات المستخدمة في نصوص الكاتب، هو وجود المروي الضمني أو الوسيط بين السارد والقراء عامة[1]، هذا الأمر الذي جعله يقدم ثلة من الآراء النقدية ليعبر عن رؤية “روب جرييه “حين قال: “على كل كاتب جديد ينأى عن التقيد بالأشكال الثابتة أن يحاول تكوين القواعد التي ترسم ديناميكية في نفس الوقت الذي ينتج فيه عوامل تحطيم هذه القواعد نفسها “.[2]

لقد استمع الكاتب جيدًا، للعلاقة الشائكة بين الإنسان ومصيره، بل جعلها شاغله، الذي ميزه من أبناء جيله، وعلمه معنى الدقة، لكن الأمر لم يكن واضحًا بالشكل الذي يرتضيه، فلا يمكن لمن شغل بتلك الحالة أن تتضح أمامه الدروب المعتمة، لكنه على كل حال يحاول، أليس هو من أهدى إبراهيم أصلان متواليته الثانية كما سبق ذكره” إلى إبراهيم أصلان الذي علمني الدقة لا الوضوح “.[3].

فوق الحياة سيد الوكيل

سيدالوكيل777

 فسيد الوكيل يواجه سيد الوكيل نفسه، في محاولة لاحتوائه من أجل خلق ذات يروي عنها، هذا الحضور القوي الذي أشار له الباحث “مهدي صلاح” في بحثه عن حضور المؤلف داخل الأعمال السردية إذ يقول:” ومنذ الصفحات الأولى في الرواية يبدو السارد مجسدًا ومعلنًا عن شخصيته ووجهة نظره”.[4] هكذا هو في (فوق الحياة  قليلا)  “قرر وبشكل حاسم ومن وجهة نظري كل قراراته حاسمة ما لم يحتج لتنفيذها وهو اتخذ القرار منذ أول الصباح أن يتخلى عن كونه شاعرا” .[5]

  إننا أمام سرد مختلف، باختلاف صاحبه، الذي حاول أن يختار لنفسه طريقًا ارتاده وحده، متحملاً وعورته ومجاهل عوالمه، كي يصبح متفردًا، وما أجمل أن يعبر الأديب مطبات التقليد! ويبتعد عن السقوط في هوة الابتذال، لقد كان الكاتب بمثابة العلامة الدالة على التطور الذي حدث للسرد في العقدين الآخرين، ولست في هذا محصيًا لما كتب، إنما هي محاولة الوقوف على تقنية جديدة بأن ثمة علاقة تماه ٍ بين السارد والمؤلف في الكتابة الروائية الجديدة، وأن هذا التماهي بوصفه علاقة بين طرفين: مجازي (السارد) وحقيقي ( المؤلف)، يدفع إلى رؤية السارد بوصفه صوتـًا فنيـًّا للمؤلف، هذه العلاقة مشروطة بتصور أن النص الروائي الجديد وما يتصل به من خبرات حياتية ووقائع حقيقية، وأشياء موجودة في عالم المؤلف الحقيقي الخارجي، لا تمثل المؤلف عينه إلا بشروط خطابه الأدبي، وأول هذه الشروط إعادة بناء ما هو واقعي أو حقيقي، ليصبح علامة نصية مجازية لها قوة الحقيقي أو الواقعي. ومن ثم يصبح النص الروائي الجديد بخطابه الأدبي هو مصدر التعرف على السارد (المؤلف) الذي صار علامة، أو عنصرًا نصيـًّا، ومع هذه الصيرورة تنتفي الإحالة إلى السيرة الذاتية للمؤلف أو العالم الخارجي، لنرى ذلك من خلال النصوص[6].

في أعمال الوكيل المتصلة جاءت طرائق عرض الحدث مختلفة، ذاك الاختلاف الذي يكمل وليس الاختلاف الذي يولد الانفصام، إنه يكمل بعضه كعقد جميل مختلفة حباته، لكن كل واحدة لها دورها في إبراز هذا الجمال وأبرز ما يميز طرائق عرض الحدث، في هذه الأعمال، هو مستوى التوالي الكتابي، لوحدات القول، باعتباره مدخلا ًلالتقاط الإيقاع العميق للنصوص، وعاملاً مثيرًا لاهتمام القارئ، ينبه حساسيته لإدراك المنظومة الكلية للمتواليات النصية، ويضمن فعاليتها الجمالية من ناحية أخرى، وهذه الفاعلية هي ما توصل له[7]،

ويسعى الرّاوي إلى التّفنن في سرد الأحداث، من خلال نسج الخيوط، التي تزملت بالجمال حينًا، أو بالروح الساخرة من أجل منح النص الروح والحيوية، والنسق يعتبر الهيكل البنائي الذي يعتمد عليه الراوي في إرسال مرويه، والطريقة التي يختارها من أجل إيصال الحدث للمروي له، وقد تكون بطرائق مختلفة.

 طرائق العرض أي ما يختاره الراوي من طريقة تساعده في إيصال الأحداث للمروي له، متبعًا لذلك عدّة طرائق، فهو تارةً يسعى إلى عرضها بأسلوب تتابعي منطقي، وتارة أخرى يعرضها بشكل تضميني، أو دائري، أو فوضوي. وهكذا على وفق ما يراه منسجمًا مع نصه السّردي، الذي يشتغل عليه. وتأتي أهمية النّسق بوصفه عنصرًا بنائيًّا من أنَّ الأحداث لا يمكن لها أنْ تنسجم أو تنتظم دون أنْ تُبنى على وفق أنساق معينة.

لقد تنوعت الأنساق التي استخدمها المؤلف الضمني، ومنها نَسَق التّتابع، ويعدُ هذا النّسق البنائي من الأنساق المعروفة منذ زمن بعيد، مهيمنا لمدة طويلة على السرد القصصي بمختلف مستوياته وأجناسه.

والنسق التتابعي هو عرض الأحداث من خلال ترتيبها الزمني دون أي خلل، وهذا اللون من الأنساق التي يعبر فيها عن البدايات التي لا تحمل المفاجأة، ولا تعطي انطباعًا مغايرا للقارئ، لذلك فإن الروايات الحديثة حاولت التنصل منه، إلا في بعض الحالات التي يجب أن تسرد به من أجل توضيحها بشكل لا يجعل القارئ ينفلت من العمل، فالأحداث تروى جزءًا بعد جزء دون أن تتداخل مع أية قصة أخرى، وكما اتفقنا أنه من الأنساق الشائعة قديمًا، هذا النسق الذي يتكئ السرد فيه لمنطق السببية، فاللاحق نتيجة مباشرة للسابق وهكذا دواليك، ما يجعل القارئ في حالة توقع للقادم، مما يفقد العمل الأدبي أهم ما يميزه، وهي حالة التحفز التي تنمو في عقل المتلقي، وتجعله دومًا على استعداد لما هو قادم من خلال توقعه، الذي فرضه عليه السرد إلا أن الكتابة الحديثة قد تخلت عن هذا النوع التقليدي في السرد، وهو تكنيك يعتمد على الزمن في أوضح صوره، وفي عرضنا لأعمال مربوطة بخط دال على هدف العمل الأدبي الذي لا يستطيع المتلقي الوصول له إلا ببذل الكثير من الجهد ، نرى أن الراوي لم يكن حريصًا على نقل الأحداث بشكل تتابعي لذلك فإن المؤلف قد لجأ إلى بعض الطرائق الأخرى، فهو يعرض الحدث داخل قصة يتخللها مجموعة من القصص المتداخلة والتي تخدم الحدث، ومرتبطة به من خلال البناء المتشابك أو فلنقل البناء التضامني.

والبناء التضامني يسمى بنسق التضمين وإن كنت أميل إلى تسميته للنسق المتشابك لأن المتلقي لا يستطيع فصل القصص المتداخلة عن الحدث، بل هم مربطون بدال يسير خلفه المتلقي ويعمد له الراوي – لهذا النسق- في محاولة سد فراغ داخل العمل السردي أو بحثًا عن تنوع في طريقة عرض حدثه ، وإن كنت أميل إلى لجوء الكاتب لهذا النسق ليس من قبيل سد فراغ أو عميلة تنوع لكنها حالة متلبسة للكاتب يعبر فيه عن حدثه من خلال العيش مع الحدث، فيحاول تنميته بشكل تلقائي عندما يربط بينه وبين أحداث متشابهة في المعنى ومختلفة في الشكل أو حتى حدوثها الزمني.

ولست مع الآراء التي تهدف إلى تهميش العمل بأنه وجد للإمتاع، لكن العمل الأدبي له حضور قوي في تغيير مسار الحياة، بل وتعبيد الطريق أحيانًا للسير عليه من خلالها، فالتقنيات ليست أبدًا دفعًا للملل والسأم، كما يذهب إلى ذلك البعض، لكنها تعبير عن حالة الإنسان وما يعانيه، وهو كما اتفقنا القضية الكبرى لكاتبنا، التي وضعها هدفًا له من البداية، إنه لن ينشغل بالقضايا الوجودية، ولكنه سينشغل بالقضية الأهم، ألا وهي قضية الإنسان.

        وفي نسق التّضمين تتفرع عن القصة الأم قصةً أو قصصًا أخرى فرعية إلا أنَّ تعدد القصص هذا ليس مشروطًا “بتعدد الرّواة فبإمكان راوٍ واحد أنْ يعقد علاقات بين مقاطع حكائية مختلفة”[8] كما حدث عند الكاتب، ولاسيّما وإنْ كان الكاتب ممن امتلك ناصية موهبته ولديه من الدّقة في اختيار الجزء الذي يعمد فيه إلى توليد القص، مما يسمح بدوره في إيجاد سرد متفرع من القصة الأوّلى إذ تنمو القصص ويزداد  النّص وتزداد الدّلالة.

ففي روايته الأولى (فوق الحياة قليلا) تتوالد القصص من بعضها وفي كل واحدة تزداد الدلالة ففي الفصل الأول فوق الحياة قليلاً يعبر عن المطاردة من خلال قصص متوالدة ينمو معها الحدث فيقول على لسان الراوي الذي يتحدث عن الشاعر المنغمس في عالمه الذي يحاول أن يعيش ولو لحظات في الواقع المعيش وهو المشتت بينهما معبرًا عن حالة سائدة في المجتمع وإعلاء ما هو لهو على ما هو جد فيقول: “علم بموعد المباراة من حديث مساعديه، ولأنه يحفظ بعض أسماء اللاعبين ويعرف شيئًا عن انتصاراتهم وإخفاقاتهم، ضمن لنفسه مشاركة معقولة في الحديث. يخشي أن يظنوه متعاليًا، أو راغبًا في العزلة، فكلما دخلوا عليه وجدوه دافنًا وجهه في كتاب[9]” ، إنه يعود ليأخذنا لقصة أخرى وهي حالة الإحساس بعدم القيد وأنه يفر من مطاردة الوقت، فيترك سوار ساعته مفتوحًا ما يجعل الآخرون ينبهوه لذلك فيضحك سخرية منهم، إنها اللحظة التي يحلق في عالمه الخاص تلك التي يشده فيها الواقع المعيش فيقول: “لا يرفع عينيه عن الكتاب إلا لينظر في ساعته التي اعتاد أن يترك قفل سوارها مفتوحًا، فتتدلى على كفه، حتى ينبهه الساذجون، أو الذين يعرفونه للتو: احذر.. فالساعة ستسقط يضحك، فتظهر كل أسنانه، ويدرك الآخر.. كم هي دعابة سخيفة [10]” في استخدامه لهذا النسق التضمني أو التوالدي يتدخل فيها الراوي مباشرة بآرائه التي تساعد على المشاركة والتي تأخذنا لسبب تداخل تلك القصص، وهي العلاقة السببية فيقول: ” ومن وجهة نظري، كل قراراته حاسمة ما لم يحتج لتنفيذها، قرارات كثيرة اتخذها في حياته بشكل حاسم، لكنه لم ينفذها”[11]،هذا الرأي يقودنا لقصة أخرى معبرة عن حالة المطاردة المعيشة بين الواقع والحلم والتي تدفعه لتأزم أحيانًا فيقول:” والقرار الوحيد الذي لم يكن جادًا فيه، نفذته له قوى غيبية، عندما دفعته ليغازل فتاة سمراء تمشي وحيدة على شاطئ البحر”[12].

في الفصل الثاني (كان محتاجًا لمن يسكب قهوته) من رواية فوق الحياة قليلاً تتوالد القصص وتتشابك، لينمو الحدث في داخلها، فهو الذي أشرك المتلقي الملم بأعماله مستخدما تقنية الإحالة، والإحالة في عند هاليداي ورقية حسن هي «علاقة دلالية تشير إلى عملية استرجاع المعنى الإحالي في الخطاب مرة أخرى، فيقع التماسك عبر استمرارية المعنى.»([13]) و «الإحالة أكثر وسائل الربط النحوي شيوعًا، وهى في العربية عديدة تدخل فيها الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة وبعض العناصر المعجمية الأخرى من قبيل نفس، عين، بعض.»([14])

وترجع أهمية الإحالة إلى أنها تشكِّل الخطاب بوضوح حين تحيل الأحداث التي تقوم بها الشخصيات في بنية زمانية ومكانية إلى واقع متخيَّل داخل العالم الروائي يعبر عن الحدث الذي تتعايشه الشخصيات بأنواعه الناتجة عن أحداث الحياة المختلفة. إذا كانت هذه الأهمية للإحالة تظهر في التماسك النصي داخل النص فإنها عند الوكيل جزء من التماسك النص الروائي والقصصي، فالوكيل يشير دائما إلى شخصياته في أعماله المختلفة مؤكدا أنها تمثل الحياة ، وهي حيلة استخدمها الروائي لربط متلقيه بأعماله ثم ينتقل مستخدما تقنية التضمين أو كما قلت التشابك فيقول: ” تذكرون هدى كمال التي تركناها جالسة أمام ثلاجة مفتوحة، وضوء خفيف وحده ينسال باردًا على جسدها العاري، ويشكل ظلال النهدين والفخذين”[15]، هذه الإحالة لم تكن وحدها مع هدى كمال لكنه استخدمها أيضا في فصله (مدار السرطان) الذي تحدث فيه عن سيد عبد الخالق لقصة سابقة (كل ما عليك أن تموت)، كتبها الوكيل يصفه فيها بأنه تحول لكائن شفاف، هذا الكائن الذي ودع الدنيا حين اختار أن ينظر في الاتجاه المخالف للكادر، ليعود في فصل (مدار السرطان) في روايته (الحالة دايت) يصف فيها الشخص الذي يراه وهو يصلي بجواره في المستشفى بنفس الصفات، وكأن الموت يطارده وهو يواجهه ولكن بالكتابة.

 مازال الكاتب يربط متلقيه برباط شفيف يجبره فيه على العودة إلى أعماله السابقة ويتضح ذلك من خلال إحالتنا لقصته (جراح رمضان الأخيرة) التي كتبها عن حمدي سعيد، الكاتب في هذا الربط يحاول أن يصحح ويضيف و يجعل العمل متماسكًا أكثر، فهو كتب ليوثق، وهو أمام خيار لا بديل له، بعد أن قرر أن يكون مرآة صادقة لحيوات المبدعين ومماتهم؛ ليظل في حالة توحد مع ما كتب، وأن يعيده بشكل أفضل فالإنسان خلق ليصحح ما أخطأ فيه ويصحح ما هو مصحح؛ ليكون أكثر قدرة على التعبير، هذا النهج الذي تأثر به الكاتب في توثيق ما مر به من خلال سيرته الذاتية لهو الأمر الذي يصل به لبر النجاة في تقديم” حياة حقيقية وليست بروفة” [16].

يتضح أن الكاتب استخدم تقنية الإحالة التي قادتنا نحوالمحاكاة الساخرة تلك التي” تمثل في استعادة حرفية لنص قصد إكسابه دلالة جديدة فيها بعد ساخر وذلك باللعب على الكلمات حسب الحاجة والإمكان”[17]، وفي أكثر من مناسبة من خلال محاكاة أعمال معروفة أو حكايات شهيرة ومناقشتها بهدف تفكيكها، والكشف عن مناطق المفارقة فيها، فمثلاً في رواية فوق الحياة قليلاً، كان كلامه عن كتاب محمد جبريل الذي كتبه عن نجيب محفوظ، وتغير معالم المقاهي الأدبية أو واقعة مقهى المثقفين، ومواجهة نجيب محفوظ وكلود سيمون أو المقارن بين شخصية القاص الجنوبي، ويحيى الطاهر عبد الله، أو الحديث عن نعمات البحيري ومحمد مستجاب هذه السخرية التي علت فيها ترانيم الأسى والوجع.

 لم تكن السخرية هدفها الإضحاك، إنما تفكيك الأفكار التي ثبتتها الثقافة، ورحلتها إلى قيم عليا، مثل سخرية الطيب صالح من القاص الجنوبي وهو نائم في بيت عمه، وتبوله على روحه، وفي مشهد يأتي الطيب صالح ليسخر من القاص، أو ليقول له أنت مجرد نسخة تكرر ما فعله مصطفى السعيد بطل رواية موسم الهجرة الى الشمال.

        إن استخدام المحاكاة الساخرة ليس مجرد إشارة أو استشهادًا أو الإفادة من عمل آخر، بل هي أكثر عمقًا لأنها تشترك بفاعلية في الشفرة الخاصة بالنص أو العمل الذي تتم محاكته، ولا تكتفي بذلك بل تشترك في الشفرة الأساسية الخاصة بالمحاكاة بشكل عام، وتشمل مجموعة من التلميحات التي تنشط البنية المعرفية الخاصة بالعمل السابق وكذلك العمل الحالي في الوقت نفسه.[18]

 والتقنيات السابقة ساعدت على وجود النسق التضميني فعند ذكر قصة هدى كمال أخذنا لقصة أخرى تعبر عن المطاردة التي عاشتها في غربتها ومدى الحزن الذي سيطر عليها قالت:” إن المصور الهندي طلب منها أن تبتسم، وقال لها إن الابتسامة تحفف كثيرًا من نظرتها الحزينة.”[19]، ليعود مرة أخرى لقصة اللقاء الأول بقوله:” وعندما قال لا شيء تغير، كان يسبح في حزن عينيها بلا نهاية.”[20]

هذه السباحة التي بدأها أول مرة حين وقفت تعتذر، وتكرر الاعتذار، كانت تشير لابنها وتقول إنه مجرد طفل، وإنه لم يقصد الاصطدام بمائدته، وأن البط أفزعه لما خرج عن سباحته الهادئة دفعة واحدة، وأخذ في الصياح، أما هو فقال: ” لابد أن البط كان في حاجة لشيء يثير غضبه”[21].

لم يكن هذا النسق الموجود في روايته الأولى (فوق الحياة قليلا) بمنأى عن أعماله الأخرى، فقد ظهر في عمله الثالث (الحالة دايت)، ففي كتاب الموت بفصله الأول مقبرة عائلية كانت القصص تتوالد من القصة الأم وهو يعبر عن حالة الموت غريبًا، والاغتراب الذي يصيب الإنسان وهو يفقد حياته وتتساقط أوراقه ورقة ورقة في فكرته المعبرة عن الوجع وعدم وجود العدالة والتي يعاني منها المفكرون في جميع مناحي الحياة، حتى أنهم لا يقدرون على وجود مقبرة تحمي أجساد من يحبون من غبن السرقة، وتشريحها أمام الطلاب لتكون مادة يتعلمون بها، كانت القصة الأم هي موت الأب ودفنه في مقبرة تليق به وتوالدت القصص معبرة عن حالة أبيه فيقول: “في أيامه الأخيرة، أبي كان يفقد شيئًا من ذاكرته كل صباح، كأنها أوراق جافة لا تستقر على أغصانها، تتأرجح قليلاً ثم  تسقط في بحيرة راكدة، نوبات من خرف الشيخوخة تراوده وترحل كأطياف خفيفة، فتكشف في وعيه عن بؤر قديمة لحب لم ينطفئ بعد[22]” هذه النوبة بدأت للمرة الأولى” بدأت النوبة الأولى بعد منتصف الليل برغبة في الرحيل، سمعته يحاول فتح باب الشقة. كانت زوجتي قد نامت فعلاً، وأنا غفوت وتركت التليفزيون يعرض صورًا بلا صوت عن انتفاضة شباب الضواحي في فرنسا”[23]  علاقته مع زوجته التي أصبحت في تحسن بعد قيامها بدور عظيم وإنساني، فهي التي تعامله كابن لها”  في صباح ما، استيقظت زوجتي فوجدته ممدًا على الأرض، لاحظت أن بقعة ماء كبيرة على بنطلون بيجامته، ربما خجلت من لمسها، لكنها شمت رائحة النشادر بوضوح، ثم نادتني”[24]، ففي الحقيقة هي التي “تتحمل العبء الأكبر في رعاية أبي منذ جاء ليعيش معنا تفعل ذلك بصمت وحب، لا تمن علىّ به مهما أسأت معاملتها؛ لهذا كنت أشعر بالخجل من نفسي كلما فقدت أعصابي أو تنرفزت عليها كما كنت أفعل دائماً”[25] فهي التي تعاملت معه كأم تحدث صغيرها، وهي تحاول أن تهدهد حزنه فتقول:” أنا لو مكانك أخاصم الولد ده.. وما لعبش معاه تاني ..دا بيحمرأ فى اللعب…- آه.. هو حمرَؤتي.. وعياط  كمان…  لم أفهم، كيف تفرح امرأة شابة بأمومة رجل فوق السبعين؟ “[26]وهكذا توالدت القصص في هذا الفصل مساهمة في تنامي الحدث دون الاتكاء على عقدة، وظل هذا التناسق موجودًا في كل الرواية.

         في عمله الثاني (شارع بسادة) في فصل الغرباء الذين يعرفون طريقهم جيدًا حتى في الظلام، ينتقل الكاتب من القصة التي يعبر فيها عن حالة الاغتراب، تلك التي يعيشها الكثير من البشر، وحالة التمزق والتشتت المسيطرة نتيجة الصراع بين الطاهر والمدنس إلى قصص متوالدة من القصة فيعبر عن الجدة فيقول: ” في نفس اللحظة تتثاءب الجدة، ربما تكون قد نعست فعلاً، وخطفت حلمًا أو حلمين قبل بضع آيات، فقد حصلت على جرعة روحانية تمكنها من الحلم بالملاك الذي يقبلها وهي نائمة.”[27] لينتقل لقصة أخرى وهي عودة الغرباء فيقول: ” في تلك اللحظة سيكون كل شيء في نفق المحطة معدًا لاستقبال الغرباء الذين وصلوا للتو في قطار هو الأخير، وسيقف حصان بني بغرة بيضاء في انتظار رجل يقول له الناس: ياحاج وهدان”[28] لينتقل لقصة العربجي رجب وانتظاره في محاولة الفوز بليلة مختلفة”  أما العربجي رجب فسيبقى قليلاً في انتظار رجل لم يظهر بعد مع أن رجب جاء خصيصًا من أجله، سيغفو قليلاً فوق عريشته، وسيحلم غالبًا – بوجبة عشاء دسمة ومضاجعة خرافية تعوض خيباته السابقة.”[29] ينتقل لموظف السجل المدني “”ستتعرفون عليه بسهولة بدين أصلع، له بنطال واسع يتدلى تحت كرشه، فيترك براحًا لخصيتين مصابتين بالدوالي، مبتسم بلا سبب… في غفلة من الكبار الذين يحترمونه بالرغم من مخاوفهم أن تنخدع النساء بالذي بين فخذيه يتدلى “[30] لينتقل إلى مدير بنك ناصر وهكذا تتوالد القصص معبرة عن حالة الاغتراب والأرق الذي يعيشه هؤلاء بين الطاهر والمدنس إنهم جميعًا يشتركون في هاجس واحد كبارًا كانوا أو صغارًا حتى شيخ الأزهر وقصته مع الفتاة في هذا الفصل توالدت قصص من القصة الأم المعبرة عن حالة الاغتراب والصراع المعيش بين المدنس والطاهر.

        الكاتب حين يلجأ لنسق التضمين يكون له هدف توزيع الحدث على المستويات السردية، فحين يسرد الراوي جزءًا من القصة الأم ويتوقف؛ ليتفرع لمجموعة من القصص المتفرعة التي تساعد على تنامي الحدث في القصة الأساسية والقصص المتفرعة تعمل على الكشف عن الاتجاهات الفكرية للقصة الأساسية، بل أحيانًا يكون هناك اختلاف في الرؤية وذلك للتأكيد على فكرة الحدث الأساسي.

هذا الاتجاه يساعد على عدم الإفصاح المباشر ما يجعلها محاطة ببعض الغموض الذي يجعل المتلقي في حالة انجذاب لمعرفة القادم فيتتبع الحدث بشيء من الـتأني، وهذا الاتجاه تعتمد عليه القصة الحديثة التي تبتعد عن رتابة التتابع الذي قد يدفع إلى توقع النهاية دون بذل المزيد من المثابرة لمعرفة ما هو قادم، وهذه الأنساق المتبعة في القصة القصيرة أصبحت مستخدمة في الروايات التي تعتمد على مجموعة من الأحداث المختلفة والتي تتجمع في النهاية لحدث واحد؛ وكأنه جداول تأتي من اتجاهات مختلفة لتصب في نهر له مجرى واحد.

                     *    *    *

        إن استخدام النسق التضمني أو التتابعي لا يعني أبدًا أنهما بمنأى عن الأنساق الأخرى بل متشابكان معها للمساعدة على توالي الحدث ومنها النسق الدائري؛ ذلك النسق الذي يبدأ من النقطة صفر في الحدث ثم تتوالى الأحداث ؛ ليعود مرة أخرى للنقطة صفر، هذا النسق الذي لا يأتي منفردًا بل مكملاً لبقية الأنساق الأخرى كالتتابعي أو التضمني والحقيقة أن هذا النسق استخدمه الكاتب في أعماله الثلاثة، فهو الذي تحدث في عمله الأول عن المطاردة المعيشة في حياة الأدباء وعن الأزمات التي لا تتوقف، فهو يبدأ بحياة الشاعر الذي يعيش المطاردة بين الواقع المعيش وبين الخيال المجنح بالحلم، محاولاً إثبات أنه يعرف ما يعرفون بل يمكن أن يتكلم معهم في كل ما يشغلهم سواء كان ذا قيمة أو كان تافهًا لا جدوى منه غير أنه عبث فيقول:” علم بموعد المباراة من حديث مساعديه، ولأنه يحفظ بعض أسماء اللاعبين ويعرف شيئًا عن انتصاراتهم وإخفاقاتهم، ضمن لنفسه مشاركة معقولة في الحديث. يخشى أن يظنوه متعاليًا، أو راغبًا في العزلة، فكلما دخلوا عليه وجدوه دافنًا وجهه في كتاب، وثمة جدية مثيرة للبغض على وجهه، لا يرفع عينيه عن الكتاب إلا لينظر في ساعته التي اعتاد أن يترك قفل سوارها مفتوحاً”[31]، ليدخل إلى المطاردة التي يعيشها الشاعر من خلال استخدام النسق التضمني والتتابعي، ليصل مرة أخرى لنفس الموضوع في نهاية الفصل حين يقول:” وهكذا كان قراره حاسمًا في أن يعيش يومًا عاديًا، على الأرض وبين البشر، بلا قلق. وبعدها لم يتمكن من إيقاف سيل القرارات البشرية، كأن يخوض مع مساعديه في الحديث عن مباراة كرة القدم المتوقعة، أن يبدي رأيه في بعض اللاعبين مستعينًا بأفكار عن مهارات رياضية مارسها في صباه، ثم شاركهم في التنبؤ بنتيجة المباراة، آملاً في حدسه كشاعر، ينجح في تنبؤات كثيرة قد تتعلق بمصائر الشعوب.”[32].

        إن هذه العودة ليست تكرارًا لنفس الحدث الذي يدفع إلى حالة من التوقف، لكنه التكرار الذي يدفع لنمو الحدث وعودته لمساره الذي يهدف له الكاتب من خلال المطاردة والتي سبق وإن تحدثنا عنها، لم يكن فقط هذا المثال، لكننا وجدنا هذا الأمر متكررًا في عمليه (شارع بسادة والحالة دايت).


[1]– سيرد الحديث عنها لاحقا في علاقة الراوي بالشخصيات.

[2]– ( آلان روب جرييه) نحو رواية جديدة، مرجع سابق، ص20.

[3]– فوق الحياة قليلا، ص31.

[4]– أنماط البث والتلقي في الخطاب الروائي المعاصر، الباحث مهدي صلاح ـ صدر عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة عام 2006م، ص193.

[5]–  فوق الحياة قليلا، ص12.

[6]– انظر مؤتمر أدباء مصر في دورته الثالثة والعشرين ( أحمد أحمد عبدالمقصود ) ( 23 ).

[7]– انظرد. صلاح فضل، أساليب السرد في الرواية العربية، دار نشر المدى 2003، ص20.

[8]– حميد لحمداني ، بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي للنشر، لبنان، ط1 ،1991ص39.

[9]– فوق الحياة قليلا، ص11.

[10]– السابق، ص11.

[11]– السابق، ص12.

[12]– السابق، ص12..

[13]( Halliday & Hasan: Cohesion in English, London, Longman.1976, p.31.

[14] – الأزهر الزناد: نسيج النص (بحث في ما يكون به الملفوظ نصًّا)، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، هامش 4، 1993، ص 76.

[15]– السابق، ص33.

[16]– الحالة دايت، ص56.

[17]– محمد القاضي ومجموعة من الباحثين، معجم السرديات، دار محمد علي للنشر تونس، ط1، سنة، 2010، ص336.

[18]– انظر. شاكر عبد الحميد، الفكاهة والضحك رؤية جديدة، عالم المعرفة 289 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت، ص447.

[19]– فوق الحياة قليلا، ص33.

[20] – السابق، ص33.

[21]– السابق، ص 36.

[22]– الحالة دايت، ص9.

[23]– السابق، ص9.

[24]– الحالة دايت، ص9.

[25]– السابق، ص11.

[26] – السابق، ص14.

[27] – شارع بسادة، ص 9.

[28] – السابق، ص 10.

[29] – السابق، ص 11.

[30] – شارع بسادة، ص12.

[31]– فوق الحياة قليلا، ص9.

[32]– السابق، ص9.

الإعلانات

في بعض الأحيان، قد يرى بعض من الزائرين إعلانًا هنا،
بالإضافة إلى شعار الخصوصية وملفات الارتباط في أسفل الصفحة.
يمكنك إخفاء هذه الإعلانات تمامًا عن طريق الترقية إلى واحدة من الخطط المدفوعة لدينا.

قم بالترقية الآن استبعاد الرسالة

هامش على زمن الرواية(التجربة النسوية) (1) بقلم: سيد الوكيل

عندما خرجت  ( نورا ) بطلة هنريك أبسن من بيت الدمية، وصفقت الباب وراءها، كانت قد فتحت باباً آخر على زمن عاصف بأمنيات النساء وإغنياتهن، فمن يستطيع أن يغلقه !!!”

الآن ، وحتى إشعار آخر ، لا توجد مقولة أكثر مركزية وعمومية من :” زمن الرواية ” ، ونتيجة للتمرير العفوى، وغياب الاختبار النقدى الجاد للمنتج الروائى المصرى ، من حيث ندرة الكتب والدراسات التطبيقية ، فإنه يمكن ملاحظة ، أن المقولة تعيش فى أفق نظرى بحت، وتختبر فى كل مرة عبر سياقات شفاهية فى الندوات التى تنظم على نحو احتفالى بكل إصدار روائى جديد ، وفى أفضل الأحوال ، تأتى المتابعات الإعلامية التى تردد المقولة على نحو مفرط ، لتؤكدها بقين ، وكأننا بمجرد النطق بها ، فإن معنى واضحاً يستقيم فى وعينا عن زمن الرواية .من غير أن ننتبه ، إلى أن هذا التداول والشيوع البدهى ، يضع المقولة فى أفق من الالتباس والغموض . فالأشياء المعرفة بالبديهة، لا تقل غموضاً عن الأشياء غير المعرفة أصلاً . فنحن لاننتبه إلى التركيب المجازى الخلاب للمقولة ، التى تجعلها خفيفة على اللسان والذهن كأى مسلمة ، بحيث لا نعطى أنفسنا فرصة اختبار حدودية الزمن المقصود هنا وشروطه الثقافية . فنظريا يمكن استخدام نفس المقولة فى أى زمن آخر غير الزمن الذي نعيش، بمعنى أنه يمكن لها أن تمتد إلى أزمنة مستقبلية.

إنها مقولة تعكس ذهنية بنيوية عظيمة، انتهت من تصنيف الحراك الأدبي، ونظمه على نحو هرمي، بحيث توضع الرواية على قمته. وهكذا، فبعد أن يقطع العالم شوطاً في تفكيك المقولات المركزية، تعود بنا المقولة إلى اختزال الحراك الأدبى في معنى بسيط ووحيد.

وزمن الرواية كأي مصطلح مهيمن ـ وفقاً لدريدا ـ يعتمد على تعريف فرعي أو أصطلاح تابع وداعم له، بمعنى أن المصطلح المهيمن يكتسب مكانته من علاقته بهذا التعريف الفرعي أو الهامشي، ومن ثم فإن مقولة مثل زمن الرواية  تضمر معنى آخر، أنه ليس زمن القصة القصيرة ـ مادمنا نحتكم إلى النوع ـ أوإنه ليس زمن الشعر، على نحو مضمر يشى به قولنا: إن الرواية هي ديوان العرب، بديلا للمقولة التراثية، الشعر هو ديوان العرب. وهوقول يوحى بأن الرواية العربية قطعت شوطاً بعيداً يضعها على خريطة الأدب العالمي، وهو زعم يعوزه دليل حي ومتجدد. يختلف عن أيقونة نوبل الوحيدة لنجيب محفوظ.

 فزمن الرواية العربية، وحتى الآن، لم ينتج مشروعاً جمالياً متفردا، يماثل أو يقارب رواية أمريكا اللاتينية مثلاً، على الرغم من انهماكنا في الطنطة بأن الواقعية السحرية، هي امتداد  لألف ليلة العربية. أما مشروع الراوية الأوربية الحديثة، فهو في حالة تحول دائم. كان آخرها  في السبعينيات من القرن الماضي، منطلقاً من حبكات بوليسية بسيطة إلى مثل حادث قتل أو سرقة، لتحلق في أفق معرفي واسع ومعقد، على نحو ما تمثل له روايات: ” شرف كاترينا بلوم لهاينرش بل ـ اسم الوردة  لأمبرتو إيكو ـ  العطر ( قصة قاتل ) لباتريك زوسكيند –  أسمى  احمر لأورهان باموق، ـ   شيفرة دافنشي لدان براون .. ” .

وثمة مفارقة ، فخلال ما نتحدث عنه بوصفه زمن الرواية العربية، فإن التمثيل البازغ  له ـ عالميا ـ يأتى من زمن سابق على زمننا هذا، وأعنى به رواية عمارة يعقوبيان التى اعتمدت مشروعاً جمالياً لايختلف  ناقادان ـ وليس هذا حكما بالقيمة يخرجها من الصفة  الجمالية ـ على أنه ينتمى لمرحلة تم تجاوزها واستهلاكها في الماضي. ولسنا بصدد الطعن فى رواية حازت اهتماما ًملفتاً بين عامة القراء، وتجاهلا مقصدا بين كافة النقاد، غير أن هذا الاكتساح القادم من الخلف ، يعنى أحد أمرين:

ـ إما أن ما نتحدث عنه بوصفه زمناً للرواية العربية هوكيان هش قابل للتداعى

ـ إما أننا نفتقد إلى معيار دقيق قادر على تسمية زمننا هذا.

والأمر الثاني هو الأقرب لتصوري، ليس من قبيل التفاؤل، بل لأن الرصيد الروائى العربى شاهد على تطوره وتجلياته عبر الأجيال المتعاقبة بما يستحيل تجاهله، وبما يعنى أنه يتحرك وفق سيرورة متنامية غير مطمئنة، وهذه الصفة (عدم الاطمئنان ) هي ما تعطيه دافعية الوجود  والاستمرار لتفضي إلى محاولات تجريبية أملا في الوقوف على هوية تخصها. أما هذا الاطمئنان لزمن الرواية، فشواهده شفهية وإعلامية بالدرجة الأولى، فضلا عن النشاط التسويقي لبعض دور النشر. يحدث هذا في غياب حراك نقدي حقيقي، يرصد الظواهر، يختبر المقولات والمصكوكات التى احتشدت بها حياتنا الأدبية، والتي تظهر كمرادفات لزمن الرواية، من قبيل: رواية التسعينيات أو الرواية الجديدة.

وقد يكون من المناسب، النظر للأمر على  أن الرواية العربية تبحث عن هويتها أو عن مشروعها الذي يميزها في عالم  يتعاطى السرد على نطاق واسع، متسم بالتعدد الثقافي والتنوع  في وسائط انتشاره بين القصة والرواية والمسرح والسينما، والدراما التفزيوينة، والأفلام الوثائقية.

  فالسرد لم يعد شأنا أدبيا خالصاً، وكأننا نعيش زمن السرد فعلا، وهو تعريف  يخلصنا من حاكمية النوع، والتراتبية الهيراركية التي نجدها في مقولة ( زمن الرواية ) بحيث يمكّننا من النظر إلى مدخلات سردية جديدة، ليس فقط فى الأنواع الأدبية والفنية القديمة كالشعر والقصة بطبيعة الحال، بل  وفى صناعات إبداعية جديدة الأنيميشن، والفيديو كليب، وبرامج الجرافيك التي تنهض على محاكاة الواقع المعاش بآخر افتراضي، وتدخل فى برامج التعليم والتدريب لقطاعات عملية واسعة. لقد أصبح بوسع أي شخص الآن، أن يبتكر حكاية ما، يشتهر على إثرها، ويحظى بلقب الترند.

 ولعل هذا الانفجار التقنى للسرد له شواهده فى السرد التقليدى . من حيث تقاطعه مع السرديات الكبرى أو المؤسسة تاريخياً، والتي أبرزها مؤسسة النوع التى نهضت على معنى ذكوري، حيث يمكن ملاحظة الحضور الواسع للمرأة في هذه الصناعات الإبداعية الجديدة، بما يشير إلى أن زمن السرد الذى نقصده هنا، يضمر زمنا آخر هو زمن النساء.

ولسنا بصدد الكلام عن الحركات النسوية وقدر استفادتها من السرد الجديد، بقصد خلخلة المركزيات السردية القديمة التى تأسست على هيراركية الأنواع . وكنا، وفى مناسبة سابقة ([1]) أشرنا إلى الثورة التقنية التى حملتها القصة القصيرة وسربتها إلى الرواية. فالقصة  القصيرة بمثابة  معمل الطاقة الذى يغذى الرواية ويمنحها تلك العافية التي نشهدها الآن، وكأن الأسد ليس سوى مجموعة خراف مهضومة. إن هذه الإشارة لازمة إذا ما أردنا تحليل الخطاب الروائي المعاصر، وحتى لا ننسى تماما دور القصة القصيرة في صخب الاحتفال بزمن الرواية.

 غير أنه ونحن بصدد الكلام عن السرد الروائي  لا يمكننا تجاهل هذا الحضور المزدهي للرواية النسوية في المشهد الروائي العربي، وهو حضور لم يكتف بالتمثيل المشرف للمرأة، بل ينقلها من الهامش إلى المتن، من حيث قدره  الخطاب الروائي النسوي على خلخلة كثيراً من المركزيات البنائية المعتمدة قبلاً في مفهوم النوع الأدبي، وضلوعه في ضرب البنيات الرأسية والمؤسسة في التاريخ الثقافي، والنيل من  شرطي الفحولة والاكتمال الذكوري، فضلا عن الاحتفاء بما هو ذاتي وشخصي، والاعتداد بالخبرات الخاصة / النوعية التي كان ينظر إليها من قبل على سبيل العادي ([2])  ومرواغة السموق اللغوي بنبرات الارتجال العفوي والتقريرية اليومية، وغير ذلك من المدخولات التي مررتها كتابات النساء، وأصبحت ـ في حد ذاتها ـ علامة على تطور الرواية التي نكتبها الآن بغض النظر عن جنس كاتبها.

وإذا كانت الكاتبات  دأبن على تناول التجارب التى تعبر عن نمط الخبرات النسائية الخاصة بما يمكنهن من التعبير عن أنفسهن، وبما يدخل سردهن فى أنماط من التعبير الشعري، كما نجد فى روايتى : الأراولا وسحر التركواز لكل من ( منى الشيمى ومي خالد)  فضلا عن  نزوعات البوح والاعتراف والتسجيلات اليومية، والسيرة الذاتية كما نجد في روايتى: الحكي فوق مكعبات الرخام ويوميات امرأة مشعة لكل من ( نهى محمود ونعمات البحيري )  فهذا لا يعنى عزوف الكاتبات عن تناول التجارب العامة التي بدت تمثيلاً  حصريا للكيان الذكوري، كالمجتمعات العسكرية، ومجالات العمل، وتجارب السفر إلى الخارج، والممارسات الدينية والطقوسية ذات الأداء الذكوري كحلقات الذكر، وحيث يكون للمرأة في مثل هذه المجتمعات دور التابع ليس إلا، أو على حد وصف ( بام موريس )([3]) ” ..إن النساء اللاتى شاركن في اعتصامات الطلاب بفرنسا 1968، وتمكّن من إسقاط حكومة ديجول، أصبن بصدمة كبيرة من زملائهم الرجال، عندما بدا الأمر بعد ذلك، أن الرجال هم الذين كتبوا البيانات، وغالباً ما أدركوا النساء على أنهن اللاتى يصنعن الشاى..” .

ومن الطريف أن تتناول الكاتبة ( هويدا صالح ) فى روايتها عمرة الدار ، تجربة التصوف، وهى تجربة ممهورة بطقوس ذكورية تتناسب مع طابعى القداسة والطهر الذى منحته الثقافة الدينية الشعبية  للرجال وحجبته عن النساء بوصفهن ناقصات عقل ودين. مع العلم أن التاريخ يسجل رابعة العدوية نموذجاً لأول تجربة تصوف فى التاريخ العربى الإسلامي، ومغزى اقتحام ( هويدا صالح )  لهذه التجربة، هو فضح طهرانية هذا العالم، وحيث تكون النساء هن أول ضحاياة أو بمعنى آخر، هن الشهيدات الحقيقيات لهذا العشق الإلهى .

 وفي سياق آخر تتناول عزة بدر تجربة السفر إلى الخارج ، التي مازالت محاطة بقوانين تحد من حرية المرأة فى السفر بوصفها تابعا لزوجها، فضلا ً عن أن بعض المجتمعات العربية الرديكالية مازالت تشترط على المرأة اصطحاب محرما من الدرجة الأولى ليضمن برائتها ويمسك بزمامها، وهكذا تتجاوز كتابات النساء حدود التعبير عن الذات، لتبدأ الضرب فى عمق الموروث الذكوري، وفي أعتى مؤسساته.

***

 عمرة الدار (2)

عمرة الدار رواية تعيد للأذهان عصر الروايات الكبرى من حيث الامتداد الزمني الذي يتحرك فيه السرد بما يكسبها طابعاً يقف بين الملحمية وما نسميه برواية الأجيال . صحيح أن كاتبتها ( هويدا صالح ) ، اختارت قرية صغيرة من قري صعيد مصر مسرحا رئيسا لأحداثها إلا أننا لا نستطيع  أن نقول إنها كتبت  رواية عن  المكان ، علي الرغم من الحضور القوي لبيئة القرية         ( الثقافية والاجتماعية والطبيعية )  ، مع العلم أن مجالات البيئة ، هى فى حد ذاتها  هدف فى الكاتبات النسوية على نحو ما تكشف عه الدراسات البيئية النسوية ( Ecofeminism ) ، وعلامة على دخول النظريات النسوية ـ فى التسعينيات من القرن الماضى ـ  لمرحلة جديدة تسعى لاستعادة التوازن الطبيعى لعالم  على شفير الاحتراق ، من جراء الممارسات الذكورية المتمثلة فى سياسات القوة  والتفعيل العسكرى لها ، ومركزية رأس المال الاحتكارى النهم الذى يتجلى فى التعديات الصارخة على البيئة  من تلوث مناخى ، وتدمير للغابات الطبيعية ، التى أصبحت فى النسوية الأيكولوجية تمثيلا للطبيعة البرية للمرأة ، وتذكيراً بحضورها القديم كإلهة للخصوبة ، بما يصور اغتصاب الطبيعة رمزاً للاغتصاب التاريخى للمرأة الذى تم فى الأساطير القديمة ، عندما انتزع ( مردوخ ) من ( تيامة ) حق الخلق ، وجعله من الفم بدلا من الفرج .(3)  

غير أن رواية عمرة الدار ، لاتغامر باقتحام هذا التركيب الثقافى المعقد لمفهوم البيئة لدى النسويات ، بل تقف عند حدود التصوير السردى لحياة أسرة عادية تتشابه مع آلاف الأسر في قرى مصر إلا أنها تمثل ـ فى نهاية الأمر ـ رؤية نسوية ، لمجتمع تقليدى ،  يظهر فى أحد جوانبه متناغماً مع الموروث الثقافى الشعبى لمجتمع الرجال ، ومن الجانب الآخر متعاطفاً مع  الطبيعة سواء فى معناها المباشر ، أو فى معناها الرمزى ( المرأة ) .

، وفى داخل نسيج بسيط ، هو النسيج الاجتماعى لقرية من قرى صعيد مصر ، تشغل هويدا صالح نسيجها السردى ، عبرتفاصيل الحياة اليومية ، بحيث تضعها في أفق عجائبي  ، فحيوات الأشخاص ـ في هذه الأسرة ـ غير أنها  لا تجعلهم  منفصلين عن  واقعهم  اليومي  المعتاد ، فهم ليسوا أبطالا خارقين كشخصيات الملاحم الذين يغلب عليهم طابع  التمرد ، بل هي جميعا  شخصيات متصالحة تماما مع بيئتها ، تدخل بنعومة وقوة في النسيج الاجتماعي والثقافي والديني للقرية ، وهو دخول يجعلها في قلب الحياة ، بحيث ينتفي المعني التهميشي الذي يراهن عليه كتاب الرواية الاجتماعية حين يصورون القرية  مجتمعاً  هامشياً إذا ماقورن بمركزية المدينة . وعلى العكس من ذلك ، فهويدا صالح لاتنبهر بنموذج المدينة الذى يمكن اعتباره تمثيلاً لمركزية الرجل ، بل هى لا ترفضه أيضا، بقدر ماتسعى إلى تأكيد حضور النموذج الآخر / القرية / الهامش / الطبيعة / الأنثى ،بالتجاور ، وحيث لايكون الفارق بينهما فى الدرجة ، بقدر ما هى ضرورة الاختلاف .  

إن هذا التركيب الخاص والمثير للدهشة والمتعة معا  للأسرة الريفية فى هذه الرواية ، يقف بها  ـ طوال الوقت  ـ في موقف بيني ، بما يفتح الأفق الجمالي والدلالي للرواية إلي آخره ، وهي تتنقل بين أجيال هذه الأسرة جيلا بعد جيل لتؤكد العمق الزمنى للأحداث  ، حتى بدت هذه الأسرة  قريبة الشبه من أسرة   ( أورليانو ) في رائعة ماركيز ( مائة عام من العزلة )  من حيث تشابه أفرادها في الخطوط الرئيسة والصورة العامة فيما بينهم ، في حين تحتفظ كل شخصية بتفردها بفضل التفاصيل الدقيقة والحية التي تنجح الكاتبة  في حشدها، وهي تفاصيل لا تخرج عن المألوف في واقع الحياة اليومية ، ومن ثم ، فالرواية تشير بقوة إلي معني صوفي عميق حول فكرة وحدة الوجود التي تشبه أصابع اليد الواحدة  من حيث تجاور الكائنات وأهمية دور كل منها فى حفظ التوازن النوعى والبيئى . فعلي ما في شخصيات الرواية من تشابه وتكامل إلا أن كل منها متفرد بذاته تماما . هكذا بدت أسرة الشيخ صالح فى رواية عمرة الدار.

لعل هذا المعني البيني والفلسفي ( وحدة الوجود ) كان دائما فيما وراء النص ، بحيث وجه الذات الساردة ـ طول الوقت ـ للعمل علي تحقيقه ، ومن ثم سبحت الرواية في نسق جمالي ودلالي خاص يجعلها متفردة علي الرغم من لحظات التناص والتماس  الكثيرة مع روايات أخرى كتبت علي هذه الكيفية ، وسبب ذلك إن الرواية  انشغلت طوال الوقت بالإنسان ذاته ، وطبيعة علاقته مع الوجود والواجد في آن واحد . إنها فلسفة الخلق التي جسدها الصوفيون في فكرة الحضرة ، فالحضرة هي اللحظة الزمنية التي تسمح بارتقاء الروح إلي الملأ الأعلى ، والحضرة هي سبيل التجلي للذات الإلهية .

الرواية تبدو لي كما لو كانت حضرة ممتدة في الزمن . فشخصياتها تعيش حالات متباينة من الكشف ، وترتقي مقامات ومنازل ، وتمضي في تحولات ومكابدات ، وحالات من العشق الذي يشبه الجذب الصوفي ، لكنه متباين فى حالات من الوصل والهجر كل بما قدر له ، وكل يرضي بما قدر له ، بل ويفني ذاته ليحظى برضا المحبوب  . ولذلك فالقارئ يجد في الرواية طاقة إيمانية وجدانية مشبعة ، أظنها المسئولة عن حالة الإشباع النفسي والذهني وربما الجسدي ، أو علي نحو ما يسميها رولان بارت ( لذة النص ) فلهذا النص لذة خاصة تجعلك تغض الطرف عن الهنات الفنية التي تعبر به أحيانا ، وربما تجعلك لا تلح علي رسالة النص نفسه ، أو معانيه التي يطرحها ، أو رصيده التقني من التجريب الروائي ، أو موقفه الفكري من الحداثة والأصالة ، إنه كما قلت ، حالة حضرة إذا آمنت بها ودخلتها صرت جزءا منها ، وفزت بالوصل الجميل فلا تسألن عن السبب .

ظني أن هذه الرواية كتبت بعفوية شديدة وكأن صاحبتها مدفوعة بطاقة خفية للحكي ، كما لو كانت مجذوبة له ، فالكاتبة هويدا صالح ، قدمت مجموعتها القصصية الأولي ( سكر نبات ) في منتصف التسعينات ، وكانت واعدة مبشرة بين بنات جيلها من الكاتبات ، لكنها فجأة اختفت من المشهد الأدبي ، وصامت عن الكتابة قرابة عشر سنوات وهذه حالة معتادة لدي الكاتبات العربيات ، اللاتي يغبن عن المشهد لانهماكهن في تفاصيل الحياة الأسرية كزوجات وأمهات ، ثم يعدن ، إما في لحظة تمرد خاطفة ، وإما في لحظة تزول فيها أسباب الانهماك ويخف عبء الدور الأسري ـ الذي يقع عادة علي عاتق المرأة ـ  وهو عود ليس بالضرورة حميد ، فسنوات الصوم قد تكون عاملا لتجفيف منابع الإبداع  في الذات ، أو علي الأقل تجميدها بحيث إذا عادت وكأنما تبدأ من  جديد ، وقد تكون سنوات الصوم نوعا من العمل في اللاشعور علي اختزان طاقة الإبداع التي تتشكل عبر ممارسات الحياة اليومية ، وتأملها وتجويدها وصقلها ذاتيا علي نحو ما يختزن النحل الرحيق ليخرجه شهدا .

 ومن حسن الحظ لم تكن هويدا صالح بعيدة طوال السنوات العشر عن الإبداع ، فهي زوجة الروائي المعروف سعيد نوح ، الذي بدأ معها مشوار الكتابة ، ولكنه قدم لنا خلال هذه السنوات أربع روايات رائعات آخرها رواية  ” 61 شارع زين الدين ” التي صدرت قبل شهور عن دار الهلال .

معني ذلك أن أزمة المرأة الكاتبة في علاقتها مع مجتمعها أزمة عميقة ، حتى لدي الكاتبات المتزوجات من كتاب مستنيرين ومؤمنين بحق المرأة في المشاركة الثقافية لأنها ـ في الواقع ـ تعبر عن موقف ثقافي وضع حدودا لدور المرأة ، وجعل أولوياته في دورها زوجة وأماً ، وكأنها ليست ذاتا مستقلة بقدر ما هي وظيفة اجتماعية .

وهذا المعني يظهر بوضوح في رواية عمرة الدار ، وتعبر عنه أكثر شخصيات الرواية من النساء اللاتي ينغمسن في الدور الاجتماعي بحالة من الإنهماك التلقائى ، كما لو أنهن يتوارثن هذا الدور جيلا بعد جيل ، فيما  نجد الرجال منغمسين في عالمهم الصوفي المتسامى ، فرب الأسرة  ( الشيخ صالح ) أحد رجال الصوفية ، يستطيع أن يحقق توازنا بين دوره في خدمة أهل الله ودوره في رعاية قيم  أسرته ، في حين تقوم زوجته ( الحاجة دولت ) بعبء الدور الاجتماعي ومشاغل الحياة اليومية ،أو على حد تعبير ( بام موريس ) إنها التى تصنع الشاى لرجال الحضرة .تفعل ذلك  وهي مدعمة بدرجة عميقة من الإيمان بمهام الزوج الدينية المقدسة . فهي تدعمه وكأنها في نفس الوقت تثبت دورها الاجتماعي ، وعندما يموت الزوج ، فإن ابنه ( عمر )   يتولى مهامه كاملة ، فيما تتولي زوجته ( صباح ) دور الحاجة دولت بعد موتها أيضا ، وفى بيئة مثل بيئة هذه الرواية ، حيث يكون الإنسان القروى أكثر إحساساً بروح الطبيعة ، فضلا عن الفضاء الصوفى الذى تعيشه الشخصيات ، فإن معنى القمع الذكورى قد لايكون واضحاً على نحوما نجده فى المجتمعات المركزية / المدينة مثلا ، غير أن ميراث التهميش للمرأة ينتج فى مثل هذه البيئات ، يتراكم على مهل فى سياق من التقاليد والعادات والإيمان المطلق بالغيبيات.  

وعنوان الرواية ( عمرة الدار ) يجسد  رغبة هذه البيئة فى رسم دور المرأة  ، فعمرة الدار في الموروث الشعبي هي جنية طيبة تسكن البيت ، وتعمل علي رعايته وحمايته ، ولا شيء يثير غضبها إلا أن يعتدي أحد علي أبنائها الذين يظهرون في صورة قطاط تجوب الدار ليلا  .. إن عمرة الدار مهمتها الأولي حماية أولادها لكنها لاتنجح فى تحقيق هذه المهمة ، إلا عبر القيام بمهمة أخرى هى حماية الدارالتى تسكنها وكأن حمايتها لأسرة الشيخ صالح ، هى فى نفس الوقت حماية لها  . بما يعنى أن المرأة تستمد شرعية وجودها من خلال الالتزام بالدور الأسرى ، كهامش وحيد ممنوح لها .

 وعمرة الدار / الجنية / المرأة ، يمكنها أن تقدم كثيراً من الدعم لسكان الدار ، إذا التزم كل من فيها  بدوره ، أما إذا فكر أحدهم التعدي علي مملكتها ، فإنها سوف تعاقبه بقوة ، وهكذا ، فعلي الجميع أن يتعايش في سلام ، كل بما يمتلكه من حقوق وإمكانات وبما يسند إليه من أدوار .

 ولعل هذا قد  يفسر حالة السلام الروحي التي تشيع في الرواية . غير أن الرواية تظهر جانبا كبيراً من المسكوت عنه فى حيوات نساء هذه البيئة ، حيث قدمت نماذج لعدد من النساء يعانين فى صمت ، من غير اجتراء على التمرد ، باسثناء شخصية وحيدة وهى ( الفريسة ـ تصغير الفرسة) التى يضطر زوجها إلى ضربها ليلجمها ، أما باقى نساء الدار ، فيضطررن إلى التحايل والمكر النسوى لاستعادة جانباً من حقوقهن ، على نحو ما نجد لدى (فايزة ) زوجة (النضر) وهو أحد أبناء هذه الأسرة  ، الذى جاءته  الإشاره بالزواج من ابنة شيخه الشابة ، لقد أضفى النضر على زواجه طابعا مقدسا ألجم الزوجة التى تربت على احترام الإشارات والأوامر الغيبية ، غير أنها تتحايل حتى تستعيد زوجها ، وهو تحايل لايدخلها فى نمط صراعى مع الزوج أو الزوجة الشابة ، بقدر ما يعكس إيمانها بعدالة قضيتها من ناحية ، وحرصها على استمرار مؤسستها الخاصة ، أو الدار ، وهكذا يحقق عنوان الرواية دوره على أكثر من مستوى دلالى .

فى ثوب غزالة(4)

بطبيعة الحال ، فـإن نصيب المرأة المبدعة من كتابة تجربة السفر قليل ومحدود ، ومع ذلك ، يمكن أن نرصد عدداً من الأعمال الروائية لكاتبات من النساء أكسبن هذه التجربة طعماً جديداً ومتميزاً ، بل وبدت أعمالهن أكثر اقتراباً من واقع المجتمعات التى تناولنها ، وأكثر قدرة على فهم ثقافتها وتقاليدها وملابسات حياتها اليومية مما كتبه الرجال . ربما لأن الطبيعة تجعل المرأة أكثر انشغالاً بالتفاصيل وأكثر قدرة على ملاحظة مفردات الحياة اليومية وأكثر عناية بالحراك الاجتماعى والطبائع الإنسانية . ومن ناحية أخرى ، فإن العالم المغلق للمرأة العربية ، وهو العالم الأكثر قدرة على تجسيد التأثيرات الثقافية للمجتمع . يصعب اختراقه والاقتراب منه بالنسبة للرجال فيما يمكن للمرأة دخوله.

فبطلة رواية ( فى ثوب غزالة ) لعزة بدر ، فتاة مصرية متعلمة تحظى بقدر كبير من الثقافة ، كان عليها ـ وفق سياقات اقتصادية ومجتمعية مستحدثة ـ  أن تزف من مطار القاهرة لتلحق بزوجها الشاب الذي يعمل فى السعودية ، إن صورة المرأة التابع تطل علينا منذ البداية ، وهى إشارة لاغتراب تاريخى عانته المرأة فى المنظومة الثقافية ، غير أن هذا الاغتراب القائم أصلاًً ، لا يعفيها من مواجهة أشكال الاغتراب الجديدة التى لحقت بمجتمعها ، ونعنى بها ظاهرة الهجرة إلى دول النفط ، وهو اغتراب مسؤل عنه الرجل بوصفة مسؤلاً عن الوضعية الاقتصادية للمرأة التابع وفق سياسات الحكم الجنسى على نحو ماجسدته ( نورا ) بطلة بيت الدمية لأبسن ،أما بطلة ( فى ثوب غزالة ) فكانت قد  بدأت رحلة اغتراب اجتماعي مركبة ، عندما يتحتم عليها أن تخلع ثوب الفتاة ، لترتدي ثوباً أكثر تعقيداً ، هو ثوب الزوجة والأم ، بكل أبعاده الاجتماعية والثقافية ، غير أن السفر دفعها إلى أن  تبدأ هذه التجربة  فى مجتمع لا تشعر أنها جزء منه ، بما يعنى تغيراً فى مسرح الأحداث الذي ستبدأ عليه حياتها الجديدة ، ومن ثم تتغير كل قواعد اللعبة ، فالفتاة التى تتحول إلى زوجة وأم  ، تقوم بهذا الدور الاجتماعي عبر موروث ثقافي وخبرات مخزونة يباركها المجتمع ويدعمها لتقوم به على أكمل وجه ، وعندما تجد بطلة  ( فى ثوب غزالة ) نفسها فى عزلة عن أى محيط اجتماعي يعينها على حياتها الجديدة ، تدخل حالة من العزلة ، والرفض لوجودها هنا ، حتى أن جسدها يرفض الحمل ،بما يعنى اغترابا جديدا عن جسدها كأنثى ، لكن مشاعر الأمومة والأنوثة تدفعها إلى أن تبدأ فى مراجعة تجربتها كذات عالقة فى التاريخ ، ثم  كامرأة  مصرية ، وتقارنها بتجربة المرأة السعودية ، كما لو كانت تبحث لنفسها عن مبرر أو سبب يفسر ماهى فيه  : ” النساء هنا لم تصل إليهن ثورة 1919 ، لم يتخرجن من مدرسة السنية ، لم يجتمعن فى بيت الأمة، لم يهتفن فى المظاهرات ، ماحملن بذور ثورة تصبح شجرة … حتى لسن كنساء لوحات محمود سعيد ، حيث البرقع مجرد زينة لا كاتماً للأنفاس “.(5)

إنها تدرك ذاتها تارخياً على نحو يميزها عن نساء الخباء ، فهى حاملة لبذور ثورة ، يمكنها أن تصبح شجرة ـ على حد تعبيرها ـ لو قامت على رعايتها ، ومن ثم تدرك أن خلاصها كامن فى المعنى الثقافى ، إذ عليها أولاً ، أن تستكمل دراستها للماجستير التى كانت قد قطعتها بسبب السفر ، ولأنها باحثة فى التاريخ الاجتماعى على وجه التحديد ، فإن هذا سيعينها على الوقوف على العلامات الفارقة فى تجربة المرأة بين الهنا والهناك ، ونتيجة لذلك أنها تتفهم خصوصية كل تجربة ، بما يعنى استعدادها لقبول هذا الاختلاف واحترامه .

 فنجد لدى بطلة ( فى ثوب غزالة ) سعياً إلى تفهم الخصوصيات الثقافية للمجتمع الذى عليها أن تعيش فيه على الرغم من إدراكها لخصوصية تجربتها ، تقول معبرة عن رغبتها فى امتلاك معرفة كاملة بهذا المجتمع : ” على أى حال …هنا ، أو فى بلاد واق الواق ، لابد أن أعيش ، سأصنع عالمى .. لن يردنى عن المعرفة سبب ، لن يردنى حجاب ” (6).

لقد تفتق ذهنها عن حيلة لاختراق حواجز الاغتراب والعزلة التى ضربتها  تقاليد المجتمع السعودى من ناحية ، وباركها زوجها بحجة أنه يخشى عليها من السعوديين الرجال بما يعكس تبادل المخاوف ، إذ كان عليها أن تستهلك الوقت البطيء لحين عودة زوجها من عمله مكدوداً غير قادر على فتح عينيه .

كانت حيلتها أن تنطلق إلى مكتبة الجامعة القريبة لتحصل على بعض المراجع التى تعينها على استكمال بحثها ، وهناك ، نجحت فى التعرف على طالبات وموظفات سعوديات ، وبهذه الطريقة ، نجحت ـ فى نفس الوقت الذى تكسر فيه عزلتها ـ أن تزرع نفسها شجرة مصرية  فى قلب المجتمع النسوى السعودى ، مستفيدة من دراستها لعلم الاجتماع .

 لهذا فهى تبدو منسجمة مع ذاتها ، حين  تحتفى برصد مظاهر ثقافية سعودية عديدة ، تلمسها داخل بيوت السعوديات عندما تشاركهن فى حفلاتهن ومناسباتهن. وتقف ـ عن قرب ـ على مشاكلهن حتى العاطفية منها . ومع الوقت تصبح صديقة لكثيرات من السعوديات ، بل وتتدخل لحل مشكلة عاطفية بين زوجين انفصلاً ، ويتعين عليها أن تلتقى بالزوج فى مكان عام لتنقل له وجهة نظر طليقته ، لكن الزوج يبدأ فى مغازلتها هى من منطلق شائع أن المرأة المصرية التى جاءت من مجتمع أكثر انفتاحاً لابد أن تكون سهلة المنال . هكذا تدرك أن الذهنية الذكورية هى التى تحدد صورة المرأة سواء فى مجتمعها أو المجتمع السعودى . والرجل يتعامل معها على أساس من تلك الصورة التى تدخل فى موروثاته الثقافية دونما اعتبار لما تكون عليه حقيقة المرأة . هكذا  تفهم بطلتنا ، أن المرأة هنا ، كما هى فى كل المجتمعات العربية ، تعانى من وجودها المستمر تحت اختبارات ذكورية قاسية ، ومن ثم  يبدو انحيازها للمرأة السعودية ، هو انحياز لذاتها فى نفس الوقت .

   لكن حدثاً فارقاً يقع ليجسد ذروة القمع الذكوري الواقع على النساء ، عندما شب حريق فى بيت الطالبات السعوديات ، راح ضحيته عدد من صديقاتها اللآتى منعن من الهروب من الجحيم سافرات الوجوه وبملابس النوم، تنفيذا لأوامر المطوعين بوصفهم ممثلين للدين . تصور عزة بدر مشهد احتراق النساء السعوديات على نحو مرعب ومخيف ، ولكنه كاشف للبون الشاسع بين تجربتى المرأتين ( المصرية والسعودية ) . 

 هذا الحدث ، وإن أدخلها فى حالة من الرعب والاكتئاب إلا أنه يزيد من عمق إحساسها بمأساة المرأة العربية عموماً والسعودية خصوصاً ، ومن ثم تدرك أن اغتراب المرأة الحقيقى هو اغتراب ثقافى ، كما أن الفروق بين وضعيات النساء فى مجتمعاتهن تكمن فى المعنى الثقافى لكل مجتمع . لهذا تصر بطلة الرواية ، على أن تندمج فى النسيج الثقافى للمرأة السعودية . ومن ناحية أخرى ، تصبح أكثر يقينا ، بأن تجربة التحرر الثقافى التى بدأتها المرأة المصرية من مدرسة السنية هى البذرة الأولى للشجرة ، أو الخطوة الأولى الصحيحة نحو طريق طويل لتحرير المرأة من نوازع الاغتراب التاريخى ، ومن ثم تحرير ذاتها ( بطلة الرواية ) كأنثى .

إن حادث محرقة النساء ، نقطة تحول هامة ، ليس فقط فى البناء الدرامى لللأحداث ، بل فى البناء الثقافى لبطلة الرواية ، ففى نفس الوقت ، ومن خلال الرسائل التى تتبادلها مع أستاذها والمشرف على رسالتها العلمية ( د. نزيهة )  ، تكتشف خواء وزيف هذا الرجل  المثقف الكبير ، الذى يمثل فى نفس الوقت رمزاً للسموق الأكاديمى والعقل العلمى المؤسس على أفكار بربجماتية تعد تمثيلاً ذكوريا ـ فى نفس الوقت ـ فجاً لخطاب الحداثة الملتبس بمعانى الاستعلائية الأوربية ، بوصفه نموذجاً للترتيب الهيراركى للعالم على أساس من مركزية ثقافية تبدأ بأوربا ، ثم تنطوى على مركزية النوع التى تبدأ بالرجل الأبيض .

إن هذا المعنى المركب ، يظهر فى علاقة الدكتور نزيه ، بـ (كلود) المشرفة الإدارية على المنحة الأمريكية التى حصل عليها الدكتور نزيه لإقامة مركز أبحاثه الاجتماعية والثقافية  ، فبرغم أن نزيه هو مدير المركز ، وكلود مجرد سكرتيرة له، إلا أنها تمارس استعلاءاً جنسيا عليه ، عندما تصر على أن ينام تحتها لحظة ممارسة الجنس معها. رغم كراهيته لهذه الطريقة فى ممارسة الجنس .بما يشير أن نازع الاستعلاء الجنسى فى النظرة الغربية للشرق على نحو ما جسدها الطيب صالح فى موسم الهجرة إلى الشمال ، وهو استعلاء يضع الشرق برمته فى الهامش النسائى بالنسبة إلى الغرب .

أما التحول الثانى الذى حدث لبطلة ( فى ثوب غزالة ) ، فهو رغبتها فى اختبار الثقافة الدينية عن قرب ، ويأتى هذا كرد فعل  لعلمانية الدكتور نزيه المفرطة من ناحية ، ومن الأخرى ، كرد فعل للتشدد الدينى الذى انتهى بمحرقة النساء ، ومن ثم تخوض تجربة الحج  ، حيث تتلاشى الفوارق الاجتماعية والجنسية ويصير الكل فى واحد ، فيعكس ذلك معنيين :

 الأول تطهير روحها من من الاغتراب عبر رحلة غمرتها بالسلام ، عندما ذابت بين حشود النساء والرجال المسلمات فى الطواف حول الكعبة .

والمعنى الثانى : تطهيرالثقافة الدينية ـ نفسها ـ بعد أن أشعلت النار فى بيت الطالبات . إن النار تظهر فى أحد مستوياتها رمزاً للتطهير ، وكأننا نحتاج إلى ثورة تصحيح تاريخة نحرق فيها كل أنظمة القهر .

 ولا غرابة ـ بعد التطهير ـ أن يكتمل حمل بطلة الرواية ، وكأننا إزاء بشارة بميلاد جديد . كما تكتمل حلقة اندماجها مع المرأة السعودية ، كعلامة على توحد المصير النسوى فى الثقافة العربية ، من خلال مشهد دال ، وهو المشهد الذى منح الرواية اسمها ،  حيث أعدت صديقاتها السعوديات حفلاً خاصاً ، يستدعى من تراث سعودي ، محتشد بطقوس وتقاليد سعودية خالصة ، وهو أشبه بالحفل التنكري ، وفيه ألبسنها ثوب الغزالة ، وعلى دقات موسيقى وغناء سعودي ، راحت ترقص بينهن  وتغنى ، رقصات وأغان سعودية وجدت فيها عذوبة وجمالاً لم تكن تتوقعه ، ليصبح هذا المشهد المرسوم ببراعة ، تدشينا لتحالف نسوى ينهض على ثقافة جديدة ، تحترم خصوصية المرأة ، وإعلاناً صريحاً لتجاوز كل حواجز الاغتراب المكانى والنفسى لدى بطلة الرواية ، فالغزالة هى المعنى البرى  للمرأة العربية ، والتمثيل الجمالى لها على نحو ما جسدته الثقافة العربية عبر تراثها الشعرى . إنها هى ذلك الكيان الجميل المغوى بالقنص .                                                   

 الأراولا(7)

نرمين امرأة موزعة بين سياقين ، سياق ثقافى مدجج  بقيمه ومعارفه وفرضياته التى سطرت نفسها فى التاريخ ، وسياق اجتماعى مفكك مهزوم بتقاطعات الآخرين ، الذين يتركوننا أمام أبواب مغلقة ، تسلم بعضها البعض ، وعلينا أن نجرب فى كل مرة ، وأن نتحمل مسؤلية اختياراتنا ، ثم نعيش هزائمنا وحدنا ،هكذا بدت نرمين امرأة وحيدة فى عالم يضج بالآخرين .

نرمين هى بطلة رواية ( الأراولا ) لمنى الشيمى ، تطرح أسئلتها على السياقين ، تختبرهما ، لذلك فهى موزعة بين الذات / الأنثى والآخر / الرجل ، لكنها لاترغب فى محاكمة الآخر بقدر ماترغب فى  اختباره ، ومن ثم تعرية كل شيئ يقع فى محيط حياتها ، ربما تجد مساحة من الدفء تحتويها ، تستر عريها وتهدهد روحاً أنهكتها حروب الآخرين ، نرمين تقول: ( كنت ـ أحياناً ـ أزج بنفسى فى قصص لاتقربني من رغباتى ، فدخلت مع جيفارا يوماً إلى بوليفيا ، اختبأت بسلاحى خلف الأكشاك المعدة للسكنى ، حاربت معه أعداءه، فلم أشعر بلذة ، فانضممت لهم وحاربته ، ولكنى فى النهاية خرجت من الغلاف الأخير للكتاب كما دخلت من غلافه الأول ، خالية الوفاض إلا من الإنهاك والعرق .. ) .(8)

نرمين بطلة رواية ( الأراولا ) ، تعيش تجربتها بنفسها ، وحيدة بلا أقنعة ثقافية أو اجتماعية من صنع الأخرين ، تعيشها  كامرأة بلا زينة أو مكياج أو رتوش تعمق إحساسها بالاغتراب ، هذا الاغتراب المرسوم لها قبلاً بوصفها أنثى ، فكلمة أنثى فى النهاية ليست سوى جسد ، مجرد صورة  تذكر الرجال بفحولتهم ، لهذا فنرمين لاتسعى إلى تأكيد وجودها كجسد إلا باعتبار الجسد صورة الذات ونافذتها على الآخرين ، وحيث يصبح للجسد حرمة وخصوصية فهو ليس هبة مجانية ممنوحة للرجال الطيبين ، لهذا فالراواية لاتحتفى بالجسد ذلك الاحتفاء الجنسى الذى نجده فى بعض الروايات النسائية الأخيرة ، كما إنها ليست غارقة فى لجة من الوجدانيات المدجنة التى تنهض ـ أحيانا ـ كوصفات كتابية مجربة ومضمونة ، الرواية تبحث لنفسها عن موقع متفرد يميزها بين كثير من روايات النساء ، وأظنها نجحت بامتياز .

نرمين ذات مبعثرة ، متشظية ، وموزعة بين هراءات تاريخية لاتنتهى ، ولا تكف عن تجديد نفسها ، لهذا فهى لاتعيش لحظة مكتملة ولا تندمج فى السياقات الكلية ، إنها دائما معلقة فى الهواء ، لكن هذا الوضع لم يعد يعوقها أو يعطلها ، ستجرب الهزائم الصغيرة ثم تنهض وتبدأ من جديد ، الآن أصبحت أكثر مهارة وقدرة على قراءة مابين السطور ، المسكوت عنه ، هكذا تعيش التجربة وتمتلك خبراتها حتى تتمكن من مجاراة الآخرين فى ألاعيبهم ، تثقب رؤسهم لتعرف مايفكرون فيه ، نوع من الحدس النسوى الذى يسميه البعض الحاسة السادسة ، تجعلها بمجرد النظر فى عيون أحدهم تعرف فيما يفكر ، تفهم ماذا تقول لمسات الأصابع عند المصافحات العابرة ، هذه الخبرة النسوية التى تنضج النساء ، وتجعل المرأة قادرة على مواجهة واقعها ، ومن ثم تسمية ذاتها  على نحو يخرجها من الهامش ويجعلها قادرة على العناية بنفسها ، بل ويعزز وجودها كذات رائية وقادرة على تبين موقعها ،  عندما تختبر أدوار الرجال المحيطين بها  . فهذا ( ملهم ) فقد إيمانه بالعالم ، ذات متشظية غير قادرة على الدخول فى تجربة عاطفية ناضجة . لماذا عليها أن تقوم بدور إيزيس وتلملم شتاته ؟ هو لايملك غير رصيد هائل من الكلمات التى ينفقها على آذان النساء ببذخ ، يمكنه أن يحتوى جسدها ، ولكنه لايستطيع أن يذهب لأبعد من ذلك .

هذا (باسم ) أمره مختلف . يستطيع أن يقترب أكثر ، لكنه مثقل دائماً بتاريخ ليس له . تركته أمه وحيداً ، فاعتاد الهزيمة . يريد أن يحتمى بها من هزيمته ، لكن هزائمه تلاحقه . فى كل مرة يقسم لها أنه سيفارق صديقة البوذى الشاذ ، يجلس تحت ركبتيها ويبكى كطفل يطلب الصفح من أمه ، ثم لايلبث أن يعود .

الأرولا .. زهرة قوية ، تستطيع أن تعيش رغم قسوة الظروف المحيطة بها ، لهذا أصبحت دالاً علي (نرمين) بطلة الرواية بما يمنحها قوة الرمز .

 الرواية  تقاسمت السرد بين ثلاثة أصوات ، صوت نرمين / الرواية ، وبطلة الرواية فى نفس الوقت ، وصوتين آخرين هما ( ملهم و باسم ) . أما بؤرة السرد فكانت دائما لنرمين ، فضلا عن امتلاكها لمساحات واسعة وحرة من التعبير عن نفسها  ،  بل نجد نرمين هى محور السرد ، حتى عندما يكون  علي لسان ملهم أو باسم ، لهذا ، فإن سيرة حياة ( نرمين) لا تدخل فى نسق سردى واحد أو متكامل ، بل تتوزع على الأصوات الثلاثة ، ثم أنها تتوزع على أزمنة عديدة  ولكنها ليست عميقة ، فنحن لا نعرف شيئاً عن طفولة نرمين ، و لاتعود بنا الرواية لأكثر من الأفكار القريبة والعابرة ، ولا تستغرقنا بعيداً عن الممارسات اليومية لحياة ( نرمين) التى نجدها منذ الصفحة الأولى على أحد المقاهى ، مكان عام لا يمنحها دفئاً وأمنأ ، الرواية كلها تمضى من مكان إلى لآخر، لكنها أشبه بالأماكن العابرة مثل المقاهى والشقق المفروشة  والموتيلات ومكاتب العمل ، وعلاقات التواصل بين الشخصيات رهن بهذه الأماكن ، أنهم ثلة من الأصدقاء الذين نسمع أصواتهم على المقاهى وعبر الهواتف وعلى شبكات الانترنت ، ولكننا لا نرى وجوهم ، لهذا فإن فعل السرد ـ بوصفه فعلاً مقاوماً للتشظى ـ  يعكس محاولة لاسترداد الوعى بالذات ، وإعادة لململة الملامح المتشظية ، ولحم الصدوعات المتشعبة فى الروح ، فالرواية تحتشد بكثير من التفاصيل الصغيرة لحياة نيرمين ، بل وتتوقف عند المكونات الثقافية التى اكتسبتها عبر القراءة ، فتحضر أصوات خافتة لشكسبير وكارل ماركس وفرجيينا والف وجيفارا وشارلوت برونى .

والرواية تعكس خبرة نسائية وذكاء فطرى إلى جانب بعدها الثقافى ، ولكنها لا تستجدى حكايات النساء عن أجسادهن ، ولا تمعن فى الممارسات النسوية الخالصة لتضمن لنفسها مكاناً بين روايات النساء ، إنها ـ فقط ـ تقف عند مجرد الهجس الفنى بواقع جديد  ، يعيشه جيل من الكاتبات ، يحتاج لقراء متأنية .


[1] – يمكن الرجوع  إلى كتابنا (أفضية الذات ) قراءة في اتجاهات السرد القصصي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2006م

3-  بام موريس: الأدب والنسوية- ترجمة سهام عبد السلام – المركز القومي للترجمة – القاهرة – 2002م

 

كل ما عليك، أن تموت. قصة: سيد الوكيل

إلى روح سيد عبد الخالق ، الذي جاء خفيفًا ومضى خفيفًا

لم أرى الذي عرض على ألبوم الصور، لم أره أبدًاً، ولكنى مازلت أذكر أن البداية كانت هكذا، مجرد يد تمتد  بألبوم صور وتعرضه علىَ. ذلك كل شيء يمكن رؤيته عندما كنت في القبو، صور فوتوغرافية في ألبوم بلاستيك شفاف يجعلها معروضة أمامي كشريط السينما، فالأمر مصمم ليبدو في النهاية حركة واحدة تتكامل، وتتحدد ملامحها كلما تأملت الصورة التالية.

ثمة وجوه.. وجوه كثيرة لناس لا أعرفهم:

 ” الآن وأنا أسجل ما حدث، أفكر بدس وجه مجدي الجابري بينهم، ولكنه أبداً لم يكن موجودًا، علىَ تجنب تزييف الأحلام بتاعة ربنا، أنا أتحدث عن موتى، وللموت حرمة “.

وشيئـاً فشيئـاً سأتـذكر وجه سيـد عبد الخالق، ثم.. ينتهي الحلم. عندما أقول إنها حركة واحدة تتكامل، فهذا يعني كل أن ما رأيته هو كل شيء، فلماذا أبحث في باقي الصور عن وجه أمي؟

استمر في القراءة كل ما عليك، أن تموت. قصة: سيد الوكيل

جماليات الأسلوب في أيام هند. بقلم: د. مجدي توفيق

 أيام هند ، قصص لسيد الوكيل

  1. حاول ويدوسون في كتابه “علم الأسلوب وتدريس الأدب” أن يضع علم الأسلوب موضعًا وسطًا بين الدراسات اللغوية التي تغلب على تشومسكي وهاليداي، والدراسات النقدية الخالصة. وتعد أمثال هذه المحاولة تجاوبًا مع هم رئيسي لعلم الأسلوب. ومن السهل أن نتفادى التورط في هذا الهم باللجوء إلى التعريف الشائع للأسلوب بوصفه الخاصية المميزة للتعبير نثرًا وشعرًا، لكننا عند قراءة نص أدبي سوف نضطر إلى أن نقول بحسم ما يقال أحيانًا من أن: الأسلوب مقولة جمالية. ولعلنا نحاول شيئًا في هذه السبيل بقراءة مجموعة “أيام هند” لسيد الوكيل بحساسية لغوية نقدية، نأمل أن تكون كافية لكي تكشف قدرة الأسلوب بوصفه ظاهرة لغوية جمالية على تأسيس جماليات متنوعة للنص الأدبي، تعد، في نهاية التحليل، وجوه الخبرة الجمالية الاجتماعية التي يمتلئ بها النص، وتفضى بمكنون خطابه.
  • تبدأ قصة “حنجل” بهذه الفقرة:

في غير رمضان، كان يدق إيقاعاته الرتيبة فيسأله الناس عن الميت… وكان ينطق بالاسم ببساطة ولا يتوقف عن الدق، ويسألونه عن السبب فيفكر ويقول … أمر ربنا، وكانوا يتلقون الإجابة، يقنعون بها ويمضون، يمصمصون شفاهم البيضاء بذعر، ويمضي هو، يدق … يدق … يدق، وتجري أقدامنا الحافية الصغيرة وراء الدقدقات المكتومة، نهرش رؤوسنا، ونبصق في عبنا، ونضحك في سرنا على طبلته العتيقة التي يضيع صوتها في زعيقنا خلفه من زقاق لزقاق.

   يا حنجل يا وش القملة                            مين قالك تعمل دي العملة”

استمر في القراءة جماليات الأسلوب في أيام هند. بقلم: د. مجدي توفيق

مـوت الأسطورة وانكشاف المواجهــة، في أيام هند لسيد الوكيل

د. رمضان بسطاويسي

(1)

تقدم هذه النصوص لسيد الوكيل رؤية مغايرة لطبيعة القـص التقليدي، حيث لا نجـد القـص تعبيرا عن رؤى ذاتية تبحث عن المغزى والدلالة من خلال الحكي، وإنما هي نصوص أشبه بالمرايا المتجاورة (مع الاعتذار لألتوسير وجابر عصفور)… التي تعكس الرؤية الكلية للعـالم ، فالذات ليست سجينة أسرهـا الخـاص، وإنما هي منفتحة على العـالم، تقدم لنـا ما تراه من شخوص وعلاقـات وتفاصيل صغيرة في حياة البشر.

 هذه الشخوص والعلاقات والتفاصيل تجسد رؤيـة أحـد أبنـاء جيـل الثمانينات للعالم المحيط به، وكيف أنـه أصبح يعي أن الذات المبدعة هي حواس متفتحة، تكتشف، وتعكس جدلية الوعي والتـاريخ، الذات والعـالم، متخلصا من كل ما يعوق أي نص من إسهاب وتداخلات ، وإنمـا يقدم نصوصا مكثفة، تشبه الجسد الحي الذي لا نستطيع أن نقتطع منه جزءا، وإنمـا وحـدة عضوية بين أجزائه المختلفة، ولذلك جاءت النصوص قصيرة غاية القصر، ورغم قصرها فهي غنية برؤاهـا التي يقدمها من خلال لغـة تشف، ولا تحضر حضورا مستقلا.

أما أنهـا تشبه المرايا المتجاورة، فهذه النصوص لها سمات عديدة منهـا أن هذه النصوص باتساع الموضوعات والشخصيات التي تتناولها لا، تزعم أن أي منهـا يملك الحقيقة على نحو ما ، ولكن تجاور كل الشخصيات والعلاقات والتفاصيل تساهم في تقديم رؤية سيد الوكيل على نحو ما عبر عنـه ألتوسير، حين بين أن الحقيقة هي عبارة عن مرايا متكسرة. وتقـوم الذات الفاعلة أو المبدعة بجمع شظايا الزجاج بجانب بعضها البعض، هذا الجمع والترتيب، يعكس رؤية الذات المبدعة للحقيقة، وكل منا يرتب مراياه وفق ما يرى، وما يدرك، وما تنفتح عليه حواسـه. ولذلك فإن هذه النصوص لا تعتمد على المفارقة، أو المغزى كبنـاء تشكيلي للنصوص وإنما يقدم العالم كما يراه، وفي تجـاور النصوص كما في تجاور المرايا، نستطيع أن نقرأ ونرى رؤيـة لهذا القصد الإبداعي، على النحو الذي يفهمـه سيد الوكيل.

وتنقسم المجموعة القصصية إلى ثلاث أقسام رئيسية:

استمر في القراءة مـوت الأسطورة وانكشاف المواجهــة، في أيام هند لسيد الوكيل

شريف صالح، حارس الفيس بوك

بقلم: سيد الوكيل

منذ وطئت قدماه الأرض، مطرودا من الفردوس الأعلى، عاش الإنسان يحلم بفردوس بديل، سكنته أساطير اليوتوبيا كما سكنته أساطير الخلاص. وعبر تاريخه، اخترع صورًا عديدة للمدينة الفاضلة، وحتى عصر قريب، كانت مفاهيم الدولة الحديثة القائمة على الديموقراطية، والمواطنة، وحقوق الإنسان، تمثيلاً ليوتوبيا انتهت بسلسلة من الحروب الدموية.. ويبدو لي، أن السوشسيال ميديا، هى آخر صور اليوتوبيا التي تعدنا بها الرفاهة التكنولوجية،  حيث يتمكن الإنسان من التجوال في أرجاء العالم مجردا من ورقة التوت.  

 في هذا السياق، لم يعد الفيسبوك مجرد تطبيق اليكتروني، مثل مئات التطبيقات الأخرى، بل هو حياة بكامل تفاصيلها، أو بمعنى أدق هو النموذج الأعلي للوجود الافتراضي. لهذا، فإن فشل يوتوبيا الفيس بوك، لن يكون مجرد إخفاق لحلم فلسفي يخص أفلاطون، أو الفارابي، أو ابن طفيل، بل سيكون مأساة وجودية لملايين البشر، إنه يوم القيامة الافتراضي كما يسميه شريف صالح  في روايته الأخيرة (حارس الفيس بوك) عندما تنهار كل قيم الحضارة الإنسانية، وتسقط كل الأقنعة، وراء شاشة حاسب آلي عظيم، يشمل البشرية كلها برعايته الافتراضية.

استمر في القراءة شريف صالح، حارس الفيس بوك

يقظة القصة القصيرة، بقلم: سيد الوكيل

مبتدأ:

في البدء كانت الحكايات والأساطير، وسيلة الإنسان لتفسير الوجود حوله، وفهم طبيعته الإنسانية، وإمكاناته، ومن ثم وعيه بذاته. هكذا كان الحكي طريقة القدماء للتفكير، لكن فلاسفة الإغريق، أعطونا مفهوما جماليًا للحكاية، فأصبحت فنًا مقصوداً لذاته، لما تحدثه في النفس من لذة جمالية، كما أن الفلسفة أدركت طبيعة العلاقة بين الزمن والحكاية.. الزمن من حيث هو فضاء لوجود الإنسان، وأفق لغيابه.

استمر في القراءة يقظة القصة القصيرة، بقلم: سيد الوكيل

مسيرة الشعر والألم. إلى روح النبيل محمد أبو المجد

سيد الوكيل

إلى روح النبيل محمد أبو المجد… الذي رأي

الشعر هو رؤية مميزة للوجود، وليس مجرد أداء مهاري للتعبير اللغوي. موقف ينتمي للإنسان والحياة، عاطفة مجردة من الحسابات. هذا هو المعنى الذي أدركه الشاعر محمد أبو المجد. فوسم سلوكه في الحياة الثقافية بالتجرد، لدرجة أنه لا يحرص على أن يكون مدعوًا على قوائم الشعراء في المؤتمرات والأمسيات الشعرية، بقدر ما يحرص على أن يتيحها للآخرين. لهذا، ثم من نظر إليه بوصفه ناشطًا ثقافيًا،  فلم يره شاعرًا، ربما كانوا راغبين في عطائه أكثر من أي شيء آخر. لكن الذين اقتربوا منه، عرفوا أن الشعر يسكن روح الرجل وقلبه، لكنه لم يكن راغبًا في استهلاكه بقدر ما أراد أن يعيش به وفيه.

أذكر بعد وفاة والده، أن شيئًا فيه قد تغير، فلم يعد مقبلاً على الحياة بنفس الروح القديمة، فبدا لي أن الموت أطلعه على شيء ليس لنا أن نعرفه. ما الذي رآه في نهاية نفق الحياة؟

قلت لله: هل لها منك ما لها؟
فأراني لوحة عظمي 
وأشار..
فمشت عيناي على أحرفه
ثم تلا ملك 
وتلوت..

استمر في القراءة مسيرة الشعر والألم. إلى روح النبيل محمد أبو المجد

مدارات في الأدب والنقد. سيد الوكيل

1

“عرض مبسط لنظريات الأدب “

يظل للقرن العشرين مكانته البارزة في علوم الدراسات الأدبية فهو ذلك القرن الذي تعاقبت فيه النظريات وتعددت حتى نكاد نظن أن الأدب لم يحظ باهتمام في تاريخه بقدر ما حظي به في القرن العشرين، حيث من المؤكد أنه، منذ ما بعد البنيوية وعبر العقود القليلة التي تلت ذلك ، شهد النقد الأدبي تاريخا جديدا، فانبثقت أشكال جديدة من النقد توازن بين النظرية والتطبيق، منها التفكيكية، ونظرية التلقي واستجابة القاريء، والنقد القائم على التحليل النفسي والنقد النسائي.. إلخ ولا شك أن هذا الزخم أصاب متلقي الأدب غير المتخصصين ببعض الارتباك حيث يصعب عليهم فض الاشتباك بين هذه النظريات التي قد تتناقض فيما بينها أو تتكامل وتتداخل.

استمر في القراءة مدارات في الأدب والنقد. سيد الوكيل

قصة حب صوفي. قصة جديدة لسيد الوكيل

مهداة إلى مانيكان آلان روب جرييه

كان أبي ( باترونيست حريمي ) مهنة تأتي بعد مصمم الأزياء، لتصنع من خياله وجودًا جماليًا.. أليس هذا ما تفعله الكتابة بنا؟ تداهمنا بالأحلام والأخيلة، نكتبها فنخلق منها وجودا حيا؟

الآن..حتى بعد  كل هذه السنين، وأنا أجلس على مقعد متحرك أمام بحر صامت بلا موج، أدرك أن حكايات الجمال الأولى لم تهجرني بعد، كل شيء يحضر كأنه يحدث الآن، فأرى عيني أبي مفعمتين بفرح شفيف، عندما يرى الفستان ينطق على جسد صاحبته، ويبوح  بكل تفصايله.

بين كان والآن يقبع التاريخ، ويهرم، ليصبح صورا تتماهى في بعضها، تسكن أحلامنا، وتخايلنا بشغف البدايات، وروائح الأزمنة.

استمر في القراءة قصة حب صوفي. قصة جديدة لسيد الوكيل

الورقة العاشرة.. قصة بقوة رواية

بقلم: سيد الوكيل

من الأوهام المدرسية التي تسربت إلينا، أن تكون القصة معبرة عن حدث وحيد وجزئي، منبت الصلة عم قبل أو بعد، وتكتفي بشخصية وحيدة، لتعكس فكرة ثاقبة فحسب، هكذا نختزل السرد القصصي في ( وصفة سهلة، وصفة هايلة ) ونضع فنا رحبا ومتنوعا في نفق ضيق فتتشابه فيه كل القصص، تختزل وتضمحل لتصبح القصة الومضة ( مفيش أسهل من كده) تستطيع أن تقرأها وتنساها في خمس دقائق، وهو الوقت الذي تنتهي فيه من تدخين سيجارتك.

من سوء الفهم أن نرى القصة المشبعة (الملهمة ) بوصفها نمطا كلاسيكيا مضى عليه الزمن. هذا مفهوم خاطئ لمعنى الكلاسيكية كما هو مفهوم خاطيء لمعنى القصة المشبعة. فالكلاسيكية ليست ماض انتهي بل هي ماض مستمر، بمعنى أنها فنون لها القدرة على التأثير والعطاء المتجدد مع كل زمن وكل تناول لها. هكذا تظل  ألف ليلة وليلة، ومسرحيات شيكسبير، وروايات وديستيوفيسكي، وسيمفونيات بيتهوفن.. حية وملهمة لأعمال جديدة.    

استمر في القراءة الورقة العاشرة.. قصة بقوة رواية

الصورة فى مجموعة ” مثل واحد آخر ” لسيد الوكيل. د. شاكر عبد الحميد.

د. شاكر عبد الحميد
سبتمبر 7, 2009
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on linkedin
LinkedIn
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram


المفهوم  المحورى المناسب لقراءة هذه المجموعة للكاتب سيد الوكيل ( من مصر أيضاً ) هو مفهوم الصورة والتصور والتصوير ، فهناك حضور كثيف للصورة والمرايا واللوحات والمشاهد والعيون المحدقة ، وهنا تصور العالم وكأنه مشهد يخلقه الكاتب ويحرك الشخوص داخله وخارجه.
فى ” الثعالب و أنا ” حديث عن:
ـ الصور  التى لا تفنى ، الصور الموجودة فى الذاكرة.
ـ مشهد يجمع بين شخصيات عدة تم تجميعها فى مشهد واحد تجميعى كبير ، ثم تجري تفرقتها بعد ذلك عبر القصة فى مشاهد فرعية ، وهذه آلية من آليات المونتاج والسرد السينمائي المستخدم بكثرة فى هذه المجموعة.

استمر في القراءة الصورة فى مجموعة ” مثل واحد آخر ” لسيد الوكيل. د. شاكر عبد الحميد.

فتنة الجسد، والروح، في سرديات( سيد الوكيل ) بقلم: فهد العتيق.

سبتمبر 7, 2009

فهد العتيق *

اللحظة السردية عند الروائي والناقد المبدع سيد الوكيل تتطور داخل النص مثل عاصفة صغيرة , تنمو وتتشظى, هادئة أحيانا ومتوترة أحيانا أخرى , ربما هي من ذاكرة اللحظة , اللحظة الفنية البكر, التي اختمرت في الذهن طويلا لكاتب مهموم , وهذه هي روح الكتابة الحديثة أو الجديدة , حيث لا دخول تقليدي قصدي مسبق يكسر عفوية واضحة و رفيعة للنص , عفوية فنية مبدعة تكشف بوضوح حالة صدق فني , مثلما تكشف عن كاتب مختلف ومتجدد بأدواته وقدراته , ومهموم بقضايا الإنسان في مجتمعة.

في قصة ضوء شاحب في النافذة , يتابع الكاتبتفاصيل حياة يومية , من خلال حكايات فيها متعة وجاذبية , تشعر أحيانا أنها ليست قصصا , لكنهاشيء يشبه حقائق تتلبسنا مثل روح , ربما حينأتاح هذا السارد الممتع في (صاحبة الضوء الغافي) , لعفريت أن يزيحقليلا سدادة تحبسه ,ليتسرب عطرها شيئا فشيئا في فضاء الحمام , وكانت قدأخذت المسجل ودخلت الحمام ثم انقطعت الكهرباء فجأة, حتى أنها حين خرجت عارية لتحضر شمعة وثقابا, ثم عادت فاجأها عطرها , كان عطرا معتقا لربع قرن من الزمان فداهمتها سكرة الحواس حتى أمكنها سماع فقاعات الصابون وهي تتنفس فوق جلدها لوقت هين , ثم تموت في صمت .

تتحول الحالة السرديةإلى غناء أو بكاء أو رقص , أو كل هذا في وقت واحد , كمافي (توق الأرواح) , نعايشفتنةجو قصصي طفولي جميل,يقول الكاتب : ( والله الواحد ليسلم بأن الروح دائما تتوق لأجساد أخرى,فعلي الذي سمع بكاء الحليب في نهدي مارسا ,مال برأسه على صدرها هكذا ,وأغمض عينيه , ومارسا التي لم يتقوس ظهرها تحت رجل من باغتالدرن صدر ناشد , جذبته إليها وبكت ,فتقاطرت الدموع على شعره ,وعندما رفع رأسه إليها قالت ..أنفاسك طاهرة ياعلي ..فقربمني شفتيك..) .

كتابة الوكيل فيها متعة وتقدم رؤية من أعماق الحارة ,من حجراتها وشوارعها الصغيرة وسطوحها, ومن أرواح مفتونة بالحياة, وتتألم كثيرا بسبب ظروف متناقضة تحيط بحياتها ,كما تقدم رؤية موسيقية في ثنايا سرد لغته لا تكتفي بالحكيأو القص, لكنها تحاور هذا الواقع وتدخل معه في علاقة إبداعية عاليةتحاول كشف مخبوء هذا الواقع ,رؤية كأنها تستدرج هذا الواقع لكي يغني مأساته الجميلة وهواجسه النفسية المكبوتة .

استمر في القراءة فتنة الجسد، والروح، في سرديات( سيد الوكيل ) بقلم: فهد العتيق.