ثم.. نصوص من أدب الحرب.بقلم: حسين منصور

 

نشرت هذه النصوص في سلسلة الكتاب الأول  لعام 2006  , وهى تؤرخ  روائيا لفترة حرب تحرير الكويت  المعروفة تاريخيا بعاصفة الصحراء , وترصد الرواية حالة اللغط  والتشتت التى اعترت عددا من الجنود ومدى قبولهم أو  رفضهم المشاركة  فى تلك  الحرب  .                                                             

                                                         

                                                                 سامح إمام

    اليوم   أنا طُلبة * مطبخ، العمل بسيط وهيِّن : إناء للفول وبعض الأدوات، سوف أنتهي من غسلها بسرعة، ثم أجلس على تلك التلة، أجتر ما بقى في ذاكرتي من وجوه رأيتها في رحلة العودة إلي الكتيبة : البنات، ماركات السيارات وبعضاً من ملامح وجه ابن أختى الذي لم يبلغ عامه الأول، وديْنَا علىَّ لأبيه الذي مات بالكبد .             في كل مرة أقطع الطريق من مطبخ الكتيبة إلى حفرة دفن المخلفات التي كانت  في الأصل ساتر دبابة، تستوقفنی شواهد تاريخ المكان : خوذة نهشها الصدأ، نصف بیادة بارز من الرمل، وشبكة حديديةعلى شكل نصف دائرة، من تلك التي  تصنع متراصة مع أخواتها ملجئاً كان الجنود يحتمون به من طائرات تحمل نجمة داوود ، وبقايا معركة دفن في الرمال معظم آثارها.

               الجو ساکن إلا من وشيش الريح في خلاء الكتيبة، يقطعه أحياناً نداء شاويش المطبخ يستحث العساكر على العمل کی ينجز طعام العشاء في موعده.  جو باهت تصبغه صفرة الرمال وخداع السراب على شاطئ قناة السويس ، ولكن تلك الكتلة السوداء التي تحلق فوقها المروحيات، وأجسام تبدو من بعيد كالصُلبَان على حافتها، اخترقت كل ذلك ، وأصابتنی بدهشة وفزع أنسانی ما أمَرَ به الشاویش من سرعة غسل الأواني؛ فصعدت إلى أعلى مكان أستطيع منه الرؤية بوضوح أكبر، كانت  حاملة طائرات تعبر قناة السويس المجاورة لموقع الكتيبة سريعاً؛ كانت المرة الأولى التى أرى فيها حاملة طائرات، وها أنا أراها ، أرى بعينى إحدى صانعات الدمار، التى كنا نسمع عنها، ونشاهدها فقط على شاشات التلفاز، ورغم اختفائها خلف السراب إلا أن الرِعدة التي أصابتني بها الكتلة المعتمة التي عبرت أمامى فى اتجاه الجنوب ، لم تنته ، رغم محاولة إبداء الصلابة عند عودتى إلى المطبخ   ، ولزمتني حتى انتهى اليوم.

             بعد توزيع وجبة العشاء، عدت إلى السرية وليس في ذهني سوى السؤال عما رأيت،  وإخبار الزملاء به؛   وبالشعور الذى أصابتنى به ؛ ولكن لما شاهدت وجوههم، وتجمعهم أمام مبایت السرية؛ ذهب سؤالی، في البداية ظننته تجمعاً عادياً  _ فجمع الجنود أمر سهل، ولو كان بسبب نفاذ سجائر الصول، أو نقص المياه في خزان مبيته _ وأخذت أبحث في الوجوه عن وجه أقرأ فيه رداً فلم أجد، وأعادني ذلك إلى أول يوم لبسنا فيه ” الأوفرول”الميرى” لم أستطع تمییز وجوه الزملاء، أعمانى اللون الموحد للزى العسكرى، وبحثت كثيراً عن “جرجس حکیم” فلم أجده بينما هو واقف بجواری، وعندما عرفنى أخذ صوته يعلو بالضحك رغم النداء المتكرر للشاویش ضابط الصف، وأنا أنادی علیه کتائه في الصحراء.

        في داخل المبيت لم يكن هناك صخب ؛ فالكل صامت، وتعلو الوجوه نظرة يأس لم أرها من قبل، فلا”  فضل” ينکت، ويستجدي “صموئيل” في سيجارة، ولا  “النوبی”  يثور كعادته إذا أزعجه أحد في منامه، أو يسب رائحة الورنيش الصادرة من البيانات بعد التلميع ، فقط الشيخ جابر الذي نطق عندما اقتربت منه، والسرور يملأ وجهه، وكأن الله قد استجاب لدعائه الذي ظل طوال ليال في العسكرية يدعو به ( اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك(  في أول الأمر لم أصدقه عندما قال ) سنحارب .. في الكويت(  فقد ظننتها شائعة كتلك التي تسري بين الجنود من يوم لآخر منذ احتل الجيش العراقى الكويت ؛  فسألت عن “جرجس “الذي لم يمض كثير من وقت حتى ظهر قادماً من ناحية بوابة الكتيبة بابتسامته، وبصلعته التي ظهرت بعد أن خلع طاقيته، فوجه كلامه لي ) مال أولاد ال! …… ) فأخبرته الخبر ؛ فانتقلت إلى وجهه حالة الوجوم التي أصابتنا، ثم انتحی جانبًا مشعلاً  سيجارة بتوتر لم يخف على أحد ما جعل الجميع يتجهون إليه يتأكدون من صدق الخبر منه ، فهو بالنسبة لنا مصدر معرفة ؛ فهو الشاعر الحريص على القراءة فى أوقات فراغه من الحراسة، ونطمئن لتحليله لكثير من الأحداث، وهو الذي تعرفت من خلاله على  “جيفارا” ” و “أحمد فؤاد نجم”  و”فؤاد حداد ” و”منير” و”سیمون بوليفار” فلم يجب إجابة مباشرة وإنما قال )سنحارب نحن،  ونموت  ، ونترك نساءنا للأغراب ثم بعد ذلك سيقولون : دفعنا ثمن ذلك كله( صار الأمر أمامي حقيقة بعد كلام جرجس ؛ لأنه من أقل المصدقين للشائعات السيارة في الجيش.

            انصرف العساكر بعد صرف وجبة العشاء كل إلى محل حراسته وبقيت أنا وجرجس  فقط في المبيت؛ فقد كانت ليلة راحتنا ، ولم يكن لدينا خدمة ليلية ، كانت فكرة موتي، وموت “جرجس” أول ما دار في ذهني بعد انصراف العساكر، وتأكد خبر الحرب، كنت أؤمن أن مصيرنا واحد؛ فيوم تجنيدنا واحد، واتجاه ترحيلنا من مركز التدريب إلى الوحدات واحد، سريرنا ذو الطابقين  في مركز التدريب وفي الكتيبة واحد، اختار هو الدور العلوى ، وترك لى السفلى –  خوفا أن تفاجأئي نوبات الدوار –الذى يأتى بلا سابق إنذار .

      رغم وجود” جرجس “کنت وحيداً متوحداً مع خوفی، وجرجس يشعل سيجارة من سيجارة، اللحظة الوحيدة التي توقف فيها عن التدخين هي نفس اللحظة التي عرفت فيها أني غفوت، ثم صرخت صرخة عالية، وقمت فزعاً ؛ فأحضر لى الماء لأشرب، في البداية ظن أنها حالة دوار أصابتني ؛ فقلت بعدما شربت) رأيت الحرب، رأيتها ، رأيت نفسي أموت، وأنت تدفننی(  فأمسك كتفي قائلا (یا رجل لا أحد يرى نفسه ميتاً .. قد تكون رأيتني أنا ميتاً ( صمت لحظة ثم سألني بجدية الخائف من الموت( هل حقاً رأيتني أموت؟ هل سنموت؟) سؤال أبدى تطرحه الحرب على أذهان كل الجنود، ولا أحد يملك الإجابة القاطعة، فقلت ( ما نتيجة الحرب إلا قاتل ومقتول، حى وميت، وعلى الجميع أن يجاهد كى يحافظ على حياته بإنهاء حياة آخرين)فقال بنبرة يائس ( حى وميت ، قاتل ومقتول، ترى فى أى فئة سنكون ؟ )      

         لم أجب على سؤال ” جرجس” فقط أخذت السيجارة من بين أصابعه لآخذ أول نفس حار في حياتي ؛ ثم أروح في نوبة من السعال والبكاء المتواصل ؛ فلم أكن أحتمل أن أشترك في حرب لا يعرف نتيجتها إلا الله،

 ولايدرك الهدف منها إلا من دبر لها، ولم أكن أحتمل رؤية زميل يموت، أو أن أَقتل – بسلاح لا يميز بين صديق وعدو – مسكينًا آخر كل جريمته أنه أطاع الأمر مجبراً مثلي تماماً ولكن “جرجس “بدعاباته التى بدت مُدَّعاةٍ وغير واقعيةٍ ، هدأني، ثم عاد إلى سجائره يشعل واحدة من أخري حتي نفدت كلها ؛ فألقى بالعلبة الفارغة على الأرض، وقصد سريره فى صمت.

        لم أحتمل البقاء في المبيت ؛ فخرجت عائماً في الظلام وسط نداءات الجنود إلى مبیت خازن السلاح، وهناك كان” محمد السيد” وحيداً يعبث – كعادته – بعقارب وضعها في زجاجة، وصب عليها الماء ليخنقها أو يعذبها انتقاماً منها، وثأراً  للزملاء الذين تألموا بحرابها، وعندما دخلت وجدته قد أخرج عقرباً أسود وأشعل فيه النار وعندما أردت التأكد من صدق الخبر الذي هزم الجنود بدا على وجهه أني أعدته إلى حالة حاول وحيداً طوال الليل أن يهرب منها، وأفرغ زجاجة ماء على الأسود المشتعل فأطفأه ، وفر الحي من العقارب إلى حيث يدرك النجاة.

                                                   سامح إمام

                                                 كبريت البحارة

                                          18من نوفمبر ۱۹۹۰

                                                    

                                                               محمود خليف

        هي لم تكن تفهم، كانت طيبة ومسالمة، وآملة فى مستقبل أفضل،جاءتها فرصة للعمل فى “الكويت” ولم تبال بماخفتُ أنا منه؛ أن تكون واحدة من حكايات كثيرة تدور فى مجالس الشباب ، وتلميحات عجائز الحارات، عن بنات سافرن للعمل وحيدات، وأصبحن غير سالمات من أذى الناس، وأن هن عدن حاملات  فى أرحامهن بذرةً حرام؛ فردَّت غاضبة ) ألا تثق بی؟) كان اسمها ” سعاد” وكانت تعمل جليسة أطفال، ولم يكن متاحاً أن أسافر معها ، ولم أكن وقتها أملك ما نشتری به مجرد خاتم، وكان راتبها المنتظر يكفي أن نبني بيتاً، ونتغلب على مصاعب كثيرة يعانى منها أمثالنا، فلم أرض أن أكون لبانة فى أفواه الناس؛ أن أحمل لقب “زوج الست” الذى تنفق عليه امرأة، ولم أُكذِّبُ ما يدور في ذهنی، ولم أنكر ما وافقنى عليه عقلى ، رجتنى كثيراً أن أنتظر حتى تعود فنتزوج ؛ أونتزوج قبل سفرها ؛ فرفضتُ،  ولم يكن من العدل أن تبقى معلقة  بى أوبمستقبل غامض ، وحياة تسير على غير هدى مع رفيق بلا عمل أو مستقبل واضح؛ فحللتها من كل وعد كان بيننا .

      سنتان كاملتان تطاردني الأسئلة منذ التحقت بالتجنيد، وعرفتُ بسفرها: هل  وجدتْ حقاً أطفالاً تجالسهم هناك؟ ربما تزوجت رجلاً ، ينتظر عودتها كل عام  بمالٍ وهدايا، وربما ما زالت هناك تجلس بائسة محبوسة في بيت يملك مفتاحه رب البيت الذى  أرادها لنفسه ؛ فلم تر أطفالاً،  ولم تجلس إليهم يوماً ، وربما كذب ظنى ربما ربما ، لماذا كنت قاسياً هكذا و سئ الظن؟! لا أعرف ، لا أعرف. 

          فكرة جديدة ملأت رأسي بعد نبأ الحرب وهي أن الفرصة جاءت کی أبحث عنها وأرجوها العفو ؛ فأنا من فرَّط فيها ، ها هى  المسافات تتلاشى، ولم يبق غير تلك الريح منها أشمها، أدنو ؛ فتدنو، وقبلة على استحياء كسابق عهدنا ، ولكن صوت الواقع يجيب  :مُحال ؛ فهى ضاعت، أخذها التيه؛ فكيف تعود ؟ وماذا ستفعل إذا لم تجدها ؟ أو وجدتها  ميتةً ، نهداها عاريان، وجسدها الميت قد شوهته نيران السجائر ؟ ترى هل سلم جسدها من عبث خفر الحدود عندما نزحت كالنازحين ؟ ولربما مارس  جندى محروم عادته السرية منتشياً باستدارة نهديها متجاهلاً أنهما ميِّتان، هل ستستطيع ساعتها أن تخلع سترتك العسكرية، التي ألبسوك ، وتلبي استجداء عينيها وتسترها؟           

      تأتى الأسئلة دفعة واحدة : هل سأعود بها حيةً؟   أم سأعود بجثتها؟ هل سأقوى ساعتها على أن أوجه سلاحی ناحية من قتلها؟ ومن هو على وجه اليقين ؟ وماذا لو فعلت ؟  هل سأنجو أنا من تلك الحرب ؟ أم سيلقى جسدانا في قاع بحر مظلم حجبت عنه الروح كتلة سوداء تحرسها المروحيات وفي بطنها يسكن جنود المارينز ويلقون بالفضلات على رأسينا ؟  أية سذاجة تلك التي أفكر بها؟!

          ماتت الأفكار عاقلها وساذجها مع نداء الصول “کامل” (اجمع السرية ( فتوجهنا إلى أرض الطابور تسبقنا سرايا الكتيبة”  س ۳” و” سرية الهاون” و” سرية ال م.  م ” وبعض ممن لا أعرف انتمائهم،  قائد الكتيبة فارع الطول الذي يكشف طوله عن نحافة زاعقة هو ما جمعنا الصول من أجله ) انتباه .. صفا .. انتباه .. تمام الكتيبة يا افندم(  ثم ألقى ضابط أمن الكتيبة التحية   ودار ناحية اليمين )صفا .. انتباه .. صفا .. استرح .. اقعدوا(  كرر القائد بلا ملل، لماذا كل هذا التعذيب والسِّرِّيَّة  المفتعلة ؟ لماذا لا يقول لنا صراحة أننا مقبلون على حرب ؟!  لماذا لا يصدر الأمر دفعة واحدة، ويخفي عنا تلك العين السالخة لجلودنا بنظرتها الباهتة الخالية من أي تعبیر؟ ) يا رجالة(  هكذا بدأ حديثه، تعلمنا طوال مدة عسکریتنا أن )يا رجالة ( تأتي بعدها مصيبة، يشعرنا برجولتنا حتى نطيع،  صمت كل من في أرض الطابور ثم عاد القائد لنظرته الباهتة وصمته المفتعل، بالتأكيد (يا رجالة(  ليست موجهة إلى الساعي الذي حمل الكرسي إلى أرض الطابور فهو خادم القائد ، يرتب له مبيته ، ويلمع بيادته ، ويغسل _ إذا تطلب الأمر _ ملابسه، ليعفى من نوبات الحراسة التى يشقى بها الباقون سهراً بالليل ، وإرهاقاً بالنهار.

       لم يتخلف عن الجمع سوی ” محمد السيد”  الذي يبقى دائما في “السلاحليك” كنت أود أن يكون معنا ليتأكد لديه الخبر الذي سيقضي على خطته في الانتقام من البنات اللاتي أسقطنه في الثانوية العامة، بسبب انشغاله بهن عن المذاكرة رغم تحذير الأهل له ، ونيته أن يخطب كل يوم واحدة ثم يتركها.

       في أرض الطابور، القائد جالس وأنا في معركة أتصورها فى خيالى  أجرى .. أجرى  .. أصوب .. أنبطح .. الطائرات .. الطائرات ، أضع يدي فوق خوذتی التى لا تناسب حجم رأسى .. لا أعرف من أى خطر أحتمی , فالأخطار كثيرة، أهرب في كل اتجاه .. شيء غير مرئي يخيفنی .. أُطلق النار أُطلق .. أُطلق ،  الوجوه ذات البشرة السمراء تملأ المكان، جثث .. جثث، والطائرات تقصف بلا رحمة أو تمييز، فقط نحن نموت .. نموت والطائرات من فوقنا تفر، لم ألمح على الأرض  جثة واحدة لغريب .. الدماء تختلط، جرجس، ومحمد، وحسين، لم يعد هناك أحد،الأرض تنبت ألغاماً و جثثاً، والطائرات لا تكف عن القصف والفرار )توقفوا .. توقفوا(  المعركة دائرة، والجثث تتفجر، لماذا ينسفون الموتی )توقفوا .. توقفوا) المعركة دائرة ) نحن معكم .. نحن معكم ( والطائرات کالبرق تمرق في السحاب لا أحد يسمعنى  لا أحد .. لا أحد ، وقائد الكتيبة على مقعده  والجنود يرفعون أيديهم واحداً واحداً )أمريكا صاحبة المصلحة ) (لا السوفييت الشيوعيون الكفار)  )  لا ( لغط كثير، وثرثرة، والقائد صامت يسمع دون تصویب لخطأ، هو مع من ؟ لا ندرى .

       أعود لمعركتى ،  آخر انفجار جاء من تحت قدمی” الشيخ جابر”   الذي كان بجانبی.. انكفأت على الأرض، ولم أسمع بعده غير قائد الكتيبة وسط الجنود )السوفييت يستجدون الأمريكان ( فقلت لجابر الذي يجلس بجواری : )ونحن نستجدی من ؟) لم يعجبه کلامی، وربما لم يفهمه، لأنه أبدى اهتماما كبيراً بتعليقات القائد القليلة.

     بين الحين والحين أخفى الضحك عندما أنظر إلى رأس العسكري “صموئيل” الجالس أمامي والذي قام وسأل عن دورنا في هذه المرحلة؛ فرجلاه تشبهان قصبتين مغروستين في وسطه، لا تنبآن عن جندي ولكن عن خیال حقل بالكاد يخيف العصافير، وربما غافلته العصافير ونقرت قلقاسة رأسه حتى يسقط .

)        انتباه .. صفا .. انتباه .. إلى السرايا معتاداً مارش(

    لم نخرج من اللقاء بقناعة حاسمة ، ولم نسترح كما كنا نظن، بل كانت الأقنعة الواقية تنتظرنا في تمرين على الصمت في غير وقته.

      بالأقنعة الواقية قديمة الطراز بدونا كأفيال أغمدت خراطيمها في أجنابها، الأقنعة كمائم مطاطية على أفواه الجنود لا نملك معها إلا أن يسر كل منا إلى نفسه حديثاً عن حرب ستقتل أحلاماً علمونا إياها منذ سنين، وحدة .. وحدة .. كفاح ضد، وكفاح ضد ) قولوا ورائی یا أولاد : بلاد العرب أوطانى : وكل العرب إخوانى) يصرخ المدرس، ونحن نردد وراءه .

             الأقنعة تحبس العرق في الرؤوس، و الصول” نبيل” الذي تشبه مؤخرته مؤخرة دبابة، والذي ارتاحت آذاننا من خرخشة صوته أبدى تماسكا مفضوحاً، ثم ترك ميدان السرية مستتراً في مبيته ليتمكن من خلع القناع وتناول سيجارة يلتهمها كجائع، لم يكشفه سوی تسلل العسکری “سید جمعة”  خلفه واختلاس النظر .

               لم نسلِّم الأقنعة كما يحدث بعد كل تدريب، بل أمرنا قائد السرية أن يحتفظ كل جندی بقناعه داخل شدته  الثقيلة التي حرص أن تكون كاملة المعدات ، تأكد من ذلك بنفسه ولم ينس حتى “الزلطة”  التي يضعها الجندي تحت لسانه عند العطش .

            بعد الانصراف لم نتجادل  في أمر رحيلنا عن الكتيبة ودخول الحرب ، كعادتنا كل ليلة، بل بتنا على يقين من ذلك، وكثيرون منا يضعون أيديهم على قلوبهم، وتفرقنا على الحراسات، فلم يجتمع منا أكثر من أربعة في موقع واحد، وأوقعني حظي مع الشيخ جابر الذي ظل طوال الخفرة على سلك حدود الكتيبة يتحدث عن إتقان لبسه للقناع وسرعته )تضع إبهامك هكذا، وسبابتك هكذا، ثم تحكم القناع عن وجهك ( ثم أخذ يتحدث عن الجندي الذي في طاعة الله وفي رباط دائم انتظاراً للشهادة.

          لم أسمع إلا القليل من كلامه،  ولما قال كلامه الذى لا محل له على أرض الواقع  )رسول الله دخل مكة في جوار كافر)  ألقيت السمع إلى صوت عواء ذئب يأتي من الخلاء البعيد.

                                                          محمود خليف

                                                          كبريت البحارة

                                                       19  من نوفمبر ۱۹۹۰

أضف تعليق