أرشيف الأوسمة: كتابة

كتابة حدثيّة تدفع المتلقّي نحو إشراقة ذهنيّة.. قراءة في نص “انكسار” لمختار أمين. بقلم سهيلة بن حسين حرم حمّاد/ تونس

  كتابة حدثيّة تدفع المتلقّي نحو إشراقة ذهنيّة

المدخل:

إنّ الق ق. ج، جنس أدبي، مستحدث، لقي رواجا في السّنين الأخيرة، ولد من رحم الرّواية، والقصّة، والقصّة القصيرة. غير أنّه، بحكم تصنيفه ق.ق ج فطبيعي أن يتفرّد بخصائص تفرضها طبيعة هذا الجنس، كالابتعاد على التّعقيد، في عرض الأحداث ، وتفادي اجترار الفكرة وبالتّالي الابتعاد عن التّمطيط، تجنّبا للتّطويل، و الحذر من الانسياق نحو الإسهاب والإطناب وذلك تفاديّا لتجنّب إحداث الملل لدى لقارىء ….
وذلك محافظة على روح هذا النّوع، ونبضه لضمان بقائه، وعدم اندثاره. وهو نوع يعكس، نبض نسق حياة هذا الجيل السّريع، الذي فرض نوعية أدبية، تستجيب لروح العصر، وتتماشى مع طبيعته، إذ بات أكثر اطّلاعا، على أنماط الكتابات العالميّة، فطبيعيّ أن ترتفع الذّائقة لديه وبالتّالي صار قادرا على التّمييز بين الغث والسّمين ..
ويعتبر الدّكتور مختار أمين، من القلائل الحاذقين على السّاحة الأدبية، ممن تتميّز الكتابة لديهم بالنّقاوة، من كل الشّوائب، إذ جمع بين المعرفة وحسن الذّائقة والخبرة والصّنعة … فهو تقريبا يجيد الكتابة في كل الأنماط السّردية بما في ذلك إجادته لفنّ القصّة القصيرة جِدا ….

إن الجمل الإنشائية، التي تشكّل النّص النّثري، سواءً كانت ق.ق.ج، أو قصّة قصيرة، أو رواية، لدى الدّكتور مختار أمين في نسيجها النّثري، تقوم على حسن التّأثيث، المبنيّ على حسن اختيار الجنس حسب أهميّة الموضوع، وما يحتاجه من ضرورة، لتشكّل وحدة حكائية، قائمةالذّات، تحترم الجنس الذي اختاره، لتمرير حكيه، شكلا ومضمونا ..انطلاقا من اختيار الموضوع والشّخوص. وصولا إلى حسن انتقاء الألفاظ، والمعاني، بشكل يجعلها في تناغم صوتي جرسي ، بلاغيّ، باقتصاد، على حسب النّوعية، من دون إفراط أو تفريط، بقصد تفعيل البعد الإيحائي، للّفظ، من خلال الحسّ اللّفظي الصّوتي…

وللتأكّد من صحّة ادّعائي، إليكم  الق. ق.ج بعنوان: “انكسار” المنشور بصفحة مؤسّسة المختار للنّصوص الأدبية بين الاحتراف والهواية بتاريخ 28/08/2019

النّص:

(انكسار)
 

كانت كلّ مرّة تقف على التلّ تلوّح بمنديلها ذات الثّلاثة ألوان..
في العشر الآواخر من الدّهر، كانت تصرّ على الصّعود محدودبة الظهر تتعكّز على عصاة جافة..
رنت إلى بعيد وكل جسدها يرتعش، دمعاتها كوت كرمشة الخدود..
عندما لم تستطع رفع رايتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العتبات:

العنوان: انكسار جاء إسما مفردة، في شكل مصدر، مشتقّ من فعل ثلاثيّ مزيد انكسر .

انكسار القلب: إصابته بصدمة.
وانكسار شوكة العدوّ… أي انهزامه.
العنوان يبدو مربكا، موتّرا، ويدخل المتلقّي في موجة من التّفاعلات والقراءات الجدليّة، الوجدانيّة، الحيّة التي تفتح لنا باب التّأويل على مصرعيه…

ماذا عن الإستهلال؟
(كانت كلّ مرّة تقف على التلّ تلوّح بمنديلها ذات الثّلاثة ألوان..).

جاء جملة إسمية متشظّية، يتصدّرها ناسخ كان (ت) يعتبر من الأفعال النّاقصة التي تدخل على الجملة الإسمية، فترفع المبتدأ، فيسمّى اسمها، وتنصب الخبر ويسمّى خبرها.

اقترن النّاسخ باسمه حرف التّاء (ت) تقديره ضمير الغائب (الهي).

أمّا الخبر فجاء في جملتين فعليتين،أضفيتا حركة سريعة، ومشهديّة، ساهمتا في دغدغة ذهن المتلقّي، في المرور إلى الظّرف، ما قبل الفعل، في( كلّ مرّة) في الجملة الأولى ومحاولة ربطها ( بالثّلاثة ألوان)، لفكّ ضمير (الهي) من الأسر، لدى النّص، و الكشف عن هويتها.

أمّا عن القفلة أو الخاتمة:

فكانت في شكل إضاءة، أو إشراقة للعنوان، تفسّر سبب الإنكسار، في اقتضاب، من دون إسهاب ….
(رنت……. عندما لم تستطع رفع رايتها )…
تناغم و ائتلاف الألفاظ من حيث الفصاحة و البلاغة و والعمق، والتوفّق في توجيه المتلقّي، ومشاغبته، بشكل أضاف للنّصّ حياة من حيث تدريبه، على التّخييل على جناح الطّير، قصد التوصّل، للإحساس بمشاغل الكاتب، وحقيقة هدف، ما رمى إليه ، من خلال الحذف المتعمّد و الرّمز المحبّر، المتوفّر، وذلك بالبحث في المضمر.

الموضوع:

ضاع حلم شعب طال انتظاره، لتأسيس دولة، ورفع علم إلى غاية أن احدودب الظهر، وكرمشت الخدود، وشاب الشّعر، و سالت الدّموع على أخاديد، خطتها السّنُونُ. بالرّغم من ذلك أصرّت على الصّعود، متكئة تتعكز على عصاة جافة المشاعر، من طينة الغزاة، الفاقدين لكلّ معاني الوفاء بالوعود، والعهود والمعاهدات التي أمضوها، في العقد الأخير من الدّهر، همّهم تحقيق كسب الوقت، و إرهاق الطّرف المقابل، بالمفاوضات، وإرغامه على التّنازل، إلى غاية تجريده من إنسانيته وإرهاقه بإفلاسه، وبإتلاف عمره، وبإذلاله بالحصار و بتقزيمه وبهزمه بالزمن بالقهر بفقد قادته الواحد تلو الآخر…

الرّؤيا:

نصّ، كما يُقرأ في الظّاهر، قابل للتّّأويل، لأنّ الألفاظ المستعملة، لها من المعاني ومن الدّلالات، ما يجعلها تخترق المعنى الأوّل، لتهب نفسها للقرّاء، بقصد التِّجوال في العقول، باحثة عن فيض المعاني، التي تتماشى و تتناغم مع التّحليل، حسب الزاوية التي ثُبِّتت فيها عدسة الكميرا، بالرّجوع إلى الخلفيّة الثّقافيّة والتّاريخيّة والسّياسيّة …. للقارئ مع ضرورة معرفة صاحب النّص… اهتماماته… ميولاته… ثقافته… حتى لا يُحمّل النّص ما لا يحتمل ….

نصّ متجانس، متآلفة معانيه، ذو مشهديّة عالية، يتميّز بالحركة، بالحبكة بالفعل، نتيجة التّكثيف…تقاسم دور البطولة فيه الهي، الخبر، الزّمن، و دقّة التّفصيل، في التّفاصيل، والتّقاسيم، بميزان. الشّيء الذي ارتقى بالعمل إلى الكونيّة، بحيث أنّه صار يصلح لكلّ زمان ومكان…

إن تمكّن القاصّ يبرز من خلال براعه في جعله الزّمن، زمنا قابلا للقلب وللتّأويل، {( من ذاك ذكره (العشر الأواخر من الدّهر)}، قد يتضمّن بعدا دينيا، كالعشر الأواخر من رمضان، و قد استبعدته ، واكتفيت بالدّهر الألف سنة. ذلك أنّه يتماشى مع آفاق البعد الخيالي المفتوح الذي منحه القاصّ للقارئ، لتمثّل أحداث قد لا تكون بالضّرورة تلك التي قصدها. بل هو تأويل يرتبط بالأساس بزمن الكتابة، وبالأحداث المتزامنة معه، وبالحقبة التّاريخيّة، التي ينتمي لها القاصّ ، وكذلك بزمن القراءة، و بدرجة الوعي، و الإدراك والتّفاعل الجدليّ المرتبط بالأساس بالنّسيج الحكائيّ، والعلاقة السببيّة بين الأنا الرّاوي، العارف بتفاصيل البطلة، (الهي)، الغير محدّدة هويّتها تلك الهي الضّمير المؤنّث الغائب الظلّ، الذي ظلّ غائبا، نكرة، في شكل عجوز مكرمشة الخدود. استدعيتها وألبستها الحلّة الفلسطينية انطلاقا من:

* الزّمن
* ومن خلال مظهر النّص الحكائي
* وكذلك الصّيغة
*وبناء الحكي (المتوتّر )*
* و كذلك بقيّة المعطيات المتوفّرة
التي كانت شرارات قادحة لما ذهبتُ إليه في تأويلي …نتيجة حيرة متعمّدة من قبل الدّكتور مختار أمين … الّذي يصرّ دائما، من خلال كتاباته، أن يضع فيها المتلقّي، لحمله على التّبصّر، و الاستبصار، بقصد حمله على التأمّل، من أجل الوعي حتى تحدث لديه إشراقة ذهنيّة تمسح التكلّس… بطريقة موضوعيّة … (التي تبدو على الأقل ظاهريّا) …لأنّها في “حقيقة المضمر” هي موجِّهة… ومقصودة بإصرار شديد من قبله…
كتابة حدثيّة انتجت إشراقة ذهنيّة لدى المتلقّي
فتجنّب بذلك السّقوط في الوعظ من ناحية والتّسييس من ناحية أخرى، حتى يضمن الحياديّة والموضوعيّة في الطّرح، والاكتفاء بالإيحاء، معتمدا على إيقاع النّصّ الذي ينفخ فيه من روحه،من خلال حسن انتقاء اللّفظ والعبارة وكلّ ما كنت أشرت إليه سالفا.

الأسلوب:

فصيح، وبليغ، سلس، ذكيّ، يتكلّم الرّمز من العنوان إلى الخاتمة، يحاكي العقول، و يهمس في رفق لإزالة الصّدإ، فهي دعوة للتأمّل من أجل التّغيير…

الخاتمة:

من خلال ما تقدّم، لاحظنا أنّ القاصّ قد نجح،في جذب المتلقًي، بحسن تأثيثه لمنجزه، بفضل خبرته، واتقانه لصنعته، التي أبرزت صدق حسّه، و رفعة ذائقته، وفنّياته من خلال براعه في انتقائه لألفاظه، وحذقه لجنس سرديّ زئبقي، أبدع في الحكي باتّباع ما قلّ ودلّ…من دون ان تنفلت منه الحكائيّة مع المحافظة على عنصري الدّهشة والإبهار بالرّمز، ومهارة في المحافظة على تماسك وحدة الحكي، وهذا يدل على ذكاء وفطنة إلى جانب خبرة واطلاع ….

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سهيلة بن حسين حرم حمّاد
قربة/ تونس في ٢٩/٠٨/٢٠١٩

الناقد أ. أحمد طنطاوي.. كتب عن كتاب: “فن كتابة القصة القصيرة ونصوص تطبيقية” لـ د. ‏مختار أمين.‏

احمد طنطاوي

كتب: الناقد أحمد طنطاوي

القصة القصيرة منجزًا إبداعيًا لازمًا وحتمية أدبية في الساحة القصصية تسد ثغرة زمانية ومكانية موجودة قبل ظهور هذا النوع، حيث تتناول الموقف الواحد في مكان غير متشعب وتتعرض لشخصيات محدودة جدًا أو _غالبًا _ الشخصية الواحدة في الموقف المتأزم المشحون شعريًا أو نفسيًا أو حدثيًا، وهو ما لا تعرفه الرواية أو المسرحية (اتساعًا مكانيًا وزمانيًا وتعدد الشخصيات) _ وإن كانت قد تداركته بعدذلك مسرحية الفصل الواحد المقاربة للقصة القصيرة من زواياها البنائية في صيغة مسرحية قائمة بشكل أساسي على الحوار، ثم سدت القصة القصيرة جدًا بعد ذلك النقص الأخير المتعلق بالمشهد الشعرى الخاطف، وهو ما تناولته كتب ودراسات أخرى.

بعد أن انتشرت القصة القصيرة كفن أدبي شيق ومثير للانتباه في التحقق الأدبي العربي، كثرت الكتابات النقدية المعالجة لها والشارحة لفلسفتها وطريقة كتابتها ونقد القصص التي خرجت في إهابها، ولأن الكثرة بطبيعتها هي مجال مقارن، لذا كان صدور كتاب جديد يتناولها هو نوع من التحدي الجاد والصارم، لأنه سيوضع بجانب نظائره في مجال القياس والمناقش، وكان المنطق ألا يبحر هذا الإبحار إلا ربان ماهر له من الخبرة والمكانة الأكاديمية والأدبية النقدية تاريخ طويل ومؤهلات علمية وقرائية راسخة وهو ما نراه في حالة كتابنا الذي صدر أخيرًا للدكتور الناقد مختار أمين بعنوان:

“فن كتابة القصة القصيرة و نصوص تطبيقية”

وهو عنوان يشي بمحتواه وطبيعته التشريحية الخطيرة الأساسية واللازمة لكل ممارس لهذا النوع من الكتابة القصصية، أو لمن يريد الدخول في المضمار ويشترك مع الأدباء الذين هم على الساحة الآن، وبهذا فهو جدير بأن يتم تدريسه في المراحل التعليمية التي تهتم بهذا المجال، فهو بالفعل كتاب يحمل من الجدية والرصانة ما يؤهله لحمل هذا الدور بكل اقتدار.

ولأن الكاتب قد قضى حياته كلها في هموم هذه المجالات القصصية إبداعًا ونقدًا ودراسة ومارسها عمليًا_ كتابة ونقدًا كما ذكرت، كانت معالجته مختلفة عن المعالجات السابقة لنفس الموضوع في الكتب الأخرى، لأنه بالخبرة أدرك جوانب النقص والثغرات التي تعتري كتابات المبتدىء، وما هي الجوانب الغامضة التي يسأل عنها كل من يريد اقتحام الحقل والكتابة، وتقسيم الكتاب يبين هذا فهو يرسم دقائق النشأة والتعريف والخصائص، ثم يتناول عناصر البناء كالفكرة والحدث والزمان والمكان ثم يناقش اللغة والحوار والشخصيات، وبعد ذلك يتعرض للصعوبات المتمثلة في فنيات القصة كالأسلوب والسرد والتكثيف..
للبيان التطبيقي الذي تنطبع عليه هذه المقولات النقدية، فقد كان ضروريًا استحضار النماذج الفعلية السابقة في كتابة هذا النوع سواء عند كتاب الغرب أم الكتاب العرب ثم أنهى الكتاب بالتعرض لنصوص حداثية اكتمالا للموضوع من كافة جوانبه البحثية.

 هذا الجهد العلمي الكبير والرصين لا يستطيع المرء وأي مهتم منصف إلا أن يقف أمامه بكل الاحترام و التقدير، و يدعو من يحاولون الكتابة في هذه الأفرع أن يقتدون بمنهجه، ويتخذونه علامة تُحتذى عند الكتابة النقدية التوجيهية الإرشادية

……………….

أحمد طنطاوي

القاهرة/ 2019-1-18