أرشيف التصنيف: الحديقة الخلفية

محتوى ثقافي متعدد المعارف والمجالات

شاهد تحت الطلب. قصة: محمد فيض خالد

ي

لم اعرف من جنس البشر رجلا يبدي كل هذا التساهل، يبيع ضميره لمن يدفع مقابله ،فاحت سريعا دناءته بين الأهلي كوغد لئيم، لا يعرف للمروءة قدرا، ولا يسحب للشرف حسابا، يتنكر لكل فضيلة ، لايجيد من فنونالحياة سوى أن يكون طوع أمر الجنيه.

يعرفه الناس منذ زمن بعيد يتردد على المحاكم والنيابات ونقاط الشرطة ، وفي مندرة العمد تتعالى أيمانه المغلطة يرددها في استبسال :” والله العظيم تلاته ، وحياة عيالي” ،ثم يشرع في سرد تفاصيل شهادته الملفقة ، وعلى قدر الأجر تلتهب الأيمان، وتشتد وطأته على الخصم، بطاقته  حاضرة في محفظته الجلد الكالحة، ما أسهلها حين ينتزعها من جيبه ، وابتسامة مفتعلة تغرق سحنته المغبرة ، ويده تكر حبات مسبحته الخشبية في خشوع ، وتنهيدة طويلة تنفلت من صدره ، تحتك بأخشابه فتحدث فحيحا كفحيح أفعى عجوز.

صدقني ، حين أخبرك فانا لا أعرف له مهنة غير هذا العمل ، يتكسب منه ما يكفي شؤون بيته ، يأكل قلبه الفضول حين تعلن زوجته في اقتناع ورضاها الكامل عن صاحبها، تقبل ظهر كفيها تقول ممتنة :” الحمد لله الأحوال عال ، وربك لا ينسى أحدا ” ، كشاهد زور لم يكن ليرضي أبناء عمومته ، يرون في افعاله ما يشين العائلة ويهز مكانتها ،ويجعلها أضحوكة بين الفلاحين ، لكنه يمضي مدفوعا برغبة عارمة ، يضرب بتحفظهم عرض الحائط في كبرياء، لا يتوقف عن امتعاضه ، ولا يتورع عن الانتقاص من قدرهم على الملأ ، يلعن الرحم التي ربطته بهذه الشرذمة الحاقدة ، ينتفخ في خيلاء حين يصرح بأنه محسود من أقرب الناس إليه لنجاحه.

تتزاحم زبائنه عليه آناء الليل وأطراف النهار مثنى وثلاث ورباع ،يستقبلهم في حفاوة ، ويشيعهم في ثقة وتلطف ، يعرف جيدا ما يتوجب عليه فعله ، يحفظ الأسماء عن ظهر قلب ، ويسترجع الأحداث في خفة ومهارة ، يطوف بين يدي الحكم بلا تواني ن فكلامه غاية في الاقناع ـ وجمله المرصوصة محبوكة قد تمرس عليها وتعودها ، لا يهتز جنابه ولا يتململ ، ولا ترهبه هيبة القاضي ، اعتاد طقوسا غريبة قبل كل شهادة ، ينضح وجهه بالماء البارد وهو يغمغم في هدوء :” كلنا ولاد تسعه ،يا شيخ سيبها على سيدك ” ، يجهل أغلب الناس اسمه كاملا وأنا أولهم ، فهم لا يهمهم من الأساس في شيء ،فشهرته الكبيرة أغنت عن التدقيق ، ما إن تذكر ” محروس الزور ” إلا وينفلت مخزون الأفواه في رشقات متلاحقة ، متبوعا بعبارات منتقاة من أقذع الشتائم وأقساها من قبيل :” اخص الله يخيبه البعيد” ” شاهد الزور الضلالي ” ” دا ابن حرام مصفي ” وغيرها كثير من النعوت التي لا تليق إلا بوغد حقير.

تعود الا يفارق المقهى إلا لضرورة ، صديقا تراه يندس بين رجال المباحث فهم يألفوه، يتردد بانتظام على مكاتب المحاماة ، يطلبونه بالاسم فهو رجلهم المفضل وقت الحاجة ، يتباهى في سخف بهذه الصداقات المهلهلة ، يعتبرها من دلائل محبة الله لعباده ، فمن أحبه مولاه حببه لخلقه .

في صباح يوم غائم ، اهتز على غير العادة باب البيت تحت طرقات يد غليظة ،اندفع رجال غرب في ثياب ميري ، ارتفع بكاء صغيره فوق كتف أمه التي ألجمتها المفاجأة ، قال لها كبيرهم في عنف :” المحروس جوزك فين ؟ ” وفي المركز كانت في انتظار الضيف قائمة طويلة من الشكاوى ، أصنافا من التهم الكيدية ، ليستمر  خمسة أشهر في دوامة التحقيق قبل أن يفرج عنه بكفالة.

قصة حب صيفية، بقلم: محمد فيض خالد

مع هبوب نسائم الصيف ينتظر مقدمها بفارغ الصبر، يتسمع دقات قلبه مع أول نظرة، بدى الأمر شيء من الإدمان ، يرى فيها ما لا يرى أنداده من فتيان القرية ،فتتمثل في صورةملائكية صغيرة تشاغب من أمامه ،تجردت من دنس الآدميين الذين خالطهم عمره ، هي في اعتقاده أبعد ما تكون عن حياة الوحل ، والسباخ التي تفيض بها البيوت ، وتلطخ الوجوه المحملة بكآبة المعيشة، حتى وإن كانت من نبت هذه الأرض  ، لكنها عنده من طينة مختلفة ، اصطفتها الأقدار على عينها ، لتكون بهذا الرونق والبهاء. تعلق مبكرا بفتاته اللعوب، مذ بدت أمامه أنثى في ثياب المرح طازجة كاملة الأنوثة ،كان يحبها حبا يراه فالقا كبده ،هي بنظره روح الجنة وطهارة السماء، لكنه كان يرتد خائبا، حين يرى نفسه ضئيلا أمامها، وهو يلتف بأسمال الفاقة والمتربة ،ومرارة شظف العيش ورقة الحال، أما هي فقد تربت في لين النعمة ، يغدق عليها والدها من أفانين المتعة الكثير، منى نفسه الارتباط بها ،شفيعه لهذا الطلب قرابة بعيدة تربطه بوالدها ، الذي هجر القرية صغيرا وبدا حياة جديدة ،تخفف فيها من أعباء الريف وأثقال الحقول ، تقرب إليهم زلفة ، وجاهد استطاعته في كد كي يتسلق هذا الجدار الفاصل بينهما من أعراف الريف حتى نهايته ، تلفه الهواجس ، وتبلبل خاطره المخاوف، كلما مر قريبا من دارهم أو شاهدها ، يتساءل في حرقة :” هل لفتاة منعمة مثلها ، تقبله زوجا؟!” ،غالبظنونه ، وامتلأ يقينا، فقد ترك له والده قراريط تكفيه ، مشت الأمور على خير ما يشتهي، انفتلت الأيام ليجدها في بيته عروسا مجلوة ، بعد أن التهمت نصف فدان من أخصب أفدنته الثلاثة ،تشاغل عن كل  هذا بجمالها الفتان ،بعد أن طابت نفسه وهدأت روحه بين ذراعيها ، يجني من رحيق الحب الشهي ، ويقطف من ثمار العشق الغض قطفا جنيا ، سحرته حتى غاب عن الوجود ، فبسماتها الحلوة تذيقه طلا الحب حتى يسكر ،يصرخ من أعماقه حين تتراقص في ميوعة مجنونة أمام المرآة ، هجر حياته كلها ، حتى أصدقاء الطفولة انفك عنهم ، يعهد بها سحابة نهاره ، ويتسامر معها عشيا ، مضت أيامه الحلوة وانطوت ليالي هناءته ، ليجد نفسه بين أحضان كابوس يضمه ، جعله يضطرب في لجه من الأحزان ، لقد تعلقت فتاته بشاب من أبناء القرية يضاهيها سنا، كان من شبابها المنفلت ، أغواها بحبه كشيطان ماكر قبل ان تقترن بصاحبنا ،استمرت صلتهما لما بعد الزواج ، لم يشفع له تلهفه على بطنها المنتفخ فيحملها الأول ، فتمادت في جبروت ، تذيقه من صنوف الأسى كؤوسا ، لم يكن ليدري أنه قد أغرم بوحش ، تضاءلت في نفسه صورتها الجميلة في الماضي، فشعرها المتهدل، وجبينها الوضاح، وجسدها البض الرجراج ،وبسمات الشفاه اللذيذة ، كل هذا تبدى سرابا ممتدا أمامه ، تراءت من فجوات الحياة كابوسا يكاد يزهق روحه ، امتدت يده تعبث بأرضه مجددا ، حتى أتى عليها جميعا لكنها لم ترتدع ، بل ظلت في تماديها وعنادها ،حتى كان اليوم الذي مزقت فيه كبريائه ، طلبت منه الطلاق، لم تفلح بينهما الوساطات ، أخيرا تم الطلاق لتلحق بمن تحب ، بعد أن ألقت له بابنتهما الرضيعة ،أما هو فانكأ وحيدا يربي الصغيرة ، أكمل حياته قانعا بهذا ، سارت به الأيام  ليصحو ذات صباح على طرقات خفيفة مترددة ، وكأنها تهمس لألواح الباب ،كانت هي ، نعم هي بعينها ، لكنها بقية من أطلال الأمس الغابر، عرفها من وشم عريض على ظهر كفها الأيسر، غدر بها حبيبها المدلل ، بعد أن انتهى مالها ، طردتها الأبواب فلم تجد من يحنو عليها أو يرحم ذلتها ، عاشت في غرفة من غرف بيته ، قبلها لأجل ابنته ، وذكرى أيام كانت.

شهادة أدبية بقلم: ثريا السيد

للكتابة أجنحة وانطلاقة نحوالنجاة والتحرر والتحقق  

   ثريا السيد على            

البدايات الأولى

نولد ومعنا أقدارنا مكتوبة ، حاملين بعض الجينات والصفات المتشابهة والرعاية والاهتمامات المتوارثة من الأهل وأحلام عظيمة نطاردها  وتطاردنا .

أسماني أبي (ثريا) تيمناً بمجموعة نجوم الثريا فى أعالى السماء ، وأحمل اسم أبى وساما فوق قلبى وداخل عقلى، أبي (السيد على) الحنون الصوفي المثقف الواعي بأهمية التعليم والقراءة والتنوير ودورهم فى المجتمع ، المطبعجي فى شركة الطباعة والنشر ، المبهور بالكتاب وخصوصاً عميد الأدب العربى طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ويحيى حقى ونجيب محفوظ ، العائد من  العمل يومياً حاملاً معه فى صندوق دراجته الفاكهة واللبن والجرائد والكتب والمجلات التى نتنازع عليها ونقتسمها ، فتحت عيني على أمهات الكتب ألف ليلة وليلة والأغانى للأصفهانى وكل إصدارات دار الكتب وروايات الهلال وروائع وكتب طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم حتى الروايات المترجمة البؤساء وانا كارنينا والعجوز والبحر وحرب وسلام  والأرض الطيبة  ، ومجلات عديدة ، وفى أوقات راحته كانت القراءة هوايته الوحيدة  للجرائد والكتب والمجلات ، وكنا نحضر مناقشاته مع أصدقاءه فى الظروف السياسية المختلفة للبلاد ، الهزائم والانتصارات وأحياناً عن الزهد والتصوف وكان له مواعيد مع شيوخ الطريقة الشاذلية الأحمدية ، وعمل ليالى  ذكر لأهل الله فى منزلنا المتواضع ، وأحيانا يأخذنا جميعاً للسينما ، أو للحدائق العامة ، لفترات طفولتى المتقطعة اعتقدت أن كل الآباء فى هذا العالم يشبهون أبى إلى أن دخلت إلى المدرسة ، علمنى أبي القراءة والكتابة وقراءة الجرائد ، وكراهية اسرائيل وإنها العدو الوحيد ، وألقى لى بساتين المحبة للبشر وللأزهار ولزهرة ست الحسن والجمال بالتحديد الزهرة الجميلة البنفسجية ، لأنها تملأ نوافذ البيت ومعرفة نعمة الجمال والحسن فى كل نعم الله المكتشفة يومياً زرع حب الحياة بقلبى وعقلى .

استمر في القراءة شهادة أدبية بقلم: ثريا السيد

البيوت الحزينة، بقلم: سيد الوكيل

كل صباح استيقظ، افتح التلفاز، فأرى في قلبي بيتاً حزيناً

تقول الأسطورة إن الإنسان الأول ظل يجوب الأرض بحثا عن المكان، وكان كلما جنى الليل دق عصاه في الأرض ونام بجوارها. وذات صباح استيقظ فوجد العصا مخضرة مورقة، فأدرك أنها إشارة من السماء على أن ذلك هو المكان المقدس، فكان أن بني البيت.

 في البدء إذن كان البيت هو قدس أقداس الإنسان. ومازال، وهو رمز يصل حدا من التقدير يناظر حياة الإنسان ووجوده، لهذا نردد في أقوالنا: البيت الحرام، بيت المقدس، بيت الأمة، البيت الأبيض..إلى آخر هذه المسميات التي تجعل البيت رمزا معادلا لوجودنا..

استمر في القراءة البيوت الحزينة، بقلم: سيد الوكيل

شهادة أدبية. الكاتبة: عبير درويش

 كل ما كنت أتلقفه من نواهي في صيغة توجيهات، وبعض الزجرات المحذرة، كانت أوامر لا تقبل النقاش أو فرضية المقايضة، بالنسبة لفتاة تلهو بين عتبات الطفولة ويخطو جسدها نحو مراحل النضج الجسماني، خيار الإجبار هو سيد الموقف، والجبر وعد مؤجل، دائم الترحيل.   

  سلسلة من الزجرات الناهية لا تقبل النقاش، واحدة للاستيقاظ وأخرى للنوم ثم الطعام ثم ارتياد المدرسة، وأخرى للاستذكار.. التزام الصمت.. التحدث، والقائمة تطول، غاضبة كنت على الدوام لكني دومًا أنصاع للأمر..

لكنني أظل رغم حنقي ورفضي.. أظل ممتنة لتلك الزجرة التي جفلتني أثناء لهوي بين الرفاق:

  •  “هيااا … حان وقت النوم” 

 أذعنت مزمجرة ومضيت، وأغتسلت وأويت إلى الفراش وتظاهرت بالنوم؛ فأقحمت داخل عتمة بصرية، لكن سرعان ما تلاشى الظلام وبانت لي فيها سعة المشهد، وانتثرت الأضواء كما الحلم على رؤوس شخوص الحكايات، بعض من تلك الحكايات الممتدة التي نسجها عقلي الباطن، وهيأتها مخيلتي للامتثال، والتحقق، تلك المخيلة داخل تلك الرأس المغطاة، برغم تدثرها الإجباري.. أطلقت شراعها وسبحت.

بالقطع في تلك السن كانت تجارب السباحة بالنظم غير مكتملة، وكذا محاولات نسج ثوب الحكايات من بين المشاهدات كانت غير كافية، لكن يرجع الفضل للمخيلة البكر في أنها كانت اللبنة الأولى لما يمكن أن –أدعيه- أو أوسمه بـ”محاولات كتابة”،  ثم توالت المحاولات رغم زجرات كثيرة ومختلفة واجهتها عبر سنوات عمري المنفلت؛ أعنفهم كانت “زواجي المبكر”، والذي تم فور تحصلي على شهادة الإعدادية، تلتها (المزلزلة)، وهي التي هزت الأرجاء بعد إنجابي لطفلين ومرور ثمانية أعوام، وأثر محاولاتي الحثيثة للعودة إلى مقاعد الدراسة! 

لكنني كنت امتهنت إصدار الزجرات؛ فأصدرت بوجوههم زجرة مضادة مزلزلة، وتحصلت في إثرها على الثانوية العامة، ومعها طفلة جميلة أنجبتها فور أداء امتحانات الثانوية؛ ابنة ثالثة أطلقت عليها (الشرط التعجيزي)، وانضممت إلى صفوف مدرجات الجامعة، والتي نهلت خلالها من نبعي الاختياري للفلسفة، ويمكنني القول بأريحية إنني لم أقض أيام دراستي الجامعية كأي طالبة “شابة”؛ بل كنت أعمل للإنفاق على تعليمي، وأدرس وأرعى ثلاثة من الأبناء على اختلاف أعمارهم، وبرغم هذا عشتها بكل ما بها من لذة وقهر وطموح ومحبة، عشتها بما لا أستطع الوقوف على معناه، أو كما أوردتها الأمريكية في حوارها “إيزادورا دانكن“: 

(لو أمكنني إخبارك بمعناها لانتفى المغزى من رقصها).

 الشغف.. هو ما أشارت إليه “دانكن” تلك الراقصة التي أحبت الحياة وتراقصت على أنغامها، وعشقت أوشحتها الحريرية، والتي كانت سببًا في أن تودي بحياتها، عندما علق وشاحها الحريري، المُلتف حول عنقها، بمحور العجلة الخلفية للسيارة مُسببًا موتها على الفور..

شغف الكتابة هو سبر لأغوار متاهة ملغزة، متاهة جائزتها “الوصول” في طريق مجهل بلا ضمانة ولا رفقة، أو معين؛ نداء الكتابة ناعم محرض، مثل الدعوة الصريحة إلى عيش الحياة..

 هو ذاك النداء-الصامت- القوي المدغدغ للحواس، أجده بمخيلتي كصوت نفير بوق بائع الحلوى اللدنة الزهرية، فما أن ينفخ بوقه بأوداجه المكورة حتى أهرع نحوه طائعة، وهو في انعكاس صورة الواقع رجل لا تستطيع مع ملامحه تحديد شبابه أو كهولته، أو حتى كونه نال عجزًا جزئيًّا بتقوس عاموده الفقري والبائع يجوب الطرقات بابتسامته التي تنز رضا من بين تهدلات أوداجه، مقوس الظهر قانع بما حمل على ظهره من بهجة، يخترق الأزقة حاملاً عاموده الخشبي الخشن، والمغلف بالبلاستيك كيفما اتفق، لتنام حلواي الزهرية العارية طيعة التشكيل؛ فأستوقفه ليجذب طرفا مطواعا من متنها اللدن ويطوق رقبتي بقلادة زهرية، ويلف معصمي بساعة، ويحيط إصبعي بخاتم ملكي!

 عملت بالصحافة أثناء دراستي وبعد تخرجي، وأدركت منذ البدء أن الصحافة هي الصورة القميئة لبائع الحلوى، والحلوى هي المقابل الذهني للكتابة لدي.. لقد بوغت بالواقع الفعلي لاستغلال الشباب المستكتبين وبوجه خاص “المرأة”، أولئك المنبهرين بمهنة صاحبة الجلالة، واستغلالهم كمتحصلين إعلانات و”إعانات” لصالح القائمين على الجرائد، أو مالكيها..

  ثم تركت مهنة الصحافة التي أكلت من عمري زهاء الثمانية أعوام وأكثر، واستغللت وقتي فيما بعد في دراساتي العليا بعمل دبلومة متخصصة بالسياسات الإدارية، سعيا للتحصل على وظيفة مهنية، ثم تلتها دبلومة في فن كتابة السيناريو، وعليّ الإقرار بأنه رغم سلبيات العمل الصحافي فقد استفدت من مزاولته؛ فقد أثريت لغتي وصقلت مهاراتي، وكانت سببًا في إعادة صياغة نظرتي للحياة وفي رؤيتي للواقع، ذاتي الجديدة التي حشوت بها فوهة العالم الموجهة نحوي وأيضًا ساهمت في اكتشافي لذاتي التي تكونت عبر تراكم خبرة الاحتكاك بالعالم.. العالم الحقيقي.. لكن تظل الصحافة في دواخلي محض وسيلة مقننة لبيع وترويج حلوى الأكاذيب المغلفة.

ببساطة.. كانت تلك “بعض” الدوافع التي دفعت بي نحو التدوين، الكتابة، الحكي، الاستفاضة، هي حقيقة كل ما كتبت، وما قدر لي أن أكتب، هي بعض مني إن لم تكن جميعها، وكما يقول “يوسا” عن الكتابة:

 (هي عملية يقوم فيها كل جزء من شخصية الكاتب بدوره، أفكاره، غرائزه، حواسه، كما يلعب الجانب المظلم لشخصيته دورًا مهمًّا للغاية أثناء الكتابة).

في رحلتي القصيرة عبر السرد كتبت خمس مجموعات قصصية، نالت بعضهن منفردة جوائز على مستوى الوطن العربي، وأخرى اقتنصت جوائز محلية كجائزة “إحسان عبد القدوس” و”نادي القصة” لمرتين متتاليتين، وفازت مجموعتان فيهما بجائزة النقابة العامة لاتحاد الكتاب، وجائزة أخبار الأدب، ثم جربت قلمي في كتابة المسرح المونودرامي ونلت جائزتي (أيام القاهرة للمونودراما) على مستوى العالم، وكتبت نصًّا آخر –تحت الطبع- بعنوان “النباش”. 

 لكن ظلت الرواية هي القارب الأجدر بالإبحار على متنه في عالم السرد؛ فأقدمت على كتابة روايتي الأولى (حلم قصير) والتي تحكي عن الإسكندرية في القرن الثامن عشر وملابسات احتلال الإنجليز لمصر مدة أربعة وسبعين عامًا، وبرغم البعد الزمني للحدث، والاختلاف الجغرافي للمكان الذي تغيرت ملامحه، واحتراق وتهدم العديد من مبانيها، لم ألجأ إلى استخدام المتخيل السردي، واستعنت بقصة حقيقية من واقع ملفات المحكمة المختلطة بأرشيف الحقانية، وبخرائط الأحياء القديمة، والتي كان لمكتبة الإسكندرية دورها الداعم في توفيرها. 

ربما لنا عودة إلى مقولة “يوسا” فالإسكندرية ليست مجرد “مكان” لمدينة ممتدة تتحرك فيها الشخصيات، بقدر ما هى حالة وجودية، فلتتصفح “فورستر” أو اقرأ لـ”كفافيس”، أو “داريل”، الإسكندرية ليست مجرد هواء يهب من البحر، إنما هواء أرسله التاريخ العجيب للمدينة.. تاريخ الثورة والتمرد بل واقتلاع الطغاة، هي مدينة العالم التى لم تتكرر، مرتع قصص الحب الجميلة.. المدينة المجاهرة بالمحبة والمانحة السخية، لكن علي الإقرار أن الكتابة عن الأمكنة ليس بالضرورة أن تكون انحيازًا سياسيًّا أو فكريًّا، أو أيدولوجيًّا.

رواية “حلم قصير” التي طبعت ووزعت وبيعت بإمارة الفجيرة، عن القائمة الطويلة لجائزة راشد بن حمد الشرقي، والتي لم تنل حظها الكافي، رغم أنني أؤمن أن الجوائز حوافز معنوية يحتاجها الكاتب (كما يحتاج المادية)، لكنني أقر أن الكتابة ذاتها لا تحتاجها، ولا فائدة مرجوة تعود من الجوائز على الكتابة إلا زيادة متلقي الأعمال الإبداعية ومقرؤيتها على نطاق أوسع:

“إنّ كل فنّان يشتهي أن يُذاع صيته”.

 قالها البير كامو، بينما كان يتسلّم جائزة نوبل في ستكهولم، وبحسب ذائقتي الخاصة التي ربما تضررت من قراءة – بعض- الأعمال ذائعة الصيت (بعض الأعمال الفائزة وليست جميعها) أما عن الزيادة في الأعداد المهولة للأعمال الروائية فحدث ولا حرج، وهو في حد ذاته نفس العامل الذي يحجمني عن التورط في طبع المزيد من المخطوطات، ربما التريث كان أليق بتلك الفترة، ثم كان لي الحظ  بكتابة ثلاث قراءات نقدية شاركت بها في مؤتمرين أدبيين،عقد إثنان منها بتونس وآخر بمؤتمر الطيب صالح بالقاهرة.

ورغم تشوقي لطباعة عمل أعده تجربة مفصلية في كتابتي، وهي السيرة الذاتية للشاعر “نجيب سرور”، ليس لأنها كتابة تختلف عن “حلم قصير” شكلا ومضمونًا، أو لأنني غامرت وانتهجت فيها نهجا غير مطروقًا من أشكال السرد، عبر التأريخ لكثير من الأحداث المهمة وتسجيل الكثير من المنعطفات السياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى الرسم السيكولوجي للشخصية الرئيسة المعروف عنها اعتلالها النفسي، كل تلك العوامل متضافرة وأنا أنتهج سرد الراوي المشارك.

ثم استدرجتني إلى الإسكندرية رواية ثالثة وهي (1111 في مواجهة البحر)، وأوقعتني في حبائلها الفلسفية والتي ما زلت عالقة بها للآن.. 

غالبًا يتطرق البعض في كتابة شهادته إلى الأسئلة المألوفة:

ما هي طقوس الكتابة لديكِ؟

حسنًا فلنبحر بعيدًا عن المألوف دون سخرية؛ فلست أملك من الرفاهية ما يمكنني من المكوث ساعات الصباح الباكر، ولا أن تصاحبني تسجيلات لأصوات ينابيع المياه الهادرة، أو الموسيقى الناعمة الكلاسيكية أو حتى شدو فيروز الناعم؛ فأنا لا أسمع صباحًا سوى صيحات المطالبات من الأبناء، وزعيق الباعة المعتاد، وأشرب القهوة الفورية (ولا أحتسي) لتنبهني بحلول يوم جديد بمهام جديدة، وبعيدًا عن كل تلك الصور النمطية التي ثبتت بالأذهان لانهمار الأفكار وغزو الإلهام، ببساطة أنا تغزوني أفكار الكتابة بينما أغسل الأطباق، وبينما أطوي قطع الملابس، وفي طابور الخبز، وكثيرا ما أشرد وأنا أجلس بين أبنائي وأحدث نفسي بجملة اعتراضية على حبكة ضعيفة، أو أنتفض للمصير الدامي الذي طاف بمخيلتي للبطل الرئيس!

  • أين تمارسين الكتابة؟

أقتسم فراشي مع كتبي التي أنتوي قراءتها، وبيننا الأوراق المتناثرة وجهاز الحاسوب، وما لزم من أقلام رصاص وما تنازع من موصلات الكهرباء كالأسلاك وشواحن الهاتف وتاب القراءة، أكتب على فراشي ليلا والجميع نيام، بعيدًا عن الأصوات والنداءات، طيلة النهار، وفي مفكرة صغيرة أجمع وأدون كل الهواجس والرؤى التي خاتلتني، ثم أجلس وأكتب ما يمليه عليه ذاك المحرض طيلة اليوم.

  • وماذا عن العزلة؟  

بصدق.. العزلة بغرض الكتابة لا تعنيني، أما العزلة عن الكتابة فهي حلم يناوئني كثيرًا، أعترف بأنني ما أردت أن أكون واحدة من النسوة العاديات، كأي واحدة منهن.. أحيانًا أريد البعد عن الجميع -التجمعات- إلى مكان ناء لم يسمعوا فيه عن الكتابة أو عن الكتّاب الذين تزايدوا كالجراد في موسم تداعي الأفكار، وسقوطها كالفاكهة التي نضجت ونالها نصيب وافر من العطن على الأفرع. 

  •  ما الغاية ذاتها من الكتابة؟

 نحن نكتب لتحويل نهارات وليال وأشهر وغالبًا سنين إلى “لحظة” من المتعة الخالصة!

نعم.. المتعة هي المقابل المعنوي لزمن الانكفاء على الصفحة البيضاء، ليس بغاية تسويدها، ولكن بغاية بلوغ الهدف، نعم هي لحظة المكافأة.. لحظة واحدة لكنها ستخلد في ذهن المتلقي إلى الأبد، وهي الغاية والهدف.. ولا شيء لدى الكاتب أهم من تلك اللحظة، حتى لو كان مآله أن يمسي مقوس الظهر مثل بائع الحلوى، أو أن يمضي ما تبقى له بعنق مائلة تتأمل الأرض، لا تعيدها نبرة زاجرة؛ فلا يهم .. لا يهم!

 فما الذي سوف يحترق بعد وقد أهدرنا ما تبقى من فتيل شمعتنا فيما نعشق، ورقصنا ونفخنا في بوق الكلمة حتى تهدلت على أثرها أوداجنا.

                                    _____________

(عبير درويش)

شهادة، الروائي : حسين منصور

شهادة

         إذا كانت الشهادة تبدأ بأشهد فأنا أشهد أنى أحب بلادى؛ وأكره أعداء بلادى، وأعداء البراءة فيها؛ فأنا ولدت فى جو مشحون بالحماسيات  والشجون_  في مارس 1966 _ فمن حرب 56 إلى حرب اليمن، إلى حرب يونيو 67 إلى حرب أكتوبر73، ساد ذلك الشارع، وطابور المدرسة (الله أكبر فوق كيد المعتدى) والكتاب المدرسى (دع سمائى فسمائى محرقة) والراديو وحكايات المهجرين من مدن القنال، وتحذيرات الأهل من التقاط أية لعبة من الأرض؛ فقد تكون مفخخة، ألقاها اليهود أمام مدارس الصغار، تلك هى أيام النوافذ الزرقاء فى المستشفيات ، وفى المدارس ، كنا نراها فى العمارات، أما فى البيوت فلم نكن نملك غير زجاجة لامبة الجاز، ومرآة دولاب زواج أمى التى أسودت بفعل الزمن، فأنا فقير وابن لفقيرين، وأب لفقيرين فى منوف مدينة الموالد، ومقصد المنشدين وبلد السمر فى الأجران وعلى أبواب الدور تحت عامود النور الوحيد، هكذا مرت الطفولة، سنوات وسنوات ولا جديد غير ذاكرة تكتنز الحدث لوقته، وتتشرب الطقس لحين الحاجة إليه.

        أنا الآن طالب أزهرى أحفظ وأحفظ ، يلح على الشعر ساعة، ويراودنى الزجل غير مرة ، وتبقى القصة هاجسي الأكبر ، والأب الذى سمع مسلسل قاهر الظلام فى الراديو يريد لابنه أن يكون شيخاً  مثل الشيخ طه أو أكبر.

       فى الجامعة أنهيت أول قصة حقيقية. لى  “برودة بركان” بين معارض الدم والموت، “معرض صابرة وشاتيلا” و معرض “أفغانستان” وبين جماعات ، وجماعات ، تظاهرات ، وخطب ، واعتصامات فى المدينة الجامعية لم يكن لى منها نصيب غير المشاهدة والترقب والتحليل البطئ واستعمال ذاكرة القاص الاسترجاعية  ؛ فأرى التناقض ، فمن يقف ضد القتل فى فلسطين ولبنان، وأفغانستان يعارض دراسة الجمال والفكر فى ندوة حول “كليوباترا فى خيال الشعراء”  فلم يكن التعاطف مع قتلى المسلمين هو المرجو ولكن كان الغرض هو الاستحواذ  على عواطف الشباب وتوجيهها إلى جانب واحد هو فكرة الجهاد.

إن الجمال يُحٓس ولا يلمس  ،ولا يستطيع أحد أن يحد جوانبه، أو يضع تعريفاً جامعاً له فأنا لم أشعر بالجمال فى كتب الأزهر ولغتها النمطية وبذلت جهداً كى أتخلص من رتابتها فى قصصى، ووجدت الجمال فى القرآن الكريم وفى قصص يحيى حقى “البوسطجى”، و “قنديل أم هاشم”، وعند محفوظ فى “الحرافيش”، وعند ماركيث فى “مئة عام من العزلة” وعند يوسف إدريس فى  “بيت من لحم” و”لغة الآى آى” وجدته فى نبوءة لوركا بموته على أبواب قرطبة (قرطبة، وحيدة وبعيدة) (الموت يرقبنى من أبراج قرطبة) ووجدته فى سطر واحد  أحفظه “لميجل إرناندث” (اسمى طين، على الرغم من أنهم يدعوننى ميجيل).

         كنت مجنداً وقت احتلال صدام العراق للكويت، وكنت أود كأى شخص حالم أن أكون هناك، أن أرى الحرب رأى العين، أن أمنع إن استطعت موت برئ، كنت أعلم علم يقين أنها مرحلة فارقة فى تاريخ أمتنا ، وعندنا انتهت مدة تجنيدى كتبت رواية “ثم” متخيلا أنماط من شاركوا فى تلك الحرب الفجيعة من منتفع، ومكره، من يتحرك تحت وهم الجهاد الدينى ب (فقاتلوا التى تبغى) تلك هزيمة تخصنى رغم عدم مشاركتى فيها، أما الهزيمة الجمعية فكانت فى يونيو 1967.

       من غير الطبيعى أن نجد كاتب قصة تخلو كتابته من حديث صريح أو إشارة إلى فقراء بلاده الذى يرصد أشكال فقرهم، وكفاف عيشهم ، ومراوغة السياسيين لهم ؛ فهم فقط وقود الانتخابات البرلمانية التى يلمع فيها نائب قاهرى الهوى وسط حشود المعدمين، الآملين فى لقمة عيش وشربة ماء،وهدمة ،  والمنتفعين  من مقاولات الدعاية وجلب الأصوات ، فمن غير الطبيعى أن ينفصل الأديب عن واقع مجتمعه ، أو أن يغفل عن ما يدور فيه من تغيرات، وخاصة إذا كانت هذه التغيرات تغيرات إلى الأسوأ، حيث يكون المعلم تاجراً، والطبيب سمسار كلى وأكباد، والمدرس يعلم الطفل الوشاية والغش فأنا مازلت تأسرنى حكايات الجنيات وبنات الحور، لدرجة أنى أراها فى ابتسامة طفلى،  أكتب وأنا أشفق على أمى التى تدارى بؤسها منذ ولدتنى وحتى ماتت، وأسمع غناء أبى الذى جاوز الثمانين حين يطلع عليه الفجر سهران يعمل.

         لم أنج مثل الكثيرين  غيرى من أسر الخامس والعشرين من يناير 2011، وأعتبرها من أهم الأحداث التى مرت فى حياتى، وكذلك الثلاثين من يونيو ولكننا درنا بعدها فى دوامة الهكذا واللاهكذا هكذا يكون التدين.. لا، بل هكذا .. ليس هكذا .. بل هكذا يكون التدين. هكذا تكون الوطنية .. لا بل هكذا. لا ليس هكذا ولا هكذا بل هكذا تكون، حالة من الشد والجذب والاستقطاب هنا على كاتب القصة أن يتروى ؛ فلا يسلك سبيل المتهورين المندفعين نحو كتابة سردية غير واعية ، أو طريق الراغبين فى ركوب اللحظة بكتابة لا قيمة لها فنياً؛ فيصبح كمن يمشى فى طابور برامج التوك شو الاستهلاكية البائرة.

            أعترف لكم أنى كاتب بلا تلاميذ.

ففى ظل أزمة القراءة التى نعلمها جميعاً نحن كتاب بلا قراء، سلعة بغير مشترين، إن ما كتبناه لا يقرؤه غير الأصدقاء والمقربين، فأنا كاتب بلا تلاميذ لأن كتابى غير متاح إما بعدم النشر وإما بتخزين ما أصدرناه فى مخازن هيئة قصور الثقافة  ، وأنا هنا أشير وسبق أن طالبت بعرض كتب النشر الإقليمى على الناس ليتعرف وليطلع عليها القراء ولا مجيب. لى مجموعتان مطبوعتان فى فرع ثقافة المنوفية هل يعرف أحد عنها شيئاً؟ وغيرى كثيرون.

         إن تجربة موت المقربين هى أقسى تجربة مرت فى حياتى، موت أمى، وموت أبى : كنز الحكايا والمواويل، وأخيراً موت “شريف رزق” الذى يكفيه أنه مات صادقاً مصدقاً لما كان يكتب، ولكن الراحلين، أخذوا قدراً من إحساسى بالحياة وورثونى شعوراً بخطر يهدد حياتى نفسها، وحياة أطفالى ويدفعنى إلى أن أبدأ فى كتابة رواية هى مسامرة للموت حتى يرحل ظله الأسود عنى.

(ياسيدى الموت هل صدقت قصة الطائر الذى حط على حديد النافذة؟ هل جاءت مبكرةً؟ يا سيدى إنها محض ثرثرة ، إنها قصة عن رجل مريض بائس، سأمزقها يا سيدى، أعدك سأمزقها ولن أحكيها لأحد مرة أخرى، والله سأمزقها .. هه .. لا تسودى أيتها الريشة البيضاء التى فى ذيل الطائر الذى حط على حديد النافذة)

       وأخيراً أشهدكم أنى أحب القصة القصيرة قدر محبتى للحياة، وأنى تراودنى فكرة قصة ما زلت لا أعرف كيف أكتبها، وهل  ستعجب القراء  قصتى، وأشهدكم أنى بسيط أغنى فى قصصى نشيد حزن دفين، وأروى قصصاً من ديوان أهلى، وأنى أتوه فى الحلم، ولا أصل لمقصدى؛ فأسرع إلى الاستيقاظ؛ لأعيش كذب الواقع، وأعيش زمانى واهماً بمنطق حكيم حكماء الشعب سيدنا جحا.

                                                     حسين منصور

                                      مؤتمر إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافى

في مديح العزلة، شهادة: عبد الله السلايمة

أن تبدأ السير في درب الكتابة الطويل وأنت في سِن النضج، قد يتيح لك ذلك فرصة تلمّس خطاك بوعي وتؤدة وحذر، أشياء تمكّنك لحد ما من إدراك حقيقة أنه درب وعر ولا نهائي، ومثلما يصادفك أثناء سيرك فيه قُرّاء محبين، سيكون هناك أعداء نجاح متربصين بك، عليك ألا تعيرهم اهتمامًا وتواصل السير  بثقة.

و سوف تكتشف أثناء سيرك إن الكتابة ليست فقط تنفيسًا عن ذات مبدعة، توزع همومها وملامحها في كل نصٍ تكتبه، بل مغامرة خطرة، عليك أن ننذر نفسك لها.

وستدرك أنها – أي الكتابة – تمثّل مأزقًا لكاتب مثلي يعيش فى سيناء، لأن عليك ـ ككاتب ـ يعيش في مكان يعانى توترًا سياسيًا، وتغلب على أهله الثقافة العشائرية، أن تكون مع أو ضد، فإن لم تكن مع، فأنت بالتأكيد ضد، وفى كلا الحالتين تتعرض للمأزق، بسبب حصارك نفسيًا من كلا الجهتين، ومحاصرة كتاباتك بسوء النية والتفسير، فإن لم يكن باتهامك بخلع ثوب بداوتك وخرق قانونها، فسوف يكون بالخروج على طاعة السُّلطة.

ولكون الله قد اختصني ممن اختصهم برسالة الابداع السامية، وكلفني بمهمة إبلاغهم بها بأمانة، لذا نذرت نفسي لكتابة صادقة وهادفة لا تصغي إلا لقول الحق، ليكون لها القيمة ويُكتب لها البقاء. وأن أكون صوتًا يقاوم الظلم الذي يتعرض له الإنسان السيناوي، غير آبه لما قد أتعرض له من خسارات.

وإذا كان الله قد أراد لي أن أكون متعلمًا، فأنه من المؤكد لو كان المرحوم أبي في الأرض يعلم بأن التعليم سيتيح لي فرصة تقليب ثقافة البادية في رأسي، والتعامل معها بحيادية ــ كما لو كنت لا أنتمي إليها ــ لربما رفض إكمال تعليمي.

ولعل هذه الحيادية قد مكنتني من اكتشاف حقيقة أن ثقافة مجتمع البادية لا تخلو من سلبيات كما هو حال ثقافات المجتمعات الأخرى، لذا لم أتردد في الإشارة إلى تلك السلبيات علنًا وكتابة، وهذا الأمر ليس «انقلابًا» على مجتمعي وثقافته،كما ذهب البعض في تفسيره لكتاباتي، بل حرصًا مني على تأدية رسالتي نحو هذا المجتمع بأمانة.

في البدءكانت القراءة

الصحراء فضاء غارق بالغموض والأسرار، تكتنز جباله وكثبانه وسهوله بمخزون هائل من الحكايات والأساطير والخرافات والسير الشعبية، أشياء تطبع ابن الصحراء بالخصوصية والتفرد وتملأه بالطاقة والحيوية، وتعزز قدرته على الكتابة.

وعندما تكون كاتبًا صحراويًا عليك أن تضع في اعتبارك أن كتاباتك عن البادية لن تمرّ بسلام، فعندما تكتب عنها لابد أن تكتب بحذر حتى لا تقع تحت طائلة المسائلة التي قد تفضي بك فى النهاية إلى التعرّض للعقاب، وعلى قدر جرمك فى حقها يكون نوع العقاب، فإذا ما تجرأ أحد مثلي على العبث بثوابت ومقدسات البدو!، قد تجد نفسك مُعَرّضًا للتصفية المعنوية أو النفسية باتهامك أنك قد استبدلت ثوب بداوتك بثوب مدينة يرونه مليء بالثقوب، وربما تجد نفسك مهددًا بعقاب اجتماعي وجماعي يتمثّل في تبرئهم منك.

وكوني قد تغذيت على تلك الثقافة، ورضعت من ثدي الصحراء الصلابة والعِناد والتحدي والمثابرة والاعتداد بالذات، وعلمتني الصبر والدفاع بشراسة عما أؤمن به من مبادئ وقناعات كلفتني الكثير، ومنحتني صلابة كافية لتحمل كافة عواقب مغامرات روائية وقصصية، استقيت مكونات عوالمها من واقع سيناء(بادية وحضرًا)، مغامرات كتابية حاولت من خلالها اختراق ما استطعت من تابوهات بدوية في جرأة لاقت استحسان البعض، واستهجان البعض الآخر، ورفض آخرون على نحو ينذر بوقوع صِدام حرصت على تفاديه طوال الوقت بحِكمة.

قبل الكتابة كانت القراءة التي وجدتها تداعب روحي في سن مبكرة، وتجذبني تدريجيًا للغوص فى متاهات عالمها، قراءة مهدت لميلاد المبدع الذى لم أكتشفه بعد بداخلي،والسائر فى طريق الانهزام.

قبل حصولي على شهادة الإعدادية العامة نظمت بعض الخواطر الشعرية، لم تلق الاستحسان الكافي لدفعي إلى مواصلة نظمه فأهملته، وفى المرحلة الثانوية استهواني السرد، وقرأت ما تيسر لي حينها لكُتّاب القصة والرواية العرب، وعندما التحقت بالجامعة قرأت بعض الإبداعات السردية الغربية، وبعد الانتهاء من دراستي الجامعية واصلت قراءة كل ما عثرت عليه عيناي من آداب شرقية وغربية. ومازلت جائعًا..

لا أتذكر أنني ألقيت يومًا ما بورقة بيضاء دون أن أملأها بخربشات تشبه الكتابة، ولطالما سألت نفسي عن سِرِّ تعلقي بالورقة والقلم منذ الصغر؟! ربما لكونهما يتواطآن معًا في استدراجي للبوح بما يتزاحم في رأسي، ويطفح من قلبي بحرِّية لا تمنحها لي غير الكتابة، تلك التي تمنحني لحظات لأجد فيها نفسي، لحظات أكون فيها الأكثر صدقًا حينما أمارس فعلها.

خربشات كانت بحجم هواجس طفولتي، شكّلت مسارات هلامية لأحلام لم تزل فى طور التكوين، وأثارت أسئلة مبكرة لا تتوقف عن نقر رأسي، أعتبرهما مهادًا لأفق ثقافي مازلت أحرث فى بحوره..

في طفولتي كنت أصغى لحكايات “الاختيارية” ـ كِبار السِن ـ يتبادلون روايتها في ديوان “العشيرة” عن ماضٍ يهربون إليه ويبالغون في تمجيده، وأحيانًا أخرى أترك رأسي لتستأنس “بخراريف” نسوة عجائز، يتسامرن في أماسٍ قمرية يجلو سحرها بعض ما علق بذهني من خشونة نهارات تشبه قسوة أبى، وحياة أهل صحراء لا يعترفون بغير تلك الخشونة كأساس لرجولتهم ووجودهم!.

كان القمر بسحره يمنح أولئك العجائز صفاء ذهنيًا، ويمدهن بذاكرة سينمائية تهتم بأدق التفاصيل، وبطريقة سردية شائقة تحثني على مواصلة الإصغاء لهن تارة، وتارة أخرى لطرح أسئلة مزعجة تسرق لحظات من زمن صباهن الجميل، ما كان يعرضني لتوبيخهن الذى يصل أحيانًا لدرجة الطرد. فيظل نهر أسئلتي الملحّة يهدر في رأسي بلا توقف.

حياة صحراوية قاسية وفقدان أمٍ في وقت مبكر قبل بلوغي الثالثة، وحيرة وجودية، أشياء استعصى على الطفل الذي كنته فهم أسبابها. ولطالما نقرت رأسي بأسئلة مبكرة أزعجت زوجة أبي التي لم تنل حظها من التعليم غير الحسرة عليه، واعتبَرتها خروجًا على نصوص دين مقدسٍ حفظت أداء  طقوسه، وفرضت عليها تأنيبي وتحذيري من مغبة طرح مثل تلك الأسئلة التي لن تأتي بغير حلول غضب الله ولعنته علينا جميعًا..

وكالعادة تمنعني غِلظة أبي من اللجوء إليه وقت أزماتي، فيتعزز لديّ الإحساس القاتل بالوحدة التي أظل أدور مع رحاها، وعلى الدوام أسقط قبل أن أنجح في استعادة وجه أمي الغائب غيابًا أبديًا؛ ما كان يأخذني دون شفقة باتجاه المزيد من العُزلة.

غياب أم قد يكون الدافع الخفي لاهتمامي بقضايا المرأة البدوية كموضوع للسرد، لكوني أعرف قدر ما تعانيه المرأة في مجتمع بدوي مازال يطبق أحكام ثقافة الجاهلية، تلك التي تكاد تشطب حقها في الوجود مقابل إعلاء مكانة وسُلطة الرجل لدرجة القداسة وهو ما أعدّه عوارًا يشّوه وجه مجتمع بدوي؛ فيه من مواطن الجمال ما يبعث على افتخاري بالانتماء اليه، وأعدُّ إغفالي الإشارة إلي تلك العوارات، أو الأدق صمتي عليها  خيانة ابداعية كبرى، ودرئًا لهذه التهمة جاءت إدانتي “سرديًا” لمجتمعي.

ولعلي أقول: إن انتصاري للمرأة في مختلف كتاباتي جاء تعويضًا لغياب تلك الأم التي ترك لي موتها حزنًا مقيمًا، وأخذني باتجاه عزلة مؤلمة، غير تلك العزلة الممتعة التي أذهب اليها بمحض اختياري، لأنعم بالوحدة، فتلك نِعمة من نِعم الصحراء علينا.

شِبَاك الكتابة واشتباكاتها:

حتى مطلع التسعينات لم يتعدَ هدفي من قراءاتي أكثر من ثقافة أتحصّن بها، وبحثًا دؤوبًا عن متعة ما زلت أسعى لبلوغها، وحتى ذلك الوقت لم أكن أعرف شيئًا عن ذاتي المبدعة حتى اكتشفتُها بانضمامي لنادي أدب رفح الذي كان يترأسه الكاتب السكندري “سعيد رمضان على” وقد كان يعمل موظفًا بمجلس المدينة،ولأن العلاقة الحقيقية هي تلك التي تنشأ بين من يشعرون بالاغتراب، تأسست بيننا علاقة صداقة متينة انتجت حوارًا حقيقيًا وإنسانيًا، وعلى مدى الاعوام السابقة لم أستطع التخلص من عبء صداقته، ولا الإفلات من شِبَاك الكتابة واشتباكاتها.

عام 1994م هو العام الذي يمكن التأريخ به لميلادي الإبداعي، حيث تم اكتشاف المبدع بداخلي، ذلك الذي مَهّد أعضاء النادي له الطريق كي يخطو خطواته الأولى في طريق كتابة لا نهائي، بدأته بنشر خواطر شعرية بصحيفة “سيناء المستقبل” وهو ما عزز ثقتي بكتاباتي، وشَكّل لي دافعًا للاستمرارية ـ فيما بعد ـ فى عالم سرد أدركتني غوايته، فاستجبت له بكتابة باكورة أعمالي الروائية “بركان الصمت” عام 2000م.

قال الكواكبي:”الخائفون من الحرية سيعيشون ويموتون أسرى الاستبداد “. عبارة أدهشتني وشحنتني بالجرأة الكافية على اتخاذ قرار الانتقال إلي مدينة “العريش” كونها عاصمة المحافظة ومركز اهتمام الدولة في مختلف المجالات، وأهمها المجال الثقافي الذي يهمني.ومن ذلك الوقت صار الأدب معركتي الكبرى، قبل خوضها كنت قد حددت أهدافي، ولم أراهن إلا على نفسي، وحتى اللحظة لم أتوقف عن القتال محاولاً كل يوم كسب أرض جديدة.

فضاء جديد وضيق..

“العريش” تلك المدينة التي استعصى عليها احتوائي رغم مظهري الذي يثير الشك لدى أبناء جلدتي بأنني قد خلعت ثوب البداوة، واستبدلت جلدي بجلد المدينة الغليظ، وهم يجهلون حقيقة أنني برئ من ذلك الاتهام، وأن الصحراء ستظل ما حييت مستقرة في وجداني، ولا يمكنني التجرؤ بالقول إنني استطعت كتابتها، أو كتابة تلك المدينة التي انتقلت للعيش فيها، فما زال أمامي الكثير..

لكن ما أستطيع تأكيده أن المكان باتساعه سواء كانت صحراؤه المحتشدة بغموضها، أو مُدنه المكتظة بصخبها واحدًا لا يتجزأ، وحينما أتحدث عن نفسي يعني ذلك حديثي عن المكان برمته، لأننا في النهاية رقم لا يقبل القسمة على اثنين، فأنا الصحراء بهدوئها وعصفها، بصلابتها وعِنادها واعتدادها الكبير بذاتها، وأنا المدينة بمعالمها وروحها الضّاجة،أنا ذلك الطائر البرّي الذي لا يكف عن التحليق في فضاءات الأمكنة.

في محيط مكانك الجديد لا تكمن معاناتك في شعورك بنوع ما من الاغتراب الذي يلازمك حتى تؤسس لبناء علاقات ومعارف جديدة، بل في شعورك أنك تعيش في فضاء ليس فضاءك، فضاءُ مدينةٍ ترسّخ في ذاكرتك البدوية إنها تمثّل الضِّد لك كبدوي!، فضاء تشعر بمدى ضيقه إذا ما قارنته بفضاء صحراء متسع، يتّسع لكل أحلامك.

ثقافة بدوية مضللة تربيت عليها، وفضاء جديد لم تعتد على تنفس هوائه بعد، أشياء مربكة وتزيد من وطأة شعورك بالاغتراب، وتفرض عليك اتخاذ الحيطة والحذر في التعامل مع أدباء لم تتوطد علاقتك بهم بعد، الأمر الذي يتطلب منك بذل المزيد من الجهد والوقت للتعرّف إليهم، ومحاولة إعادة النظر فيما علق بذاكرتك من أحكام مسبقة ضدهم، ولم تنجح محاولات الصديق الشاعر “حاتم عبدالهادي السيد” في إزاحتها من رأسي بمساندته ودعمه لي في البداية، إذ رسخت تلك الاستعلائية المستفزة تحديًا كبيرًا لي.وكتعبير عن رفضي لتلك الاستعلائية المقيتة جعلت منها دافعًا قويًا لذاتي المبدعة على السعي لإثبات جدارتها وتميزها، وحدث ذلك خلال أعوام كانت أقل مما توقعت، وتوقع صديقي الشاعر “حسونة فتحي” الذي لا تكمن مواطن جماله، كما عرفته، في أشعاره وكتاباته فقط، بل فيما يتمتع به من صفات نبيلة، لم تَعُدْ على كلينا  بغير المزيد من الضغينة، مارستها، ولازالت تمارسها ضدنا فئة قاصرة لا تمثل الكتابة بالنسبة إليها أكثر من وجاهة اجتماعية، لذا كان، ولازال، من الصعوبة عليها استيعاب قول فولتير: “التسامح هو النتيجة الحتمية لإدراكنا أننا لسنا معصومين من الخطأ.”

خطأ لم أرتكبه حين قررت ألا أشبه إلا نفسي، وذلك ما اجتهدت لأن أكونه في مختلف كتاباتي بدءً من باكورة أعمالي الروائية “بركان الصمت” عام 2000 م، مرورًا برواية “قبل المنحنى بقليل”2010، ومجموعتي القصصية الأولى”أشياء لا تجلب البهجة2011، ورواية “صحراء مضادة ” 2012م، ومجموعتي القصصية الثانية “أوضاع محرّمة”2016 م ، ورواية “خطايا مقصودة” 2019م، ” ورواية “شمال شرق .. الذي أحلَّ دمها”2020، وروايةصديقيماسود” 2021م، و سنقرئك فلا تنسى 2023 انتهاء بروايتي الأحدث” أن تعرف أنوشكا” قيد الطبع بدار ميريت.

أعمال إبداعية، ومشاركات في مؤتمرات وفعاليات ثقافية، ومقالات وحوارات في العديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية أكدت حضوري في المشهد الثقافي المصري وربما العربي، ومنحتني شرف استحقاق تمثيل شمال سيناء في عضوية الأمانة العامة لمؤتمر أدباء مصر عام 2011م، واختياري في نفس العام لعضوية لجنة القصة والرواية بالمجلس الأعلى للثقافة لأربع دورات متتالية (2012-2020 م) ، وكذلك شرف اختياري لدورتين أمينًا عامًا لمؤتمر إقليم القناة وسيناء الثقافي: الأولى في دورة المؤتمر التاسعة عشر التي انعقدت في محافظة بورسعيد أبريل 2016م، والثانية في الدورة 24 بمدينة العريش عام 2021م، ونهاية شرف تكريمي من قِبل الهيئة العامة لقصور الثقافة 2016م، واتحاد كُتّاب مصر 2018م.

ويبقى القول: الكتابة بالنسبة لي هي وعورة جبال سيناء، تعاريج سهولها ، لهيب شمسها، عواصف صحرائها، قلق أهلها، وهي حياة كاملة، علىَّ أن أكتب لكي أحصل على استحقاق عيشها، لكي أكتشف ذاتي، فكل تجربة روائية هي اكتشاف آخر للذات، رفضًا متجددًا للقمع والظلم، انتصارًا يتجدد للحق والعدل والحرية والانسانية، هزيمة أخرى للموت،حُلمًا جديدًا بالانعتاق والتحرر من تابوهات تقمع الفكر والابداع والتقدم، وتشّوه وجه الحياة.

شهادة الدكتور شريف صالح: الهروب من نفسي، والبحث عنها

  1.  

كنتُ في الشتاء، أجلسُ على مصطبةِ القش في غرفة جدتي بهية، فوقنا لمبة مصفرة الإضاءة وطبّاقة الخبز معلقة في السقف.

كانت جدتي قد سقطتْ من فوق سطحِ الدار، على نحوٍ غامض، وباتتْ شبه قعيدة. وكنتُ صبيًا في فضاءٍ قروي محدود. لدي رغبةٌ غامضة في الهروب من رائحة الروث والسير حافيًا فوق الحصى، والثعابين في أكمات البوص. لدي رغبة غامضة في رؤية البشر العائدين في قطار آخر الليل، حين تدوي صافرتُه في أذني، من بعيد.. تُرى ما الذي يجرى في العالم هناك وراء النهر، وقضبان السكك الحديد، وخلف أمواج البحر المتوسط الذي لا يبعد عنا سوى كيلومترات بسيطة.

إذا كان القرموط يفقمُ في النهرِ الواسع، ويخرج رأسه لأعلى كي يؤدي رقصته الفاتنة، فلماذا لا أفقم مثله وأرقص رقصتي أعلى من هذا العالم الضيق؟

كانت جدتي التي أُرغمتْ على الجلوس طويلًا، ذاتَ عينينِ كحيلتين سوداوين، وشعرٍ أسود ناعم تتخلله شعرات بيض طويلة. وكان لها فمٌ دراميٌ تخرجُ منه  أصواتُ الجن والبشر والملائكة.

في حكايات جدتي كان لابد للخيرِ أن ينتصرَ. وهذا ليس بالأمرِ المهم لي. وإنما المصطبة السحرية التي تحملُنا ـ أنا وجدتي ـ إلى الماضي البعيد.. تطيرُ وتحطُ بنا في أماكنَ كثيرة،  حيث حكايات الناس والأساطير والعفاريت. مرة نسمعُ عروسَ البحر وهي تنادي على الأمهات ليلًا، كي تريهن أطفالَهن بين ذراعيها، ثم تطلبُ أن يذهبنَ إليها، لأخذِهم. ومرة أخرى نراقبُ ذلك الرجل الجوّاب في ليل المقابر بعد طرده من رحمة الله.

كان البدنُ يقشعر لحكايات الجدة، والروح ترتجف.

ثم قررتُ يومًا جمع رفاقي كي ألعبَ معهم دور جدتي بهية. فكل حكاية تُحيل بالضرورة إلى حكاية سابقة عليها، وكل تمثيل هو استعادة لتمثيل آخر. وهكذا تقمصت روح جدتي، وأطلقتُ أولى حكاياتي الخاصة.

ومن الصفحات البيضاء المتبقية من كراريس المدرسة، قمتُ بتجميع دفتري الخاص، كي أسجلَ ما أعتبرته قصصًا. كانت في حقيقتهاـ خلاصةَ أفلام عربية شاهدتُها. وقد وضعتُ لها عناوين مثل: “نهر الحياة”.

في دكان أبي، ولساعاتٍ طويلة كنتُ أرقب الناس. أرى الرائحين والغادين. من يذهب في الصباح ليس كمن يعود في المساء، فلابد أنه قد عاد بحكاية ما، ستظل معلقة كي يستكملها في أيامه القادمة.

وفي أرضنا، ووسط الحقولِ الشاسعة، أرض مفيد وأبعدية البدايرة، والعزب الصغيرة المحيطة بقريتي مثل: النواصرية، وبشاي، والعجيزي. وتلك الطرق المتربة كأنها شرايين بين البيوت والحقول، حيث خوار الأبقار وعواء الكلاب وهرولة الحمير وتغريد وتحليق الطيور والأسماك.. هذا المجتمع الكوني الساحر، كان ـ بالنسبة لي ـ لوحةً تشكيلية عظيمة حافلةًبالألغاز والحكايات السرية، أسمعُها في حفيفِ أوراق الذرة صيفًا، ورائحةِ ووشوشة الصفصاف والكافور، للنهر.

يروقُ لي هنا تصديرجوناثانغوتشللكتابه”الحيوانالحكاء”: “خلقالربُّالإنسانَ،لأنهيحبالحكايا“،ويضيفبأننامولعونبالقصة،حتىحينيخلدالجسدُللنومِ،يظلالعقلُمستيقظًاطوالالليل،يرويالقصصَلنفسِه، وهكذا تولد الأحلام وترتدي رغباتنا السرية ثوب الحكاية، مثلما ارتدى الذئب الماكر ثوب الجدة كي يأكل ليلى.

آنذاك، لم يحدث أنني قررتُ أن أصبحَ كاتبَ قصةٍ قصيرة، ولا روائيًا، ولا صحفيًا. فليس في بيتِنا الريفي مكتبة. لا أحد من أفراد أسرتي حفزني على الكتابة. لا أحد في الفلاحين يعرفُ ما الكتابة! وليس ثمة كتابٌ في بيتنا سوى مصحف جدي العتيق، بأوراقِه البرتقالية الناعمة.

فقط أورثتني “ستي بهية” تعويذةَ الحكاية.. فقط رأيتُ حكايات عالقةً في كتابِ الكون من حولي. كأن يموت رضيعُ البقرة، فيقوم أعمامي بحشو جلده وإيقاف هيكلِه على قوائمِ الجريد، كي تراه أمه فتشم رائحتَه وتحسبه ابنها حيًا. كان في الأمرِ خدعة، كذبة حزينة موجعة، لكنها قصة.

هكذا تجلي الوجودُ لي: “قصة” لا “قصيدة”.

 في القصيدةِ موسيقى أعلى صوتًا من موسيقى الكون. وفي الرواية امتدادٌ، وإحكام، أكثر من إحكامِ الواقع ذاته.قد تُعطي الرواية الحقَ لنفسِها كي تنتهي نهايةً سعيدة. وإن كانتْ الحياةُ نفسها لا تمنحنا بالضرورة مثل هذا الترف. كما تُعطي نفسها فرصةَ الامتداد ومتابعة المصائر. لكنني رأيتُ الحياة مبتورةً من خلف دكان أبي.. لا أعرف إلى أين ذهبَ العابرُ.. ولا ماذا فعلتْ به ساعاتُ الغياب!

القصةُ قصيرةٌ، ليس لأن كلماتها قليلة، بل لأنها تتلصصُ الوجودَ، وتبديه هشًا، مبتورًا، ناقصًا، عالقًا عند حافةِ السؤال.ربما كاتب الرواية هو مهندسُ عمارةٍ شاهقة، أما كاتبُ القصة فهو ثاقبُ لؤلؤة.

روحي القلقةُ، لا تحتمل حسابات الرواية وانضباطها. روحي متلصصة، اعتادتْ مراقبةَ الهامشي والمنسي عبر دكان أبي.. عبر شاشة السينما. عبر الحقول.. وصافرات القطارات التي تمر في ليلي دون أن أراها.

  •  

نحن لا نستطيع أن نعيشَ ما لم نأكلْ ونشرب، لكنّ أفعالَنا الغريزية كلها لا تكفي لتفسير وجودِنا، ولا تفسير طموحِنا في الوجود. لذلك عندما نمارس الحكي نحاولُ أن نفهم ذواتنا، أفضل وأعمق. نطمح أيضًا أن نفهم لغزَ العالم، وتاريخَ الألم واللذة.

كان القرارُ يتبلورُ واعيًا في داخلي، منذ المرحلة الثانوية، أنني أريد أن أصبح حكّاء.. أن أكون المستقبلَ لماضي جدتي، وأحتفظَ بروحِ الطفل الهائمة على مصطبة القش والخيال.

انتبهتُ أن هناك شيئًا يفوق ما تدركه حواسي الخمس، يفوق ما أرى وأسمع، فالعوالمُ السماوية كلها، والعصورُ المتلاشية، ما هي إلا حكاية لا نتصل بها إلا عبر الخيال.

بحثتُ حولي عن كتبٍ. ليست كُتبًا لأحدٍ بعينه. فقط هي غريزة النهم للحكاية ومضاعفة وجودي من خلالها.. مررتُ بالمنفلوطي ورومانسياته المبكية، وتمرد طه حسين على أيامه، وذكاء توفيق الحكيم الرهيف في الحوار، وصولًا إلى دوستويفسكي في “المقامر” ونجيب محفوظ في “خمارة القط الأسود”وصرخة “قلب الليل” الكامنة: “أناأتمرمغالآنفىالترابِولكنيفىالأصلِهابطٌمنالسماء“، قصص البغايا الكسيرات عند جي دي موبسان، ونصوص تشيخوف بالغة الرهافة والعذوبة في فضح مأساويةِ واقعنا، رواية “أيام الإنسان السبعة” وملخصات مسرحيات شكسبير، وقصص أصلان والبساطي ويوسف إدريس.اكتشفتُ بالصدفة نسخةً عتيقة من “ألف ليلة وليلة” في بيتِ جدي القديم. كانت كنزًا أرشدني إلى أن الحكايةَ تظل تلدُ حكايةً إلى ما لا نهاية.

كتبتُ في دفتري وصفًا تفصيليًا لزملائي وزميلاتي في المدرسة الثانوية. سجلتُ يومياتي الجامعية في “مفكرة”. بدأتُ الذهاب إلى أنديةِ الأدب لأتعلمَ من الكتاب المحترفين، الطريقةَ المُثلي لتدوينِ حكاية.

مع ذلك خجلتُ دائمًا من نصوصي الأولى، احتفظت بها مكتفيًا بقراءتها لقلةٍ من المحيطين بي. حاولتُ إرسالها إلى مسابقات رسمية، ورغم أنها نالت جوائز من كليتي دار العلوم، وقصور الثقافة، وشباب الجامعات، ومسابقة اقرأ، ونادي القصة، إلا أنني غربلتُها في نحو عشر قصص احتفظتُ بها على كمبيوتر قديم، وبدلًا من نشرها قررتُ التوقف عن الكتابة.

فما الذي يمكن أن يضيفه شابٌ ريفي للكتابة أكثر مما فعل تولستوي وماركيز وكافكا وبورخيس وكازانتزاكيس وجون فاولز؟

استحوذ علي سؤال مُعذب: هل أنا موهوب حقًا مثل هؤلاء؟ ربما كان نيل الجوائز بمثابة تعزية، إشارة من مختصين وخبراء بأن لدي موهبة ما. مع ذلك قررتُ مبكرًا اعتزال الكتابة قبل أن أبدأ، وابتعدت كليًا عن عالم المثقفين، لأكثر من سبع سنوات.

  •  

كان الانقطاع فترة عدمية أو عبثية، تعبيرًا عن الشك في ذاتي، وفي جدوى الكتابة والغاية منها. وكنتُ أطرحُ على نفسي أسئلة خاطئة، تزيد ضلالي. فلا أظن أن الكاتب يكتب مبتغيًا شراء يخت وتشييد عمارة، أو إصلاح العالم أو إعادة البشر إلى الفردوس المفقود، ولا يسعى بالضرورة للتفوق على حاملي نوبل والبوكر، ولا الخلود، ولا نيل إعجاب الملايين. كلها دوافعُ قد تبدو مقبولة ومنطقية، لكنها ليستْ ما أريد. قلتُ ذات مرة: “الكتابةُ استمناءٌ ذاتي”، محاولة لاكتشاف المتعة في داخلك، وليس من العالم المحيط بك.. محاولةٌ للعب مع نفسك دون الحاجة إلى شركاء لعب. كل ما عليك أن تجلسَ وتتلاعب بالكلمات والشخصيات على الورق أو برنامج “وورد” ثم لا تنتظر غاية أسمى أو أبعد من ذلك.

استغرقتُ وقتًا كي أدرك أن هذا هو دافعي، وغايتي، وربما ـ خلال اللعب ـ تساعدني الكتابة في معرفة نفسي. أليست غاية فلسفية عظيمة حثنا عليها سقراط: “اعرف نفسك”!

لكن الكتابةَ مراوغةٌ وماكرة جدًا، تبدأها بما تعرفُ فتأخذك إلى ما لا تعرف، تدفعك إلى تقمص شخصيات لا حصر له، كأنك ممثل على خشبة المسرح يرتدي الأقنعة، ثم حين يخلعها جميعًا لا يعثر على وجهه. تفعلُ الكتابة شيئًا مشابهًا، تنقلبُ من طريق معرفة الذات، إلى مسار هروبٍ منها.. فحين أكتبُ أنسى نفسي، وهمومي الشخصية، وحبيبتي التي لم أعثر عليها، وفواتيري المتأخرة. أشبه ذلك الوسيط الروحاني الذي يغمضُ عينيه ويتشنج بطريقة عصبية حتى تحل الأرواحُ في داخله وتحتل حنجرته.

أجدني عاجزًا عن تعريف نفسي وإدراكها، وأهرب من سؤال: من أنا، وأستغرب هيئتي في المرايا، وأحسني: لا أنا، ماء فوق ماء يجري، وهواء يذوب في الهواء. وبالدرجة عينها أجدني عاجزًا عن تعريف الكتابة ودوافعها.. أمارس هروبًا مزدوجًا من ذاتي، ومن فعل الكتابة،ثم ألهثُ بحثًا عنهما، في الوقت نفسه.

  •  

تلك الرحلة قد استغرقتْ مني أكثر من ثلاثين عامًا، ولا أظنني تعلمتُ الكثير. ولا أثقُ إطلاقًا بما تعلمتُ.

عندما كتبتُ مجموعتي الأولى “إصبع يمشي وحده” واحتفظتُ بها في الدرج لسنوات، كنتُ أحتفظ بلحظات منفصلة تعبر عن ذاتي القديمة، وتصوراتي الأولى للكتابة. وقد أخفيتُ بداخلها كل من تأثرتُ بأساليبهم السردية.

ثم في عام 2009 نشرت “مثلث العشق” التي نالت جائزة ساويرس، وحاولتُ ترهينها أو لضم نصوصها في خيط يتعلق بالجنس، وعلاقة الرجل بالمرأة، وهواجسنا الإباحية المكبوتة، وضعفنا العميق.

بعدها راق لي أن تجتمع نصوصيعند “نقطة تجمع” مثلما يلتقي السياح الغرباء في محطة باص. كررتُ ذلك في “بيضة على الشاطئ” التي نالت جائزة دبي الثقافية كأفضل مجموعة عربية، وانشغلت فيها بفكرتي الأزلية عن الهروب/الخروج، فنحن نفر من رحم الأم، ومن مسقط الرأس، ثم نواصل الهروب إلى أبعد نقطة ممكنة: القبر.

كل مجموعاتي التالية: شخص صالح للقتل، شق الثعبان، دفتر النائم، مدن تأكل نفسها. ربط نصوص كل مجموعة منها، خيط ما. مرة انشغل بالسرديات الشذرية، ومرة بأحلامي الليلية، ومرة ثالثة بعلاقتنا بالمدن وانهيارها وانهيارنا معها. فدائمًا ثمة فضيلةٌ معرفية تفحصُها النصوصُ بطريقة جمالية.

  •  

ظلت القصة القصيرة الغرام البكر، والطريقة الأكثر ملائمة في نظرتي إلى العالم، وقد كُرمتُ عنها مرات، لكنني حاولتُ تجريبَ أشكال كتابة مختلفة، بسبب ذلك الشعور الغامض الذي يأكلنا جميعًا، أننا لم نكتب بعدُ النص الذي نحلمُ به.

أحببتُ الكتب التي تُنظر لهذا الفن  مثل “الصوت المنفرد” لأوكونور، و”فن القصة القصيرة” لرشاد رشدي. لأنها علمتني، أن القصة ذات طريقةٍ خاصة، وحسّاسة، في اكتشافِ اللغة؛ فكلمةٌ واحدةٌ ليستْ في موضعها، قد تهدمُ مبنى الحكايةِ كلِّه.

إنها ليستْ مجرد حكايةٍ من حكايات “ستي بهية”، بل طريقة في رؤيةِ الحياة وتصميمها. وما النصُ إلا فضاء تجريبي تتجسدُ فيه هواجسي، أحلامي، كوابيسي، استيهاماتي اللذائذية، نوازعي الشريرة التدميرية، ونبرة السخرية والفتنازيا التي تغلف نظرتي إلى الوجود.

مع ذلك استولى علي هاجس التجريب، ومد البصر لأبعد من صافرة قطار الليل. أتذكر أنني كتبتُ قصة عن جثة تحيط بها جحافل الصراصير، وأنا في المرحلة الثانوية وظللتُ محتفظًا بمسودتها حوالي عشرين عامًا، وحين أعدتُ كتابتها وجدتها تخرج مني في شكل مونودراما مسرحية، نلت عنها جائزة الشارقة للإصدار الأول.

  •  

تطورت علاقتي بالمسرح، وحصلت على الدكتوراه في نصوص يسري الجندي المسرحية، ومُثل لي على خشبة المسرح الكويتي ثلاث مسرحيات، وأحتفظ إلى اليوم ببعض النصوص غير المنشورة.

مع ذلك لم أشعر أنني وجدتُ ضالتي في المسرح، فوجدتني أجرب الرواية في “حارس الفيسبوك” وإن تعثرت سنوات في كتابتها إلى أن نشرت عام 2017، أردت أن أفهم هذا العالم بوصفه مسارًا هروبيًا من الواقع. نتبادل الهروب إليه مع ملايين البشر. ثم قبل شهورة قليلة عدتُ ونشرت روايتي الثانية “ابتسامة بوذا” كسيرة روحية لذاتي: تلك النفس الهاربة مني.

كما شعرتُ بحاجة أولادنا المَسيسة إلى كتابةٍ خيالية تحترم وعيهم، وتربطهم بقضية العلم المهدرة في ثقافتنا العربية عمومًا، وليس فقط الكتابة الوعظية والأخلاقية. من هذا المنظور نشرتُ روايتين: “سوشانا والحذاء الطائر” عن تاريخ الأحذية ومستقبلها التخييلي، ثم “آينشتاين: أسرار القطعة 99” التي رشحت لجائزة الشيخ زايد، ولم تكن مجرد سيرة لفيزيائي عظيم، وإنما محاولة تخيليية عن علاقة المخ بالمعرفة والمستقبل.

  •  

أكثر من سبعة عشر كتابًا نشرتها،بمعدل كتاب كل عام. ما بين القصةِ والرواية والمسرح وأدب الطفل والنقد، وقد شجعني على هذا كله منطقُ اللعب. فأنا لا أزعم أنني قاص ولا روائي ولا مسرحي ولا ناقد ولا سينمائي.. أنا الكائنُ المربوط باسم معين، وجسد معين، وماضي محدد، لكنه لا يتوقف عن الهروب عبر الخيال واللعب.

لستُ متأكدًا أنني موهوب حقًا. لستُ متأكدًا أن كتبي كلها تعني أنني قدمتُ للإنسانيةِ إضافةً ما. ربما مزيةَ الجوائز أنها تواسينا، تجبرُ خاطرَنا، وتوهمُنا بالإنجاز. لكنها لا تمنحني ذلك الرضا الكافي، ولا تمنعني من كراهيتي لما نشرتُه، والتخوف من قراءته مجددًا. لأنني لن أرى فيه إلا سذاجتي وضعفي وأخطائي، وقلة حيلتي.

أرى في كل ما نشرت، عجزي المتكرر عن كتابة النص الذي أحلم به، ليكون الاستمناء الأخير. الهروب الأخير.

هنا القاهرة، شهادة لسيد الوكيل

ربما شهادة المبدع مجروحة في كل الأحوال ، فإن صدق خان نفسه ، وإن كذب خان الآخرين ، فظني أن مفهوم الشهادة الأدبية مازال ملتبساً ـ على الأقل في ذهني ـ  بين السيرة الشخصية والأدبية ، بين الحقيقة والخيال ، بين الإبداع والتنظير ، وملتبس بقوة بين العام والخاص ، وعموما ً فالشهادة الأدبية ليست وثيقة على الكتابة ولا على الكاتب نفسه ، وليست شيئاً كاملاً ونهائياً ، وكأن لها انفلات الأدب ومراوغته ، وكأنها شكل أدبي مختلف يدفعنا للتفكير بطريقة مختلفة في أ نفسنا ، من نحن ؟ ما الذي تبقى منا ؟ لماذا نحن هكذا بالتحديد ؟هل نحب ما نحن عليه؟ ما الذي نريده من كوننا أدباء؟ ما هو نصيبنا في أن نكون أنفسنا؟

هذه أسئلة قد تكون أقرب إلى نوع من التأمل الوجودي والتحليل الذاتي ، صحيح أن ذات المبدع تتشكل على نحو مستقل ، متفرد وخلاق ومتحرر من تأثيرات الواقع المعاش ، لكن شيئاً في الخلفية يبقى منحازاً  ومتجذراً في الظرف الاجتماعي والتاريخي بكل فعالياته  الثقافية ، ذلك ما نسميه الواقع ، لكن الواقع ـ أيضاً ـ في أحد تصوراته يكون ملتبساً ، غير أن المكان  ـ المكان وحده ـ يظل شاهداً عليه ، والآن يمكنني أن أبسط مفهومي للشهادة الأدبية ، بحث جيولوجي في الذات، حفائر صغيرة هنا أو هناك، نقوم بها على نحو حدسي، لعلنا نمسك بشيء، شيء يضيء لنا جانباً من تاريخ ذاتنا المبدعة .

كثير من المبدعين لاتؤرقهم هذه الأسئلة عندما يدلون بشهاداتهم ، سيتحدثون عن مكوناتهم الإبداعية على نحو بازغ ، سيعزونها ببعض الثقة إلى حواديت الجدات مثلاً ، رواة السير الشعبية ، مسامرات المصطبة ، مواويل العصارى على شط الترعة ، وربما يذكرون شيئاً عن شيخ الكتاب ، هذه مفردات بسيطة عاشت معهم طويلاً ، وربما عاشت بنفس الحميمية مع الذين من قبلهم ، وظلت واضحة في ذاكرتهم كمصادر أولى ، ودوافع موثقة لخصوصية إبداعاتهم .

استمر في القراءة هنا القاهرة، شهادة لسيد الوكيل

شهادة الأديب الأستاذ / يوسف فاخوري

الكتابة بحثاً عن الظلال

( شهادة)

ما الذى يجعل للكتابة ذلك السحر الغامض بلا خلاص ، بلا يقين . أن تقابل همس الكلمات داخلك كغريب يبحث عن غربته . غربته مجاز وسطوره نقطة الضوء فى خفايا ظلمة الظلال .

ككل البدايات الساذجة فى المرحلة الإعدادية بدا لى ما أكتبه نوعاً من القصيد ، حلماً شعرياً تصورت أنى أستطعه ، وللكلمات الأولى حظ الخطيئة فى المغفرة . حين أدركت أنها مجرد خواطر تترفق بالآتى . أضاء صلاح عبد الصبور ثم من بعد صلاح جاهين وفؤاد حداد تلك الارتعاشة الخفية التى يطلقها فينا الشطر / البيت / القصيدة / الرباعية . أدركت أن الشاعر نصف نبى يبحث عن الخلاص من نقشه الأرضى ، ولم أستطع . توقفت قليلاً لألعن نفسى أو أحبها من جديد . قلت : كى تكتب لابد أن تحب نفسك قليلاً ، وفى كل مرة بجديد ، فرحت أقرأ .

الآن وقد بلغت بعضاً من النضج أحاول تأمل ذلك الإلحاح الضاغط الذى يجعل إنساناً يصر على الكتابة كأنها غريزة لابد من إشباعها ، كغريزة السياسى لإرضاء الحيوان السياسى داخله . هل هى نوع من الخلاص ؟ هوس الكلمات التى تموج فى قاع الرهبة إن لم تتشكل يختنق صاحبها بها . لكل كاتب وتر فى آلته الداخلية لم يوجد من قبل فى قلب أحد ، ولن يكون بعد . لكنه أمل العازف أن يبلغ شعرة المستحيل لأن المستحيل أكبر مما يظن اللحن نفسه .

فى بهو الكنيسة ، وفى حضرة الرب طالما جلجل صوت الكاهن متوعداً من أنكروا كلمة الرب ، مشيراً بإبهامه إلى اللامكان يومىء إلى اسطورة برج بابل . صغيراً كنت حين احتوتنى الرهبة لا من تهديد ووعيد الكاهن ، بل من تلك الصورة التى كانت تتجسد لى . بابل تتلألأ بالكلمات والألسنة اختلطت وتوزعت اللغات وانهار البرج الذى جمل ذراها . احياناً حين أكتب تهرب منى الكلمات . أظل أبحث عنها فى برج أسطورى . أهو أعلى من الكلمات أم طوفاناً قد أغرق الحروف الخافية .

طوفان اللغة الذى حاصرنى فى حضارة عشقت المفردات فتوالدت المفردة مفردات ، وأنا أجول فى حديقتها تجولت بفرس عتيق هزمه الريح حتى أنّت حوافره . كنت أبحث عن نفسى فى لغة مستعارة ، ولغة انهارت بين السطور القديمة . لغة تكلست من واقع آسن وتجمد الخيال فيها . وأنا ابن يومى ، ويومى لم يعد أمسى . قلت : اتئد للصوت القادم وأعد كتابة السطور ، وكنت أحاول .  

بهرتنى قراءة التاريخ ، واكتشفت أنه ليس ماضياً تحنط فى الوثائق والكتب الصفراء كما علمونا . وأنه العين الثالثة بين ما كان وما هو قائم والقادم . وتخايلت فى صحوى ومنامى بإصرار الفلاح الفصيح ، وشجاعة الإسكندر ، وخطط بونابرت ، ونبل الحسين ، وسحر الأندلس ، وروعة فنون عصر النهضة … الخ . قرأت ببعض فهم وكل الرغبة فى الوعى بحثاً عن كنه معنى التاريخ الحى ، وحين بلغت قسم التاريخ جامعة عين شمس تحنط التاريخ فى وقائع تاريخية لا حياة فيها ، بلا دلالة أو رؤية أو معنى . وكانت جدران الجامعة تهمس إحفظ تسلم ، وضع حجراً فى عقلك ـ ولم أقدر .

على أن قراءة التاريخ ـ وليس دراسته الأكاديمية ـ علمتنى أن أرى امتداد خيوط الأحداث إلى ماض قد يكون سحيقاً . وعن رواسب تكمن فى قاع الإنسان وفى الفعل البشرى ، قد يتجلى فى لفظ عفوى أو سلوك عادى قد لا نلتفت لجلجلاته فى الأعماق . ومازلت أقرأ الوقائع البسيطة عبر عمقها التاريخى ، وتلك روعة الوعى بقراءة التاريخ .

كشفت لى دراسة التاريخ الفارق بين الدين والمؤسسة الدينية . بين النبى فى تجلى رسالته ووكلاء الرب من ذوى الكروش . وكما أحببت المسيح بعيداً عن الطقوس الكنسية الصنمية . وفى الجوهر الأكثر إلحاداً فى كيانه . جوهر هذا الملحد الرائع والكافر بكل ما سبق وما تم تكريسه وتجميده على أيدى كهنة اليهود . جوهر رفض السائد والآمن والمستقر إلى حد النمط البليد . أعطانى معنى المبدع الأصيل أن يقول كلمته وهو يدرك أنها سقطته الدرامية ليجترح المعنى الآخر والخفى . كاكتشافى لكنز يدعى “نيكوس كازنتزاكس” تحولاً فى رؤيتى وادراكى للمعنى . ومازالت جملته فى رواية الاخوة الاعداء تطن فى رأسى ” أنا اريد مسيحاً جائعاً مقهوراً كذلك الذى كان يمشى على أرض عمواس ” . وبدت لى تلك القداسة التى يتم تكريسها نوعاً من الاخضاع لكبرياء إنسانى كان من الممكن أن يكون جميلاً دون إذلال . بدت لا إنسانية وخارج الطبيعة إلى حد الاصطناع .

وكان إلحاح ما يدفعنى دون إرادة منى لمزيد من التأمل فى الأسئلة الحرجة والجوهرية . تلك التى لا تتبدى على سطح المألوف والسائد ، تلك التى نخشاها ونهرب منها إلى الوهم . وكان لمدينتى نهر طفولى لم يبرح طفولته عبر الزمن . وكان لى حجر على جرف النهر . قبل الغروب اجلس واضعاً قدمى العاريتين فى مائه الشفيف . ومن قدمى تتصاعد الدغدغات إلى حواسى . قد أقرأ قصيدة فأمتلىء واتملى . قد أكتب خواطر أكثر بلاهة عن معنى لا أدركه كى يدركنى يوماً . وقد اصمت وللصمت حق الدمدمة فى الكلمات القادمة .

بدأ إدراك مبهم يطاردنى . إننا نولد بين كذبتين . كذب أفكار ماتت منذ زمن تربينا عليها وترسخت فينا ، وكذب أننا نصدقها . وبين وهمين تتنامى أجسادنا على خواء روحى وفكرى ، والخواء أسئلة مؤجلة وإجابات بين الكذب والوهم . توأمان لا ينفصلان ، وتكون حياة . شىء حسى ومبهم جعلنى أشعر أننا حين نكتب نحاول قليلاً وعلى استحياء أن نجد إجابات على أسئلة قد تبدو وهمية ـ وربما كانت كذلك أحياناً ـ . من يقترب من الأسئلة الحرجة بحثاً عن الإجابات التى فى قعر السؤال ستتوالد له الأسئلة حتى تغرقه . جحيم الأسئلة سيفح بلهبه ولن يتوقف . لكن عفواً ، من قال إن الجحيم هو ما صوروه لنا ؟

ربما الكتابة حياة وموت . أمل حياة لموت مؤجل أو موت يخشى الحضور فى حياة تبدو استحالة حضور لمن أدرك حقيقته تحت الاختبار . ودون كيان لم يولد نص بعد ، وقد يولد خلال الدوران حول الفكرة ، فإن الكتابة كشىء لا بأس به نحو الحضور تبدو كروح الغياب فى الحضور وسطو المفاجأة فى الانحسار إلى  الحافة .

تدفقت الأسئلة ولم استطع وقف طوفانها ، والسؤال يتوالد أسئلة والإجابات غائمة أحياناً واضحة قليلاً . لكن غربة بدأت تطاردنى عمن حولى . عشاق ” أقل العيشات ولا الميتات ” ومن استقروا على عيش الموت حياة . حاولت أن أقول لهم لا تخافونى لأنى أخاف نفسى .. مهلاً .. قليل من العرى قد يكون أكثر احتشاماً من الأسئلة المغلقة على عفتها . ربما العفة أكثر تعفناً لكنها لا تبدى رائحة .

لكننى كلما عرفت أكثر أو كتبت أكثر كنت أزداد يقيناً بأن الكلمات هى خوف سدوم من الجمال . سدوم انتحرت بالخراب . آه لو أدركت السحر الخافى . لو آمنت للحظة بالجمال فى الكلمات لاستحرت بديلاً عن انتحار اطار الحمام كى لا يشهد سواد العدم .

وبعيداً عن العقم الأكاديمى للدراسة كانت الأنشطة السياسية والفنية هى الخلاص من التكلس الدراسى . ممر الصحافة بآداب عين شمس كان جامعة موازية صنعها الطلاب بعيداً عن سطوة أبوية الجامعة الرسمية . ليس أبوية الجامعة فقط ، بل أبوية مجتمع بأكمله وسلطة آمرة قاهرة لا تعرف سوى الكاف والنون . شىء ثقيل كان يثقل أنفاسى تبخر . ذلك الإحساس بالتحدى . ذلك الإحساس الرائع لطلق الصوت المخبووء يتجلى ويرفرف فوق الهامة .

 التمرد يتبلور ويكشف عن سطوة المواجهة . أو كما قال أمل دنقل ” ألقته يد الله فى التجربة ” وأنا كنت أرغب فى التجربة كى أتحلل من صلاتى التى تربيت عليها “أبانا الذى فى السماوات …. ولا تدخلنا فى التجربة ” . كان المسرح الجامعى مهرجاناً فاتناً وراقياً . رمم الكثير من الشقوق فى الذاكرة والوعى وأضاء اكتشافات لرؤى غائمة كانت تخايلنى . وانداحت مشاهد المسرح الكنسى فى الطفولة البعيدة ، والتى لم يتح لى رؤية سواها . مسرحيات عن قصص من التوراة ومسرحيات الخلاص ، بأداء يحاكى جلجلة يوسف وهبى ، فأدركت أن العصور الوسطى قد سقطت من ذاكرتى .

يوماً شاهدت عرضاً مبهراً لأسطورة أوديب . هى أسطورة ربما أكثر واقعية من رغبة واقعيتها . لم أعبأ كثيراً بالأسطورة ـ رغم إبهارها ـ ولا بالواقعية التى حاول المخرج أن يفسر بها النص . لكن ما شغلنى ومازال ، تلك الرغبة فى الانتهاك . انتهاك رب الاسطورة . لم يشغلنى أوديب أو جوكاستا أو سفنكس أو الطاعون . شغلنى أكثر ترسياس الأعمى . ذلك الكاهن ـ لا أحب هذا اللفظ ـ لنقل المتنبىء . لأنه علمنى معنى الحواس . الرؤى حين تغيب الرؤية . صمت الحواس يجعل لها رنين . حين يكون الزمن بليداً فللحواس أن تتجلى .. لكن هل هناك من يدرك قبل فوات الأوان ؟ . هنا أدركت تلك الجملة الانجيلية تتردد على لسان المسيح ” من له عينان تبصران فليبصر .. من له أذنان سامعتان فليسمع ” .

بهرنى المسرح . صمت الخشبة والدقات الثلاث ، وانكشاف المشهد عن البقعة المظلمة ، والطقس الإلهى الكامن فى المخايلة . وبنهم رحت أقرأ وأتابع البروفات فى المسرح الجامعى ومسارح الدولة . أربى حواسى وامتلىء بكتابة نصوص لم أجرؤ على تنفيذها عملياً ، رغم رغبة البعض فى ذلك . وربما كان لفشل مخرج تحمس لنص لم يستطع إكمال تنفيذه . تعلمت من المسرح كيفية رسم الشخصيات ، وكثافة الحوار ، وإدارة الصراع إلى حوافه ، وتشكيل المشهد ، والأهم من ذلك كله ،الإيقاع .

وحين تجاوزت الانبهار كان طموحى إلى فكرة المعمل المسرحى ، كعمل جماعى ليس للفرد فيه سطوة ديكتاتورية الكاتب أو المخرج . نوع من المسرح يزيل الحواجز بين كل الأنواع ويلغى الحدود المتعارف عليها ليخلق لغة مغايرة عن السائد ، ويضفى نوعاً من الحرية على حركة النص النهائى . لكن ذلك لم يتحقق .

حتى الآن لا اذكر أو أعرف على وجه التحديد لماذا تحولت أوائل الثمانينيات إلى كتابة القصة . أحياناً تقودك أسباب غير مبررة لفعل شىء ما . كما فقدت الكثير من كتاباتى دون أسباب مبررة سوى الإهمال ، وأحياناً لأسباب عبثية . لم أكن أعرف عن حرفيات كتابة القصة شيئاً حين كتبت القصص الأولى . ومازلت غير عابىء بالقواعد . لكن ما أذهلنى كان رد الفعل الذى لقيته القصة الأولى فى المؤتمر الأول لأدباء مصر فى الأقاليم فى المنيا عام 1984 . وربما لو لم أذهب إلى ذلك المؤتمر ما كتبت قصصاً فيما بعد . انتبهت أن لى صوتا ولغة ورؤية خاصة ، أو هكذا قال الأستاذ فؤاد حجازى وغيره من كتاب ونقاد .

وفيما بين وعى ينمو ومساحات حسية ترغب فى الاحتفاظ ببرائتها الأولى يظل الوعى دافعاً ومانعاً معاً . دافعاً لرؤى أكثر تفتحاً ، ومانعاً فى الخوف من السقوط عن جماليات الكتابة كشرط أساسى لدهشة النص من كاتبه . ذلك الصراع يجد طاقته القصوى عبر الكتابة بنوع من حميمية الاكتشاف للغامض الذى قد يتبدى جزءً ما منه للكاتب نفسه ، لكن الجزء الأكبر يبقى خبيئاً .

 العرى الداخلى للفكرة وعرى الزمن فى استبطاء الوقت أو انفلات اللحظة عن حدودها . تصبح الكتابة أن تكتمل بالنقص . ذلك العدو اللاهث خلف المعنى أو تبعثر المعنى فى أرجاء النص . أن تنقص برغبة الاكتمال إلى الكمال حيث لن ترتوى . أن تتحقق بظلك ظلالاً قد تبدو أكثر وحشة من حقيقتك المتجسدة . تجترح الزمن أزمنة غريبة غربة اللذة فى منتهاها .

قد تهزمنى الكتابة حين أصدق الواقع . أغيب قليلاً لأحضر أحياناً . وأحياناً أدرك أنها تحتاج إلى قسوة أكبر منى وأكثر سخرية من الوقائع وأنى إن لم أملك الدوران حولهما فلن أعرف المرايا التى تنضح بالصور لتملى المشاهد الأولى للنص .

كنوع من الزجاج هو الكاتب والكتابة ، أقل شىء يجرح أو يلمع . الفارق الذى لن يدركه الكاتب ـ وبالتأكيد الكتابة ـ تلك الصلاة بين الحروف الأولى وصاحبها . تلك الاستحالة أن يكون الكاتب مجازاً للحروف البعيدة ، تلك التى لن يبلغها .

بدأ اهتمامى بالسرد يزداد وأصبح شاغلى . ورغم الاستغراق فى قراءة الأعمال السردية من قصة ورواية وما يصاحبها من أعمال نقدية ، إلا أن مساحة فى الوعى جعلتنى أحاول جاهداً ألا تمس حسية الفطرة أو تخضع للمقاييس والقواعد والأسس النقدية المتعارف عليها . وكما تعلمت من المسرح ” أن القاعدة فى الفن .. ألا قاعدة ” . حاولت أن أرهف السمع إلى صوتى الداخلى بعيداً عن إغواء الكتابة المسالمة . وأطلق العنان لجموح المغامرة شكلاً وموضوعاً . ألا أتلف الحواس بالوعى المسبق ، وأترك مساحة بيضاء للايقين . وكثيراً ما نظرت بدهشة لمن يتحدثون بيقين راسخ عن تفاصيل تكمن حيويتها فى تحولاتها . ولم أرغب فى الاستسلام لأدوات تهالكت من فرط استهلاكها . اليقين الوحيد الذى خضعت له هو التجريب إلى أبعد مدى وبلا حدود قصوى وهو اللمسة السحرية للكتابة . كل الفنون تجتمع فى الكتابة السردية . كلها تتحقق داخل النص ، وتتبدى عبر اللغة وتتخلق فى المشاهد .

فى المدن الصغيرة يرتبط الكاتب بجغرافيا المكان فهى محدودة ، وبطقوسه فهى متعددة ، وبناسه فهم مرصودون فى دائرة مغلقة ، وبثقافته وهى سلوكهم اليومى .المدينة التى نشأت فيها ظلت قروناً لا تتغير ولا تتبدل . مجرد مدينة صغيرة لا تزيد دائرتها عن اثنين من الكيلو مترات . مجرد معبر للتجارة بين السودان وإفريقيا إلى الوجه البحرى . لا يستطيع أحد أن يدعى أن خياراته واعية تماماً . لكنى سألت نفسى كثيراً لمَ لم أكتب عن المكان الذى عشت تفاصيله وعاش داخلى . اتسعت المدينة وطالت أطرافها الجبال وزحفت فوقها . وسألت نفسى أيهما أكثر حيوية المكان فى جموده عبر الزمن أم الإنسان الذى يغير المكان ويحيل الراكد إلى ذكرى . المكان ثابت والإنسان متحرك . الزمان عذرى فى كل لحظة تتخلق . الإنسان متحول دائماً طالما لديه إرادة الفعل وماء الحياة يتدفق عبره . لم آخذ من المدينة سوى إيقاعها ، واكتفيت .

حين بدأت ادراكاتى الأولى كانت مدينتى الصغيرة تتحول وتتمدد . كان السد العالى قد جذب إليها أكثر من ضعف عدد سكانها وموجات البشر تتوالى ، وجرت على الألسن لهجات مختلفة وتنوعت الأزياء واختلطت الألوان والأعراق . وانفتحت المدينة على تنويعات لم تألفها وإيقاع له بريق الحلم . لم يأسرنى المكان فى ضيقه أو تمدده . ولم أخضع لطقوسه أو ثقافته المتأصلة أو المتحولة . لكنه الإنسان هو من أخضعنى لدهشة عينيه أمام الفيض القادم من البشر وحركة الأجساد تشق طريقها بحثاً عن موضع قدم . الزمن فى اتساع العين على دهشتها أو انكماشها خجلاً . الصوت الجهورى فى فضاء مزدحم يفتقد عالماً ريفياً آت منه القادم بحثاً عن عمل . الزمن الراسخ فى الإنسان كلعنة أبدية . الدهشة هى الاكتشاف الذى لم أبرأ منه واغترف من مشتهاه بحثاً عن مزيد من الدهشة .

قال لنا من كانوا قبلنا الكتابة هى الوطن . صدقناأو حاولنا أن نصدق . قال لنا من كانوا منا ثم من اتوا بعدنا نحن أنفسنا بلا وطن ، حاولت أن اصدق . ونظرت أسفلى فلم أجد أرضاً ، ونظرت من حولى فلم أجد إلا عشباً صحراوياً ، نظرت فوقى فكان غيم ، ولم أعرف موقعى . فهل كنت غافياً ، وهل من يقين يستطيع أن يدعيه أحد .

لا تعنينى الكتابة بأكثر من كونها حالة مزاجية خاصة ، دون انتظار قدح أو مدح . شىء كتدخين السجائر أو الكأس فى لحظة تجل . فأجيالنا لم تنجز مشروعها الابداعى لأسباب كثيرة . والكتاب الحقيقيون منها أقل جاذبية من كتاب أدركوا مطالب السوق وطبيعة المصالح . أما المغامر والباحث عن لغة مغايرة وسرد غير مألوف فعليه أن يتجرع كأسه بلا مرارة فى زمن ” فن اليأس ” . كما أننى كسول بطبعى ولا يحق لى الإدعاء . وقد أهدرت من الوقت ما يقيم حياة أخرى قصيرة ، وغير عابىء بالقادم .

قال لى صوت : تمهل قليلاً يافتى ولا تنبىء عما بداخلك كى لا يقتلك . قلت : حقاً لا بأس قد أوجد فى زمن الالتباس لأعود لزمن أكثر ألفة وأحار قليلاً كى لا أوجد بعد . فإذا وجدت ، فربما يكون زمن المصادفة أو اللاوعى . لكن ما أدركه منذ كتبت سذاجاتى الأولى ، أننى لن أكون بعد ، كما كنت من قبل .

كل الأسباب التى تقّنع بها الكتاب كى يبرروا خطيئة كلماتهم كاذبة ” دفاعاً عن الحياة ـ هرباً من الاكتئاب أو الموت ـ أو بحثاً عن جنون فوق جنون الحياة ……. ألخ ” . الحقيقة البائسة أن أحداً لا يدرك على وجه صريح .. لماذا ؟ لأنه غامض بأكثر من الظلال ولا أحد يعرف مصدراً للضوء .

قلت لنفسى : أن تختصر نفسك وعالمك فى كلمات لتتسع المساحات أمامك . أن تعود ثانية وتنظر داخلك على آخر يضىء لك الظلال . هو نفسك التى لم تدرك ، وعينك التى رأت . ربما يكون ذلك بعضاً من سحر الكتابة .

عودة إلى الفهرس

(شهادة فى الكتابة) : الأستاذة هالة البدري

التحولات

هالة البدري

حين أتأمل ما كتبت، وما مر بحياتى حتى الآن أجد أن أعمالى تشبه أسلوب حياتى إلى حد كبير، وأن وراء كل عمل قصة تحول قصرى بالحديد والنار، تحول بقرار أتخذته بوعى شديد، ربما بقلب بارد أيضاً وبدون تردد .

وإذا ما أخذت خطوة الأى الوراء لكى أتأمل معكم بحياد ما فعلته بحياتى وبالكتابة فلابد وأن أعترف لكم بأنى لا أعرف مصدر تلك القوة الداخلية التى ترفض بعد تأمل طويل وصامت إلى اتخاذ تلك القرارات التى أراها الآن مرعبة، وان كانت ضرورية، والتى صدرت عنى فى لحظات فارقة لتعيد تشكيل حياتى، والكتابة معاً،

وسأبدأ معكم بتأمل التحول الأول :

كنت قد نشأت فى أسرة مثقفة واعية تقدم لأبناءها الفرصة لممارسة رياضة يومية، وتتيح لهم التعامل مع عناصر الثقافة المتنوعة، وقد التحقت بعد عدة تجارب لرياضات مختلفة بفريق سباحة، وحصلت على بطولة الجمهورية وبعض البطولات الدولية، وأتاح لى البرنامج التثقيفي الأسرى التعرف على الأدب والعلم والفلسفة والدين والتاريخ، وحين لاحظوا ولعى بالقراءة حفزونى على الإشتراك فى مكتبة المدرسة والنادى، وهكذا سار الخطاف الرياضى والثقافى فى حياتى فى نمو مطرد معاً، وكنت قد بدأت أحلم بالكتابة؛ فكتبت الشعر والخواطر فى الثانية عشرة من عمرى، ورحت أهيئ نفسى بوعى شديد لأن أكون كاتبة حتى جأت لحظة التحول مع دخولى الجامعة إذا اشتركت فى عامى الأول فى إصدار مجلة الكلية، وجاء بعض الصحفيين لينقلوا أحداث الحركة الطلابية عام 1972 فأخذونى معهم إلى مجلة روزاليوسف .

وتعارضت الكتابة للمرة الأولى مع بطولات السباحة التى كانت تقتضى تدريباً يوميا لست ساعات وتصل إلى تسع أثناء الاستعداد للسباقات، وكان علىّ أن أتخذ القرار، ولم أكن أكملت الثامنة عشرة من عمري بعد، وقررت الاعتزال دون لحظة تفكير واحده حتى أعمل فى روزاليوسف، ناقشتنى أسرتى، وطالبونى بمراجعة القرار لأن مستقبلى الرياضى مفتوح لحصد ثمار تعب السنوات الطويلة؛ فأعطيت ظهرى للأمر كله، ولم أشاهد سباقأ واحدا إلا بعد سنوات طويلة فبكيت .

عملت بالصحافة، وأنا أرعى امتلاك أدوات الكتابة كل يوم، وصدقت أن كل ما أكتبه قادر على تحقيق حلمى بأن أكون كاتبة للأدب و للمسرح على وجه الخصوص، لأننى تعلمت من درس البطولة الرياضية أن الأحلام تتحقق بجهد صاحبها، فقد أخضعت نفسى لنظام قراءة صارم يجعلنى أقف على قاعدة معرفة صلبة للتراث و الأدب العربى والعالمى .

فلما تخرجت من كلية التجارة جاءنى أبى بفرصة عمل فى فرع شركة أجنبية تعطى مرتباً يصل إلى تسعين جنيها عام 1975، وكان مرتب خريج الجامعة يبلغ سبعة عشرة حنيها لا غير، وتعطينى مجلة روزاليوسف عشرحنيهات، قررت الإستمرار في روزاليوسف، وفضلت الجنيهات السبع (بعد الخصم) .

وحين جاء رجل يطلبنى للزواج وسط حماس الأسرة الشديد له، وحاولت الإفلات فلم أفلح، وشرحت له أن الكتابة هى كل حياتى، وأننى لن أعمل إلا فى الصحافة، وسأكتب فى الأدب ماأشاء بحرية شديدة دون تدخل منه سألنى : إذا تعارضت الكتابة مع مصلحة الأسرة هل تختارى الكتابة ؟ قلت أنا فرد فى هذه الأسرة ومصلحتى هى فى الكتابة الحرة؛ فكيف تتعارض مصلحة الأسرة مع مصلحة أحد أفرادها ؟ مصلحة الأسرة تتطوع حسب ظروف أفرادها، سأختار الكتابة لأنها مصلحة الأسرة.

وافق على الزواج منى وأشهد أنه رعى حريتى وساندنى، وكنت أنا من يتردد أحياناً، وأغلب القرارات التى تفيد راحة باقى أفراد الأسرة حتى لو جاءت على حساب الكتابة، وأقول بلا تردد أن حريتى قد نقصت كثيرا حين غاب عن الحياة، وحين أسأل نفسى الآن هل كنت سأقبل الزواج منه
إذا لم يقبل بحريتىٍ المطلقة فى العمل والكتابة ؟ أقول لم أكن لأقبل.

كنت فى الثامنة عشرة ، عملت بالصحافة، وانتقلت للعمل كمراسلة صحفية لروزاليوسف فى بغداد فور تخرجى لكى ألحق به،ورحت أنشر القصص القصيرة، وأخطط لثلاث مشروعات روائية، الأول كان بعنوان “سفينة النساء”، وموضوعه الحب، وقد استبعدته لأننى لا أريد أن أكتب عن الرجل بإعتباره هدفا مثل أجيال من الكاتبات سبقتنى، الثانى بعنوان “ألوان الطيف السبعة”، وكان موضوعه جماعة المغتربين المصريين فى العراق، وبدأت بالفعل فى كتابة الرواية، ووضعت على الطريقة المحفوظية ملفات لشخصياتها، وبعد أن قطعت شوطا لا بأس به قررت التوقف، كنت قد لاحظت بمناقشتى لزميلى وأستاذى فى الصحافة فتحى خليل أن نظرتى لهؤلاء المغتربين والسياسين منهم بصفه خاصة هى نظرة شديدة الإدانة، وسألت نفسى إن كان الابتعاد عن بغداد واكتساب خبرات فى الحياة يجعلنى أغير رأيى فيما أرى وما أكتب، واخترت أن أؤجل كتابة العمل وعدت إلى مشروعى الثالث لاأبدأبه، وكان فريق للسباحة أولاً: لأننى أعرف هذا العالم، ولا أحتاج للكثير من البحث حتى أقدم أبطاله، وثانياً: لأنه لم يسبق أن قدم مجتمع الرياضة فى الرواية العربية رغم أن احسان عبد القدوس كتب عن مجتمع الأندية لكنه اكتفى بعالمهم الإجتماعى ولم يقترب من الملاعب..

وكان هذا هو التحول الثانى :

وجاءت الرواية رواية عن النمو بصبيه يتحسسون الحياة بوجل للتعرف على  العالم وسواء تم هذا بوعى أو بدون وعى فقد تسربت قضية الحرية لتحتل الرواية، وتكشف النقاب عن جماعة تعيش فى مصر فى الفترة من منتصف الستينات حتى عام1973، ونتسأل عن معنى البطولة والولاء لقائد نجح أن بسير بها إلى هدفها لكنه سرق روحها حين كبلها.

حيت أتأمل الآن هذا القرار الصارم بالتوقف عن كتابة رواية الاغتراب، وعدم الرجوع إليها مطلفاً طوال ربع قرن أحتار فى نتائجه لأننى حين عدت إليها وكتبتها حزنت بشدة على تركى لها وعدم تدوين ماكنت أدونه من ملاحظات بدت ساخنة وطازجة فى فترة من أخصب فترات العراق، لكنى فى ذات الوقت أكتشفت أننى قد غيرت نظرتى بالفعل لتلك الجماعات السياسية التى كانت تتحرك أمامى، ورحمت الكثير من الشخصيات التى تعاليت عليها فى حينها لأننى لم أر إلا الصغائر الإنسانية، ونسيت فى غمار ضيقى منها أنها جماعات تناضل من أجل الحرية، وتدفع ثمن ثمرها على الأنظمة بالتشرد، والنفى، والفقر، والرقت من الأعمال، وغيرها من أثمان التى كنت أعرفها نظرياً فحسب مع قلة خبرتى وصغر سنى، نعم أطتنى الحياة و السنوات الماضية نظرة أعمق أرى بها الضعف الأنسانى بعين رحيمة، ومنحتنى الفرصة لتقدير هؤلاء البشر، وتقديم حركتهم بشكل أعمق، وإذا قدر لهذه الرواية أن تصدر (تحت الطبع) سأكون مدينه لقرارى الصارم بالتوقف عن كتابتها فى ذلك الزمن بخروجها على ما هى عليه الآن.

بعد ست سنوان من العمل مراسلة صحفية فى بغداد قررنا العودة إلى القاهرة عام 1980 ليدخل ابنى المدرسة ووقفت حائرة، أريد أن أذهب إلى بيروت لرصد تجربة المقاومة، والدخول فى معترك الصراعات العربية، مؤمنه تماماً بأننى يأخسر كثيراً إذا لم أعش هذه التجربة مع المقاومة الفلسطينية، والعمل فى صحفها ليس من أجل الصحافة، ولكن من أجل تكوينى كاكاتبة عربية، ووقفت حائرة بين زوجى الذى وافق على سفرى وحيدة إلى بيروت، وعودته وابنى إلى مصر، لكننى أتخذت قرارى بالعوده معهم، وظل هذا التحول يؤرقنى مدي الحياة لأنه طبع حياتى ببصمة التوازن ولم أستطع الإفلات من الحياة تحت وطأة غزل حبل التوازن إلا بصعوبة، وبقرارات صارمه أيضاً.

كان هذا هو التحول الثالث:

حين عدت إلى القاهرة لاحظت فى قريتى  تحول المجتمع والإنتاج من النظام الزراعى التعاونى إلى الصناعى التجارى؛ فرصدتها وعشت سنة كاملة فى القرية، وكتبت مسودة عمل بعنوان “بيضة من خشب”، ثم جاء قرارى الحاسم بعدم النشر، وعمل بحث طويل عن الفلاح المصري وتاريخه القديم والمعاصر..

 ليكون التحول الرابع:

إذا كانت الرواية التى قرأتها طموحة وكاتبها ضعيف، واستمر عملى على هذه الرواية عشر سنوات كاملة دونت خلالها عدة أفكار لمشاريع روائية، وضعتها فى ملف وأغلقته، وكتبت قصصا قصيرة، وأصدرت مجموعتى الأولى “رقصة الشمس والغيم”، وثم “أجنحة الحصان”، والتى كتبتها وأنا غاضبة أحاول أن أفهم بالكتابة لماذا يقبل الإنان بالهزيمة؟، وهل ينهزم دون أن يقطع نصف الطريق إلى السقوط؟، وقد تركتنى هذه المجموعة وأنا أسأل نفسى عن الوسيلة التى تمكننى من قلب الإنسان الذى خاطبته بعنف؛ فقررت أن أجعله يستمتع وأن أتسلل إليه بأفكارى بهدوء، ساعتها حلت كل المشاكل الفنية التى صادفتنى، وأنا أخطط لمشروع رواية، وبدأت فى الكتابة التى استغرقت ثلاث سنوات آخرى وكونت قاموساً خاصاً بالأرض استخدمته فى الصياغة النهائية فى محاولة للإقتراب من الفلاح الذى أحببته، وفتنت بعشقه للحياة، ومحاولاته لغزل الفرح بأبسط الخيوط، وقدمت بانوراما عن الحياة فى قرية مصرية فى الفترة من الحرب العالمية الأولى وحتى أزمة مارس 1954م.

الآن وأنا أتأمل قرارى بعدم نشر روايتى “بيضة من خشب”، والتى أفرخت ـ معذرة ـ روايتين هما “منهى” ، و”ليس الآن”، ورواية ثالثة لم أنته منها بعد، أجد أننى لم أكن مخطئة فى قرارى رغم أننى دفعت ثمنه أربعة عشر سنة من العمل المضنى، بل على العكس فلم تكن “منتهى” هى رحلة بحث عن الفلاح المصري، بل كانت رحلة نمو لأدواتى كان لابد منه حتى أستطيع أن أكتب رواية تقدم نقلة نوعية مختلفة عما قدمته فى روايتى الأولى “السباحة فى قمقم”.

توقفت كثيراً وأنا أسأل نفسى عن المرحلة التالية لهذا المجتمع، ماهو المسار الذى اختاره لكى يُعبَّر عنه، لم أجد مفراً من أن أختار الصراع العربى الإسرائيلى موضعاً للجزء الثانى من”منتهى”، والذى كتبته كرواية متصلة منفصلة يمكن قراءتها دون قراءة الجزء الأول، واخترت بطلى ضابطاً فى القوات المسلحة، وهو ما استدعى العودة إلى البحث لكى أتعرف على عالمة العسكرى، فلم تعطنى الحياة فرصة الإشتراك فى الجندية، أو حتى الإحتكاك بها، وظهرت الرواية بعد أربع سنوات بعنوان “ليس الآن”.

كانت قد تراكمت مادة واسعة للجزء الثالث لكننى بعد ثمانية عشر سنه من العمل كانت قد تاقت نفسى لأكتب رواية تدور أحداثها فى المدينة فى الزمن الراهن؛ فتلركت مشروعى، وانتقلت إليها، وكتبت رواية عن التحقق فى الحياة، عن الصراع الذى يعيشه المثقف بين رغبات وامكانيات تحقيقها..

وكان هذا التحول الخامس :

وكنت إذا كتبت قصة قصيرة أكتب مسوداتها الأولى، وأتركها خوفا من أن تخرجنى من العالم الذى يستغرقنى، وبعد انتهاء الكتابة فى “امرأة ما” قررت أن أتفرغ لهذه القصص، ,أعدت كتابتها وأصدرت مجموعة قصصية بعنوان”قصر النملة”، ثم دخلت بجهد ثقيل فى معركة مع نفسى لكتابة سيرة ذاتية موضوعها الموت، ولم أستطع أن أنشرها..

وكان هذا التحول السادس :

وحتى أستطيع التحدث عن هذا القرار الصارم بعد النشر والإنتقال إلى كتابة روايتى”أيام منسية من دفتر بغداد” اعتماداً على مخطوطى الأول الذى كتبته فى العراق عام 1977، وأنا فى الثانية والعشرين من عمري، لابد أن أحكى لكم قصة الصراع المستمر بينى وبين الرقيب الداخلى لعله يلقى الضوء على هذة التحولات.

أعترف أن المسكوت عنه فى الحياة، ما نتواطأ على اعقاله، ونتعامل معه باعتباره غير موجود، هو أحد المناطق التى أهوى اللعب فى مضمارها سواء أكان المسكوت عنه خارجيا فى حركة المجتمع أو داخليا فى الذات نفسها، فهو منطقة غنية جديرة بمتابعة الخيوط والفرص فى الأعماق حتى لو عجزت اللغة لطول ما عانت من قلة الاستخدام للعبير عن هذا المختفى.

منطقة تحتاج فى الغالب إلى نحت لغوى خاص ليعبر عما تفاجئه بالضوء، والمسكوت عنه الحافز الأول لظهور الرقيب الداخلى، ولقد عانيت من هذا الرقيب كتابتى لروايتى ليس الآن بسبب موضعها الشائك : ضابط لا يقبل بتوقف الحرب مع إسرائيل، لقد سألت نفسي وأنا ابدأها ماذا سأفعل مع الاف المحاذير التى يلقها هذا الرقيب أمامى وأنا أفكر؟، أعترف أننى أحببت بطفولة شديدة أن سأزيحه من طريقى، لأن الكتابة هى فعل الحرية الوحيد الذى أمارسه، كيف أحدد حريتى بيدى ؟، لكن مواجهه المؤسسة العسكرية المصرية بالنقد أمر لا يمكن التعامل معه بهذه البساطة، القلق يفاجئنى وأنا أقود السيارة، والحراره والضجر يذهبان بأعصابى فأكاد أجن لأن لا شئ يقهره، ولا حتى ضغطى على البنزين، وارتطامى بخط السير، أختار إذن أسوأ الأوقات للإنفراد، وأكثرها ضعفاً، وحين أكون بعيدة عن الورقة والقلم لأنهما كانا السلام الوحيد الذى حاربته به، واستطعت بعد جهد إقناع نفسى بأننى قهرته، ورضيت عما كتبت لكنى أحياناً أسأل نفسى هل حقاً أزحته ؟ أم أننى أسكنته الأعماق، فراح يعيد ترتيب الأشياء قبل أن تصل إلى الوعى ؟ سؤال لا أهرب من الإجابة عليه خاصة وأننى لا أؤمن بالحلول الوسط ولا أنصاف الأشياء.

لم أسمع أى اعتراض من أى جهه رقابية على الرواية بعد صدورها، وطبعت فى مطابع الدوله فى الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأعيدت طباعتها مرة ثانية فى مشروع مكتبة الأسرة أيضا كاملة، لكن ناقدا واحدا من الذين كتبوا عنها لم يأت إلى ذكر أزمة هذا الضابط مع المؤسسة العسكرية، وتناولها من جوانب آخرى تماماً، لقد عمل الرقيب الداخلى مع الناقد أكثر بكثير مما فعل معى.

هكذا وصلت إلى رواية “إمرأة .. ما”، وأنا أشعر براحة وثقة تدفعنى لكتابة ما شئت واخترت موضوعاً شائكا عن امكانية التحقق، واخترت الحب بين المرأة والرجل روحا وجسدا متسلحة بإيمان حقيقى فى امكانية الدخول إليه، والتعبيرعنه حتى أصل لما أريد وراح الغزل يتحول إلى نسيج متماسك بعدما يزيد على ثلاث سنوات، وكدت أكتب كلماته، ولكن أحداث “الوليمة” فاجأتنى ذات صباح فأضطرب الغزل فى يدى، ورحت أتأمل مزيد من الأسئلة الصعبه عن المناخ الذى يعيش فيه الكاتب وتأثيرة على كتاباته، وبعد حوار طويل مع نفسى انتهى بهدوء إلى دخول هذه الأسئلة جسم الرواية التى كنت أصغيها فى ذات اللحظة، وأن تكون اجابتى كما قال بطلها عمر مأمون الكاتب الروائى: أراهن على حضارة السبعة ألاف عام، وأقرر أن أنشر روايتى كما هى تخزنى الشكوك : هل تقبل دار نشر الآن ما أكتب ؟.

أجيب بروح مرحة تتفاءل بالمستقبل حتى لو لم أجد فى مصر سأجد فى بيروت أو فى المغرب، ستقبع فى الأدراج إلى أن يحين نشرها، ولن أغير منهجى لأخضع للظلام .

نشرت رواية “امرأة .. ما” أول دار نشر عرضتها عليها وهى دار الهلال، وقرأتها مطبوعة بتأن فوجدت أن كل محاولاتى للفكاك من الرقيب انتهت بانتصار ما .. له، لأننى رواغت كثيراً فى الكتابة، ولم أسم الأشياء بأسمائها أبداً، تأملت هذا باسمة، وقبلت أن يستمر اللعب بيننا، لكن ما فاجأنى حقيقة هو الفارق الشاسع بين موقف القارئ العادى من الرواية، وموقف القارئ المثقف إذ أخبرنى عدد كبير من المثقفين، والكتاب بصفه خاصة بخشيتهم من خلط الأوراق بينى وبين بطلة الروزاية التى تعيش حياة مزدوجة بين الزوج والحبيب، وقال لى كل منهم على حدة إنه يفهم دوافعى لكتابتها، لكنه يخشى من ودمواقف الآخرين، فى حين لم يسأل القارئ العادى أى أسئلة من هذا النوع، ولم ينشغل إلا بما أردت قوله بالفعل، وما مسّ حياته.

فأحتفى بها احتفاء خاصا ومازال يدهشنى حتى الآن، ذلك أننى فتحت جرحا كان يبدو لى متقيحا؛ فإذا به يكشف عن خلل يكاد يودى بالحياة نفسها.. (غرغرينا).

وتصورت أننى قطعت شوطا بعيدا فى الكتابة بحرية، تلك الحرية التى لا أتصور كتابة حقيقية بدونها، ولا كاتباً عظيماً يتردد فى ولوج دربها، حتى قررت أن أكتب رواية سيرة ذاتية تعتمد على لحظة انسانية بالغة الصعوبة، الإنسان فى مواجهة موت أقرب الناس إليه، تصوت أننى بما أمتلكه من أدوات فى رحلتى قادرة على الدخول إلى الموضوع بثقة، ورحت أعيش مقاومة الإنهيار بالكتابة؛ فلما انتهيت منها اكتشفت أننى لم أستطع بلا أقنعة أن أكتب مشهداً حميماً واحداً، على عكس ما حدث فى كتابة “امرأة .. ما”، ورغم أننى أعلم صعوبة أدب الإعتراف لأننا لم نُدَّرب عليه، وقامت الحضارة الغربية على فكرة التطهر المسيحية بالأعتراف إلا أننى لم أجد هذا عذرا مناسباً لأن تكون الرواية ناقصة من وجهة نظري كناقد أول لعملى، واتخذت قرارا بعدم نشرها حتى أصل لحل اهذه المعضلة إما بالشجاعة، وكتابة هذا الشأن، وإعطاء التجربة نفسها لأشخاص متخيلين، وفتح باب الحرية أمام الخيال لكى يقوم بفعله على راحته.

لهذا حين قررت أن أكتب روايتى”أيام منسية من دفتر بغداد”، وكان الإغراء كبيراً لأن أكتب شهادة أو سيرة ذاتية استبعدت الفكرة على الفور، وأعطيت احدى بطلات العمل تجربتى وخبرتى عن بغداد لكننى لم أعطها ذاتى، وبنيت شخصيات وهمية تحمل عبء الرواية عن كاهلى، حتى أتمتع بالحرية التى لا أدرى عملا أدبياً أو فنياً بدونها.

أما كيف أختار شخصياتى فهو موضوع تنفتح أمامه كل الطرق؛ أحيانا من الخيال الكامل أبدأ من فكرة وأظل أركبها حتى تتحول إلى لحم ودم وأحياناًمن صنعة أراها فى احد الأشخاص فأخذها، وأنسج حولها شخصيتى وأحيانا من حدث أو من فعل يقوم به شخص لا أعرفه أمامى أو يحكى لى عنه أما الأشخاص الذين أحببتهم ورغبت فى الكتابة عنهم؛ فقد عجزت إلى حد كبير عن تقديمهم فى كل عمل فنى وأجلت هذا حتى تزداد خبرتى بهذا الفن ، وأظن أننى فى المرحلة القادمة من حياتى سأقدم بعضهم.

أما كيف ألتقط الفكرة، ففى كل مرة كان المصدر مختلفاً، بدءا من شخصية تستهوينى؛ فأقرر الكتابة عنها دون أن أعرف إلى أين أو موضوع غامض أحوم حولة حتى أمسك طرف الخيط، أو حادث معين يستفزنى، لكننى لا أبدأ بالكتابة إلا بعد استفزاز طويل، وحالة عاطفية تتملكنى نحو عالم أريد أن أعرفه فأبدأ المناوشات معه.

وفى بعض الأحيان تتولد فكلاة من داخل عما أكتبه بالفعل ؛ فأصدقها وأمشى وراءها، حتى أنهيها، كما حدث مع عملى الأخير الذى هيمن على عفلى ةانتزعنى من وسط الإعداد لروايبة أخرى.

أتصور أن الرواية أو القصة هى التى تختار  شكلها ولم يحدث غير مرة واحدة فى كتابة “امرأة .. ما” أن وصلتى إلى الشكل على الفور؛ ففى كل مرة كنت أقوم بالعديد من التجارب حتى أقرر شكل البناء الفنى.

أما الأسلوب فأعتقد أن كل عمل له أسلوبه أيضأ؛ فالحديث عن قرية وسط دلتا النيل فى بداية القرن يحتاج إلى لغة تختلف كثيراً بخشونتها عن شاعرية اللغة فى رواية عن الحب، واللغة المحددة فى رواية عن الحبيبين، واللغة التقريرية فى رواية عن الغليان السياسى.

التحولات إذن رسمت خريطة الطريق، لكن ما ذكرته منها لم تكن كل التحولات، فقد لعب الرقيب الداخلى معى لعبته فى تحديد الآختيار.

عودة إلى الفهرس

شهادة الروائي الدكتور: زين عبد الهادي.

البقاء للسرد

كولن هايتور: الافكار الجديدة الوحيدة التي لا لايمكننا التشكيك بها هي افكارنا نحن.

الذات :

الرواية هي التاريخ غير الرسمي للعالم، لم يكن يمكنني أبدا أن أتجاهل هذه الحقيقة!

نرزح نحن – على سبيل المثال – تحت وطأة تاريخ ليس له علاقة بالناس وبالتحولات الاجتماعية والسياسية التي يشهدونها، فلن تقرأ في كتاب التاريخ المدرسي شيئا عن هجرة المصريين للخليج في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، لكنك ستقرأ ذلك في عدة روايات خصصت لهذه القضية التي تركت تأثيرت واسعة على الحياة المصرية في الحضر والريف بشكل عام، فعل كان يمكنني أن أتجاهل ذلك وأنا أكتب الرواية!!.

التاريخ على سبيل المثال سيذكر شيئا ما عن نكسة 1967، سيذكر شيئا عن اندحار الجيوش وانتصار الجيوش، وقادة المعارك، لكنه لن يكون معنيا باعتقال رب أسرة أثناء النكسة وانهيار تلك الأسرة وشتاتها، لن يذكر شيئا أيضا – هذا المدعو التاريخ –عن التحولات القاسية التي شهدها المجتمع المصري أثناء الستينيات، لأنه كان معنيا فقط بتسجيل انتصارات (الشعب) في الأماكن التي شهدت الاستعمار، لن يذكر التاريخ شيئا عن ذلك!

التاريخ أيضا ليس معنيا بالتغيرات النفسية السلبية التي تقع للأطفال نتيجة للحوادث الفجائية، أو نتيجة للتشوه الطبقى للمجتمع، أو نتيجة للكوارث البشرية أو حتى تلك الطبيعية، لن يذكر التاريخ شيئا عن ذلك!

لن يذكر التاريخ شيئا عن الأطفال الذين فقدوا القدرة على الخيال، هؤلاء الصغار الذين فقدوا القدرة على المتعة في التخيل، عن متعة التحليق بعيدا عن أرض الواقع المزري، عن علاقة الأطفال بالأساطير والجنيات والملائكة والتنانين السحرية والديناصورات المتوحشة، هؤلاء الأطفال الذين يضطرون للعمل في تلك المهن المتواضعة من أجل أن يحيا الكبار فاقدي القدرة أو فاقدى النخوة، لن يذكر التاريخ أسماءهم أو سماتهم، لن يشير إليهم على الإطلاق ، فالتاريخ معني فقط بمن يكتبه، ومن يملك القدرة على التأثير على من يكتبه!

لن يذكر التاريخ شيئا عن معارك المثقفين مع السلطة، ولا كيف يكتب أحد الروائيين روايته كي يحكي أوهامه المزدوجة، ولا كيف يجلس ليكتب روايته، ولا ماهي الحالات التي تنتابه لكي يكتب تلك الرواية ولا عمله الأصلي، وكيف يحتال على الحياة من أجل الوجود، ولا عن معاركه مع نفسه والآخرين والسلطة من أجل أن يكتب تلك الرواية، ولاكيف تخرج الرواية  للناس ومالذي نزفه من أجل أن تأتي تلك اللحظة التي ينتظرها بفارغ صبر، تلك اللحظة التي يقف فيها هنا ويتحدث، ما الذي يجعله يفعل ذلك، ماهذا الإلحاح الوجودي القاتل الذي يدفعه للانتحار، إذ لاتأتي المقدمة إلا لاعتبارات كثيرة بعضها للأسف ليس له علاقة بالموهبة، المجتمع ككل يتم تزييفه بشكل أو بآخر مرة أخرى!

هذه هي قضيتي في السرد، خيال الأطفال وانسانيتنا المشتركة وحروب المثقفين، هذه القضايا مجتمعة هي منابعي الحقيقية للكتابة. لقد قدم العرب للعالم ألف ليلة وليلة، لتترك تأثيرها الحالم والاسطوري على كل مايكتب حتى الآن، باعتقادي في هذه اللحظة أن العرب قادرون على تقديم النسخة الثانية من ألف ليلة وليلة في هذه اللحظة على وجه التحديد لتعزيز الوجود الانساني، كما أعتقد أن علاقتنا بالآخر على المستوى الانساني العام تشكل في حد ذاتها واحدة من أهم عناصر تطورنا الحضاري، فلم يكن لظهوره دائما في حياتنا هذا الجانب السلبي، بل على العكس فقد ساعد على مزيد من التنوير على الرغم من اختلافنا معه في كثير من القضايا.

لم أكن في يوم من الأيام معنيا بالكتابة لمجرد الكتابة، لقد عشت حياتي متنقلا بين الورش وحقول القطن وصيد السمك، صبيا وعاملا حتى أصبحت أستاذا في الجامعة، كنت أعلم أن هناك يقينا داخلي يتعلق بعلاقتي بكتابة الرواية هذا اليقين الداخلي تكون داخلي ين قرأت الرواية ألأولى في حياتي، كانت الرواية في تلك اللحظة هي التي منحتني القدرة على احتمال الحياة، هي التي دفعتني للتحقق من خيالاتي، هل خيالي ينبع من رغبتي في مصادرة الواقع، أم تلوينه أن اسقاطه نهائيا واعادة بناء عالمي الخاص!

لم تساعدني الروايات العربية كثيرا في التحقق من قيمة الخيال فهي محجوزة دائما لصالح الواقع، أدخل سينما أفكار الرواية العربية أجدها جميعا تسلط الضوء على واقعنا المصادر كلية من قبل السلطة والجهل وتجهم حوادث الأيام، من المؤكد أن هناك الكثير من العناوين اتي حققت لي المتعة والخيال معا، لكن الرواية الغربية جققت لي ذلك بشكل مضاعف.

كان السؤال  في العشرينيات من العمر هل سأكتب الرواية أم أتفرغ للقمة العيش؟ هذا السؤال المرير الذي يواجه به أغلب من يكتبون الرواية في العالم العربي، وهو في مصر أشد وطأة، ماأعرفهم من روائيين يؤكدون لي أن الثقافة قيمتها الوحيدة في عقولنا، عقول المؤمنين بها، وهي لاتعني الكثير بالنسبة للآخرين.

كثيرا ماتحينت الفرصة لأسرق لحظة التخيل بعيدا عن مرارة العمل في الورش والحقول، وحين كنت في الخدمة العسكرية كتبت أولى أعمالي في قلب صحراء السلوم، كانت عن الحب بين طفلين، ولخطأ ما ارتكبه مرسال الهوى بينهما انتهت تلك العلاقة لتتركهما مشوهين للأبد، في هذا الوقت لم تكن أدواتي السردية قد اكتملت  وكان وعيي غارقا في مأساة الكثيرين من حولي، لكني كتبت، لاأدري كيف كتبت، لأتحقق فيما بعد من أن هذا العمل الذي فقد مني في ذلك الوقت قد قرأه أصدقائي في الكتيبة، قد اختفى، تحققت في تلك اللحظة من قدري في كتابة الرواية، لكني انتظرت طويلا حتى أستطيع أن أقدم للعالم شيئا، انتظرت لأن الحياة لن تسمح لك بالوجود بسهولة، لابد أن تقاتل أكثر في سبيل ذلك!

مع هجرتي للخليج أدركت أن الكتابة هي الحل الوحيد للخروج من مأزق الحياة، قرأت تقريبا خلال تلك الفترة أهم الأعمال العربية والغربية والشرقية، كنت ألاحظ مأزق الحياة لنا هناك، أيقنت مع قراري الأخير بالخروج من هناك أن الكتابة الروائية هي مصيري فكتبت التساهيل عام 1990 ، استمتعت بكتابتها وبطريقتي في السرد التي كانت تبحث في مفهوم متعة الكتابة المصحوبة بمتعة القراءة، كنت أكتب كأنني أتدحرج من فوق جبل عال، تماما ككرة الجليد، هذا هو أيضا ماكتبته في تلك الرواية، كتبتها في دفقة واحدة قبل الخروج من الكويت عام 1990، واستكملت تصحيحاتها في القاهرة بعد ذلك ولم تصدر إلا عام 2005، كانت تسيطر علي حالة من الأسئلة المتدافعة تبدأ بلماذا ذهبنا إلى هناك؟ للعمل أم للموت؟ كان الموت يحوطني من كل مكان هل استطعت التعايش مع ذلك؟ أو كتابته لاأعرف؟ لكنه كان واحدا من الهواجس الداخلية التي سيطرت على إبان كتابة التساهيل، لم أنم تقريبا أثناء كتابتها، كنت متحمسا للغاية أبحث عن التفاصيل داخلي، لم ألجأ للصحف فالمادة كلها كانت في ذاكرتي، كما أن بها بعض التفاصيل المتعلقة بحياتي هناك.

لقد كانت عملا ساخنا، فهي عملي الأول الذي أردت نشره لكن ذلك لم يحدث بل نشرت عملا بعنوان (المواسم) عام 1995، عملا روائيا قصيرا، أطلق عليه هو وعمل آخر بعنوان “مرح الفئران” نشر عام 2006 تجربتين روائيتين، كنت أريد الكتابة حول الماضي في الأولى والحاضر الراهن في الثانية من خلال تجربة أساليب متعددة في السرد فهما في بنيتهما يشبهان تماما الصور السينمائية ولكن لاتغيب الأسطورة سواء التراثية أو الدينية عن الرواية الثانية معتمدا على العناوين في الثانية كمفتاح أساسي لفهم العمل، على أن قمت بكتابة المشاهد بشكل مفصل، المشهد أو الصورة السردية هي بنية العمل، يعقب ذلك الحوار بالعامية المصرية، السرد هو بطل العمل الأساسي والحوار يتراجع إلى حد ما في الخلف.

الزمن متحد ومتصل، يسقط أحيانا لصالح زمن قديم، تقدم فيه لحظة نادرة توحي بارتباطه المصيري بالحاضر، ليس لمرح الفئران بطل محدد، البطل هو الصراع الاجتماعي القائم داخل الحارة المصرية والقضايا الاجتماعية المطروحة هناك، ليس الفقر وحده بل العبث بجوهر الحب، الجنس لايتحرج عن أن يصبح معادلا موضوعيا للحب والرومانسية ومايترتب على ذلك من خلخلة للعلاقات الاجتماعية.

رواية التساهيل في نزع الهلاهيل 2005:

تعتمد هذه الرواية على الرحيل إلى منطقة جديدة في المكان على الرواية العربية، حيث تمثل الكويت في الثمانينيات قبلة للباحثين عن الحياة الكريمة، لم يكن هناك مفر أمام بطل الرواية من الرحيل إلى هناك تاركا خلفه العديد من المآسي، الانتقال في السرد من الصحراء الغربية إلى صحراء الكويت، يواجه من خلال وجوده بالعسكرية بتجريده من ملابسه كل صباح، في مطار الكويت يتعرض لنفس الموقف، إنه عار تماما أمام السلطة، شاركت في التعرية كل أطراف علاقاته من النساء اللائي عرفهن إلى السلطة في عالمه وفي العالم الذي ذهب إليه، من حتى بعض المنتمين لدول العالم الثالث، كأنها مؤامرة كونية لجعله عار دائما أمام كل من لهم به علاقة، حتى لو كانت علاقة فوقية أو متوازية.

هلاهيله الداخلية تبدأ في التكشف أمامه، إن حبيبته لم تتركه بل تركها هو متعمدا، لأنه كان قد انهار تماما ولم تعد لديه قدرة على القتال مع الجميع فانسحب، كان يظن أنه انسحب لمكان أفضل، لكنه اكتشف أيضا أن ذلك لم يكن حقيقيا، فهاهم جميعا يموتون أمامه، أو تنهار أحلام الثراء التي أتوا بها، فكل جاء وداخله الفيروس الذي ظن أنه تركه هناك.

اعتمدت الرواية السرد الخالص، الحوار كان قليلا للغاية، العالم الباطني لبطل العمل هو المسيطر في أغلب الأحوال، كما كان العمل في أغلبه بنائيا، فكل حادثة تقابلها حادثة أخرى مغايرة، وكل شخصية لها مقابلها الموضوعى أو السلبي أو حتى المتخيل، سيد العبد بطل الرواية هو الذي يملك مصيرة في النهاية فيقرر الخروج فهو ليس عبدا لفكرة الثراء إنه سيد فكرة البحث عن الأمل.

المونولوج الداخلي تقريبا هو المهيمن على العمل، إضافة إلى العديد من التكنيكات الأخرى، كما أن اللغة الشعرية أيضا هي السائدة، فهو يحاكم نفسه في أغلب مراحل العمل، السرد هنا هو سرد داخلي يستبطن روح الأزمة التي يعيشها الراوي، أقترب أحيانا منه وفي أحيان أخرى أتباعد كمؤلف، السياق يستمر على هذه الوتيرة ليتيح لي التعرف على الأزمة الحقيقية للراوى/ بطل العمل، مع تتالي الأحداث تتساقط أحلام الجميع، حتى العرب الذين يقطنون الكويت تتهاوى أحلامهم سريعا، ليس هناك ضمان لأي شئ، الضمان الوحيد هو الذات، أن تكون قادرا على القتال، ومادمت قادرا على القتال، فافعل ذلك هناك في المكان الذي أتيت منه، كيف تكون لغة السرد موازية لهضاب الرواية ووديانها التي يجوس فيها شخصياتها، لم يكن ذلك ليتم دون سرد سريع لاهث متوتر، فالحوادث كثيرة للغاية، والشخصيات تأتي لتعبر عن هذه القانون القدري الدائم، إنها لاتختار أقدارها، قدرتها على المغامرة محدودة، لكنها أحيانا ماتكون مجبرة على المغامرة، اللغة السردية هنا تحاول ذلك، المغامرة في لهاث السرد، لهاث المونولوج الداخلي، في لهاث تدخل الراوي من جانب والمؤلف من جانب آخر، لايظهر بصورته الحقيقية، لكنه يتداخل أحيانا مع صورة الراوي.

العنوان نفسه كان مغامرة في السرد خارج النص، خارج المتن، إنه العتبة الأولى لقراءة النص السردي، أتى العنوان تراثيا ليعكس تراثنا جميعا، الصراع مع القدرية المهيمنة،انه يتراخى مع مصطلح (التساهيل) ويتصارع مع (النزع) ولايتهادن مع (الهلاهيل) الداخلية.

رواية “دماء أبوللو” 2007:

الطفولة والخيال والآخر الانساني هي موضوعات هذا العمل الروائي، الطفولة من الموضوعات الآسرة، كنت أسأل نفسي دائما هل حقا نحن نعرف الطفل، وهل يمكن كتابة عمل كامل عن الطفل، يحكيه الطفل نفسه، وهل يصلح سرد الكبار للتعبير الروائي إذا تمكنت من الكتابة عن الأطفال، خمسة وعشرون عاما أحاول كتابة هذا العمل على أن يسرده طفل، سرد طفل يقترب من سرد الكبار يستطيع فيه أن يقدم الخيال في أقصى حدوده، وحين انتهيت من كتابتها اكتشفت أنني لم أقل ماأريده، فأصبح لها دون أن أدري أجزاء أخرى.

عالم الطفل عالم سحري في ظننا، لكن هل هو فعلا كذلك، ألا يفكر الأطفال مثل الكبار، ألم تنتابنا تلك الأفكار نفسها ونحن كبار، لكن كيف كنا نعبر عنها.

العمل على رواية على لسان طفل هو عمل يتسم بمخاطرات متنوعة، فإما تكسب القارئ أو تفقده، وإما يتم تسطيح العمل إلى الدرجة التي يفقد فيها قيمته الفنية، ومخاطر السرد الروائي متعددة، هل سيقتنع القارئ.

لم تكن تلك هي القضية وحدها بل الأسطورة اليونانية التي تفجر خيال الطفل السارد، لايجب أن تكون تلك العلاقة متوترة بشكل أو بآخر، العلاقة بين آلهة الإغريق وطفل مصري من بورسعيد، كيف يمكن بناؤها سرديا!

من المعالجات في هذه الرواية أنني كمؤلف ظللت أراقب الأطفال ونموهم وأفكارهم لفترات طويلة للغاية، قرأت الكثير عنهم، كل ذلك قد يؤهلني لكتابة عمل علمي لكنه لايؤهلني لكتابة رواية، إنها أهم مغامراتي في السرد حتى الآن، أترك هذا العمل ليحكم عليه من يريد، لكنه في ظني مغامرة ومراهنة كاملة على أن الطفل يمكنه أن يفعل الأعاجيب.

كان الحل الوحيد في النهاية أن أعود طفلا يكتب، أن أتقمص روح هذا الطفل الذي يناطح الآلهة ويستدعي الأساطير القديمة في زمن الحرب، على أن أتحول إلى حالة من الهذيان السردي التي تمكنني من أن أعيش طفلا في زمن الحرب، كيف كان يمكنني أن أعري روح الطفل إن لم أتركه يتصرف كما يشاء، إنه يسرد الحكاية! لكنه لايسردها كالكبار!

كان لابد من استخدام تقنية قريبة من الفلاش باك لكن بشكل أكثر عمقا في السرد وتقنياته، وتيار الوعي، أو مايمكنني أن أطلق عليه تيار وعي الطفل، فالطفل لايحكي بهذا الشكل المتعارف عليه لدى الكبار، إنه يحكي كيفما اتفق، لا يتوقف في المناطق التي يريد اظهارها، ويتوقف فيما لايريد إظهاره حيث أعتقد أن هذا كان الأسلوب الأفضل لكتابة هذا العمل.

لذلك كان السرد يبدو كمجموعة من الحلقات الحلزونية المضفرة والممتدة، فهو يلقي بحكايات غير متصلة يمكننا متابعة بقيتها بعد حين من خلال الراوي الطفل نفسه، ونفس الراوي الذي يظهر في نهاية العمل كبيرا.

كان الأمر يحتاج مجهودا اضافيا يتعلق باللهجة البورسعيدية خاصة في الستينيات وكذلك اللغة اليونانية ببعض مفرداتها الشائعة أيضا، والبيئة في ذلك الحين، كذلك محاولة ملاحقة الزمن الممتد أحيانا بين 1956 وبين 1967، إضافة إلى الأسطورة الإغريقية الممثلة في الإله أبوللو.

السرد الحالي في الرواية المصرية :

التعرض لموضوع الكتابة الجديدة يحتاج كثير من التأمل، خاصة وأن هناك العديد ن القضايا التي تناولتها هذه الكتابات لكن أهم هذه القضايا أو السمات مايلي  :

1- التعبير عن سمات تخص عصرهم لم يتطرق إليها جيل الستينيات أو حتى من هم بعدهم، كالتعبير عن مجتمع المعلومات بكل تأثيراته.

2- محاولة إعادة تشكيل وبناء عوالم جديدة خاصة بهم تقترب في رؤاهم من الوحشية متأثرين في ذلك بالميديا الغربية من جانب وعجزهم عن تغيير العالم الذي يعيشونه من جانب آخر
3- تناول قضايا وموضوعات تعد من المحرمات والتابوهات للكتاب من الجيل الأقدم مثل الجنس والشذوذ والدين والآخر بأعماقه والذات بكل مافيها من نقائص.

4- التطرق للقضايا المتعلقة بشيزوفرينيا المجتمع المصري والعربي وانشطاراته.

5- التعمق في بعض الأشكال الفنية بدرجة عالية من التجريب كما في الرواية وقصيدة النثر.

6- مناقشة موضوعات تتسم بالفانتازيا والخيال العلمي وهو ماكان قليلا أو نادرا مانجده في روايات ما قبل الجيل الجديد.

7- فيما أرى أن أهم أشكال هذه الكتابات هي الإغراق في الذاتية أو الفردانية Individualism وعلى الرغم من أن التجارب الشخصية تعرضت لها الرواية من قبل إلا أن الرواية الحالية لدى كثير من الكتاب تنحو هذاالمنحى.

الحقيقة أيضا أن مصطلح الجيل الجديد أو الكتابة الجديدة يحتاج إلى كثير من التأويل فقد أتحدث عن كتاب التسعينيات والألفية الجديدة بينما قد يتحدث آخرون عن ماقبل ذلك بقليل، وبصفة عامه أتفق أن الحياة الثقافية كانت تحتاج لمخاض كبير لم يستطع أن يفعله الشباب عبر كل أشكال الميديا، كالإنترنت والتليفزيون والإذاعة والنشر والمجلات، وأصبحت الكتابة والنشر يتسمان بروح ديمقراطية عالية حتى أن بعض دور النشر تنشر لمجموعات كبيرة من الكتاب معا سوء في مجلة أو كتاب، وأصبح هناك نوع من التفاعل بينهم وبين القارئ وهو مالم يكن موجودا من قبل ويضيف الكثير إلى هذه التجربة الثرية ، وأعتقد أن حرية الكتابة والنشر ستترك للسوق والقارئ بعد ذلك تحديد من هو الأفضل أو الأجدر بالقراءة، إنها الحرية بكل معانيها، وعلى الكتاب الكبار أن يشتركوا في اللعبة فليس هناك مناص من ذلك، كما أن الكتاب الجدد عل الرغم من أن الإنترنت كأحد أدوات الميديا هي التي اجتذبتهم في البداية إلا أنهم أيضا يحلمون بالنشر في الكتب والجرائد، إنهم لايرفضون أي شكل من أشكال الميديا بل يتعاملون مع جميع وسائلها.

السرد الروائي في كتابات الشباب يتسم بالغرائبية والنحو باتجاه تناول قضايا ليست بالجديدة ولكن بأساليب أكثر تحررا عن ذي قبل ، ولعل روايات مثل سرير الرجل الإيطالي لمحمد العزب وفاصل للدهشة لمحمد الفخراني وبابل لنائل الطوخي تمثل هذا الاتجاه المبني على الغرائبية ومحاكمة الواقع العشوائي والاغراق في الجنس والفيتشية كل ذلك مما يؤكد على ماذهبت إليه.

كما أن أغلب المبادئ السردية يمكن هدمها بسهولة فلم تعد هناك مبادئ أو قواعد للكتابة، كل ذلك أثر من آثار الماضي في ظن أغلبهم، ولعل روايات أورهان باموك قد تركت هذا التأثير مثلا أو ساراماجو، أو كتاب أمريكا اللاتينية، لدرجة أن بعض الكتاب الشباب في أعمالهم يحاكون أساليب السرد نفسها والصيغ التعبيرية التي يستخدمها هؤلاء؛ إن هذا لمما يؤكد على أن هناك انفصاما يكاد يكون شبه كامل بين الأجيال الجديدة وبين الأجيال السابقة من الروائيين المصريين لأسباب تتعلق بقيمة الأجيال السابقة في نظرهم ولارتفاع قيمة الآخر من جانب ثان، وهو في ظني سيكون واحدا من أخطر التأثيرات على الرواية المعاصرة المصرية، لكن أيضا لن يستمر ذلك طويلا في ظل الانفتاح والليبرالية والتحولات الديمقراطية المستمرة.

عودة إلى الفهرس

شهادة الكاتب الكبير الأستاذ محسن يونس

رؤية السارد لعمله

الكتابة رسالة حضارية نبيلة .أنْ تبدعَ فأنت فنانٌ ..أن تكتبَ فأنت تؤدي رسالة سامية وتمارس وجودك بوعي ، وتتجاوز ذاتك لتلتحم بالآخر أفقيا وعموديا وزمكانيا .الكتابة فعل إنساني قيْمي يمارسه المثقف ،الكاتب الحر، الناقد لمسيرة مجتمعه ،نقْدٌ صادقٌ بنّاء غايته التغيير إلى ما هو أصلح ..الكتابة الحرّة تنقد الخطأ باعتباره سلوكا مُضرّا بالذات والغير كيفما كان الخطأ ومهما كانت قيمة ومرتبة فاعله ..الكتابة الحرة تبشر بالخير وتزرع الفرح والمحبة ، وتفضح الظلم والتحيّز والقهر والعدوان .. الكتابة وفق ما سبق تتجلّى أهميتها في ضبط وتنسيق الإنتاج الفكري ، ليكون سندا ودعامة في التنوير ورفع مستوى الوعي والفكر للإنسان ، والسموّ بالتذوق الجمالي والإحساس به في كل الكائنات ، والإحساس بالمسؤولية ، وتحريك إمكانات الفرد والجماعة لممارسة المسؤولية التي كلف بها الله سبحانه وتعالى الإنسان واستخلفه في الأرض من أجْل أدائها ، ولن يكون لوجوده على الأرض أى معنى إلا بتأدية هذه المسئولية ، إن الإنسان يحيا داخل المجتمع وبواسطته بما يوفره له من شعور بالوجود ، إذ الإنسان مدني بطبعه حسب مقولة العلاّمة ابن خلدون ؛ وبما يتيحه له من ممارسة حياته وتوظيف إمكاناته وطاقاته ،وبما يوفره له من أسباب العيش . . الكتابة فعْل واعٍ وليست نشاطا مجانيا فى الفراغ ، هى فاعل وفعّال من وعن حالات المجتمع ، وترجمة لأفراحه وآلامه، وكشْفٌ لانتصاراته وهزائمه،وإضاءة لمستقبله وتوثيق فكري للآتين ، وكلما كانت الكتابة ” واقعية” ، والواقعية هنا لا بمعنى التسليم للواقع أو التقاطه صورة طبق الأصل ، بل بالمعالجة الواقعية ، ومحاولة إعطاء شحنة مقوية لإعادة الإنسان إلى وعيه المتوازن ، بأسلوب فني راقٍ كلما ازداد شفافية ، كان أدْخلَ إلى القلب وأفْعلَ في النفس .

إن الكتابة هي قضية الإنسان الواعي الذي يعايش قضايا عصره لا كمتفرج ولكن كفاعل ، لأن الكتابة سلطة تمارس وظيفتها في التنوير وفي التوجيه آنيا وتستشفّ الآتي فتنير له الدرب .. والكتابة ليست بالأمر السهل ، بل هي نشاط فكري مُضْنٍ يتطلّب الكثير من الجهد والتوتر العصبي والأرق والبحث الدؤوب المتواصل ، من أجل العثور على الفكرة وتنظيم العبارة وتكوين النصّ كيفما كان جنسه ، وصبّ ذلك في قالب أخّاذ يستهوي المتلقّي ويمتعه ويبعث في نفسه الراحة والأمل .ولا يتصوّرنّ أحدٌ أن الكتابة مطواعةٌ تنصاع في كل لحظة ، وبالإمكان الإمساك بها كلما رغبنا ،  وتنقاد لأيّ مخربش بسهولة ، وقد قال الجاحظ قديما :

  (المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدويّ والقرويّ و…..) لكن مَنْ يلتقطها ويقدمها لنا ثمرة ناضجة يانعة ؟

من هنا أبدأ وأقول : كنت وما زلت أحب القصص – أى السرد – ، ذلك لأن الماء والسماء كانتا متعانقتين حيثما أولى وجهى ، فهل لذلك علاقة بما قلت من أننى أحب القصص أى السرد ؟

 بين الماء والسماء توجد يابسة فوقها ناس ، اكتشفت حين تم لى الوعى بما حولى أنهم يجعلون للماء والسماء كل الحضور لديهم ، فها هو الواحد منهم ينظر للسماء مدة مفكرا ، ليعلن بعدها أن الآوان قد صار مواتيا للخروج إلى الماء ، وربما فى أحد هذه المرات التى يتطلع فيها إلى السماء يكتشف خبرا آخر، فيهيب بالآخرين أن يلزموا اليابسة ، فهناك ” نوة ” فى الأفق، كنت أرى السماء حيادية ، وأندهش من جرأة هذا على التأكيد بيقين لا يقبل أى ذرة من شك ، أن الرياح سوف تهب ، وأنها ستكون عاتية ، محددا أيضا اتجاهها وتعلمت أن الطبيعة يمكن قراءتها ، مع أنها غشوم ما زالت ، وسوف تظل ، ينبغى التعامل معها بحكمة وفهم ، بأفق واسع ، كانت حياة هؤلاء البشر الذين نشأت بينهم قصة تولد نفسها ، وليس لها من انتهاء ، أثناء العمل كانت الحكايات كتاب الراحة من العناء ، وكانت تتركز حول إشاعة عن فعل أحدنا الشبق ، وتأتى أسماء النساء ، يتجلى فيهن حضور الاجتماعى ، وما هو طبقى وتأتى الأسرار منفلتة من سريتها إلى العلن ، ثم تأتى الشكاوى من الحياة نفسها، وتأتى السياسة أيضا ، وتحط بثقلها على الألسنة ، ولا شىء يمنعها من خوف ، أو تحرز فنحن بين ماء وسماء ولا يوجد أى ممثل للسلطة على المراكب فى رحلة الصيد ، كما أننا بعيدون عن اليابسة محط كل شر ، ولا تأتى الأغنيات إلا على شكل همهمات تستغل للتحفيز على مواصلة العمل ، لا شىء إلا العمل ، وكل ما كان هو تكأة لا أكثر ، أكتشف الآن أنه لم يظهر على يابستى شاعر ، وأندهش ، فأنا أعرف أن أى جماعة تنتج شاعرها إلا جماعتى ، وهذا ليس قدحا فى الشعر ، فأنا أحبه ، وأقف هازا رأسى عندما أرى كثيرا من الشعراء قد تحول إلى كتابة السرد .. هل السرد فيه سحر يجذب هؤلاء إلى مملكته ؟

أهلى وعشيرتى إذن كانوا من الحكائين العظام ، حتى لو أخبرك واحد منهم بخبر ما ، فسوف يقدم ويؤخر ، ويومىء ، ويمثل ، ليصلك الخبر وأنت تفتح فاهك دهشا ، فقد استحوذ عليك كليا ، ويثيرنى هذا العنوان ” أسئلة السرد ” وأحاول تأمله من زاوية أخرى غير تلك المقصودة بطرحه النقدى والجمالى مع تغير موجات من يكتبون السرد ، ومحاولتهم الواجبة أن يكون سردهم مغايرا ، والمغايرة مطلوبة بل حتمية ولا فكاك من حتميتها ، فأبواب السرد تفتح لتسلمك إلى باب آخر عليك فتحه فتفاجىء بباب آخر عليك فتحه ولا يعطيك العمر وقتا كافيا لفتح كل الأبواب، ولو عشت إلى الأبد فلن تنتهى إلى الباب الأخير للسرد أبدا ، أحاول أن أتأمل مقولة ” أسئلة السرد ” من منظور الماء والسماء ، فأما من ناحية الماء فيحضرنى شيئان ، الأول ما كانت أمهاتنا تفعله عند ميلاد طفل ، فيأخذ خلاصه فى آنية ، ويوهب للماء ، بعض القبائل فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يدفنون هذا الخلاص ، ولكنا نهبه للماء ، ويحضرنى هنا – وهذا هو الشىء الثانى – ما كتبه ميرسيا إيلياد – فى كتابه صور و رموز – ترجمة حسيب كاسوحة  ، حيث كتب : ”  ترمز المياه إلى مجموعة القوى الكامنة ، وإلى جملة الإمكانات الكونية .. إنها الينبوع والأصل ، وأنها الحوض الذى يضم كل إمكانيات الوجود ، وهى تسبق وجود كل شكل ، وتدعم كل خلق ، يشار إلى أن الصورة النموذجية لكل خلق هى الجزيرة التى تظهر بصورة فجائية وسط الأمواج ، وبالمقابل يرمز الغطس فى الماء إلى الارتداد إلى حالة سبقت تشكيل الشكل ، وإلى استرجاع وضعية غير متميزة وغير واضحة المعالم سادت قبل الوجود . إن الطفو فوق سطح الماء يستعيد فعل الخلق الكونى المتمثل فى ظهور الأشكال ، وأما الغوص فى الأعماق فيوازى انحلال الأشكال ، لهذا تتضمن رمزية الماء الدلالة على الموت وعلى الانبعاث على حد سواء .  “

أما من ناحية السماء فهى الأفق الذى ينحني على الماء محتضنا يمكن له أن يمطرها برزازه وشمسه ورياحه باعتدال طقس أو بأعاصيره ، هو الروح التى تظل تسعى ولا تهدأ أبدا ، فى مفهومى هذا المتواضع للسرد يمكننى أن أزيد وأفسر حالتى أنا كاتب هذا السرد والواقف كإنسان على جزيرتى بين الماء والسماء ، ينبغى على السارد أن يكون فى حالة كتابة دائمة حتى لو لم تتحقق هذه الحالة لتصير ورقا خطت على وجهه رؤية السارد لهذا العالم ، كما تلازم القراءة الكتابة تتعانق الحالتان ، وقبل التحقق أخرج بصفتى السردية للناس ، أثرثر كثيرا ، وأثير الكثير من الأسئلة ، وأرفض الإجابات النهائية وكأنها تمتلك الحقيقة ، وهى لا تمتلكها ، ويكون الجدل مستمرا لأنه يبدو أن السارد يحتاج إلى المعرفة ، وهو يحتاجها بالفعل قبل الشروع فيما يسمى بالتجربة الإبداعية .. فى كثير من الأحيان لا تكون هناك علاقة بين ما أقرأ وبين الثرثرة والمشاكسة ، وبيم ما يتحقق على الورق ، إلا أن حالة ” البحث ” و ” الدهشة ” و ” التأمل ” و “ّ الانغلاق ” و” التفتح ” تلازم السارد فترة من الزمن ّ، ثم تأتى الكتابة بعد أن تكون قد أحاطت بى ، ولا فكاك منها ، وهذا سر خاص بالسارد ، يحاول أن يفض غموضه ، إلا أنه ينسى أن يضع له إجابة أو يحاول صناعة إجابة تجعل هذا السر يخرج من قمقم السرية إلى العلانية ، شىء آخر – مهم جدا – قبل الشروع فى عملية الكتابة لابد للسارد أن يحيط بكل ما يريد أن يسطره .. لا يبدأ الكتابة باقتحام المجهول بأول جملة تكتب .. هذا مؤجل لما بعد ، يعرف السارد أنه سوف يأتى إذا كان صادق العزم ممتلئا بحزن جميل وتوفز أصيل ، طال توتر القوس ، وعليه أن ينفك من عقدته وينطلق بعد معرفة موضع قدمه وموضع رأسه ، يحاول السارد مجاهدة كل هذا ، ويبقى مع هذا سر العمل الكتابى الذى تقوم قيامته على الورق .. إذن يلزم السارد فى هذه اللحظة قلم وورق وفكرة طال بها معاركته ، وتظل تطارده إلى أن يصرخ ، فقد جاء وقته وأمسك أخيرا بها وعليه أن يبدأ ..

هل يخرج السارد عن هذه القاعدة ؟

قد يحدث – رغم هذه القاعدة استثناءات ، فجأة بلا مجاهدة ، فقد يكتب السارد أعمالا لمجرد الخروج من التوتر ، والغضب ، ولا يهم المكان .. حجرة هادئة أو مقهى يعج بضجيج الحياة ، إذا قلنا مع “أرنست فيشر” فى كتابه الهام ” ضرورة الفن ” إن المضمون تقليدى بينما الشكل ثورى ، يجابهنى فورا سؤال جاءنى من القائمين على أمر هذا المؤتمر والشعار الذى رفعونه ” أسئلة السرد الجديد ” توقفت قليلا إلى أن تذكرت ما كتبته مارى تيريز عبد المسيح فى مقال يحمل عنوان «فضح الذات البطولية» كتبته وجاء فيه: «وصل الفن القصصي في مصر في السنوات الأخيرة من القرن العشرين الى حال من الأزمة والالتباس، اذ بدأت الأجيال الجديدة من الكتّاب المصريين ترفض الفرضيات التي كانت سائدة خلال فترة ما بعد الاستقلال، وهي تعتبر ان الكتّاب والفنانين هم رسل الأمة، وأن الفن حالة من التجلي.

ومنذ مطلع التسعينات بدأ الاهتمام يتركز في شكل متزايد على مكان الكاتب، وعلى الأبعاد «السياسية» للسرد – على رغم عدم التوصل الى اتفاق على تعريفه. وفي نهاية المطاف، بدأت «السياسة» تعني قلب كل المعاني الثابتة الناشئة عن السياسات الرسمية والأعراف الاجتماعية. ففي هذا النوع من الكتابة يوجد دائماً صراع بين النفس والمجتمع، والتلقائية والنظام الاجتماعي، ويكون الاهتمام قليلاً بالشكلية أو الرمزية والمرجعية التاريخية، مما ادى الى انفصام تام عن اعتبار اللغة «مقدسة».

إلا ان الكتابات لا تتسم بالفردية مع أن الكثيرين يلجأون الى مساءلة الذات، وكشف صورة الإنسان الواثق بنفسه في الأعمال السردية التي كتبت قبل عام 1967. إذ يتداخل صوت كاتب السيرة الذاتية بصوت الراوي، فيعكس الصوت المضاعف ازدواجية في الأعراف الاجتماعية التي اصبحت راسخة.

إلا انه لا يمكن اختزاله كذلك لاعتباره مجرد نقد للأعراف الاجتماعية او السياسية المتباينة. بل اصبح يتناول المواضيع التي حظر التطرق إليها منذ زمن بعيد بقصد او من دون قصد، ويتطرق الى المعضلة الوجودية، والخيارات المتناقضة او علاقات الحب المتضاربة، وقلب رأساً على عقب ما كانت وسائل الإعلام تصوره على انه بطولة أو رومانسية. ويبحث في العلاقة التي تربط بين الحب والعنف، وبين الحب والكراهية، وبين اللوعة والمتعة، والمواقف الاجتماعية إزاء العلاقات الجنسية، والصعوبة التي تكتنف اقامة علاقات غرامية تتجاوز القوانين الاجتماعية. ويصف الغموض واللبس بين الخيال والرؤية بعدما اصبح الفن السردي يعتمد اللغة البصرية، والتناقض بين «البصر» و «البصيرة».

وفي النهاية، يمثّل هذا الانشقاق أزمة الفن السردي الذي تخلى عن علاقته المرجعية مع «الواقع» ليصبح نشاطاً يومياً ضرورياً، بل نشاطاً سياسياً مستتراً. ومع الكشف عن الأقنعة التي تغلف النفس – وكذلك دولة الحزب الواحد – فإن الكتابة الجديدة تفضح النفس الموحدة البطولية، الفكرة الاستبدادية للأمة، والصوت الواحد.

أدرك هؤلاء الكتّاب الشباب الصعوبة التي تكتنف وضع الحياة في إطار واحد. فتخلوا عن الحبكات المحكمة التي تشمل عناصر مترابطة منتظمة، ليصوروا العناصر المشتتة، المراوغة والطارئة التي تشكل الحياة اليومية. أردت بهذا النقل المطول بعض الشىء أن أقول إن الإيمان بقدرة الساردين الآخرين على تجاوز ما وصل إليه السارد كاتب هذه الشهادة هو إيمان كالعقيدة تماما ، ورجوعا إلى استكمال شهادتى الشخصية ودخولا إلى معترك الفن والسحر أقول إن القصة تعنى لى كتابة مستحيلة تتحقق بنفس كنه هذا المستحيل ، تخرج عن شروطه لتقيم شروطها الخاصة ، وهذا المستحيل شرط يصبح سهلا ميسورا وممتلكا حينما تكون القصة ممتلئة برؤية غنية وثابة مستقبلية غير تبعية أو تقليدية ، كما أن عقيدتى الفنية تعتقد أن القصة هى ساحة التجسيد ، وأعدى أعدائها هو التجريد ، إذن القصة عندى هى حياة لها إيقاع التشابك والأفعال الحادة الصاخبة والسرية رغم ذلك ، ولا أعطى تلك الروشتة أهمية والتى يقولون إن القصة لا تكون قصة إلا بها : شخصية واحدة – موقف واحد إلى آخر تلك التعليمات .. أنظر إليها – هذه الروشتة – إنها ضد عقيدتى – إنها تحمل داخلها وضعية جامدة غير قابلة ومعترفة بالتطور وقدرة الفن على التجاوز دائما ، خاضعة داخل حلقة ميتة لا تنفك عن ذلك التجلى الدهش المستحيل عبر بلاغة غير الممكن عندما يتحقق .. القصة عندى هى الفارق بين ما تراه العين وتسمعه الأذن ويحلله العقل بشكل العدسة ، وبين ما لا تراه العين وما لا تسمعه الأذن – وهو الأكثر وجودا وحضورا وأهمية وصراع العقل الفنى فيما هو الأكثر غيابا ، إذن أنا أهتم بما بعد تلك الرؤية ، أحاول كسارد أن أكتب رؤيتى لما أرى وأسمع ، لا ما أرى وأسمع ، وأرى أن تكون قدما السارد على الأرض ( الأرض – الواقع ) ورأسه فى السماء ( السماء – الخيال ) لى بيئة يعيش عليها وفيها ناسى الذين أنتمى إليهم ولا أستطيع خيانتهم – لا دهشة من قولى – فإن الكتابة لدى السارد إلتزام ليس بالمعنى السياسى ، بل بالمعنى الكامل المحتوى إبتعادا منه عن الدعائية المشمولة بالتسطيح ، وضيق الأفق وقصر النظر  ، فالسارد ليس ابن بيئته فقط ، بل هو ربيبها داخل مسرح مؤثراتها ، الشاهد عليها فى تحولاتها ، شهيدها كذلك ، للسارد بيئة أى أن له رمزه الذى يتميز به ثقافيا ، البيئة هى التى تستنطق السارد وتخرجه من معطفها المادى الرحب والغنى ، السارد نشأ فى بيئة صيادين وتجار أسماك وفلاحين ، عائلات تنتظم فى منظومة عقائدية وموصولة بتراث موغل فى القدم تحيط هذه البيئة بحيرة هى البداية وهى كل ما فى غيب مستقبلها ، وكل الكامن فى حاضرها .. كل الحكايات والقصص والمسكوت عنه فيها وعنها .. هل للسارد أن يخون رمزه ؟! هل لى أن أخون رمزى ؟! بالطبع لا .. السارد هنا يقترب من توضيح مفهومه للواقعية مع إعلاء ما كتبه جارودى من أن الواقعية بلا ضفاف .. رمزى يمتلك خيالى ، وخيالى يمتلك سمائى ، واقعى يمتلك خيالى ، خيالى يمتلك واقعى .. منظومتى إذن هى غرائبية هذا الرمز وقدرة هذه الغرائبية على استنطاق رمز قارئي المستخفى داخل ذاته فيرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع فى واقعه ..

هنا آراء في الكتابة المصرية الجديدة على لسان ساردين جدد:

صفاء النجار

الإنتاج الأدبي في مصر الآن هو إما طريقة للتنفيس عن الحال الشعورية لمن يكتب أو نوع من الرفاهية الفكرية التي لا تتماس مع الواقع بل تتعالى عليه. لذا هو أدب «غيتو» غير فاعل او مؤثر في الحراك الاجتماعي أو السياسي.

هناك كتابة جديدة على مستوى الشكل والمضمون لكنها تحبو داخل «غيتو» المثقفين فقط، ولا تهتم بنشرها سوى دور نشر خاصة صغيرة ولا يطبع منها سوى عدد محدود (ألف نسخة على أقصى تقدير) في حين تدعم المؤسسة الرسمية نشر الكتابات التقليدية التي تحافظ على ثوابتها.

مصطفى ذكري

ودّعت الكتابة الروائية الحديثة في مصر القضايا الكبرى التي كانت محط نظر الجيل القديم.

لا وطن، لا انكسارات وهزائم جليلة، فقط كتابة بكل ألعابها الشكلية. وإن كان لا بد من أوطان وانكسارات وهزائم، فهي أوطان الجسد وانكسارات الروح وهزائم الرغبة. إنها كتابة نستطيع أن ندعوها بالوجودية العائدة العارية من زهو ألبير كامو القديم. كتابة تنتمي الى الفرد، وتنفر من الجماعة، وتعتبر السياسة والتاريخ والاجتماع من الموضوعات المشبوهة.

ابراهيم فرغلي

نجح الأدب المصري الجديد في السنوات الخمس الأخيرة ان يقتحم آفاقاً ارحب، وبدأ كـــــل كاتــــب من كتّاب جيل التسعينات بالبحث عن مشروعه الخاص. الآن هناك كتابة تبحث عن اسئلة جمالية خاصة كما في كتابة مصطفى ذكري، وبعضها يرصد حياة المهمشين في محاولة لكسر صورة البطل التقليدي لمصلحة العادي والهامشي كما في كتابة حمدي ابو جليل وياسر عبدالحافظ او محاولة كسر صيغ السرد التقليدية الى لغة متشظية تعبر عن تشتت الفرد في الواقع المعاصر كما في كتابة احمد العايدي او احتفاء بالحسي في شكله المعاصر بحثاً عن صوت إنساني يمقت النبرة الذكورية الشائعة كما حاولتُ شخصياً في «أشباح الحواس». وهناك تجارب جديدة تتخلق بأفكار وصيغ سردية غير تقليدية كما في أعمال منصورة عز الدين وصفاء النجار وحمدي الجزار. وهو ما يبشر بعوالم روائية غير تقليدية ستظهر مستقبلاً.

منصورة عز الدين

أهم ما يسم الكتابة الجديدة في مصر – إن جاز لنا استخدام هذا التعبير – هو التوق الشديد لتجاوز الواقع، إما عبر مزجه بالغرائبي أو عبر السخرية الشديدة منه وتحويله مسخرة، أو التعامل معه بحياد مطلق.

تتسم الكتابة الجديدة ايضاً في معظمها بالتجرؤ على الكثير من المسلمات القديمة، وإعادة النظر فيها، سواء أكانت مسلمات سياسية او دينية او اجتماعية. ولكن من ناحية اخرى ثمة غزارة شديدة في الإنتاج الروائي، هذه الغزارة مع عدم وجود فرز نقدي حقيقي ربما تدفع الرواية الجديدة في مصر الى مأزق كبير، خصوصاً ان سهولة النشر ادت الى تجرؤ بعضهم الى فن الروا ية من دون توافر الموهبة او الدراية الكافية بتقنياته وأساليبه.

لكل سارد أن يؤمن بقضيته التى يرى أن يعلنها على الناس ، ولكن الملاحظ أن تكريس القطيعة بين عوالم السرد ، وتلك المحاولة المستميتة والشيطانية فى تقسيم السرد والساردين فى عقود زمنية مدة كل عقد كما هو معروف عشر سنوات ، تتجاور هذه المحاولة مع محاولة أخرى أشد منها شيطانية ، وهى تقسيم البلاد إلى قاهرة وأقاليم ، إلى أى شىء تكرس هذه المحاولة أيضا ؟ يقول المنظمون لهذا المؤتمر بالعودة إلى الأدب ، البحر ملآن وليس بفارغ على امتداد الخريطة ، والسرد خاضع لمعطيات واقعية وتاريخية ، يكون السارد داخلها يعاركها وتعاركه ، لا يقفز قفزة فى الظلام ، ولكن يبقى اجتهاده أصيلا ، وليس عليه فى هذه الحالة أن يفرض طريقته الخاصة فى السرد منحيا اجتهادات الآخرين تحت أى ادعاء ، فالقراء المتابعون والمحبون لقراءة السرد يبدون فى هذا الادعاء غائبون ، وهم الذين ينبغى على السارد أن يكونوا محل اعتباره ، بعيدا عن دعاوى التطور أو التنظير البعيد عنهم ، فأنا لم أر دراسة تهتم بالقراء ومدى ارتباطهم بشكل سردى معين ، أو دراسة فى تلقى عمل سردى وكيف ولماذا حاز القبول ، كما أننى هنا أريد لمؤتمر يشارك فيه جمهرة من الكتاب أن يكون مؤتمرا نوعيا ، بمعنى أن المؤتمرين الذين يمتهنون مهنة الإبداع عليهم أن يناقشون مشاكل الإبداع ذاته ، وكيف يوسعون رقعة القراء ، إلى جانب مشاكل النشر والتوزيع بجدية واهتمام أكبر .

هذه شهادتى التى لا ألزم أحدا باعتناقها ، ولكنها قابلة للحوار المثمر فى مواجهة هذا التشرزم والتباعد بين الكتاب ، وكل منهم يركب جزيرة فى بحر واسع ..

هذا وعلى الله قصد السبيل ..

عودة إلى الفهرس

شــهاده إبداعيــة، للروائي : أحمد والي

ككل البشر فى مرحلة النضوج والولوج من الطفولة للرجولة تمتلىء الجوانح بالحاجة للشعر.

” الشعر ضرورة وآه لو أعرف لماذا ”  جان كوكتو

أنا أزعم أن سبعة مليارات البشر حاولوا كتابة الشعر، بل أزعم أن كل الكائنات حاولت كتابته . . أليس هديل ذكر الحمام فى أذن أنثاه شعرًا؟!

حتى الكلب إذا لمح أنثاه تحرك ذيله برقصة أجمل من رقصة الفراشات فرحًا بها لأنه يريد أن يقول بيتين من الشعر.

وحتى النباتات . . فعباد الشمس يميل بقرصه مع حركة محبوبته الشمس!

والصفصاف . . آه من الصفصاف ومن أ.ع حجازى:

وصفصافة

على شبَاكك الحرّان هفهافه

وكنت بحافة المخدع

تردين انبثاقة نهدك المترع

وراء الثوب

وشاعر آخر:

مالت على الماء الغصون كما انحنت    * * *     أمّ تعانق طفلها المحبوبا

والأحجار، حتى الأحجار

” صخرتان تحابتا فغار الماء ”                  رينيه شار

أنا واحدّ من هذه الكائنات الشاعرة . . وأتذكر الآن يحيى الطاهر عبد الله وإهداءه لى نسخة من مجموعته المعنونة ( حكايات للأمير حتى ينام ) إلى ابن الشرقية البار . . وسيفها البتار . . الشاعر الجبّار أحمد بك والى.

كان الشعر عشقى فكنت أنسخ وأنا فى المرحلة الثانوية بخط يدى دواوين كاملة أستعيرها من دار الكتب بالزقازيق لأننى غير قادر على ثمن شرائها فنسخت دواوين للأخطل الصغير وإبراهيم ناجى وعلى محمود طه ومحمود حسن إسماعيل والشابى وجبران وصلاح عبد الصبور ونزار قبانى والعظيم محمود درويش . . فلما التحقت بطب القاهرة قادتنى قدماى لقريب لى يسكن إحدى حارات السيدة زينب وكان معى جنيهات ثلاثة كى أشترى حذاءًا شعبيًا بعد أن فُتق الحذاء الوحيد الذى أنتعل فوجدت أمام بابه مخزن كتب قديمة لعجوز اسمه الشيخ على خربوش فلم أملك نفسى عندما سألته عن ديوان المتنبى شرح البرقوقى والذى يربو على الألف صفحة فقال جنيه واحد بس، فأخذته بحضنى ومعه سُقط الزند للمعرى وديوان إمرىء القيس بجنيه آخر لكليهما، أما الجنيه الأخير فكان من نصيب البحترى.

تخيلوا بثمن حذاء فقير اشتريت دواوين لا أعدل مال الدنيا ببيت واحد فيها . . فالله الله يا أبا الطيب، إذ تخلص الفتى الغضّ من أوهام الحب وهوس الرومانسية . .

وما الحب إلا غـرّة وطمـاعةٌ    * * *    يعرّض قلبٌ نفسـه فيصـاب

أعز مكان فى الدنا سرج سابح    * * *    وخير جليس فى الزمان كتاب

ذلكم هو الشعر، فما هى إذًا حكاية القصة معى ؟

أنا إنسان بسيط وابنُ إنسان بسيط وفقير كان يعمل موظفًا بسيطًا بالسكة الحديد . . . وكنا سبعة أبناء، اثنان بكلية الطب واثنان بالصيدلة وواحد بالآداب وأخرى بالحقوق وصغير يحبو هو الآن مستشار بوزارة العدل . . وكنتُ شديد الولع بفيروز وكان يقتلنى الحنينُ فى آخر الليل وأنا عائدّ من صلاة الفجر أتأمَل البدر المنير أعالى الكافور المحيط بنهر مويس والذى يطلّ عليه منزلنا القديم، أموتُ حنينًا إلى صوتها وهى تشدو بواحدة من فرائد عقد الشعر العربى، وربما تكون القصيدة الوحيدة التى كتبها بالفصحى ابن الشرقية البار والشاعر الأكثر رقة وعذوبة مرسى جميل عزيز.

لم لا أحيا وظلُ الورد يحيا فى الشفاه

. . . . .

ليس سرًا يا رفيقى أن أيامى قليله

ليس سرًا إنما الأيامُ بسمات طويله

إن أردت السرَّ فاسأل عنه أزهار الخميله

عمرها يومَ وتحيا اليوم حتى منتهاه

سوف أحيا

من أين آتى بالمسجلة وليس لى قريبّ ببلاد النفط بل أنىّ لى أن آتى بمائة من الجنيهات وراتب أبى كان ثلاثين جنيهًا إلا قليلاً؟

وينقذنى إعلان صغير فى لوحة الإعلانات بكلية الطب عن مسابقة تجرى بين جامعات مصر فى القصة والشعر والمقال ومسرحية الفصل الواحد وقيمة الجوائز تسيل اللعاب: خمسون جنيهًا للفائز الأول وأربعون للثانى . . فى كل فرع . .  ولقد كان الهاجس أن الشعر العاطفى لا يحظى بالرضا لدى شيوخ المحكمين لذا اضطررت لكتابة قصيدة وطنية حتى تليق:

سائل التاريخ واقرأ ما رواه    * * *     واسأل الميدان عما قد رآه

حرةََ عاشت بلادى، شـعبها    * * *     لقّن العالم أسـرار الحياه

من قديم الدهر شيدنا الهرم     * * *     وبه نزهو على كـل الأمم

وحديثـًا قد بنينـا سـدّنا      * * *     بمداد الفخـر فاكتب يا قلم

وكان المقال ” غزلية فى عشق مصر ”  ودارت برأسى قصةٌ عشتها طفلاً . . كانت أمى تجمع ثمر الباذنجان وأقوم بحراسة أختى وهى طفلة تحبو، فلما نامت من الهدهدة فرشت لها ثوبى فى ظلة التيل حتى أحميها من نتوءات الأرض، وذهبت أجمع ثمرات نخلتنا العامرية العالية التى كان الغرابُ ينقر بلحاتها الرطب الطرَية.

ياغراب يا بو قطية    * * *     وقّعَ لى بلحة عامرية

لعملك فطيرة بزيت    * * *     وأحطها لك جنب الحيط

وبينما أنا عائدّ أتلذذ برحيق عسلها إذا بى لا أجد أختى حيث تركتها ولمحتُ ثوبها طافيًا فى القناة، ولم يأكل الرعبُ قلبى وإنما انسحق . . ورفعتها إلى حضنى فشهقت فعادت الروح لقلبى المسحوق وكان همى بعد أن اطمأن فؤادى وعادت لكلينا الروح أن أجفف ثوبها حتى لا تضربنى أمى . . .

وتاقت نفسى لأبى البعيد فى سرابيوم الإسماعيلية، هناك حيث يحرك عصا التحويلة الحديدية ليمرّ قطار صفارته دائمًا حزينة لأنها تذهب للبعيد بالأحباب.

عاشت أختى ودخلت كلية الصيدلة خلف مستشفى الزقازيق الجامعى، وكلما تقابلنا صدفة عند المكتبات أو بطرقات الجامعة يحمرّ وجهها فرحًا بى ويرقص قلبى الطرىّ الطفلُ الصغيرُ لأنها عاشت.

عندما كنتُ عائدًا أتأمل البدر المنير العالى فوق الكافور وأفكر فى فيروز تذكرت مطيعة التى هى كالبدر، فكتبتُ القصة لوحاتٍ بعناوينَ جانبيةٍ ثم أسميتها ” الحصاد ” لكنى فى القصة لم أنقذ أختى من الغرق ولم أنقذ الطفل الصغير الذى هو أنا من عجلات القطار ذى الصفير الحزين.

أخذت المركز الأول على جامعات مصر فى كل من الشعر والقصة والمقال وحصلتُ على المائة جنيه ويزيد . . وهكذا اشتريت آلة التسجيل وستصبح تلك هى المرة الوحيدة تقريبًا التى أتقاضى فيها أجرًا لقاء كتابتى حتى اليوم.

كنا نقوم بعمل ندوات فى كليات الجامعة وتعرفت على الشاعر حسين على محمد ابن ديرب نجم الذى احتفى بالقصة وزاد فى مديحها وتمنى أن تنجب الشرقية كتابًا آخرين بقامة يوسف إدريس.

لقد اجتهدت فى المرحلة الثانوية وأنا أذوبُ توقًا لأن أدخل كلية الطب لأصبح كإبراهيم ناجى شاعر الأطلال، فإذا بى فى منتصف الطريق أتخلى عنه وأحمد الله لأن إدريس كان هو الآخر طبيبًا.

كتبت القصة وبدأ الشعر يتوارى، لأننا لم ننجح فى علاقة حب كى نزكى نار الكتابة، وأنىّ للأولاد الفقراء حبٌ حتى من الفقيرات مثلهم واللواتى يتقن إلى زميل ثرىّ ؟؟

وهكذا استجابت القصة لمشاكلنا الاجتماعية فكتبت بعد الحصاد، موسم الفقراء، وأيام العائلة الكبيرة، واللباس التحتانى، وزمن الحرب، وقطار جميل أخرس !

وجاءت الأستاذة فريدة النقاش فى إحدى ندوات التجمع بالزقازيق فأعطيتها فى نهاية الندوة وعلى استحياء القصص الثلاث الأولى فنشرت إحداها بأدب ونقد وأرسلت فى طلبى إذ كانت إحدى صفحات ” أيام العائلة الكبيرة ” قد ضاعت وتريد أن تنشرها فى العدد القادم، وتلك كانت المكافأة الثانية، وهكذا أصبحت مجلة أدب ونقد وبعدها ” إبداع ” الدكتور عبد القادر القط بيتى الذى أشعر فيه بالونس.

تخرجت وعملت فى بلدتى طبيبًا وأصبحت مقلا بعد أن شغلتنى العيادة قليلاً، ولأننى بحكم انتمائى الطبقى لا أميل إلى أجهزة الحكومة ولا أثق فيها أصدرت مجموعتى الأولى ” ثلاث شمعات للنهر ”  عام 1988 على حسابى الخاص وبدأت أخسرُ من جرّاء الأدب لكننى كنتُ أكسبُ نفسى . . وكان فى الدنيا بقية من خير فاحتفى بعض النقاد (رغم بعُدى عن القاهرة) بالعمل وكتبوا عنه . . وفى منتصف التسعينات كانت قد اكتملت لدىّ من القصص المنشورة مجموعة أخرى أسميتها ” كائنات فائضة عن الحاجة ” وحاولت أن أنشرها فى هيئة قصور الثقافة إذ أصبح النشر الخاص مكلفًا والتوزيع غدا بالغ الصعوبة، ولم لا وأنا أرى كتابات غثّة ورديئة تملأ رفوف هيئة الكتاب فى سلاسل شاحبة لا تصنع كاتبًا ولا تشجعُ قارئًا . . . ونزل اسمى فى ترويسة آخر كتاب بالسلسلة العمل القادم ” كائنات فائضة عن الحاجة ” لكنها لم تنزل لأننى ببساطة بعيدٌ عن التربيطات والشلل والعنكبوت الذى كبّل الحياة الثقافية، وكانت جريرتى ليس البُعد فقط ولكن نفورى الشديد من الرياء وإطراء المشرفين . . وربما وصل رأىٌ قلته فى المشرف على السلسلة أننى لا أحب كتابته لأنها محايدة مائعة ينقصها الدفء . . وكان صعبًا أن تحب كاتبًا على بعضه بعد يوسف إدريس وإنما قصة من هنا وأخرى من هناك وقلتُ عن هذا الكاتب إن له قصة واحدة فاتنة هى ” مشوار ” فوصله الذم والقدح ولم يصله المدح . . فمُنع كتابى.

ودخلتُ فيما يشبه الأزمة النفسية بعد أن شكوتُ لأصحابى فنصحونى بالشكاية للمسئولين إذ ليست السلسلة عزبة أبيه فوضع المشرف استقالته من السلسلة قدام كتابى !

فى إحدى سهراتى مع الأصدقاء كنت أحكى مواقف وطرائف من بلدتنا ففزعوا من روعة الحكايات ” لماذا لا تكتبها ؟ “.

وكان اكتشافى لقصصى دائمًا عندما أحكى فيصفق عصمت النمر عجبًا ونحن فى سكن الأطباء بالمستشفى العام ” أليست هذه قصة بديعة؟ ” وهكذا أعود إليه بعد يومين لأقرأ عليه المسودّة فيرفض التعديل وينصحنى قائلاً ” العمل يُكتب نفسه ويختارُ شكله “.

استجبت إذا لنصيحته ونصيحة أيمن عبد الحارس، وكتبتُ قصص التنصت بألفاظها الحوشية الخارجة وأسماء الأعضاء الحسية بمسمياتها كما هى فى معجم أهل الشارع لا معاجم اللغة حتى لا أقطع الاسترسال عن نفسى وأنا أبدل وأغيرّ لتحتفظ الحكاياتُ بدفئها، وفى النهاية من الممكن أن نستبدل ونغيّر . . وخلال أسبوعين لا أكثر كنتُ قد كتبت قصص ” المتنصتون ” وكأنما أمتحُ من بئر يفيض . . وأسقط فى يد ثلاثتنا، لو تم تبديل الألفاظ لوقع العمل، وهكذا انتظرنا معرض الكتاب عام 1998 وأعطينا المسودة لصاحب دار رياض الريس . . وكان معى نسخة مصورة من ” كائنات فائضة عن الحاجة ” طلبها المشرف على سلسلة تصدر فى اتحاد الكتاب وقابلنا بالمعرض صدفة وألحّ علىّ عصمت أن أعطيها له فرفضتُ لأنه تجاهل الموضوع، وما كان قد انقضى سوى أسبوع بعد طلبه المجموعة ( أهو ماركيز حتى ينسى من هم مثلى؟ أم تراه يريدنى أن أفرك اليدين وأتوسل ثم أمتدح كتابته وبعد ذلك أعطيه القصص؟ ) وعدتُ من فورى إلى جناح رياض الريس وأعطيته المجموعة ليس من أجل النشر بل من أجل أن يتحمس لكتاب “المتنصتون ” فلا يعتقدنّ أنه بيضةُ الديك . . وكان فيما فعلتُ الإنقاذ إذ لم يمض سوى شهرّ على انتهاء المعرض حتى تلقيتُ هاتفًا من بيروت يفيد بأنهم موافقون على النشر بشرط أن يقوموا بضم الكتابين فى كتاب واحد لأنهم ملتزمون بحجم وصفحات معّينة وثانيًا حتى يفوتوا الفرصة على الرقيب، وهكذا خرجت القصص متداخلة متشابكة رغم اختلاف الموضوعات، لكننى رحبتُ بذلك الإجراء حتى أحوز اعترافًا جاء من عاصمة النشر بعد أن دعّنى بلدى.

وأشهدُ أن صدور الكتاب من هذه الدار أعاد لى ثقتى وبدأت أكتب الحكايات التى أتلوها من الذاكرة على أصحابى فكانت ” حكايات شارع البحر ” الذى انتهيت من كتابة مسوداته أواخر 2002 ، ودخلت الأمة العربية والعالم أجمع أزمة العراق فى مجلس الأمن الذى اكتسحت شرعّيته جحافل المغول الجُدد عام 2003 ، وفى التاسع من أبريل انسحق فؤادى الطفل الصغير الذى غرقت أخته وهو لاهٍ وكنت حسبته قد برأ . . فواها لما جرى لك يا عراق السيّاب وواها لما جرى لك يا بغداد الرشيد.

أشرفتُ على حالةٍ أشبه بالجنون من شدة العجز والضعف والهوان . . وما كان أمامى سوى أن أبيّض مسودات الحكايات لأتناسى قليلاً ما جرى لبلاد الألف ليلة، وأتناسى عذابات شهرزاد.

وأعطيتُ المخطوط لرياض الريس فى معرض 2004 ، وبعد شهر اعتذروا . . وكان السبب أن الألفاظ هنا أكثر من التى وردت فى ” المتنصتون ” الذى منعُ فى معظم البلاد العربية (التقدمية منها والتأخرية) فياليتك تعيدُ النظر فى بعض الألفاظ. لكننى فشلت !

ونصحتنى الكاتبة والزميلة الدكتورة عزة رشاد أن أنشرها على حسابى فى دار نشر جريئة اسمها ” ميريت ” لتتكرر الأزمة بعد عام من الانتظار، وكانت حجة الناشر فى التعطيل أن رسام الأغلفة قد رفض لأن بها الكثير مما يخدش الحياء.

هل أصرخ شاتمًا لاعنًا كشاعر العراق الحزين مظفر النوّاب بعد نكسة 1967:

أعترف الآن بأنى مبتذل وبذىء

وحزين كهزيمتكم

يا حكامًا مهزومين ويا شعبًا مهزومًا

ما أو سخنا ما أوسخنا

ونكابر ما أوسخنا

لا أستثنى أحدًا

ما أوسخ كل الأشياء

ياحضرات الخجْلى . . أوبعد سقوط بغداد بقيت ذرةُ حياء أو حمرةُ خجل؟

تأزم الموقف وطلبت الثلاثة آلاف جنيه التى دفعتُها فماطل بدعوى أنه متحمس لنشر العمل شريطة أن أقوم بتغيير الألفاظ المسيئة المشينة وطلب وساطة الصديق العزيز والشاعر الرقيق عصمت النمر فوافقتُ على الفور ليقينى أنه لن يوافق على الحذف.

وهكذا جلس عصمت أمام الكمبيوتر وكنتُ قد أعطيته ثبتًا بالألفاظ التى اعترض عليها الناشران فلم تطاوعه أصابعه إلا بتبديل أربعة ألفاظ من أصل أربعين، أضاع بعض الوقت فى التدخين وشرب القهوة ثم خرج على الناشر ” خلاص يا عم محمد . . كله تمام ” فأُعطى أمرُ الطبع فى الحال . . وهكذا خرجت ” شارع البحر ” للنور بعد ثلاث سنوات من كتابتها . . ولقد تم تعتيم غريبٌ عليها من الجميع فلم يُنشر عنها خبر ولم يذكرها أحدٌ بسوءٍ حتى خشية أن يعرفها الناس . . أستثنى مقالين عظيمين للصديق الدكتور رشدى يوسف بأخبار الأدب تحت عنوان” تفجير قدسية اللغة ” والثانى فى جريدة المصرى اليوم بعنوان ” فى الأدب المصرى الجديد . . أحمد والى . . الكتابة على اتساع الصفحة ” للناقد الكبير النزيه فاروق عبد القادر الذى تتلمذنا مثل كثيرين على يديه إلا أننى لم أكن قد التقيته من قبل !

تم التعتيم لأننى لا أملك صحفة بجريدة ولا برنامجًا بقناة، ومع هذا فقد قرأ الكثيرون روايتى واحتفوا بها فتلقيت مكالمات تهنئة من أساتذة عديدين من مصر والقدس وزغرب وأمريكا، وأقمنا لها ندوة بالأتيليه عرفت خلالها أصدقاء مبدعين أعتز للآن بهم وأدلى الكاتب الجميل سعيد الكفراوى بشهادة أحسن من عشرات المقالات وهمس فى أذنى” لو كنت ستبيت الليلة بالقاهرة فاذهب من فورك باكرًا إلى مؤسسة ساويرس بالزمالك وقدم لهم خمس نسخ فالغد هو الموعد الأخير فى مسابقة الرواية ” فترددت لكنه شجّعنى . . ” أنا متأكد أنها ستكسب ثم إنك إن لم تفز فستكون قد كسبت نقادًا قرأوا ” وعملت بنصيحته ثم نسيت الموضوع حتى أعلنت النتيجة وفازت رواية أخرى لكننى تلقيت اتصالاً هاتفيًا على عيادتى من الأستاذة العزيزة فريدة النقاش تؤكد فيها أنها فرحت بالرواية كثيرًا وأنها والأستاذ فاروق عبد القادر أعطيانى أعلا الدرجات وكانت واثقة من فوزى إلا أن العضوين الأكاديميين قد وقفا ضدها بدعوى أن الألفاظ الخشنة ربما أطلقت الألسنة على المؤسسة وصاحبها فلم يجيزاها.

وكانت هذ المكالمة من الأستاذة التى نشرت لى أول قصة دون أن تعرفنى هى الجائزة !

وهكذا خلوت لنفسى من جديد لأكتب العمل التالى . . وفى تلك الأثناء تم ضبط عصابة تسرق الجثث من المقابر الجديدة ببلدتنا فعادت ذاكرتى لحادث قديم أوائل السبعينات حيث أقنع جارٌ لنا بطب الإسكندرية حانوتى البلدة أن يسرق له جثة يدرس عليها وبعد ذلك يعيدها إليه لدفنها وله على ذلك أجٌر يُجرى اللعاب وكان معوزًا وأبا بنات فوافق بعد تردد إلا أنه وقع فى يد العسس قبض عليه ومات فى المحبس قبل أن يصدر عليه حكم فاستلهمت من الحادثين روايتى ” ديار الآخرة ” عن سماسرة الأراضى ومتاجرى المقابر والجثث وحكايات عن موتى رحلوا وموتى على قيد الحياة بديار الدنيا.

ولبثت بضع أسابيع لعلنى أبدّل أو أحذف أو أضيف . . ثم جاءت حرب تموز على لبنان فجلسنا أمام شاشات الجزيرة والمنار ولم أتذكر العمل إلا فى نشوة الانتصار فقمت بتبييض المسودات وقلت فلتصدر من الدار التى نشرت أختها ” شارع البحر ” فلم ألق إلا التعطيل والتسويف عسانى أضيق ذرعًا ويعال صبرى فأدفع بالذى هو أحسن من الكتابة والكتّاب ألا وهو الجنيه أو الدولار إن وُجد . . لكننى أبيْت الدفع لأننى ضحيت فى الأولى من أجل أن تخرج الرواية كما أردت لها . . أما هذه فلن.

وبعد ما يزيد على العامين اضطررت إلى سحب العمل وقدمته إلى ناشر آخر مبدعٍ يعرف قيمة الكتابة، وهأنذا بانتظار الوليد الجديد.

ولازال فى جعبتى من الحكايات بقية إن كان فى العمر بقية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشهادة ضمن فعاليات مؤتمر السرد الجديد بمرسى مطروح عام 2008، رئيس المؤتمر خيري شلبي، أمين عام المؤتمر سيد الوكيل.

عودة إلى الفهرس

شهادة للكاتب الكبير الأستاذ عبد الفتاح الجمل، بقلمه..

محطات للوصول.. سيراً على الأقدام

لكم تساءلت: لماذا جاء ميلادى بالقرن من ساحة الحرب؟.

بسذاجة لم تكن هى التهور بعينه ،زعمت أننى جئت لأستل قلمى من بين الضلوع، لكى أطفئ لهيب المعارك فداست كلماتى على مواقع فى حياتى أحدثت إنفجارا أشبه ما يكون بدوى معارك الحرب العالمية الثانية!!.

لنعد إلى النشأة…

ولدت فى مدينة المنصورة يوم 21/3/1938 على إيقاع دبيب الراكضين فى هلع عبر الحوارى كانوا يحذرون الأهالى من اشعال أي عود ثقاب، صيحات قلقة، ملحة فى طلب نشر عباءة الظلام كدعوة صريحة للحفاظ على الأرواح من خطر الموت، بعد أن تقدمت جيوش المحور من “العلمين” وقاست بأس الألاف من جنود بريطانيا العظمى التى كانت تضع مصر تحت ما تسميه بالحماية.

أدركت مبكراً أننى لم أعتد على أحد حتى يرغمنى على ملء عينى بأشباح الظلام منذ طفولتى منة يدخلنى فى أثواب، هل يستطيع الإدعاء بأن ليل هذه الطفولة كان باسم القسمات؟

من يمكنه الزعم بأن البسماء كانت على ايقاع ذلك الواقع تضحك لى؟.

من رابع الامستحيل أن أضع توصيفاً خارج جغرافيا المكان، خاصة وأن من هم على شاكلتى لا يستطيع أحد منهم أن يصبح ذاتا مستقلة عن واقعها، وما أعرفه أنه إذا كانت هناك خصوصية في الثقافة فإن ذلك لا ينفى وجود الملامح المؤثرة فى عدد من الثقافات الأخرى، وهى التى تحفز فى الذات أوتاداً من نسخ الإنسانية، وعبير الروح.

ولكنى لا نبتعد عن المواد الخارجية التى ساهمت فى تكوينى.

أقول: ولدت لأب كان يعمل حدادا بورش السكك الحديدية، إمتلأ سمعى بقعقعة عجلات القطارات فى ذهابها وإيابها بالقرب من البيت التى ولدت فيه.

مشكلتى المبكره مع هذه القطارات أنها لم تنقطع عن أدوار الوصول ـ فى مختلف الأوقات ـ إلى بلاد لا أعرف إلى متى سأظل جاهلاً لمدن يعينها الله عند إقبال الصبح فيرتمى لملكوت السموات والأرض.

القطارات التى كانت تسير بقوة اشتعال الفحم وضغط البخار أغوتنى بالذهاب معها إلى مواقيت الشمس ، أى قطار ـ بعد ذلك ـ يخرج من المحطة كان مطاردا منى، ومن أصحابى، مرات ومرات، كنا نتراهن على الدخول معه فى سباق ، نراقبه عندما يلوح قادما من بعيد بصدره المنتفخ بالسواد.. من يفوز.. نحن أم القطار.

كم من المرات سبقناه .. كم مرة ضحكنا فيها على فشله ؟ فى زهو الفائزين وقفنا ـ على مسافة قصيرة منه ـ فى تحد .. كان يقبل ناحيتنا فى تهافت مثل دودة عجوز، وعندما يقترب نروح نعيد المسافة من بعيد، إذا لم يكن فى حياتنا شئ يبعث على السرور سوى اللعب مع القطارات والدخول معها فى سباق كانت نتائجه تأتى دائماً لصالحنا .

تحت عمود النور ـ (نقطة تجمعنا) ـ استعدنا مرارا خيبته حتى أفعمنا الإنتصار بنوع من الاعتداد بالنفس، ومن حيث لا أعلم أجدنى ـ فجأة ـ غير مبسوط، غير مبتهج، شارد الذهن، إنه يصل إلى بلاد لا نعرف شيئاً عنها، أما أنا لا عمل لى سوى إراقة الوقت فى استعادة ضحكة صارت لامعنى لها .

لمحناه قادماً من بعيد كأنه إنسان يمشى فى عرج .. صعد ثلاثة من أصدقائى إللى سلم العربة الثالثة .. كانت عربة السبنسة قريبة منى .. صعدت إليها .. نزل أصدقائى الواحد منهم تلو الآخر فى تهليل وفرح .. عندما حاولت أن أنزل مثلهم وجدتنى منطرحاً على ظهرى بعد أن داست آخر عجلة من عربة السبنسة على ذراعى اليمنى .

أول رصيف على شمال المحطة :

كأن القطار (وهو يمثل الزمن المتحرك) أراد أن يثأر منى، أن يعيد إلى نفسه شيئاً من الإعتبار ، أرانى كيف تكون نهاية الضحك عليه، لم يعد من المعقول أن يفكر مبتور الذراع فى التحليق أو التفكير فى الذهاب إلى المدن التى يصل إليها القطار، الأب والأم والأقارب رجحوا كفة عدم صلاحيتى للقيام بأى عمل، قال: أبى لن ينجيه من الغرق إلا القرآن، انتظمت فى صفوف مدرسة المحافظة على القرآن الكريم .

دونما إدراك منى ـ آنذاك ـ لكينونة المكان ومدى تأثيره فى الشخصية، أذكر أن المدرسة كانت تقع بين مبنى “جماعة الإخوان المسلمين” و”حزب مصر الفتاة” لكى أذهب إليها لابد أن أمشى من أمام الحزب الذى كان يشغل الطابق الأرضى من عمارة لا تزال حتى اليوم تتمتع بشكلها الهندسى الجميل .

أثناء المرور من أمامها كان يسترعى انتباهى لفيف من الشباب كأنهم جماعة فى خلية نحل لا يحكمها سوى الحركة المستمرة داخل الصالة المطلة على الشارع، كنت أحسدهم لأنهم لم يتذوقوا ـ مثلى ـ الآم عصا الشيخ إبراهيم عبادة بسبب عدم حفظ اللوح المقرر والذى ينتهى عند الآية التى قال فيها فرعون للنبى موسى عليه السلام “ألم نربِّك فينا وليدا ولبثت فينا من عُمرك سنينَ ؟!”.

حتى ولو ظل جرس المدرسة يرن فى غلاثة ـ كأنه ينادى على أنا بالذات ـ كنت أوهم نفسى ونفسى تقبل التصديق أن هذا ليس جرس المدرسة، لكنه جرس كنيسة الملاك الواقعة وراء المدرسة فى السكة الجديد .

فعلت مثل الذين كانموا هناك، سددت نظراتى إللى صفحات جريدة الحزب المفرودة على الجدران دون أن أعرف تناقضات الحركتين ـ الإخوان المسلمين، وحزب مصر الفتاة ـ فى المنطلق والعقيدة، كنت لا أعرف أن جماعة الإخوان المسلمين نمت جذورها من الدين الإسلامى، وحزب مصر الفتاة بأصوله من الحضارة الفرعونية ، الشئ المؤكد، وما شفته بعينى أن الرابطة التى تجمع بين الإخوان المسلمين كانت قوية، وتظل تتصاعد وهى تستمد حقها فى الوجود بقوة الدين.

أيام الهروب من عصا الشيخ إبراهيم عبادة لم يخطف بصرى، ويلهب مشاعرى إلا حركة شباب حزب مصر الفتاة، حين كان يرتفع بينهم صوت يستقر الجميع لكى يحتشدوا ويخرجون في مظاهرة، وبمجرد أن ترتفع عقيرتهم بالثورة والتنديد بأعمال الحكومة كانت الدكاكين والورش الأهلية تغلق أبوابها، ويسير صبية الورش والأسطوات مع الجموع حتى تنقلب شوارع المنصورة ـ من شدة الزئير ـ إلى وحش ضارى.

يعتلى شاب الأعناق، يلوح بقمص أبيض مضرجا بدماء طالب خرج فى مظاهرة أمس، أردته إدى الرصاصات قتيلا،كانت البندقية صناعة انجليزية، الرصاصة انجليزبة، اليد التى ضغطت على الزناد مصرية!؟.

تسألت فى سن النضوج : أمن الحكمة أن يموت الشجاع ويعيش الجبان ؟، ثم هل كان من الحكمة أن يعيش كيفما كانت الحياة، أم يظل يخضون أهوال لا الصراع ؟ من كان محمولا على الأعناق راح يهتف والمتظاهرون يرددون وراءه (جبل الطور اليوم بينادى .. ألقوا فىَّ عبد الهادى).

عرفت لأول مرة أن فى مصر حكومة موالية للإنجليز، وأن رئيس وزراؤها كان يدعى إبراهيم عبد الهادى باشا، وأنه أمر باعتقال من يخرجون على التظاهر وإلقائهم فى معتقل “جبل الطور”.

تحول هروبى من المدرسة إلى متعة سياسية وثقافية، أصبح الشارع صديقى ومعلمى قبل الكتاب، وحتى بعد أن عرفت حياة الكتب كان هو المورد الأول للمعرفة، كما أذكر له بالإمتنان والشكر سعة صدره لى حين استضافنى على إحدى التلتورات ومنحنى شرف الكتابة بين أسطوات دهان السيارات وميكانيكية على الطريق وأصحاب ورش متنقلة للسمكرة وضبط وإصلاح أبواب العربات .

هناك كتبت رواية “أولا المنصورة”، وكنت كلما فرغت من فصل رحت أقرأه عليهم، وكنت أشجعهم، بل وأرجوهم أن يقولوا لى رأيهم بلا حرج أو تحفظ، ولكم استمتعت إلى تعليقاتهم ـ فى حب ـ كتلميذ يتلقى درجات النجاح من معلمه(1).

العودة إلى خط فرعى فى محطة مؤقتة:

ذكرتنى أجواء مظاهرات الطلبة والعمال بتلك الأجواء التى كانت تسود البلاد فى عباءة من الظلام أبان الحرب العالمية الثانية، فى ذلك الوقت كنت فى سن المراهقة العمرية والفكرية، تمنيت أن أعود من تحليقاتى فأجد فى طريقى مخرجا سينمائيا له عشق بالشوارع مثلى، وأن يعهد إلىَّ بدور قريب الشبه من دور ممثل فيلم”سارق الدراجات”الإيطالى، طقت فى دماغى حكاية التمثيل بعد أن شاهدت “سفير جهنم” ليوسف بك وهبى، و”عودة الغائب” لأحمد جلال، و”ابن الفلاح” لمحمد الكحلاوى، و”أحمر شفايف” لنجيب الريحانى .

فى ذلك الوقت، اعتاد أبى أن يشترى يوم الخميس مجلة “المصور” بأربعة قروش، وكان يطلب إلىَّ أن أقرأها على سمعه، كان أول عدد اشتراه يحمل غلافة صورة البطل “عبد القادر طه” الضبع الأسود الذى قاتل اليهود فى بسالة وشجاعة حتى حاصروه فى معركة “الفالوجا” تابعت القراءة بعقل يسرح مع ميعاد صديقى رئيس فريق التمثيل بمدرسة الصنايع، كان دعانى فى نهاية العم الدراسى لمشاهدة العروض المسرحية التى كانت تجرى فى مسابقة فنية بين فرق المدارس المسرحية على مسرح الجامعة الشعبية “الثقافة الجماهيرية الآن”، كدت أقبل يده حتى يجد لى دوراً، أى دور، وقفت أمامه أرتجل بعض المشاهد من أفلام شاهدتها، كان ينظر إلى فى رثاء، حول جاهدا ألا يخدش مشاعري، وهو جالس وراء مكتبه فى الغرفة التى خصصها أبوه له ليمارس فيها هوايته.

لمحت على مكتبه مسرحيات لموليير، وأحمد شوقى،وبرناردشو، وتوفيق الحكيم، أعارنى هذه الأعمال قرأت بدون فهم أو استساغة، أكتشف أن القراءة تحتاج إلى تربية وجهد ومعناه، ولكن بالتدريب عليها يمكن للمرء أن يحصل على نوع من الإبتكار، ولكن كنت أتعجل الدور الذى سيرفعنى إلى قمة نجيب الريحانى.

باغتنى صديقى المسرحى بقوله والحرج يتملكه : ليس الفن تمثيلاً فقط، أبواب الفنون كثيرة، ممكن ترسم، ممكن تكتب مسرحيات، ممكن روايات … قصص …..، أذكر أنه قال: ونظراً لأن التمثيل بالذات يحتاج لمواصفات جسدية محددة، تحرج أن يقول بأننى بذراع واحدة، ثم استطرد : إنما يمكنك أن تقرأ، فالقراءة إبداع آخر، عندما تتذوق جمالياتها ستكون قد غرزت فى نفسك مجموعة من الفضائل، وقد يمكنك أن تعيد صياغتها وتقديمها فى أنماط تكون ملائمة فى التعبير عن هموم الإنسان المعاصر، وبذلك تتيح السيادة للأسلوب القادر على معالجة أدق خلجات الإنسان وخلجات اللحظة المعاشة بتناقضها.

ثم أعطانى مجموعة من الروايات الرومانسية :”بول وفرجينى”، “غادة الكاميليا”،”تحت ظلال الزيزفون”، وجميعها لفظته خشونة حياتى وتربيتى التى كان فيها الكثير من الصرامة، لكننى انطويت على الكتب التى اخترتها بنفسى.

أثناء البحث عن مايشبع جوعى الثقافى، عثرت على سلسلة “قصص للجميع”، و”كتب للجميع”، على صفحاتها طالعت “ذئاب جائعة” لمحمود البدوى، توقفت طويلاً عند “دماء لا تجف” لعبد الرحمن الخميسى، دفعنى حبى له للبحث عن مؤلفاته، انسكبت فى روحى قطرات من دماء مجموعته القصصية “قمصان الدم”، ثم تعرفت على عبد الرحمن الشرقاوى قبل أن تتسع أمامى شرفة المطالعة؛ فتعرفت على بلزاك وموباسان وديكنز وشالوخوف وجوركى وتولستوى وتشيكوف.

فى “دعاء الكروان” استوقفنى وصف طه حسين لحياة “آمنة” بطلة روايته بأنها “كلها شظف وخشونة”، وفى رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل وصف تقريرى لحياة الفلاحين الذين ـ فى خنوعهم ـ تكيفوا مع حياة الشقاء، وباتوا قانعين بما يقع عليهم، ويرضون عنه.

عرفت المجتمع بأفراحه، بأتراحه، بطبقاته المستبدة، بفلسفاته الإجتماعية من الروايات، و القصص، مع أننى كنت أحد الأضلاع الرئيسية فى طابور التلاميذ الخائبين الذى كان أول من ترتفع على قدميه وتهبط عصا الشيخ إبراهيم عباده، فى عز “طوبه وأمشير”.

بيد أن ذلك كله لا ينسى وجه الطالب محمد حسن عبد الله الذى أصبح أستاذاً للأدب الحديث فى جامعة الكويت، ثم فى جامعة القاهرة، كان قد سبقنى إلى المعهد الدينى بالمنصورة عام 1950 ـ 1951، وفى أحد الأيام جاء لزيارة المدرسة فى زيه الأزهرى سألته عن طريق القبول بالأزهر، عرفت منه تاريخ تقديم الأوراق، فى يوم الامتحان جلست أما ثلاثة من الشيوخ، طلب إلى أحدهم أن أكمل مابعد :”محمد رسول الله والذين أمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم”، وطلب الثانى أن أكمل مابعد: “إنا نحن نحيى الموتى ونكتب ما قدموا وأثارهم وكل شئ أحصيناه فى كتاب مبين”، وطلب الثالث أن أكمل ما بعد: “يا معشر الإنس والجن ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذو إلا بسلطان”.

تعثرت فى التلاوة لأول مرة تفصد العرق من جبهتى، أغرق عينى فى بحور الخوف والتعلثم: يا معشر .. يا معشر، والشيوخ الثلاثة يشجعوننى قائلين فى نفس واحد : هه .. فأقول: يا معشر الجن، وهم مازالوا يشجعوننى بكلمة: هه، لعلى أنطق وأقول: يا معشر الجن والإنس، ثم انفجرت فى البكاء خوفا من الرسوب والعودة إلى محطات الهروب من المدرسة.

لكننى فوجئت بأحدهم يقول لى: قم يا شيخ عبد الفتاح أنت ناجح، وأوصانى ثلاثتهم بالآنكباب على تلاوة القرآن كل يوم حتى أحفظة عن ظهر قلب، ثم سألنى أحدهم قبل أن أغادر المكان، وهو سجل اسمى فى كشف الناجحين عن المذهب الفقهى الذى أريد أن أتلقى علومه، أجبت دون أن أعرف أوجه الآختلاف الفقهية فى الإسلام :المذهب المالكى، بص الشيوخ إلى بعضهم فى دهشة، ثم ابتسموا فى غموض حين سألنى أحدهم: أنت أصل جدودك مصريين؟.

لم أكن أعرف أن المذهب المالكى كان منتشرا فى مصر أبان عهد أحمد بن طولون حين كان الشيعة يحكمون مصر، وبسقوط حكمهم أصبح المذهب الشافعى هو السائد.

بعد أن حصلت على شهتدة الإبتدائية الأزهرية سنة 1955 إلتقيت بصديقى الميكانيكى تحدثت عن فكرة الألوهية والأجرام السماوية وهندسة بناء الكون، أعطانى كتاب”أسس الدولة” لجون ستيوارت مل، وأعمالا لهارولدلاسكى، كان يمشى وفى جيب جاكتته الأنجيل، وفى الآخر القرآن، وفى الجيب الداخلى”أصل العائلة” لأنجلز، هو من أساتذتى الأوائل الذين كنت أجلس معهم على التلتوارات، وعدنى بأن سيأتينى بمجموعة مكسيم جوركى القصصية”الحضيض”و”مخلوقات كانت رجالا”.

أكتشفت أن الكتابة هى المؤامرة الوحيدة الشريفة فى العالم ضد من يكيدون لللإنسان فعلمتنى الخبرة المكتسبة من الحياة، والثقافة أن أحرر لغتى من الأساليب المطروحة، أزعم أننى طبقت هذه التقنية أثناء كتابة “أولاد المنصورة”، اهتممت بالتركيز على الجانب الحركى داخل حى شعبى مهمش، أعلن لفيف من أبنائه عن عزمهم الخروج من نطاق الفردية بالمشاركة فى تكوين فريق لكرة القدم.

انتصروا على مختلف الصعوبات حتى تكوَّن الفريق،خاضوا به العديد من المباريات ضد فرق البلدان والقرى المجاورة، حين يعدون إلى الحى مفعمين بنشوة الفوز، كانوا بعيدين عن روح الأثرة والأنانية فيهدون فوزهم للمدينة التى لم تعرف الانتصارات وهى على ما يبدوا ـ فى ذات الوقت ـ لا تعرف شيئاً عنهم.

الصعوبة التى قابلتنى أثناء كتابة هذه الرواية ظهرت حين كنت أفكر: كيف أجعل الآخرين ـ بعد وقوع النكسة ـ يستمرون فى حركة تصاعدية، بينما كان على الطرف الآخر من يفشون ثقافة الهزيمة، والانكماش فى مواقع الفشل، وتكتمل فصول المأساة عندما نرى أن شباب الحى مستبعدون من كل تشكيل اجتماعى، لقد كونوا فريقاً لا يعرف غير الحصول على نتائج الانتصارات، ولكن أحد لم يستطع أن يشكل نهم قواما اجتماعيا، تتحقق على يديه ـ أو قدميه! ـ طفرة تنتشل من هم على حافة الإنهيار من الإنهيار .

لم يكن من نصيبهم سوى العيش فى حلة من ردود الأفعال المحبطة، وهى أعمال تعجزهم تماماً عن رد القهر؛ فاستعانوا على الوقوف أمامه بالحبوب المخدرة، ونسج الحلم التى يختلط فيها الكابوسى بالواقع، بينما كانت الشوارع تغرق فى أقوال ساسة لا يخلو أحدهم من ديماجوجية، تقول ما لا تفعل، وتفعل فى النور والظلام ما لا تعلن(!!).

ثم أتذكر ـ أثناء الكتابة ـ الزقاق التى انطلقت منه أعمال نجيب محفوظ لتناقش الكثير من قضايا الوطن وهموم المثقفين دون أن يبتعد الكاتب عن هذا السياج ليشارك فى حركة النضال السياسى؛ فقضيته الكبرى كانت الكتابة فقط والاهتمام بحياته الوظيفية، على حين كانت الحرية ـ منذ 1939 حتى 1944 ـ هى قضية البلاد الأساسية، وبحيث لم يهد لمجتمع المثقفين دور مؤثر، أو ضمير يحفز القوى المقهورة للوقوف على الأقدام فى صلابة .

حول عناصر البناء فى قصصى القصيرة، أنها فى جملة قصيرة ترهص بأنهيار الفواصل بين الشكل والمضمون :”وأحياناً باحتفاظ كل عنصر تقنى بخصائصه الموضوعية والجمالية ف إطار اندماج الفواصل بينها (2) .

لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لتجربتى الروائية أثناء كتابة روايتى” العنف السرى” لقد انتقلت بلين الروافد الإجتماعية المستمدة من جذور تاريخنا القومى، الفرعونى، القبطى، الإسلامى، لكى أنفخ فى روح عاطفة الإنتماء، وجدت حرية الفرد لا تتحقق فى مجتمع مكبل برزاءل الإستئثار والأنانية .

تابعت خطوات بطل الرواية، كان هو الذى يسوقنى مع كل تجربة يخوضها حتى تنتهى بالفشل، ومع ذلك ظل يحاول، بوجه آخر، واسم آخر، فى أمكنة مختلفة، ولقد تعدد فيه الأدوار ، فهو”المعصوب العينين” الذى يرى ببصيرته كل ما يدور فى “الخلاء” والخلاء فى الرواية هو البديل، أو المعادل الموضوعى للمدينة الفارغة من معانى الفضيلة.

بعد أن استكملت ملامح هذا البطل تسألت:هل يمكن أن يكون شاهدا على عصر ردئ؟.

إنه البطل العربى الذى نجده فى السجين بملامح “فهيم المصراتى”، وهو”الجندى” العائد من معارك الهزائم، وهو سلمان “الفران”، وهو “الشيخ” ثم “الإمام” الذى كان يقف على رأس حلقة الذاكرين مساء كل خميس “مستهلاً الإنشاد بالصلاة على النبى وآل بيته”، والترحم على الشهيد الإمام على ووللديه الحسن والحسين وأمهما فاطمة الزهراء (3) .

لقد شجعنى هذا البطل ـ كمنتقم لا يفتقر إلى بناء عقائدى، على أن أتحمل معه تبعات كل شخصية تولى القيام بها، ومضيت معه وهو يحول فى أجواء بلا فواصل، حيث تداعت جدران الأزمنة والأمكنة، حيث باتت تنتظمهما حلقة فى سلسلة من الشقاء، بين هو مستمر مع تقدم خطواته “فتسلمه الجدران إلى جدران أخرى لا نهاية لها (4).

هوامش: هذه الشهادة ضمن فعاليات مؤتمر السرد الجديد بمرسى مطروح 2008، رئيس المؤتمر خيري شلبي، والأمين للمؤتمر سيد الوكيل

………………………………………………………………………………………………………..

1.     فازت الرواية بالجائزة الأولى فى المسابقة التى ينظمها نادى القصة .

2.     بطل قصتى “بصقات فرعون الملونة” المنشورة بجريدة القبس الكويتية عام 1980 .

3.     د.محمد زيدان “نصوص تسبح فى ملكوت الحلم” تأويلات لنماذج مختارة للقاص عبد الفتاح الجمل .

4.     رواية “العنف السرى” المجلس الأعلى للثقافة 2007 ص 68.

       5.     المصدر السابق ص 126.

عودة إلى الفهرس