أرشيف الأوسمة: انتصار عبدالمنعم

الغريب …قصة قصيرة :إنتصار عبدالمنعم

عاد الغريب أخيراً. حط رحاله أسفل تل رملي من تلك المحيطة ببلدته من كل جانب. يذكر شكل البيوت التي داعبته صغيراً بسعفها ورمال فرشها. متكسر الأحلام يبحث عن بوص بري يشيد به بيتا مخروطي الشكل لن يتجاوز طول جسده، ولن يستطيع دخوله إلا وهو محني الظهر. يجعل له فتحتين متقابلتين، ظن قديما أنهما من أجل المحافظة على حركة الرياح دخولاً وخروجاً كي ترطب الرمال الملتهبة من حوله. يدرك الآن وهو متكئ على ذراعه، يغمس ساقيه في الرمال، أنهما الحياة؛ ندخل من باب ونخرج من آخر يطل على الجانب المجهول. يفتش الغريب عن بسمة نسي كيف يرسمها على وجهه منذ أن رحل، يجرب الشعور بالفرح. في الخُص يستعيد أحلامه البعيدة عن تيه المنافي، يغمض عينيه ويرهف السمع لحركة الرياح تداعب جدران بيته العجيب. صوت الموج على البعد يؤكد له أنه عاد. يشعر بالجوع فيخرج يبحث عن شيء..

عين الغريب تلمح دقناشاً مهاجراً وقف يستريح على جريدة نخلة مجاورة، يروق له بريشه الأسود المختلط بالأبيض وعينيه المكحولتين. يتقدم منه ببطء وينصب فخاخه، يضع في كل منها حشرة أرضية صفراء اللون، يخفي الفخاخ ببعض الرمال، يترك الحشرة ظاهرة تقاوم الأسر بحركات تبدأ سريعة ثم ما تلبث أن تخفت. يطلق الغريب صوتاً خافتاً محاكياً صوت الدقناش يحثه كي ينظر إلى الحشرة المصلوبة . تنطلي الخدعة على العصفور الذي لم يألف خداع الشرق ولا ذكاء القتلة، فينقض على الحشرة . ينغلق الفخ عليه وتتعالى صرخاته يلعن حجه السنوي إلى مكان يخبيء خلف دفء أشعة شمسه، قلوب قناصة تنتظر قدومه. يخلص الغريب صيده من الفخ، ينقض عليه الدقناش بمخالبه وبمنقاره مثل صقر شاهين، ثائراً مقاوماً قبضته المحكمة من حوله. ينسى الغريب قيده الذي أدمى سنوات ماضية من عمره ويبدأ في تقييد العصفور بسعف النخيل، يسلبه بعض ريش أجنحته، يبعد عنه فكرة التحليق مرة أخرى . لم يستسلم الطائر الأسير؛ يهاجمه بمنقاره، يخزمه الغريب من أنفه بسعفة أخرى لتحيط بمنقاره مرورا من فتحتي أنفه. نسي الغريب غربته وجلاده البعيد، وعلق طائره السجين داخل الخُص وعاد يكرر فعلته. وكلما أسر الغريب عصفوراً نسي غربته، واكتسب هوية نفس المكان الذي رحل عنه قديماً، يفتش عن دروب بعيدة لا يتعثر في فخاخها ولا يسلبه فيها أحد أجنحته….