الروائي والناقد سيد الوكيل

الظاهرة القصصية. بقلم: سيد الوكيل

في ربيع عام 2004، وعلى هامش مؤتمر (القصة القصيرة والتجليات الثقافية) الذي أقيم بضاحية القناطر الخيرية، أقيمت حلقة نقاش في شكل مائدة مستديرة، جمعت عددًا من كتاب القصة والرواية البارزين في مصر. دار النقاش كإجابة عن سؤال طرحه منسق الحلقة (لماذا تراجعت مكانة القصة القصيرة بين فنون السرد الأخرى؟) .

بدا لى أن السؤال يوحى بآخر .. لماذا ازدهرت الرواية في زماننا هذا؟

هذة الصيغة وضعتنا مباشرة في قلب قضية قديمة طالما استهلكنا فيها أطنانًا من الورق، فحين ننظر إلى القصة القصيرة بوصفها نوعًا متفردًا، يقف في مواجهة في مواجهة نوع آخر/الرواية، فمن المرجح أن يدور الحوار حول قضية النوع الأدبي، وقد تطرح أسئلة من قبيل: إلى أي مدى تتفرد القصة القصيرة بوصفها نوعًا مستقلًا عن الرواية؟.

هل من المفترض أن نسلم ـ بداية ـ بهذا الفصل بين فنين سرديين؟

 عندئذ  يكون نقاشنا حول ما إذا كانت القصة القصيرة تعيش أزمة وجود؟ ومع هذا التسليم المبدئى بوجود أزمة يصبح من الممكن إثارة بعض الأسئلة الفرعية لتفكيك السؤال الأول. فإذا كانت القصة القصيرة قد تراجعت حقًا فهل هو تراجع كمي أم كيفي؟ وهل هذا التراجع  يعني أن المبدعين ما عادوا يرون القصة نوعًا قادرًا على إشباع طموحاتهم وأسئلتهم الجديدة؟ في حين تمنحهم الرواية هذه المساحة الأنسب للتعبير؟ وهل يرتبط الأمر بالخصائص الفنية للنوعين؟ وهل يعنى هذا أن القصة القصيرة بوصفها أحدث فنون الأدب استنفذت طاقتها سريعًا، بما يعنى أنها كان تحمل في لحظة بزوغها، جين تراجعها؟ أم أن ثم أسباب مصطنعة مثل مقولة (زمن الرواية) تم تدشينها لحصر القصة في حضور ضيق؟.

الأسئلة تتجه بنا إلى الكلام عن النشأة ، لكن النشأة ـ كثيرًا ـ محفوفة بالغموض، وعلينا بدايةً، مراعاة أن نشأة القصة في الأدب العربي تختلف   ـ في ملابساتها ـ عنها في الأدب العالمي، فمن المعروف أن الرواية في أوربا سبقت القصة في الظهور إلى الحياة بأكثر من قرن، في حين يذهب مؤرخوا الأدب إلى أن ظهور القصة كان مع نهاية القرن التاسع عشر، يعنى هذا أن الرواية كانت قد استقرت كشكل أدبي ونضجت في بنائها وعناصرها على نحو يمنحها حق الوجود المكتمل والسابق على القصة، لكن هذا الاستقرار لاينفي حقيقة أن مقومات الرواية ـ حتى هذا الوقت ـ كانت بسيطة لاتجاوز الحبكة والشخصية والوصف، لكنها بدت مع ذلك جنسًا أدبيًا مكتملًا، وهو الأمر الذي وضع القصة ـ لحظة ظهورها الأول ـ  في مواجهة غير عادلة مع الرواية، ودفعها طوال الوقت للسعى على تحديد ملامحها ورسم هويتها الخاصة على نحو مستقل تمامًا عن الرواية، حتى لايظن البعض أن القصة ليست سوى مبتسرة. أو على نحو ما نقول إن هذه القطعة من الخشب هي جزء من شجرة.

 كانت القصة فنًا شابًا في بدايتها، تحاول أن تدفع عن نفسها وصاية الرواية ، تتمرد عليها وتتجاوزها، وتأصل لنفسها عبر مقومات ثقافية ترتبط بلحظتها الحداثية ، وفيما بعد راحت الرواية تسعى إلى تجديد نفسها، تتخلص من ثوابت الماضي، وتستبدل أثوابها القديمة بأخرى جديدة، لتكون جديرة بمواجهة هذا الفن (القصة) الطموح  الشره، هكذا تصبح القصة عاملاً دافعًا إلى يقظة الرواية من ثباتها، وامتثالها لسلطة الملاحم والأساطير، فسعت إلى التخلص من رديكالية الشكل التراتبي.  

 وعلى هذا النحو الدرامي، يبدو الأمر كما لو أن الأنواع الأدبية تعرف فيما بينها جدلًا، كذلك الذي تعرفه الثقافات،لا لشيء سوى لأنها إحدى ثميلات الحداثة، بل وتأكيدات ملامح الخصوصية الثقافية على نحو ما نقول دائمًا: الشعر ديوان العرب، وهذا يعني في أحد وجوهه ، إن الثقافة العربية ارتضت لسبب ما ، أن يمثلها هذا النوع / الشعر، ولكنه لايعنى أن هذه الثقافة لم تعرف أنواعًا أخرى، هذه مقاربة تساعدنا على تصور طبيعة الجدل بين نوع أدبي وليد في غمار اقتحامه للثقافة العربية.

 نحن نفكر في سياق سردية تاريخية تطمح أن تفسر العلاقة بين الأنواع بعيدًا عن دواعى الأداء التنظيرى والخواص الفنية عند نقاد الأدب الذين اجتهدوا في الوقوف على العناصر المهيمنة لكل نوع. وظنى أنه جدل لم  يتوقف لحظة حتى الآن، ومن ثم فإن النتائج والاحتمالات هي مثلها في كل جدل. إزاحات، ومعارك صغرى تنتهي بانتصارات وهزائم هنا أو هناك، وعمليات دمج وتغير وتطور، لكن لا شيء يموت، ثمة جديد يولد في كل لحظة، وهكذا يمكن تصور أن القصة ـ التى جاءت من أوروبا ـ عرفت نوعا من الدمج مع فنون السرد العربى القديم كالمقامة أو الحكاية الشعبية، وحكايات ألف ليلة وليلة، وهو ما أغرى كثيرًا من نقاد القصة ذوي النزوعات العروبية، بالتفكير في صياغات جديدة أكثر أصالة بالنسبة لثقافتهم. إن القصة القصيرة التى نكتبها الآن، صارت فنًا عربيًا مستقلًا ومتفردًا بهويته، ليس فقط عن القصة الأوربية، بل عن تلك التى كتبها الرواد الأوائل في مرحلة الانتقال الأولى، والتي بدت أكثر إخلاصًا لشكلها الأوربي.

 إن هذا التاريخ لم يعد شيئًا يحتاج لإثباته بعدما أريق فيه كثير من مداد.

وإذا انتهي سؤال النوع، إلى أن القصة ـ منذ بدايتها ـ سعت لأن تكون فنًا مستقلًا عن الرواية، بحيث تقف في حد ذاتها نوعًا أدبيًا متفردًا، فإن سؤال القيمة يصبح بلا معنى على الإطلاق، وحيث لا يمكن لأحد أن يتحدث عن القصة كصيغة أولية للتدريب على عمل روائى كبير.

أما السؤال الذي أطرحه على نحو درامي أيضًا: هل كانت القصة جديرة بهذا التفرد عن الرواية حقًا، أم أنه جاء منحة نقادها؟

 الآن وحتى مناسبة أخرى، علينا ملاحظة أن الجدل دارعلى نحو محتدم في مرحلة الحداثة الأوربية، حيث استبدت بالعالم رغبة في سيطرة العقل، وهيمنة العلم، والعلم ـ كما نعرف ـ قرين التصنيف المنهجي. لهذا فإن تدخلات النقاد والمنظرين في خلق هوية القصة القصيرة، ورسم الحدود فيما بينها والرواية، كانت فادحة حتى لايمكن تجاهلها، ولاسيما في سعيهم الدائم للكشف عن العناصر المهيمنة في كل نوع، ولكن.. ما دامت النظرية تالية للتجربة والخبرة ورهن بكل الحاجات الإنسانية لا العقل وحده، فمن المرجح أن هذا الحراك المحتدم بين الأنواع سيظل مستمرًا، وسيحدد ـ هو ـ نفسه، وفقًا لظروف أخرى عديدة غير ظروفه الجمالية، فتحدد هويتها، وتستقل بذاتها فنًا مستقلاً، ومع ذلك، يظل النقاد منهمكين ـ لقدرهم المحتوم ـ في البحث عن المزيد من التفسيرات والتصنيفات.  

كانت كلمة السر في سطوع القصة، هي التعدد. الكثير منا يعتقد أن التعدد ـ حصريًا ـ سمة عصر المعلوماتية واتجاهات مابعد الحداثة، غير أن بذور التعدد نثرت بالفعل، مع البنيات الأولى للمجتمعات المدينة، التي نشأت نتاجًا لثورة التصنيع، وارتهنت بصعود للطبقات الهامشية من (العمال ـ النساء ـ الأقليات العرقية والدينية) التى كانت في حاجة إلى أشكال من التعبير السردي، تمكنها من الوقوف في مواجهة الراديكاليات السياسية والاجتماعية، والمركزيات الإقطاعية للبيئات الرعوية. 

القصة نتاج عصر ازدهار الثورة الصناعية، أحد مظاهر هذا العصر نهوض الوعي التقني بالعالم. إنه وعى يسعى إلى التفكيك والتصنيف والنظر باعتبار كبير إلى التخصصات الدقيقة، وفي المقابل انحسار الوعى الملحمي الذي ينظر إلى العالم عبر رؤى تاريخانية تفسر بعضها بعضًا.

إن نظرية هيجل حول مسيرة العقل في التاريخ، منحت النقاد حق تفسير نشأة الرواية كولادة طبيعية من الملحمة، بوصفها تعبيرًا عن تطور الوعي الإنساني، وتبشيرًا لبزوغ العقل وصعود البرجوازية. ولقد كانت النماذج الباكرة، التى سميت بالملاحم الاصطناعية (الإنياذة ـ الكوميديا الإهية ـ السيّد) تجسيدًا لمرحلة وسيطة بين الملحمة والرواية.

 أما التمثيلات لأولى  للرواية بمعناها الاصطلاحي الحديث، فقد كانت بعد ذلك، وهو نهج لا يفصل بوضوح بين القصة والرواية، بقدر ماكان متأرجحًا بين رغبة واعدة بالرواية، لكنها لم تتخلص تماما من ماضيها المحمي، وهو ما نمثل له هنا بالآتي: (ديكاميرون لبوكاتشيو- 1313م)، وحكايات ( كانتربري ـ 1476م لتشوسر)، و مغامرات ( دون كيخوتي ـ 1605م لسيرفانتيس). حيث تمثل هذه المرحلة ، المحاولات الأولى لتخلص الوعى من التطلع الميتافيزيقى إلى ماهو إنسانى وعقلاني ( وبما أن الوعي لم يكتمل بعد، فلا بد من أن تكون فيه نوستالجيا معينة تشده إلى القديم، وهذا ما يفسر استمرار الأشكال الأدبية القديمة ردحًا من الزمن ريثما يكون العقل قد تخلص من مرهقاته ومعوقاته).”[1]

تمكنت القصة من أن تتجاوز المأزق النوستالجي الذي أحاط بالرواية، فبدت أكثر وعيًا بطبيعة المتغيرات في المجتمعات الحديثة، من ذلك مثلاً إدراكها لطبيعة الزمن بوصفه خطوطًا متعددة، بل ومتقاطعة وليس تيارًا كنهر متحرك في اتجاه واحد. ولعل هذا ما أفضي إلى إدراك حركية الزمن في القصة القصيرة، ودورة لتحقيق ابع الكثافة الذي أدركته القصة، لتميز نفسها، خلافًا لآلية الامتداد الزمني التي نهضت عليها الرواية، ويعني هذا أن كل منهما حدد هويته وفقًا لارتباط تقني واعيًا بزمنه المناسب لطبيعته.   

نحن نتحدث عن مساحات الصمت والفجوات التى يتركها النص القصصي لتستكمل فيما بعد عند القارئ، نحن نتحدث عن خطوط غير ممتدة طوليًا في تشكيل فضاء الزمن، وتستتبع ـ من ثم ـ وحدات سردية صغرى، وستقوم اللغة بكثافتها وطاقتها الرمزية والشعورية، بلحم تلك الفراغات بينها، إنها خطوط الإنتاج الصناعي / التقني، التى لم ترتبط  ارتباطًا قسريًا بالطبيعة كالزراعة أو الرعي.

وعلى مستوى آخر ، كان إنسان المجتمع الصناعى قد بدأ التحرر من سطوة الطبيعة وهيمنة الزمن، وهو الآن يتحكم فيهما على نحو قامع مترافقًا، إنسان جديد، يخلق فنًا جديدًا ليلبى احتياجاته الجديدة، ويملك وعيًا بالطبيعة والزمن. فالحكاية لم تعد شيئًا في حد ذاتها إلا بقدر ماهي وسيط حامل لهموم وقضايًا وأحلام  ومشاعرالإنسان، وبناء الحكاية لم يعد مجرد نسيج مخملي موشى بالبلاغة، بقدر ماهو تجسيد لفلسفة ووعى الإنسان بالعالم، فصارت التقنية هي بلاغة إنسان الحداثة.

ثمة ملابسات أخرى، فجهاد القصة القصيرة في أوروبا، ورحلتها نحو تأكيد ذاتها تزامن أيضًا مع مرحلة الاحتدام العنيف بين الرومانسية من جهة والواقعية من جهة، أجدنى الآن أكثر ميلًا لكلام خيرى دومة: “لقد كانت القصة القصيرة منذ نشأتها نوعًا بينيًا تتنازعه أهداف متعارضة، فهو شخصي واجتماعي، رومانتيكي وواقعي، شعري ونثري، شفاهي وكتابي، تعليمي وفني، يسعى إلى مشابهة الواقع كما يسعى إلى تكثيفه وترميزه، ومنذ تنظيرات إدجارآلان بو الأولى، ظلت القصة القصيرة لدى غالبية منظريها واقعة بين القصة والرواية، حيث السعى لتمثيل الحياة الواقعية والشعر، وحيث العناية الخاصة بالتصميم الكلي الرهيف، وأسبقية الدال وجاذبيته، والدراما حيث تكثيف العالم المتسع وتركيزه في وحدة واحدة أضف إلى ذلك أنها كانت على الدوام نوعًا صالحًا للتجريب، لأن كل تجربة جديدة كانت تحتوى ـ كما قيل ـ على قالب جديد”. “[2]

 كانت الرواية قد ولدت في آفاق الرومانس فنًا رعويًا يلبى حاجات المجتمعات بسيطة البنية، وعملت على تغذية طبقة النبلاء والإقطاعيين فيما عرف بعد ذلك بروايات المدفأة، فبدت بوصفها فن النخبة، في حين كان للعوام أغانيهم وحكاياتهم الشعبية. الرواية بعد أن تخطت مرحلة الولادة الملحمية راحت تقدم نفسها للقارئ كوسيلة تسلية ودفع الملل، كرست نفسها لإثارة الخيال لا العقل، وحتى وقت قريب كانت الروايات البوليسية تقوم بهذا الدور، كما كانت الرواية التاريخية عند( الكسندر ديماس) كذلك، ولا ضير من أن تضمر نوايا تعليمية تثبت كثيرًا من القيم الكلاسيكية، فالرعاة إذا اجتهدوا يمكنهم أن يكونوا فرسانًا، والفرسان يحظون بشرف خدمة الملك وحفظ شرف الأميرات، إنه التدرج الطبيعى للسلم الاجتماعي، فلا شيء هنا يشبه الثورة ، أخدم الأمبراطورية بإخلاص لتنول رضا الأمبراطور، إن وعيا على هذا النحو لايؤسس إلا لأفكار الكليونالية والمركزية الأوربيةعلى نحو ما لاحظ إدوار سعيد في كتابه، الثقافة والإمبريالية.

 بالتأكيد ارتبطت الرواية بملحميتها طويلاً حتى إلى مابعد تولستوى، الرواية فن مكتمل ومكتف وذكوري يدعي القدرة على امتلاك تفسير تاريخي للعالم، من هنا تستمد الرواية حضورها المركزي، بحيث تبدو القصة إلى جوارها مغرقة في هامشيتها كأنثى، وبالتأكيد ـ فيما بعد ـ  ظهرت حاجة الروائى إلى التقنية لتضفي مزيدًا من الإثارة على الحكايات البوليسية، بالتأكيد ثمة تقاليد روائية استمرت بعض الوقت وربما إلى الآن، لكنها على أى حال، كانت تلتفت إلى تغيرات الحياة من حولها، وتستشعر ببعض الحذر ذلك الفن (القصة القصيرة) الذي أعطى مساحة ممكنة  للمهمشين وقليلى الشأن أن يعبروا عن أنفسهم.    

إن حركة الرواية في سبيل تطورها كانت بطيئة، وغير قادرة على التعبير عن حاجة الإنسان الجديد، والواقع الذي أضحى يموج بطروحات ثقافية واجتماعية وسياسية جديدة، وينمو فوق أرضية جديدة من الوعى بالطبيعة والزمن، بما يعيد صياغة مفهوم الإنسان لذاته وعلاقته بالكون، وحيرته بين الميتافيزيقا والعلم، لقد “وصلت الرواية إلى وعى ذاتها متأخرة” ([3]) في حين امتلكت القصة هذا الوعي مبكرًا وكأنما تمثل ثورة على تلكؤ الرواية وتعثرها في الاستجابة للواقع الذي كان يتغيرـ بفضل التقنية ـ بسرعة. لقد كان هذا الوعى بدور القصة الثوري  مضمرًا في أسباب نشأتها الأولى، ومن ثم يمكن القول إن القصة القصيرة حملت المشروع الحداثى للإنسان بوصفه مركزًا للكون، وجسدت  بشكل فلسفي رغبته في موت الأب ( ذلك الرجل النبيل بشكل مطلق) ، وعلى مستوى تقنى ، جسدت رغبته في هدم سلطة الشكل ،هذه السلطة التى حددت منذ البداية طبيعة الأنواع الأدبية ، ومن ثم يمكن تصور أن القصة  القصيرة ومنذ نشأتها الأولى جسدت تهديدًا مباشرًا لمركزية النوع، الذي هو أحد تمثيلات الخصوصية الثقافية، وكأنها تمهد العالم لعصر جديد من التنوع الثقافي الواسع على نحو ما يعيشه في لحظته الآنية.

لم يكن الموضوع الميتافيزيقى ضالعًا في القصة، لقد طرح الواقع  باعتباره مفهومًا يقف في مقابل الميتافيزيقي، وبدت القصة راغبة في اختبار العلاقة بين الإنسان وواقعه المعاش أكثر مما هي راغبة في اختبار العلاقة بين الإنسان والسماء، فجاءت القصة على هذا النحو ظاهرة ثقافية أكثر من كونها مجرد فن أدبي جديد، ويعني هذا قدرتها على تجاوز الحدود ومخاتلة السلطات الثقافية والمركزيات الفكرية، فضمنت لنفسها جمهورًا من الكتاب والقراء  مختلفًا إلى حد كبير عن جمهور المدفأة. إنه جمهور يتشظى في أروقة الحياة اليومية، في المصانع  والمقاهي والمنتديات الصغيرة  والتجمعات السياسية المحظورة ، جمهور راح ينظر للقصة نظرته إلى مشروع ثقافي وتنموى مرتبط بالأفكار الطليعية والتحررية والإنسانية. وليس من قبيل المصادفة أن تجد القصة ـ في بلدان المخاض السياسي والاجتماعي وهي تخوض معاركها ضد أشكال الاستعمار والعنصرية واستبداد الطبقات العليا ـ أرضًا خصبة لاستنبات أشكالًا جديدة منها.

 هل يفسر ذلك لماذا كانت القصة أوسع انتشارًا، بل وأسرع في الوصول إلينا من الرواية، على الرغم من أن الرواية استقرت في أوربا قبل القصة بقرن على الأقل، وكأن الرواية بدت تمثيلاً  لطموحات الآخر، باعتبار المركزية الأوربية الاستعمارية تمثيلاً للأنا .

يفسر إدوار سعيد في  (الثقافة والإمبريالية) انتشار الرواية الملازم لانتشار الامبريالية وصعود الفكرالامبراطوري، كما يبين طبيعة التفاعل، والإثراء المتبادل بين الثقافات والمجتمعات، والصراع ضد الاستعلائية والاستعمار والامبريالية والهيمنة والتسلط والتمركزية الغربية على نحو ما تمثله صورة السيد وتابعه في دون كيشوت. وعلى وجه التحديد تلعب الرواية، منذ البداية  دورًا خطيرًا في تأكيد هذه المركزية، ومن ثم رسم الحدود الثقافية لمجتمعات المهمشين داخل حيازات جغرافية أو عرقية أو دينية أو جنسية.

 وفي المقابل ، يمكننا النظر إلى القصة بوصفها ظاهرة ارتبطت بمرحلة من التثوير السياسى والثقافي على أشكال الاستعلاء الغربي، في حقبة زمنية اتسمت بالنزوعات التحررية، ومن ثم لم يكن من المستبعد أن تمتلك القصة من المقومات الفنية والموضوعية ما يعينها على أداء هذا الدور، لقد ارتضت القصة ـ منذ البداية ـ لنفسها هذا النزوع الثوري، أن تقف على هامش مركزية الشكل الروائي، ومن الأرجح أن الرواية عندما غادرت أوربا إلى مجتمعات أكثر هامشية، كانت قد تأثرت بالتصورات التي طرحها كتّاب القصة عن السرد الجديد ووظيفته وطرائقه (قد حدث بالفعل، في السنوات التالية، وحتى عشرينيات هذا القرن إعادة نظر كبير للرواية، أسميناها: الحداثة ، وقد كان ذلك إدراكًا بشكل ما، للإمكانية الشعرية والرمزية للعمل الروائ، ولكنه كان أيضًا نوعًا من المأساة، فالروائى الحديث قد فقد شيئًا من إيمان القرن التاسع عشر بالواقعية، من التسلسل والتتابع المنطقى للعمل الروائي، من التطور الطبيعي للعلاقة بين الأفراد وبين تقدمهمالاجتماعي والأخلاقي)”[4] ” .

 وهكذا يمكن القول أن هذه الروح الثورية الخلاقة التى واكبت انتشار القصة ، انتقلت بطريقة ما إلى الرواية. كما  أن حضورالقصة كظاهرة ثقافية ارتبطت بلحظة تاريخية شديدة الغليان، حرمها من أن  ترهن نفسها بالرسوخ المركزي الذي سعت إليه الرواية منذ البداية، ونتيجة لذلك أن تحررت القصة كثيرًا من جاهزية  الشكل والأداء، فالرهان التقني خصب ومتعدد، يمتثل للأداءات الفردية والنزوعات الهامشية والمهارات الخاصة ويكشف عن النوازع التجريبية، وروح المغامرة التي تكونت لدى إنسان الحداثة.

 يتحدث (فرانك أكونورو) عن القصة بوصفها فن الصوت المنفرد، فكل قصة جديدة هي تجربة جديدة، تحمل على نحو خاص جدًا خصائصها، شكلها وموضوعها، وتختار بنفسها اتجهاتها إما إلى تفاصيل السرد أو التكثيف الشعري أو الدرامي أو الملحمي أو الغنائي أو الحكاية الشعبية، أو حتى الخاطرة والأمثولة وصياغات أخرى عديدة ومتنوعة أعيت النقاد في حصرها وتصنيفها تماما كما أعيتهم في تعريفها. ومن المؤكد أنهم أجهدوا القصة في كثير من الأحيان عندما بذلوا جهدًا كبيرًا في سبيل نمذجتها. إن رغبة النقاد في نمذجة القصة ورسم أطرها الشكلية والموضوعية ضاع أغلبه سدى، لا لشئ سوى لأنه كان ضد طبيعة القصة التى لازمتها منذ نشأتها الأولى .

 يحدث  عندنا وحتى الآن، أن ندرس لتلاميذ المرحلة الثانوية قصة مثل:   ( نظرة ) ليوسف إدريس ، نموذجًا للقصة القصيرة ، ومع ذلك فلا أحد يمكنه أن يكون يوسف إدريس، ولا يوسف إدريس نفسه يمكنه أن يكتب كل قصصه بنفس الطريقة التى كتب بها قصة نظرة. المعنى.. أن كل قصة جديدة تنتج طريقتها في الكتابة وتنصب نفسها كنوع متفرد، وحتى تلك المحاولات التي نظرت للنوع على أساس من الشكل (الخارجى والداخلى) لم تكن أبدًا حاسمة.

لن ننشغل بتفاصيل دقيقة ـ هنا ـ حول قضية النوع، سنترك هذا الأمر واقعًا بين اجتهادات (جيرار جينت) التصنيفة المدققة، وبين تفكيكية (دريدا) المغوية، ولكننا نستطيع أن نقول ببعض الاطمئنان، إن القصة القصيرة عندما تنجح ـ فيما يشبه الغزوـ  بتذويب رهاناتها الثقافية داخل الأنواع الأدبية الأخرى، فإنها طوال الوقت تعمل على تفكيكها، فبعد قرن من الزمان على وجود القصة في الأدب العربى، لم يعد الشعر كما هو بعد أن مال كثيرا إلى السرد وبعد أن تخلص من آلاته الإيقاعية، لم يحدث العكس كما تخيل البعض، لأن ما حدث هو أن الشعراء قرروا أن يكتبوا قصيدة النثر، ليمرروا فيها بعض الحكايات الصغيرة والمفارقات الإنسانية وينفضوا عن كاهلهم سيمترية الإيقاع والقوافي.

ومن الأرجح أن القصة لعبت دورًا مماثلًا في أوربا وهي تواجه مركزية الرواية وتسعى إلى خلخلتها ضمن ماتسعى إلى خلخلته من مركزيات، ويمكن تصور أن  الرواية  جاءتنا ـ منذ البداية ـ ملتبسة بالقصة بعد حراك طويل بينهما في بلد المنشأ. ومن ناحية أخرى فظهور القصة في مصر كان سابقًا على ظهور الرواية بقليل، وكلاهما نما وتطور ـ عندنا ـ تحت ظرف واحد، إن هذة النشأة العربية للقصة المتميزة بتزامنها مع الرواية (في مصر)  وثقت العلاقة بينهما على نحو ما. فمنذ البداية، لم يكن ثمة فارق كبير بين القصة والرواية.  ففي مقدمة مجموعته القصصية ( إحسان هانم) يقول عيسى عبيد:( وقد حذونا حذو بلزاك شيخ الروائيين الفرنسيين في مؤلفاته الموسومة بالإنسانية الممثلة.. بمعنى أننا قد نتتبع في قصصنا المقبلة حياة الأشخاص الذين صورنا صفحة من حياتهم في هذة القصص، أو نأتى على صفحة أخرى من حياتهم ..)”5″.

تعكس كلمات عبيد وعيه بالفرق بين القصة والرواية على أساس أن القصة بنية صغرى في الرواية، كما تعكس عدم قناعته بالفصل الحاسم بينهما فثمة قصص يمكنها ـ في كتابة أخرى ـ أن تتحول إلى روايات بجهد يسير مثل تتبع حياة الشخصية، كما يمكن لهذه الشخصية أن تصاغ على نحو مختلف في قصة جديدة، بما يعنى حلقات من القصص (متوالية)  تتواثق فيما بينها برباط واحد.

إن مقولة عيسى عبيد تعكس على نحو باكر، إمكانية حلول القصة في الرواية بكل طرائق سردها وتقنياتها وعناصرها وكأنما الرواية ليست سوى قصصًا نظمت على نحو خاص، ومن حسن الحظ ، فإن مقولة عيسى عبيد لاتخبرنا إن الفارق بين القصة والرواية هو مجرد الطول أو عدد الصفحات، فكأن عبيد يرى أن ثمة لحظات كتابة تتوقف على نحو غير حاسم وتظل مفتوحة وواعدةً بتجليات أخرى لها، إنه موقف يعكس إحساس الكاتب بلحظة الإشباع السردى، تلك التى يشعر عندها إن النص انتهي. وكثير من القصص عند يحيح حقي وإدريس وإحسان عبد القدوس بل وعند سعد مكاوي، تطول وتتجاوز الخمسين صفحة، ومع ذلك تظل تحتفظ بهويته القصصية.

 إن أحد التفسيرات التى طرحت لتفرق بين القصة والرواية هو الفضاء الزمنى الذي تتحرك فيه الشخصية وتنقضي فيه الأحداث. وظنى أن الاختبار التطبيقى للنص الأدبى يفشل في كل محاولة لتأسيس النوع السردي على أساس من الزمن، فالقصة عند نهوضها ـ رغم اختلاف ظروف النشأة ـ لم تستكنف استفادتها من الرواية في تشكيل الفضاء السردي.

وسوف نتناول موضوعة الزمن في القصة القصيرة ، وسوف نستخدم نفس المفاهيم والمصطلحات التى استخدمها نقاد الرواية  بلا حرج، وكأننا نسعى لأن نسرب إلى وعى القارئ فكرتنا عن انهيار حضور الزمن كعلامة فارقة بين القصة والرواية ، لا لشئ إلا لأن الرواية نفسها لم تعد تقيم أزمنتها على تصورات خطية كما كانت في الماضي، أو بمعنى آخر لم لم يعد الزمن يشكل مركزًا تدور حوله الأحداث، إن هذا التغير في مفهوم الزمن الروائى لم يكن ممكنا قبل أن تلعب القصة دورها في خلخلة مركزية الشكل الروائى.

 إن الرواية في شكلها الأكثر حداثة، صارت تستفيد من الزمن القصصي ـ إذا جاز التعبيرـ من حيث قيامها على مجموعة من الوحدات السردية الصغرى التى تتصل أو تنفصل على نحو تقنى لا يرتهن بالحدث وتطوره في تيار الزمن المندفع إلى اتجاهات شتى، ولكنه قد يقوم على علاقات تواصل أكثر مرواغة وأقل حضورًا أو هيمنة، فالوحدات السردية في (وردية ليل) لإبراهيم أصلان تترابط بفضاء المكان على نحو ما يحدث في المسرح ( السينوجرافيا) ، وقد تترابط في فضاء أكثر اتساعًا وأكثر مراوغة عند (محمد مستجاب) كما في رواياته القصيرة ( الفاضل والبأف والكلب)

إن الأمثلة أكثر مما نظن على أن الرواية التى نقرأها الآن تمردت على التعريفات النقدية الأولى للرواية، ولا نظن أن هذا التغير السريع والمتعدد في بنيات وأشكال الرواية الحديثة، كان من الممكن أن يوجد بدون الثورة التى قادتها  القصة القصيرة، بما يشير إلى درجة من التماهي بين القصة والرواية، هذا التماهي تؤكده العناصر السردية التي من قبيل:( الزمان والمكان والحدث والشخصية والحوار..الخ)

كما إن شيوع الحراك التقنى في الرواية، وتنازلها عن فحولتها الكلاسيكية، هو في واقع الأمر مقاربة للقصة، إذ يمكن القول إن رواية ما بعد الحداثة، تخلت عن كثيرمن رهاناتها الأولى، لتبدو العلاقة بين القصة والرواية ليست تفاعلية فحسب، بل عاطفية. فبعد تجاوزنا لمقولة زمن الرواية المفتعلة، تمكنت القصة من الإعلان عن نفسها من جديد، وعبر يقظتها على مواقع التواصل الإليكترونية لتؤكد أنها لم تمت كما اعتقد البعض، وظني أن ثمة قصة حب جديدة بين القصة والرواية تلوح في الفضاء الإليكتروني. ويظل السؤال: هل يمكن للذكاء الاصطناعي، أن يفرق بينهما؟

ظنى أن الإنسان منذ الخلق البدائي، وعبر كل هذا التاريخ، نجح في تأكيد وجوده، وسيطرته، رغم كل التحديات التي واجهته.


[1] –  حنا عبود : من تاريخ الرواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ 2002م

[2]– خيرى دومة : تداخل الأنواع الأدبية في القصة المصرية القصيرة ـ دراسات أدبية ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ م1998.

[3] – ـ مالكوم برادبرى ( تقديم ) : الرواية اليوم ـ مكتبة الأسرة ـالهيئة المصرية العامة للكتاب ـ ترجمه أحمد عمر شاهين ـ القاهرة ـ 2005

[4] – مالكولم برادبري: السابق

أضف تعليق