ثوبي الجديد.. قصة قصيرة لـ علي الحديثي/ العراق

ثوبي الجديد 

  منضدة مربعة تآكلت أحلامها الجانبية، استكان شاي جف شاطئه الأعلى، وغرقت نظرات في شاطئه الأسفل، النفاضة قبر ترقد فيه جماجم سكائري التي أحرقتها أفكاري المتهرئة، وبين أناملي المرتجفة قلم أسكرته رائحة الدخان النتنة، وهو يحاول أن يزج كلماتي المجنونة خلف قضبان السطور، وبصوت أم كلثوم نصبت مشانق ” أنت عمري” على حافات المنضدة الحمراء المائلة للسواد.. اكتملت لوحة العقود الأربعة الملطخة بدماء الأمس، ولم يكن للزمن من جدار يعلقها عليه إلاّ سنواتي الثلاثة والأربعين..

  بابتسامة فارغة تمزقت شفتاي وأنا أقرأ رسائل التهنئة في عيد ميلادي، بدأت أنقاض وجهي تتراكم فوق الكلمات، فلم أعد أرى سوى خرائب مهجورة تتقد من خلفها جمرات الحروف.. مبـ.. خيـ.. عا.. فـ.. حروف لا معنى لها كعقودي الأربعة، حتى لو أزحت عنها الخرائب فالأوراق قد اتسخت.. تمزقت.. كم كنت شبيها ببلدي الذي لا رابط بين عصوره إلاّ بالاسم المتغير بجغرافيته، وإلاّ بجثثه التي تغيرت عناوينها وتشابهت توابيتها،، وهكذا كنت، السم نفسه بجسد تغيرت جغرافيته، وبأفكاري الجثثية أيًّا كانت مشاربها..

   التفت إلى الوراء، الماضي والموت كلاهما يصطرعان فينا، كل واحد منها يجرنا إليه، سينتصر الموت ولكن بعدما يسحقنا الماضي بذكرياته، ليمتزجا في صرخة الرحيل الأبدي، في تلك اللحظة المرعبة يستيقظ الماضي كله كأنه حلم لا نصحو منه إلاّ عند حافة القبر، حينها تختلط أوراق الزمن عندي، فلا أدري هل الموت جزء من الماضي فتقدمنا؟.. أم الماضي سوط بيد الموت يجلد به ظهور أيامنا وهو يسوقنا نحوه؟..

  صاحب المقهى يفتح المروحة، تتبعثر رسائل التهنئة فوق المنضدة، كأنها تفر مني ساخرة وهي تهمس لعيني..

   – إنهم يباركون لك اقترابك من القبر.. كم أنتم أغبياء أيها البشر.. تحتفلون بسيركم نحو الفناء..

   لم تزل “أنت عمري” تضاجع سكائري، تستبيح عذريتها المتقدة.. صخب الدومينو.. الطاولي.. زعيق اللاعبين وضحكاتهم العالية.. أقداح الشاي المتلاطمة بيد النادل.. ضجيج السوق المجاور.. انفجار بعيد.. خبر عاجل في التلفاز.. قتلى.. دماء.. دمار.. عيناي تتلفتان بعشوائية تبحث عن شيء لا تعرف ما هو.. فتحت دفتري، وكالقط الذي لمح فأرة قفزت أناملي ذات الرائحة النتنة بين الأوراق، تبحث عن كلمات تخيط بها ثوباً يستر عورتي، انزويت في أحدى غرفي ذات الجدران المتهاوية، بعيداً عن نجوم الليل التي كنت خائفاً منها أن تشي أمري إلى الشمس فتفضحني بأشعتها الحارقة، الناس من حولي مخدوعون بي، كلهم يظنون أني منهم، فبدأت الهدايا تنثال عليَّ من كل حدب وصوب، هذا أهداني سجادة للصلاة، ووضع الآخر قنينة الخمر أمامي، وبين الحين والآخر يجلس أحدهم خلف الجدار اللا موجود ليسمعني شيئاً من القرآن، مكتبتي امتلأت بكتب نيتشه ودوستويفسكي وسارتر وماركس، وكل كتاب موقع باسم مهديه…

  سنوات والعالم المحيط بي مرمي خلف ظهري المحني مشغولا بالخياطة، وفي ساعة مطرودة من الزمن خرجت إليهم مزهوًّا بثوبي الجديد، فتراكموا فوقي، كل يجرني إليه، حتى تمزق ثوبي، حدقت فيهم عاريًا وهم يحملون بقايا كفني بأيديهم..

أضف تعليق