أصداء الذات وفنيات السرد في “وجوه تشبهني “للكاتبة :هناء جودة

أشرف عكاشة*

الكاتبة هناء جودة

تمهيد:

حين الحديث عن العلاقة بين المبدع والنص علينا ألا نتجاهل أهمية التجارب الذاتية في إثراء العمل الإبداعي، وهذه التجـارب لا تبرر للمبدع فرض رأيه وفكره فيما يتعارض مع قدرة شخصيته القصصية على استيعاب وتمثل هذا الرأي أو الفكر، لأن العديد من العوامـل هي التي تحـدد هذه القـدرة على الاستيعاب والتمثل، وبغياب هذه العوامل تصبح تلك القدرة مفقودة، والتناقض واضحاً بين الشخصية وسلوكها المحتمل والمتوقع. إن إدراك توازن العلاقة بني المبدع والنص يقودنا إلى شيء من التسليم بأن هذه العلاقة طبيعية وغير متنافرة، إذا تقيدت بتلك الضوابط الخفية التي أشرنا إليها آنفاً، أما القول بانعدام العلاقة بين المبدع والنص، كما يزعم المنادون بموت المؤلف، فإنه قول يتجاهل مجمل المعطيات التي تحيل النص من مجرد فكرة هلامية، إلى كائن يتنامى حتى يبلغ أوج نضجه، وهكذا يكون الحال بالنسبة للجزئيات التي يتكـون منها النص في نهاية الأمر.
هناك نوع من القصص القصيرة التي تفـلت مـن البيئة الـواقعية إلى بيئة (فتنازية) يحاول فيها المبدع تحقيق ذاته في أجواء لا يستطيعها في الواقع المعاش، فإذا هذه (الفنتازيا) بيئة يمارس فيها المبدع انطواءه، وتذمره من الواقع، واحتجاجه على الكثير من الأوضاع القاهرة والسائدة في المجتمع، فهو يسعى إلى تحقيق رغباته في بيئة لا تنطبق عليها مظاهر أو شروط الواقع المعاش، ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أنها بيئة صالحة للعمل الإبداعي، إذا توفرت لدى المبدع إمكانيات وأدوات تمكنه من أداء مهمته الإبداعية بالشكل والمضمون المناسبين، خاصة إذا سلمنا بأن المبدع والفنان عموماً ذو شخصية تتمتع بحواس وإمكانيات للإدراك فريدة من نوعها، تؤدي به إلى الالتزام بموقف لا يهتم بقبول أو رفض الآخرين له.
ونحن نذهب إلى ما ذهب إليه أ- سيد الوكيل في كتابه (أفضية الذات : قراءة فى اتجاهات السرد القصصى) من أن القصة القصيرة، وعلى مدى نصف قرن، ظلت أسيرة الهم السياسى شأنها شأن سائر الفنون الأدبية الأخرى، غير أن القصة القصيرة، نجحت فى مراوغة النمطية السياسية، بفضل طاقتها الثقافية التى جعلتها فناً لانوعياً منذ نشأتها ، وقابلا للتجاوب مع أداءات مختلفة من التعبير الجمالى التى ينتجها الإنسان فى ممارساته اليومية، ومن ثم فإن القصة أقدر الفنون تعبيراً عن مفردات الحياة اليومية بفضل مساحات التعبير الحر التى تمنحها للذات الساردة. 1

ما قبل الكتابة :

هناء عبد الجواد جوده من مواليد المحلة الكبرى 1963 م، تفتحت مداركها على وطن ينتفض فيحط عن كاهله ثقل الهزيمة ويتحول إلى الانتصار، مما عمق داخلها الانتماء والإحساس بالولاء لهذا الوطن، حاولت في صغرها حفظ القرآن الكريم على يد جدها الذي كانت تحبه كثيرا، ولكنها كانت شديدة التعلق بأبيها، فوجدت منه التدليل والرعاية، درست التجارة ولكن ميولها الإبداعية دفعتها إلى العمل بالصحافة في جريدة الحياة المصرية في صفحتها الأدبية في مطلع شبابها، ومنذ خطواتها الأولى في دنيا الإبداع والصحافة كانت تنحاز دوما للمهمشين وفقراء هذا الوطن، مما دفعها إلى ساحة العمل التطوعي والوقوف في صفوف المعارضة لكل ما يمس هذه الطبقات من تعنت الحكومات وقهر قبضتها الأمنية، ووجدت من أسرتها الدعم والمساندة مما جعلها لا تخشي أحداً وجاءت مجموعتها القصصية الأولى (معزوفة الانتصار) محملة بما تفتح عليه وعيها من التحول من الهزيمة إلى الانتصار لكنها حرصت على الانتصاف للمهمشين والفقراء ضد مسالب الانفتاح، نالت عدة جوائز من مجلة العربي في القصة وإذاعة البي البي سي مسابقة قصص على الهوا، لكن شيئاً فشيئا تتجه إلى كتابة الشعر ولم تجد من يحتويها ويمد لها العون وهي تتلمس خطاها الإبداعية في الشعر فكتبت الشعر في صور متعددة من المربعات إلى قصيدة النثر ولكنها لم تقدم على نشر أعمالها الشعرية أو جمعها في دواوين،
وبعدما تتالت عليها محن الفقد برحيل الوالد الذي كان يمثل لها السند والمدافع الأول عنها ضد عوائق التقاليد والأعراف التي تمنعها عن تحقيق طموحاتها الابداعية والإنسانية، عادت لفن القص من جديد ، وسعت عبر مشاركاتها في الفاعليات والمؤتمرات إلى تفعيل دور المثقف في رفع وعي المتلقي بقضايا وهموم الوطن وانتصارا لقيم الإبداع الحقيقي بعيدا عن فساد المؤسسات الثقافية الحكومية وغياب دورها الفاعل، وكان زوجها في هذه المرحلة أكثر المساندين لها وحتى الآن، ثم كانت محنة المرض الشديدة التي أبعدتها عن الساحة الإبداعية بل وكافة أنشطتها على كل المستويات، ولكن شيئاً فشيئاً استعادتها روح المقاومة؛ فعاودت الحنين للقلم فوجدت نفسها محملة بفيض من المواجع ولاح في سمائها وجه الأم التي حاوطتها بكل صنوف الرعاية وبكل مواجعها ووجه مصر وهي تنتفض لتسقط عن كاهلها كل سنوات القهر، فوجدناها في الميدان مع الشرارة الأولى لثورة 25 يناير ومعها كان ميلاد المجموعة القصصية الثانية التي أعادتها للساحة الإبداعية بقوة (جدارية حزن)، ومن اسمها يتضح لنا كم المواجع التي جاش بها صدرها عبر هذه المجموعة، التي رسخت لخطها الإبداعي الذي تأثر بالفترة التي سيطر فيها الشعر على إبداعها؛ فوجدناها تنزع إلى كتابة الومضات والقص القصير المعبق باللغة الشعرية والصور والأخيلة، وجاء فوزها بالمركز الأول في مسابقة نادي القصة بأسيوط ليدعم ثقتها في هذه العودة الإبداعية القوية، ثم جاءت مجموعة ( كيد ساحر ) مجموعتها القصصية الثالثة لترصد التحولات المجتمعية والفكرية لما بعد ثورة 25 يناير، ويتجلى من خلالها إخلاصها لقضايا الوطن والفقراء والمهمشين، وتختمها بعدة ومضات مهدت لظهور المجموعة الرابعة ( عزف الروح ) التي جاءت كلها قصص قصيرة جدا ترصد من خلالها عبر براعة التكثيف وشعرية اللغة مرحلة الأزمة والمعاناة على كل مستويات الذات، وكان للوطن أيضاً صداه في هذه المجموعة في تماهي واضح بين المبدع بقضاياه الذاتية وهمه الوطني، وها هي هناء جوده تلملم ذاتها من كل تلك الوجوه التي تشبهها وأبدعت في تشكيلها ورسمها لتهديها لذلك الحلم الذي حملها إلى الصفوف الأولى بين كتاب القصة بتحول نوعي في شكل تعاطيها للقصة القصيرة كما سيتضح من خلال تحليل النصوص.

تحليل النصوص

أولاً البعد القضوي وأصداء الذات:

إن المتأمل لقصص مجموعة ( وجوه تشبهني ) للقاصة المبدعة هناء جودة يستطيع أن يضع يده دون عناء علي ثلاثة مضامين دارت في فلكها المجموعة، ساعد على ذلك براعة ترتيب قصص المجموعة بما يبرز هذه المضامين كما يلي:

1- الإبداع والكتابة ومعاناة المبدع في سبيل الإخلاص لهما رغم كل المحبطات والمعوقات.
2- العائلة وما تستدعيه من قيم نبيلة وكذلك ما تستدعيه من مواجع الفقد والغياب .
3- المرأة والمجتمع وما يسوده من تقاليد وأعراف تبرز من خلالها مواجع المرأة وهمومها .
وكل مضمون من هذه المضامين يستدعي الشكل السردي الذي يتناسب معه كما يكشف عن صورة من صور الذات التي تتجلى عبر قصص المجموعة ونحن لا نفصل بين هذه الصور ولكننا نضع أيدينا على المستوى الأبرز للذات عبر النصوص والتي تتكامل كلها وتتجمع لتقدم لنا هناء جودة كما رسمتها ريشتها الخاصة عبر تلك الوجوه التي تقدمها لنا والتي حكمت عليها من العتبة الأولى للمجموعة العنوان بأنها وجوه تشبهها فقط تشبهها لتمنح للعنوان مراوغته التي تبقي على تلك المساحة من الوعي بين المبدع والمتلقى بأن شخصيات قصص المبدع وإن كانت بعضاً منه لكنها ليست بالضرورة ذات المبدع.

1- الإبداع والكتابة ومعاناة المبدع

أعلنتها هناء جودة منذ مجموعتها القصصية الأولى جدارية حزن “منذ زمن سحيق كانت تكتبها القصة…”*
وهنا في قصص ( مباغتة – مخاض – صفقة مشبوهة- عدالة- أصعب قرار- أمل – صفحة جديدة )
” تدع القصة تكتبها، وتعشق الشعر، وروحها بينهما معلقة بزمن الفن الجميل. ” **
تتبدي صورة الذات المبدعة وهي تحاول أن تكتب كينونة الإبداع عبر رؤية ميتاسردية فهي تعتبر الإبداع بما يصنعه من واقع تخييلي يفتح البراح للحلم (قصة مباغتة) وهو الملاذ الحقيقي والمنقذ لها بعد معاناة البعد عن القلم والحرف بعد الأزمات التي تمر بها والسبيل إلى العودة له مرة أخرى( قصة أمل) بل هو السبيل للثورة ضد القهر وكل صور الظلم لينبلج من خلاله فجر جديد للمبدع والوطن في آن واحد ( قصة مخاض) وترصد كذلك رفضها لكل صور الإبداع المزيفة والتي يدفعها إلى الصدارة سطوة المال (قصة عدالة) أو انكسار المبدع أمام غواية أنصاف المواهب أو حتى عديمي الموهبة كما في قصة ( صفقة مشبوهة)
” أيامها تستصرخ روحها المبدعة، بعدما ملت من أسماء باهتة حروفها من (بنكنوت) ، نفاق، ومفردات الجسد، لكنهم يتصدرون المشهد.”**

مما قد يدفعها للتخلى عن الحرف، وتقرر الاعتزال في قصة (أصعب قرار ) لكن تأتي وجوه الأحبة الذين يلفت نظرها إليهم ذلك الأمل المتمثل في الحفيد في قصة (أمل) لتدفع تلك الذات المبدعة لفتح (صفحة جديدة) مع الإبداع وهنا نعود لنؤكد على براعة ترتيب قصص المجموعة فبعد ( أصعب قرار) يأتي (أمل) ثم تؤخر قصة ( صفحة جديدة ) لنهاية المجموعة وكأنها تحكم على هذه المجموعة بأنها هي تلك الصفحة الجديدة .

نقف أمام قصتين من قصص هذا البعد القضوي لنفصَّل الحديث عنهما أولاهما: قصة ( مباغتة ) وفيها تعلن الكاتبة عن نظرتها للإبداع كملاذ للذات المبدعة من قسوة الواقع الذي يفرض قبوله على الذات الإنسانية والمبدعة في آن واحد عبر بطلتها التي تصنع من فارسها الحلم مساحة من الرضا تحقق لها التوازن والهدوء النفسي لكن سطوة الواقع متمثلة في الابنة تباغتها فتدفعها للتخلي عن براح الحلم والمتخيل بضغطة زر واحدة، عبر تكنيك سردي يعتمد على الحكاية داخل الحكاية وتوظيف أكثر من رائع للتناص مع قصيدة اختاري لنزار في استدعاء صوتي للحالة بصوت كاظم الذي يلبسه خيال البطلة وجه فارسها القادم من رحابة الخيال .

وفي قصة (عدالة) قد تدفع نهاية القصة المتلقي للاعتقاد بأن الكاتبة التي اختارت السرد الذاتي في هذه القصة عبر ضمير المتكلم قد عمدت للمفارقة بين الخاتمة والعنوان لتعلن رفضها لسطوة المال على الإبداع الحقيقي والتي تسوق الجوائز والتكريم لمن لا يستحقه، ولكننا إذا تأملنا القصة على امتدادها نجد توافقاً دلاليا بين العنوان وعدالة الذات الساردة والتي حرصت على أن يشاركها جميع الأحبة لحظات الفرحة التي لم تكتمل بفوزها بالتقدير الذي يستحقه إبداعها، وذلك عبر سرد يتخلله جمل من الحوار مفعمة بالرومانسية والمشاعر الإنسانية النبيلة فتضمن تماما تعاطف المتلقي مع بطلة القصة عند وصوله لتك النهاية الصادمة .

2- العائلة قيم ومواجع

” يصرّ على أن يرفع ورقة بيضاء أو أخرى بها بعض خطوط خطها مع كل صورة، وهو ينادي باسم صاحبها؛ تبرق عيناي مدهوشة تتسلل الكلمات على شفتي:

  • حقاً كيف لم أكتبهم من قبل ؟!!! “**

عبر هذا التساؤل كأن هناء جودة قد استعادها ذلك الحفيد بما يرمز إليه من الأمل في مستقبل أفضل ، استعادها لتكتب عن وجوه شكلت حياتها وذاتها عبر كل ما مر من سنوات العمر، فنجدها في قصص ( الشك – طيف – مساء جريح – أمل – جدي – عقوق – جدي دائما ) تستجمع بعض ملامحها التي تقاسمها الزوج ، الوالد ، الحفيد ، الابنة ، الجد بحضوره الطاغي عبر قصتي ( جدي ) و ( جدي دائما ) .

لكنها تنزع إلى إنسانية السرد بتعمد عدم تسمية الشخوص
فلا نكاد نجد علماً في هذه القصص بل في كل المجموعة غير تلك الأسماء التي يناغي بها الحفيد وهو يحمل صور أصحابها في قصة ( أمل ) ، وكأنها تريد أن تنبه المتلقى إلى أن تلك القيم والمواجع التي ضمنتها تلك القصص يشاركها فيها كل البشر في كل زمان ومكان ؛ فزاوجت بين السرد الموضوعي عبر ضمير الغائب والسرد الذاتي عبر ضمير المتكلم.
فنجدها تبرز دعم وإخلاص الزوج حتى رحيل الزوجة في قصة ( الشك ) وقيم الوفاء للزوج الذي رحل في قصة (طيف) وكأنها برحيل الزوجة في القصة الأولى ورحيل الزوج في القصة الثانية تريد أن تؤكد للمتلقى أن هذه الوجوه فقط تشبهها، وفي ذات اللحظة هاتان القصتان تؤكدان على مساندة الزوج التي أشرنا لها من قبل في ( ماقبل الكتابة ) وهو ما يؤكد أثر التجارب الذاتية في إبداع المبدع مها كان حريصاً على ألا يكتب ذاته ،

وتبرز أيضا الوفاء للجد وما يمثله من قيم نبيلة وروحانية تستمد منها الصفاء والسكينة وتبني مقابلة بين هذه القيم وعقوق الابنة في قصة (عقوق) وعقوق الخال وزوجته وقطعهما للرحم وحرصمها على إزالة كل ذكرى جميلة للجد في قصة ( جدي دائماً )، وتؤكد على هذه المقابلات بمواجع الفقد والغياب في قصتي ( مساء جريح) والتي تعد مرثية رائعة يتأكد من خلالها ما عرضنا له من قبل عن تعلق هناء جودة الشديد بوالدها الذي كان سندها وحبها الأول وكذلك قصة ( جدي ). ليبقى الحفيد ببراءة لهوه ومناغاته في قصة ( أمل ) الأمل الذي يجمع شملها والقلم ويفتح أمامها نافذة للحلم من جديد مع تجدد الإبداع .

3- المرأة والمجمتع

” تجلس فى غرفتها ذات الجدران الباردة، ترنو إلى أرض الشارع عبر النافذة المغلقة دوماً إلا من شِق صغير…”**

” تسقط من عينها نجمة فى قهوتها المُرة، تفتح حقيبة الذكريات، تطل منها البنت الاستثناء، لتحكى له عما جرى الأيام الماضية منذ فراقهما الأول من ألف عام، تشكو طعنات البعد القاتل؛ يبكى معتذراً، يقدم قلبه قرباناً للعشق ” **
” ماتت أمى و بقيت وحيدة ، تتشابه صباحاتي و لياليّ فما من جديد ، أظلت حياتى سحابات رمادية؛ فلا ينفذ من خلالها ضوء القمر أو نور الشمس، ولم أعد أزور ساعى البريد، حولت البيت إلى دار للأيتام؛ قبل أن تقتلنى الوحدة و تسكننى الأشباح، احتفظت لنفسى ببعض الحق فى نسيم الحياة … “**
في قصص( بين الكاف والنون ، ذكرى ، انتظار ، شيء من القهر ، الوشاح الأزرق ، كرامات سيدنا الولى ، عيون زجاجية ، السر ، تقاعد )
عبر ذلك الشق الضيق من نافذة الروح المثقلة بجراح الفقد والغياب ترصد هناء جوده أحوال المرأة عاشقة كانت أو موجوعة بالفقد والغياب وألم الانتظار ورومانسية تخنقها قيود المجتمع والغرف الباردة الجدران، وهي تفتش عن تلك الأنثى الاستثناء تلك التي تسكنها منذ ألف عام أو يزيد، وتنطلق عبر سرد موسوم بشيء من الغنائية ورومانسية الصور والأخيلة لترصد ذلك الواقع التي تعانيه المرأة المثقلة بكل تلك المواجع فنجدها في قصة( بين الكاف والنون) ترصد حالة عشق رومانسية وتدهش القاريء بأن كل ما كان ماهو إلا خيال ذاك العاشق الوفي لمحبوبته التي رحلت والتي ينزعه عن ذكراها ذاك الواقع الذي رضخ له وارتضاه، فينتزعه من رومانسية اللحظة برنات من هاتفه تعلن أن زوجته هناك تنتظر المخاض
وفي قصة انتظار ترصد تضحية الأنثى في سبيل انتظار ذلك الذي لا يعود دوما وحين أتاها البشير بعودته كان الذي عاد هو ابنه من تلك الأجنبية في بلاد غربته عاد ليرد لها تذكاراً خطته بدمها فيالقسوة الخاتمة .

وتتجلى الذات الثقافية في قصص( كرامات سيدنا الولى ، وعيون زجاجية، والسر، وتقاعد ) فترصد تغلل الخرافة في العقل الجمعي للمجتمع واعتقاده في العوالم الخفية من جن وأرواح وأشياء تجلب التشاؤم وأخرى تجلب الشفاء ليعلنها بطل قصة السر:
” لا تغادريني… لا معنى لحياتي بدونك، كلهم أغبياء لا يعرفون للعطاء معنى غير الجسد…لا تغادريني..

يغادرهم في غموض مثلما مر بحياتهم، تاركاً خلفه دهشة الجميع؛ فحين اقتحموا شقته لم يجدوا غير مسبحة، وبقايا من بخور، ولوحة لفتاة رائعة الجمال تحتضن رأسه وخلفها عصاً تهتز كأنها جان. ” **
ولاتنفك الكاتبة تذكرنا بما صنعته ثورة يناير في الوعي الجمعي للأفراد وكيف كسرت حاجز الصمت والخوف في في النفوس مهما أصابها الشيب والعجز في قصة ( تقاعد).
ومن هنا نستطيع أن نميز بين ذات ثقافية تستمد رؤاها من المجتمع وتؤثر فيه وذات مبدعة تشكلها التجارب الذاتية بالدرجة الأولى .

ثانياً فنيات السرد:

1- على مستوى الخطاب:

يبرز الخطاب بعناصره المختلفة بصورة أوضح خصوصية الكاتب، فالمضمون القصصي مشاع وإنما الخطاب هو الصورة المتميزة التي يلبسها الكاتب لهذا المضمون ليظهر في صورة أدبية خاصة.

نجد هناء جودة عبر خطاب سردي مميز ينزع إلى إنسانية القص ، خطاب واعي ينبع من ذات ثقافية متشبعة بهموم وأوجاع االمجتمع والآخرين قبل الذات، نجدها ترسخ لهذا الوعي عبر تنويع أساليب السرد بين السرد الذاتي ، والسرد الموضوعي ، والميتاسرد،
والراوي أو الذات الساردة في قصص هناء جودة في معظم القصص رواي عليم يسرد من الخارج لكنه يقبض على مصائر شخوص القصة ويعرف دواخلها بحكم شخصيته داخل النص، وقد يكون عبارة عن ذات ساردة ترصد عبر ضمير المتكلم دواخلها كشخصية رئيسية في القصة تدور بقية الشخصيات في فلك أفعالها ومشاعرها وأفراحها وأتراحها؛ وهذا أبرز براعة هناء جودة في استخدام تكنيك المونولوج الداخلي الذي يبدو كومضات تنويرية في لغة مكثفة وموحية في العديد من القصص منها قصة ( عيون زجاجية ) ” يالها من نظرة مرعبة لهذا التمثال الأسود، أراه ينظر بتحدٍ غريب كأنه يتوعدنى بشر.. “**
وفي قصة ( السر) ” لا تغادريني… لا معنى لحياتي بدونك، كلهم أغبياء لا يعرفون للعطاء معنى غير الجسد…لا تغادريني.. “، بل إن هناك قصة ( مساء جريح ) والتي أعدها نموذجاً رائعاً لفاعلية المونولوج الداخلي داخل النص القصصى وقصة (انتظار ) بأكملها حالة من المونولوج الداخلي .

لكن في عدد من القصص برزت غنائية السرد كعنصر أبرز في تلك النصوص ( طيف، عقوق، الوشاح الأزرق) عبر أنسنة الموجودات، وتداخل الأنواع كما في ( مباغتة) حين مزجت بين الومضة والقصة القصيرة واستدعت عبرالتناص قصيدة شعرية ، وكذلك غلبت الروح الرومانسية على كثير من القصص إن لم يكن أغلبها ولا يظن البعض أن الغنائية تعد من مسالب الخطاب على الدوام لكنها قد تكون هي السبيل الأنجح لفتح نافذة التواصل بين حس المتلقي ومشاعر المبدع وأسوق هنا بعض معايير تبرز فنية القصة واترك للمتلقي الحكم على تأثير الغنائية في قصص هناء جودة سلبا وإيجاباعبر هذه المعايير:
لابد في القصة القصيرة من توفر الحدث القصصي حتى وإن كان شعوريا أو حتى خياليا دون الواقعي، لكنه يجب أن يحوي حدثاً لأنه من دون حدث لا يمكن أن تجد ما ترويه وبذلك تفتقد منذ اللحظة الأولى أهم شرط من شروط القص، كذلك اشتمال العمل على قدر من الشاعرية يحقق سمواً ملموساً بالعنصر اللغوي أثناء القص, ولابد من توفر عنصر ما كالمفارقة القصصية والإدهاش الحدثي بطريقة فنية، و كذلك يجب صياغة النهاية المحكمة التي ينبغي لها أن تفاجئ القارئ وقد تصدمه لتعلق بعقله ومخيلته دائماً. ونختتم تلك المعايير بالتكثيف.
2- على مستوى عناصر القص:
أولاً الحدث :
سبق وذكرنا أنه لابد في القصة القصيرة من توفر الحدث القصصي حتى وإن كان شعوريا أو حتى خياليا دون الواقعي، وقد جمعت قصص المجموعة بين الحدث الواقعي في حياة أبطال معظم قصص المجموعة والحدث المتخيل وذلك في قصص( مخاض، طيف، بين الكاف والنون، صفحة جديدة )
وتعمد هناء جودة إلى الانطلاق من حدث فرعي ثم تنطلق في توسعة للحدث حتى يبرز الحدث الرئيسي داخل النص وكأنها ترسم دوائر حول الحدث تتشابه والوجوه التي تنقلها من خلال هذا الحدث القصصي عبر تكنيكات فنية تكشف عن براعة وخبرة بالسرد القصصي يبرز من هذه التكنيكات السردية ( الفلاش باك، والمونولوج الداخلي ) بل إن الحدث في قصص هناء جودة يمتد ليؤدي وظيفة تصويرية وصفية للشخوص حيث أن معظم قصص المجموعة قصص شخصيات لا قصص أفعال .

ثانياً الشخصيات:
شخصيات المجموعة شخصيات إنسانية بالدرجة الأولى رغم ما تنطلق منه من علاقات شديدة الخصوصية إلا أنها تدفع المتلقي إلى القول بأن هذه الشخصيات لا تشبه الكاتبة بل تشبهني أنا وأنت أيضاً كما أن هذه الشخصيات ذات طابع رومانسي واضح، والفقد والحنين تيمة أساسية فهي تعاني من الحنين والعقوق والوحشة، ومن ثم تمثل الشخصية الرومانسية الحالمة التي تبحث عن دفء التواصل النموذج الأكثر ظهوراً في المجموعة .
ثالثاً البيئة ( الزمان- المكان )
نظراً لأن قصص المجموعة بما تحويه من شخوص تنطلق من خلال أبعاد شديدة الخصوصية والمحلية حتى تصل إلى البعد الإنساني العام لذا نجد البيئة بعنصريها ( الزمان والمكان) أحد المحركات الرئيسية للأحداث والكاشفة لأبعاد المضمون داخل قصص المجموعة .
ونبدأ بالحديث عن المكان داخل قصص المجموعة لأن ” المكان في القصة القصيرة جغرافيا الزمن الذي تتحرك عليه الشخصيات ومن خلاله، وتقع عليه الاحداث وفيه، وأن قصة يهيمن عليها المكان وتصدر معانيها عن بنية المكان القصصي هي تلك القصة التي يغلب على وصفها تصوير الأماكن ومتعلقاتها أو معطياتها، وتقع الاحداث فيها بفعل ظواهر المكان، السلبية منها والايجابية، وتصنع الشخصيات فيها صفات مكانية أو أن تلك الشخصيات تصنع أماكنها الخاصة بها، وتتبدّى الحبكة أو المفارقة موصولة بانفعالات المكان الاجتماعي أو السياسي أو الديني أو غير ذلك، كما أن المنظور الايديولوجي في منظومة قيمه المؤثرة في الشخصيات ، كما المنظور الذاتي في رؤاه التخييلية منظوران توجههما معطيات مكانية وتؤثر فيهما ، فالبيئة المكانية فاعلة في البيئة الزمانية وموجهة لها . “2
حيث نجد البعد المكاني له حضوره الفاعل داخل معظم قصص المجموعة وليس أدل على ذلك من قصة ( جدي دائما) حيث تلعب المفردات المكانية بما تستدعيه في نفس المتلقي من مشاعر وأحاسيس هي التي تجعله ينحاز للقصة وبطلتها وبها يتحقق الأثر المنتظر من هذه القصة وكذلك يلعب المكان دورا فاعلاً في قصص( ذكرى، طيف ، مساء جريح ، انتظار ) بل إن الموجودات المكانية في قصة مساء جريح حين تنعكس عليها الأحزان ومواجعها تلعب الدور الرئيسي في إبراز ملمح رومانسية التصوير عند هناء جودة.
وبالنسبة للزمن في قصص المجموعة فقد استطاعت الكاتبة التعامل مع زمن القص بوعي تام حيث تراوحت أزمنة القص لديها بين لحظة قصصية مركزة كما في قصة ( مباغتة ) وقصة (مخاض ) وزمن ممتد تعاملت معه الكاتبة بحرفية شديدة عبر تكنيك الفلاش باك والمونولوج الداخلي فلم يخرجها الامتداد الزمني عن تكثيف لحظة القص وتركيزها ويتجلى ذلك بوضوح في قصص ( انتظار، جدي، جدي دائما، شيء من القهر ) كذلك لجأت الكاتبة إلى تكنيك الحلم ولو كان حلم يقظة في قصة ( صفقة مشبهوهة ) تكشف عن ذلك نهاية القصة ” ينتبه على لمسات حانية من يد زوجته، توقظه ليغلق الحاسوب. ” **
ولكن نستطيع أن نقول بأن الزمن رغم إظهاره لبراعة الكاتبة في التعامل مع اللحظة القصصية وزمنها إلا أنه لم يكن بذات الفاعلية التي لعبها المكان بدلالاته النفسية والتصويرية داخل قصص المجموعة .
رابعاً اللغة :
على الرغم من محاولة هناء جوده في هذه المجموعة التخلص من التكثيف الشديد الذي يميز كتاباتها في القص القصير جدا إلا أن جملتها القصصية احتفظت بالتكثيف الفني وكذلك بدرجة عالية من الشعرية والفعل السردي داخل القصص متسارع يدفع عن المتلقي الملل فلا تجد وصفا مطولاً بل يتم ذلك في ثنايا القص في لغة قشيبة مطرزة بقدر من التصويرات التي تملك على المتلقي خياله نعرض لنماذج منها ” تأخذنى لحظة الوجع المعتم، حُبلى أحشاء القلم بالحبر العنيد، يأتيه وجع الشتات”، ” يتملكني شعور رائع، غصن من السعادة يتعلق به القلب الغارق فى الأحزان من سنين”،
” تَرف فراشات روحها مبتهجة”**
” يحتدم عراك الصمت مع النظرات”، ” تسقط من عينها نجمة فى قهوتها المُرة”،
وكذلك هناك الكثير من الصورة المركبة منها “غضبت يومها السماء، ترتدي ثوب السحب الكئيب، وكأنها حبلى بالدموع لا بالغيث، رحلت عن سمائي كل النجوم”**،
” أثاث المنزل تبدلت ملامحه، فارقت الأشياء حضن أماكنها” **
“يتثاءب المنبه العتيق، وتعلو صيحاته فى السادسة صباحاً”**

ويأتي الحوار داخل قصص المجموعة مكثفاً كبقع من الضوء يكشف عن دلالات تخدم تنامي الحدث داخل النصوص حين يكون الحوار خارجياً ويكشف عما يعتمل في نفس الشخوص عندما يكون الحوار داخلياً .

وقفات :

• القدرية في بعض القصص وإن جاءت عفوية إلا أنها قد تقلل من تفاعل المتلقي مع الحدث ومنطقيته كما في قصة ” ذكرى ” وكذلك في قصة ” الوشاح الأزرق” و قصة “تقاعد”.
• طول البداية في قصة “عقوق ” رغم براعة السرد فيها إلا أنها خلت من تنامي الحدث وغلب عليها الوصفية والتصوير لمعاناة البطلة.
• تكاد تكون قصة ” تقاعد ” رغم أنها تكشف عن أحد أبعاد الذات الثقافية للمبدعة إلا أنها لم تنطلق من تجربة شعورية قوية فبدت وكأنها بعيدة عن بقية قصص المجموعة في تماسها الشديد مع الذات.
• في قصص ( كرامات سيدنا الولي، عيون زجاجية، السر)
ترصد الكاتبة جانباً في الوعي الجمعي للمجتمع وهو تعلقه بالخرافة والعوالم الخفية لكننا نلمح عبر السرد والنهايات لهذه القصص وما حوته من مراوغة أن الكاتبة وقفت على الحياد ولم يتبدى لنا رفضها أو قبولها لهذا الجانب.
• تحول الكاتبة إلى القصة القصيرة عبر تجربة للسرد الطويل لا يعني بالضرورة تخليها عن كتابتها للقص القصير جدا لما وصلت فيه من درجة عالية من التمكن منحها التميز بين أقرانها في هذا اللون من القص .

مابعد الكتابة
تعد مجموعة ( وجوه تشبهني ) بحق نقلة نوعية كبيرة ونقطة فارقة في المشوار الإبداعي لهناء جودة بل وتضعها في مقدمة الصفوف بين كاتبات القصة وكتابها ونحن في انتظار أن يصل قطار الإبداع بهناء جودة إلى محطة الرواية لتكتمل تجربتها المميزة مع فن القص مع تمنياتنا لها بدوام الإبداع .

مراجع ومصادر :
1- أفضية الذات: قراءة فى اتجاهات السرد القصصى (بتصرف) سيد الوكيل سلسلة كتابات نقدية 2006
2- بنية المكان في قصة الحصان مقال نقدي د- رحمن غركان منتدي منابع الأدبية يناير 2010
(* ) مجموعة جدارية حزن قصص هناء جوده 2011
(**) مجموعة وجوه تشبهني هناء جوده


*أشرف محمود عكاشة
قاص وناقد
عضو اتحاد كتاب مصر
عضو مجلس إدارة نادي القصة بأسيوط

أضف تعليق