رائحة قربان للقمر..قصة: يوسف فاخوري

في الخامسة عشر تزوجت ، في السادسة عشر أصبحتُ أرملة.

وجه دافق للوجود يموج بتلك الغلالة السحرية لحورية مسها ندى الفجر ، فراح يدعو ملائكة السماوات أن تهبط أرضاً لتلمس طيف وجودها فتعرف معنى الصلاة .

عيون ليست تقبل أن تطبق الجفنين ، وتحلم على اتساعةٍ ، ليست كنساءِ الأرض ، لم تجرؤ على روعة حوريات الجنة ، لكنها أيضاً كانت أكثر وجوداً منهن ، وكانت لها غلالة سحرية .

خصها الوجود بشعر يسترسل في الليل، وحين يكون الضوء أقل جرأة من البوح يترك به روعة المد والجزر التي لا تنتهي، فيما بين وقاحة الشمس وخجل ضي القمر يتسلل بروعة خيوطه ويحاذر خوفه، خوفه مم .. ؟

زوجها الذي في البداية لم تحبه، لم تكرهه لكنه زوجها الذي اختاروه لها ، طيب القلب ومنكسر ، كان يكبرها ، ليس قليلاً ، ليس كثيراً ، وهي بجمالِها تتنفس للوجود روعة لا يملكها ، وتعتقد أن الوجود لا بد أن ينحني ولو قليلاً لها ، وتحنو عليه ، وإن لم تعرف لماذا ؟

صانع قربان الكنيسة يعيد جسد المسيح إلى الوجود كل يوم ليتناوله البشر ويترحمون ، وكانوا يسمونه (قرابني ) الكنيسة ، فقير هو ليس لديه ما يقدمه لها ، طعامه وشرابه وكساؤه من الكنيسة ، فقيرة هي لم تتطلع إلى الثراء ، فقد كان محيطُها كلُه فقيراً .

تعجن القربان وينضجه هو ، وكانا يرتلان معاً ، ويصليان حين العجين يختمر ، وحين ينضج ويطلق الرائحة ، تتصاعد منهما آهة تنسحب إلى آهات .

هي تعرف كيف للعجين أن يختمر بأنفاسها ويطلق الرائحة قبل أن ينضج ، هو يعرف متى يشتعل حس النار ومتى يخبو، فينضج بينهما حس دفء القربان الخارج من الفرن ، حين يقترب منها ، وحين يعانقها، وحين يشتعلان كانت تشم رائحة القربان في أنفاسه ، فصارت تحبه وإلى الرائحة تهفو ، كأنما الحلم هي .

حين راح وليدها يدفق بالحياة وينتفض في الرحم ، كان زوجها يصلي أن يمنح الرب لوليده النور ، وحين أبصر الوليد النور كان الأب قد لفظ أنفاسه الأخيرة ، وانداحت في الأفق رائحة لم تعرف كنهها ، لم تعرف مصدرها .

لم تحزن ، لكن حساً من الشجن أكثر عمقاً من الحزن سرى في كيانها ولم يفارق ، استباحت لنفسها أن تعذب الوجود بوجودها ، لم تذبل كالأرامل بلا أمل ، ولم يخبُ جمالُها كزهرة ترفض الموت ، راحت تتفتح كل يوم كما لو كان الشجن ينضجها فيزداد بريقها ألقاً .

توالى الرجال يطلبونها ، لكنها لم تشم رائحة القربان الدافيء فيهم ، ليس فيهم من له طيبة القلب نفسها أو الانكسارة الحنونة ، ليس لهم ترتيلة صغيرة في العينين ، كانت تحتضن وليدها وتعذب وجودهم ، وربما وجودها أيضاً ، لكن متعة تسري في كيانها بتعذيبهم وبعذابها .

حين بلغت من العمر الذروة التي حلمت ذات يوم كان شعرها ما يزال له روعة المد والجزر ، وإن كان إلى الأبيض صار ، وجهها مازال مستديراً وعميقاً يهمس غلالته السحرية ، مسها ندى الفجر الذي لم يفارق ، كان القمر كقرص قربان في عميق السماء تنضجه الظلمة ويتجلى بدراً من سطح منزلها البسيط الذي لم تفارقه ، راحت تتطلع إليه عميقاً ظن لم يحتمل القمر مرآها ، سرت فيه رعشة ، جرؤ ، راحت أشعته تشتد وتمتص أشعته المنداحة جسدها إلى رحيق الضوء ، انسل جسدُها خيوطاً في رهيف رائحة قربان ساخن ، شهقت شهقتها الاخيرة ، سألته :

  • ترى يا قمر من كان قرباناً للآخر؟

نفس الترتيلة التي كانت لعينيه انداحت في الأفق أريجاً لا ينتهي.

 

أضف تعليق