الأستاذ.. ملف خاص عن نجيب محفوظ (1)

الجزء الأول

لماذا نجيب محفوظ؟

عندما حصل نجيب محفوظ على نوبل، كان رد الفعل في مجال الثقافة العربية، عصبيا وهيستريا، متراوحا بين شعور بانتصار للثقافة العربية دونما اعتبار لقيمة الرجل نفسه فتحول إلى مجرد رمز للثقافة العربية الحديثة. وشعور آخر ينكر عليه هذا الاستحقاق كليا. ليصل الأمر لاتهامه بالخيانة والقبول بالتطبيع مع العدو الإسرائيلي، والعمالة للنظام وهي تهم جاهزة يحفظها الفاشلون عن ظهر قلب.. عندئذ أدركتُ حجم المأساة التي تعيشها الثقافة العربية.. إنه ميكانيزم التطور الموقوف. فكل خطوة تخطوها ثقافتنا للأمام تجد من يعود بها إلى الخلف. فعندما حقق (ديسيسور ) نقلة نوعية في الدراسات اللغوية بوصفها ظاهرة اجتماعية. انقسمنا أيضا إلى فريقين: فريق أنجذب لديسيسور حد الهوس، وآخر ارتد إلى (عبد القدر الجرجاني ) فثم  عشرات الرسائل العلمية  كان همها  لا أن تعمل على تراث الجرجاني وتطوره، بقدر ما تثبت أن ماضينا العربي كان، وكان، وكان..هذا هو ميكانيزم التطور الموقوف.

هناك قاعدة لم ندركها كما ينبغي: الريادة ليست في السبق، بل في قدرتها على ترك أثر له قابلية التطور والبناء عليه. تماما كما أن الأستاذ الأكاديمي لا تتحقق قيمته في درجته العلمية، بل في تلاميذه. فإذا جحدوه قتلوه،وإذا قدسوه  قتلوه أيضا. أما إذا نهلوا منه وتجاوزوه خلدوه.

إن هذا المعنى الأخير هو ما دعاني لأكتب الأحلام في كتابي (لمح البصر ) وأن أثبت في مقدمة الكتاب ونهايته دور الأستاذ نجيب في إمكانية تأسيس فن سردي يمكن تسميته (سرد الأحلام ) وقد خصصت له فصلا كاملا  في كتابي (مقامات في حضرة المحترم )  للوقوف عند السمات المميزة للسرد في ( أحلام فترة النقاهة ) تلك التي جعلتها أكبر من تصورات محدودة وساذجة بأن نجيب محفوظ كان يحلم ويسجل أحلامه.

لقد كتبت ( لمح البصر) ليس على سبيل التقليد للأستاذ، بل عن قناعة تامة بأن ما فعله الأستاذ هو تأسيس لفن سردي جديد. وعلينا أن نعمل عليه ونطوره وفق مستجدات معرفية في الدراسات النفسية و اللغوية والأنثروبلوجية فسيكولوجيا الأحلام لها جذورها الرمزية ليس في النفس البشرية فحسب، بل في الواقع الاجتماعي أيضا على نحو ما تظهر في اللغة والممارسات الطقوسية والعادات والتقاليد والحكايات الشعبية.. سرد الأحلام هو الابتكار المصري للواقعية الذاتية  لاتقل أهمية عن واقعية ماركيز السحرية.

وظني أن عزوفنا عن ممارسة هذا الفن على تصور أنه يخص محفوظ وحده هو درب من التقديس، لا يقل سطحية عن تصورنا أنه كان ينام ويحلم ويستيقظ ليكتب أحلامه. 

إن تقديرنا للريادة في شأن ما، لا يكتمل بدون جهود الإنضاج والتطوير، وإلا نكون قد مارسنا على أنفسنا آلية التطور الموقوف، كتلك التي مارسناها على فن ( المقامة) العربي.

فعندما بدأ الهمذاني (969م – 1007م) كتابة المقامات، كانت بداية واعدة لفن القصة العربية بلا شك، لكن كل من جاءوا بعده اقتفوا أثرة  بعماء ثور الساقية، حتي أن المويلحي المتوفي (1930م) كتبها بنفس البنية ونفس اللغة بل وبنفس اسم بطلها ( عيسى بن هشام) وربما لو لم تكن القصة بمواصفاتها الغربية اقتحمتنا في بداية القرن الماضي، لكننا حتى الآن نكتب المقمامات وبطلها عيسى ابن هشام.

أقول للمشمئنطين كلما ذكرنا محفوظ هونوا على أنفسكم (فلا كعبا بلغتم ولا كلابا). لقد أهدانا الزمان رجلا جديرا باحترامنا وتقديرنا، والترجمة العملية للاحترام والتقدير ليست في أن نقدسه بقدر ما أن نفهمه، وليست في أن نتوقف عنده بقدر ما نستمد منه مددا في رحلتنا الأدبية، لأن نجيب محفوظ  وحده تاريخ موازٍ لتاريخ الأدب العربي كله شئنا أم أبينا. وإن شئتم فتتبعوا تحولاته من البداية للنهاية.

نحرص في هذا الملف، على أن يكون صوتا معبرا للمبدعين والنقاد والقراء ، من جنسيات وأجيال ومراتب علمية مختلفة. لنبرز الأثر العميق لنجيب محفوظ في ثقافتنا.

ملف خاص في ذكرى رحيله

المــلف مـن إعــداد

سيد الوكيل – مـرفـت يــس

تنبيه: المحتوى مرتب حسب الأبجدية

محتـــويات الملــــــف

أولا: الطريق إلى الحضرة المحفوظية ..

لمح البصر – مدخل سردي. بقلم: سيد الوكيل

إيكهارت تول يقرأ “حضرة المحترم. بقلم: د. أحمد عبد الحميد

– خبير إدارة الموهبة، بقلم: عزت القمحاوي.

( منقول) البواكير والقصص النادرة بقلم: مصطفى جودة

ثانيا: أبناء وأحفاد في حارة نجيب محفوظ:

“أحمد أبو حنيجر – أثير جليل أبو شبع- حسين على محمد – شريف صالح – طارق إمام – طلعت رضوان – عاطف عبد المجيد – عبير سليمان – عزة بدر – عمار على حسن – فهد العتيق – محمد عبد النبي – محمد عطية – – محمود حسانين – منير عتيبة – نورهان صلاح “

ثالثا – رحمــــــة ونــــــور

رابعا: من شخصيات نجيب محفوظ

–  نساء في الظل

– عيسى الدباغ

خامسا: الدراسات

( التحليل البنيوي ووجهات النظر المختلفة في ميرامار – ترجمة: أشرف دسوقي علي، زمكان الطريق، دكتور حسين حمودة – رادوبيس..د. خالد عبد الغني – قراءة في سلوك الفتوة داخل الحرافيش ، د. حمدي النورج – المعنى الوجودي للخروج من قلب الليل، سيد الوكيل – الجدل التاريخي في روايات محفوظ، دكتور محمود الضبع – سردية الأشياء عند نجيب محفوظ ( لصورة نموذجا) دكتور مصطفى الضبع –  الخطاب الثقافي في أعمال نجيب محفوظ، دكتورة هويدا صالح )

عروض كتب عن نجيب محفوظ:

قراءة نصية في مقامات حضرة المحترم د. أحمد عفيفي

ليالي نجيب محفوظ في شبرد ، أحمد فضل شبلول

صفحات من مذكرات نجيب محفوظ : بيتر ماهر الصغيران

فن السرد وفضاءات الفنون: عاطف محمد عبد المجيد

سيرة ذاتية لم يكتبها نجيب محفوظ: ميرفت يس




الطريق إلى الحضرة المحفوظية

 (لمح البصر)

سيد الوكيل

في عودتنا، كنا قد قطعنا شوطًا في طريق الإسكندرية الصحراوي، حتى وصلنا إلى الرست هاوس، عندئذ توقف السائق، وقال في حسم: ربع ساعة لا أكثر.

تحررنا جميعا من زنقة الأتوبيس، ونزلنا بملابس المصيف الخفيفة والأحذية الرياضية. وتفرقنا في بهو مازال محتفظاً بآثار الزمن، رغم محاولات التجديد على الحوائط والمقاعد، وسيراميك الطرقات المؤدية إلى دورات المياه.

  تناولتُ زجاجة مياه باردة من الثلاجة، ورحت أتجول في المكان، لأحرك قدمي وأسلّي نفسي. حتى وجدتني أمام باب مغلق، وفيما كنت أتأمل دقة صناعته، وروعة زخارفه الذهبية، انفتح، وأطل منه وجه لنوبي معمم، في ملابس بيضاء نظيفة.

 قال بلهجة جادة: تفضل يافندم.

قلت مداعبا: هل الزمبليطة في الصالون؟

لكنه انحنى، وسمح لي بالدخول، فإذا بي في بهو واسع، تتوزع على جانبيه أعمدة رخامية خضراء. فيما المقاعد مصفوفة بنظام بجوار الحوائط، والجميع جلوس عليها في صمت، عيونهم شاخصة في اتجاه الصدارة، حيث الزعيم ممسك بطربوشه، يحركه بين يديه ويتكلم، فيما هم يضعون طرابيشهم أمامهم، على موائد صغيرة مذهبة. ولا يحركون عيونهم بعيداً عن الزعيم، حتى أن أحداً لم ينتبه لوجودي، ولا لتجوالي بين جنبات البهو، ببنطالي الجينز، وحذائي الرياضي، وزجاجة مياه معدنية في يدي.

لا أدري كم لبثت في حضرته، ولكني انتبهت أن الوقت الذي حدده لنا السائق انتهى. عندئذ هرولتُ إلى خارج القاعة، كان الأتوبيس قد تحرك فعلاً ووصل إلى نهاية شارع محمد على، ورأيته من بعيد ينعطف في اتجاه القلعة، فغمرني يأس من اللحاق به، حتى أني وقفت مكاني لا أعرف ماذا أفعل! فيما كانت نغمات الآلاتية تتناهى إلى سمعي، ثم أني رأيتها، تقف بثوبها الشفاف عند أول الزقاق، يتضوع المسك من بين أعطافها، فسألتها ملهوفًا، أين الطريق؟

أشارت لي أن أتبعها، فتبعتها إلى داخل الزقاق، حتى وصلنا إلى قبو في نهايته، فعبرناه منحنيين، فإذا بنا في ساحة كأنها ميدان، تعج بعربجية يتسابقون بجيادهم وعرباتهم الكارو، ويحدثون صخبًا كأنهم في عراك.

 توقفتُ خشية أن يصدمني الكارو، ولكني سمعتها تحثني على الإسراع وتشير إلى السماء. أدركتُ أن علينا أن نصل قبيل آذان المغرب، فحثثت الخطى خلفها، حتى انتهينا إلى سور عظيم، تطل من خلفه أشجار الكافور، ولما وقفنا أمام الباب الكبير، التقطتْ حجرًا وناولته لي، وقالت:

– اضرب بقوة حتى يسمعك المنشدون في الداخل.

 ثم رأيتها تعود في اتجاه القبو من جديد، فيما تركتْ مسكها يعبق الأجواء.

انفتح الباب، فإذا بالوجه النوبي المعمم، ينحني ويدعوني للدخول، فارتج على الأمر.

 هل عدت إلى الرست هاوس؟

 إلا أني لمحتهم من كوة الباب. إنهم جالسون، هذه المرة في هيئة دراويش، منهمكين في أذكارهم، وعيونهم شاخصة في اتجاه شيخهم. فمضيت بينهم وهم لا يحفلون، وأنا أراه منكفئًا كأنما يقرأ في كتاب بين يديه، ورأسه مغطى بغترة من شاش أبيض، وما أن انتهيت إليه، حتى رفع رأسه، فإذا بوجه نجيب محفوظ مبتسمًا، فلم أدر ماذا أفعل، غير أني ناولته الحجر الذي طرقتُ به الباب، فأخذه مني، ووضعه في خُرْج بجواره، وعاد ينكَبُ على كتابه، فوقفت مرتبكًا، لا أدري، إن كنت أجلس بينهم، أم أعود من حيث جئت؟

إيكهارت تول يقرأ “حضرة المحترم”

د. أحمد عبد الحميد

د. أحمد عبد الحميد عمر

1

هناك حالة من الاحتفاء بمحفوظ بدأت مع فوزه بنوبل وهي مستمرة إلى الآن، ولابد لها أن تستمر مثلما تفعل الأمم العظيمة مع رموزها الثقافية الفارقة. لا بأس بالطبع أن نقيم لمحفوظ متحفا، وأن نتبادل على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع قصيرة تبرز روحه المرحة وسرعة بديهته، ولا ضرر كبيرا في أن تنتشر مئات الصور له مشفوعة بأقوال لم يقلها أصلا لكن ناشريها يحاولون أن يقتبسوا من صورته الواثقة الحكيمة ما يضفي على كلماتهم المنسوبة إليه ثقلا. كان شيئا ممتعا أن نقرأ ما كتبه الطارق طاهر عن مسيرته الوظيفية في كتابه “نجيب محفوظ بختم النسر”، وكان شائقا أن نتتبع رؤاه النقدية فيما سطَّره تامر فايز في كتابه “نجيب محفوظ ناقدا”، ولم يكن ثمة بأس أبدا في أن نتذكر نضال “أولاد حارتنا” وهي تشق طريقها الوعر في قلب ثقافتنا المحافظة المرتابة حين قرأنا كتاب “سيرة الرواية المحرمة” لمحمد شعير. لكن يبدو أن كل ما سبق من احتفاء يعطي انطباعا بأننا قد فرغنا من قراءة أعمال محفوظ ومعرفة عوالمه السردية حق المعرفة، وتفرَّغنا لما هو دون ذلك، فإذا صدر كتاب نقدي جديد مثلا عن كتابات محفوظ ردد بعضنا في العلن “ياله من شيء رائع!” في حين يرددون في السر ووجوههم تعلوها بسمات الشفقة الساخرة: “محفوظ ثانية؟! أي جديد يمكن أن يُقال؟!

“.نعم، هناك مئات من الدراسات حول أعمال محفوظ، لكن كم منها حول أعماله غير الروائية؟ وماذا عن نصوصه الهجينة نوعيا مثل الأصداء والأحلام؟ وإذا غضضنا الطرف عن الرسائل الجامعية التي تستخدم محفوظ ولا تخدمه، بل تخدم بالأساس النظريات والمناهج الوافدة، كم رسالة جامعية لدينا أتت بجديد حول محفوظ؟ وماذا عن لغة محفوظ شديدة التكثيف؟ من يعيننا على فهم شعرية لغته دون أن يُغرق القارئ العادي في غابات الاصطلاح؟

2

واليوم أحتفي بذكرى وفاة محفوظ على طريقتي التي أراها دون سواها لائقة: أن أكتب عن أعماله. وقد قع اختياري على “حضرة المحترم”. بحثت عن أسباب موضوعية لهذا الاختيار فلم أجد. ثمة علاقة قديمة ممتدة بهذه القصة؛فحين بدأت ألج عالم محفوظ منتقلا بدأب من عمل إلى الذي يليه، لم أقرأ “حضرة المحترم” دفعة واحدة – رغم قصرها مقارنة برواياته الطويلة مثلا، لكنني لم أطرحها جانبا كلية رافضا قراءتها في الآن نفسه. كنت أتأرجح بين الرغبة فيها والرغبة عنها. تتمحور القصة حول حياة عثمان بيومي الموظَّف الطموح الذي يجعل من منصب المدير العام غايته في الحياة، وأتصور الآن أنه هو – عثمان بيومي – ما كان يسبب لي هذا النفور المؤقت. ثمة شيء مزعج في شخصية عثمان بيومي، لكنه ربما كان الإزعاج الذي يخاطب أشياء عميقة في نفوسنا لا نبتهج كثيرا بمعرفتها،وإن لا يسع بصيرتنا سوى أن تطيل النظر فيها.

3

وما أقصده بالقراءة هنا هي ذلك الحوار الخلاق بيني وبين النص الذي لا يدعي وجود مسافة فاصلة بيني بوصفي ذاتا قارئة وبين النص بوصفه موضوعا للنظر. فالقارئ هنا هو كاتب السطور في اللحظة التاريخية الراهنة بكل ما يحمله من خبرات ورؤى وأطر مرجعية، الخ، في حين أن موضوع القراءة هو النص كما هو حاضر في فضاء التلقي، ليس بوصفه حروفا طبعت سوادا على بياض فحسب، بل كذلك بوصفه فضاء من التفسيرات والتأويلات والمعلومات المتعلقة بالنص. وأوضح فأقول إنني مثلا قبل كتابة هذه السطور كنت قد شاهدت مسلسل حضرة المحترم من بطولة أشرف عبد الباقي مؤديا دور عثمان بيومي، كما سعدت بالعثور على نسخة إذاعية من بطولة عزت العلايلي مؤديا الدور نفسه. ولم يكن بوسعي في أثناء قراءة النص أن أتخيل شخوصه وأحداثه بمعزل عن المسلسلين، فكأنني أسمع صوت العلايلي وأرى صورة عبد الباقي، ناهيك عن علامات ثقافية أخرى ارتبطت بعالم الموظفين المصريين في النصف الأول من القرن العشرين.

        وأنا في هذه اللحظة منشغلٌ باليقظة الروحية، بما يعني أن الذات القارئة ستدخل إلى النص وفي جعبتها أشياء عدة من بينها ذاك الصنف من المعارف. ومن هنا جاء العنوان “إيكهارت تول يقرأ حضرة المحترم” لأنه – إيكهارت – واحد من أهم المعلمين الروحيين في العالم اليوم. والحقيقة أنه ليس إيكهارت تول وحده من سيقرأ – من خلالي – حضرة المحترم، بل هم كثر: آلان واتس، وكريشنامورتي، ورام داس، وموجي، وسادجورو، وتيل سوان، وربما بوذا نفسه. لكن لأن إيكهارت هو الوحيد – فيما أعلم – الذي ترجمت كتبه إلى العربية، فضلت أن يقتصر العنوان عليه. ولهذا أحيل القارئ الذي يريد معرفة المزيد عن الإطار المرجعي الذي أقرأ من خلاله حضرة المحترم إلى كتاب “أرض جديدة: كيف تكتشف مغزى حياتك” لإيكهارت تول، من ترجمة سامر أبو هواش، وهو متاح على شبكة الإنترنت.

        باختصار، ما أفهمه من مصطلح “اليقظة الروحية” أمر يتجاوز علم النفس والأديان والفلسفة، وإن ظل على صلة بها جميعا. الفكرة الأساسية التي تنطلق منها اليقظة الروحية وأستعين بها في هذه القراءة هي أننا – جميعا وبدرجات متفاوتة – نحيا كالمنومين مغناطيسيا، لا نعرف الكثير عن بواعث أفعالنا، لأن معظمها يأتي من “الإيجو” أو “الأنا الزائفة” لا ذواتنا الحقة الخالدة. والإيجو – بتبسيط مخل – هو جملة المشاعر والتصورات عن أنفسنا التي انطبعت في جهازنا العصبي نتيجة لأنماط معينة في التربية ولاختياراتنا اللاواعية التي تحقق بعض المكاسب المؤقتة وتعيننا على النجاة والبقاء، لتتكون في النهاية صورة ذاتية لنا عن أنفسنا، نخبئ بعضها ونظهر بعضها للناس كمن يرتدي قناعا. والإيجو لا يفني ولا يمكن إزاحته، فكل محاولة لإقصائه ستؤدي إلى العكس تماما كمن يحارب النار بالنار فيزيدها اشتعالا، والممكن الوحيد في علاقتنا بالإيجو هو أن نراقبه، وأن نفطن لألاعيبه، وفي اللحظة التي ندرك فيها أن هذه الفكرة أو هذا الشعور أو هذا التصور نابع من الإيجو، فإن قناعه يسقط عن أنفسنا، ويزول أثره تدريحيا وببساطة.

4

ولننتقل إلى القصة. إن تحليلا معجميا أوليا للنص سيكشف عن أن معجم “القداسة” هو الأكثر استخداما. يبدو طموح عثمان بيومي مغلفا بهالات من القداسة، ومحفوظ لا يدخر وسعا في التعبير صراحة عن ذلك، سواء بإيراد مقاطع من حوارات عثمان الداخلية وحواراته مع غيره من الشخصيات مما تتردد فيه مشتقات مادة “ق د س” بتنويعاتها، أو في تلك المقاطع التي يهيمن عليها صوت الراوي معلقا أو شارحا. تبدو القصة كلها – في جانب منها على الأقل – توليدا لاستعارة مفهومية مركزية، طريقة في فهم تجربة حياتية ما من خلال تجربة أخرى عبر إقامة التشابهات بينهما: “عالم الوظيفة الحكومية بوصفه عالما مقدسا”. يلقينا محفوظ في قلب الاستعارة منذ المشهد الأول:

“انفتح الباب فتراءت الحجرة مترامية لانهائية. تراءت دنيا من المعاني والمثيرات لا مكانا محدودا ومنطويا في شتى التفاصيل. آمن بأنها تلتهم القادمين وتذيبهم. لذلك اشتعل وجدانه وغرق في انبهار سحري، فقد أول ما فقد تركيزه. نسي ما تاقت النفس النفس لرؤيته، الأرض والجدران والسقف. حتى الإله القابع وراء المكتب الفخم. وتلقى صدمة كهربائية موحية خلاقة غرست في صميم قلبه حبا جنونيا ببهجة الحياة في ذروتها الجليلة المتسلطة. عند ذاك دعاه نداء القوة للسجود، وحرضه على الفداء، ولكنه سلك مع الآخرين سلوك التقوى والابتهال الطاعة والأمان. كالوليد عليه أن يذرف الدمع الغزير قبل أن يملي إرادته. وتلبية لإغراء لا يقاوم خطف نظرة من الإله القابع وراء المكتب ثم خفض البصر متحليا بكل ما يملك من خشوع”

لكن القداسة التي أخذت بلب عثمان بيومي ليست نزوعا صوفيا أو سلفيا، بل هي نزوع نيتشوي محض (“حبا جنونيا ببهجة الحياة في ذروتها الجليلة المتسلطة“)، وطموحه ألا يكون موظفا مخلصا/عبدا مطيعا، بل هي خطوة في اتجاه أن يتخذ موقع الإله نفسه، ويحل محله، ولا عجب حينئذ في أن يردد عثمان أن “اللانهاية هي ما ينشده الإنسان“. وحين يقول سعفان أفندي رئيس المحفوظات إن الحياة استقبال وتوديع، يسارع عثمان في نفسه قائلا “ولكنها رغم ذلك لانهائية“. و”جوهرة متألقة مثل درجة المدير العام ما هي إلا مقام مقدس في الطريق الإلهي النهائي“،وتعيينه في قلم المحفوظات “بداية لا بأس بها وطريق بلا نهاية“، مما يجعل من الزمن عدوا يراقبه عثمان بقلق مميت لئلا يوقع به في فخه قبل أن ينال بغيته: درجة المدير العام.وتمتد القداسة لتشمل كل ممارسة في حياته بما فيها لقاؤه بسيدة، حبه الأول: “ساعة اللقاء عند أعتاب الخلاء مقدسة أيضا“.

        طموحه الشرس، أو “النار المقدسة” التي شب حريقها في قلبه منذ أول يوم في رحلته الوظيفية، هو ما يوجه حياة عثمان بيومي بأكملها، ويشكل علاقاته بمن حوله، وأمثلة هذا أكثر من أن تُحصى، خاصة في علاقته بالنساء والمال. تبدو الحياة بالنسبة لعثمان بيومي مشروعا مؤجلا باستمرار، وعند كل لحظة جميلة يمكن أن يحياها تلوح في الأفق لحظة مستقبلية مثلى لا تأتي أبدا. يبيع عثمان الحاضر بالمستقبل، فإذا أتى المستقبل حاملا معه ما ارتجاه، باعه بمستقبل أبعد، وهكذا دواليك في مسار جحيمي لا ينتهي إلا بموته. ينبّهنا المعلمون الروحيون أنه هكذا يعمل الإيجو: يجعل من اللحظة الراهنة عدوا أو وسيلة لغاية. الإيجو منشغل بالماضي الذي لن يعود ثانية، أو المستقبل الذي لم يأتِ بعد. الإيجو مشدود بمشاعر الندم على ما فات، أو ترقب ما هو آت. أما الحضور في الآن، والغرق في التجربة المعيشة فأشد ما يزعجه، لأن ذلك يعني أن كتلة الألم التي يتماهى معها الإيجو ستخمد ولن تجد شيئا تقتات عليه، وبالنسبة لأناس تكون كتلة ألمهم نشطة جدا مثلما هي الحال مع عثمان بيومي فإن الغرق في اللحظة الراهنة أمر يكاد يكون مستحيلا.

        غير أن مهارة محفوظ لا تكمن في تصوير الطبيعة النفسية لعثمان بيومي كما فعلت أنا في السطور السابقة، وإلا صار محللا نفسيا، أو مفكرا روحيا، أو أي شيء من هذا القبيل. بل تكمن صنعته القصصية في الاختيار الواعي لهذه الاستعارة الممتدة التي لا تضفي على السرد شعرية – ليست غريبة على محفوظ – فحسب، بل تحول “القصة” إلى “خطاب” كما يقول المتخصصون في علم السرد. فبالإضافة إلى جذب انتباه القارئ وإمتاعه بإقامة التناظرات بين عالم الوظيفة الحكومية والعالم الديني، تلعب الاستعارة الممتدة دورا مهما في إظهار التركيب الذي تحتوي عليه شخصية عثمان بيومي، وفي الكشف عن الألاعيب المفهومية التي تمارسها أناه الزائفة.           

إن التراسل بين الاجتماعي والديني لعبة من ألعاب محفوظ الجمالية الأثيرة– ألعابه التي يلعبها بمنتهى الجدية مع ذلك –  لكنه في كل مرة يلعبها بطريقة مختلفة ولأهداف مختلفة. في “أولاد حارتنا” يقرأ محفوظ التاريخ الديني للشرق الأوسط كما تجسَّد في قصصه الديني بوصفه سعيا متصلا يتقلّب بين النجاح والفشل لتحقيق غايات اجتماعية بالأساس. أما في “حضرة المحترم” فلولا هذه الاستعارة الممتدة لكنا أمام قصة معتادة حول الطموح القاتل لصاحبه، لكن حاشا محفوظ أن يفعل ذلك. يكشف التناظر بين الاجتماعي والميتافيزيقي في الحالة الأخيرةعن درجة شديدة العمق والخفاء من هيمنة الإيجو على عثمان بيومي على النحو الذي يمرّر كل مشاعر القلق والترقب والأسى والاكتئاب تحت قناع “شكل مفهومي” اسمه السعي المقدس للترقي الاجتماعي، أو سمه كما شئت. تبدو كل دوافع عثمان بيومي “أشكالا مفهومية”، دوالَّ ليس لها مدلولات في عالم الخبرة المعيشة خارج نطاق العقل والصوت الإيجوي الذي يتردد بين جنباته. لذلك فإن ما أصابه من “وله” صوفي حين دخل حجرة المدير العام كان أقرب إلى “العماء” منه إلى أي شيء آخر: “لم يغفر لنفسه أنه لم يملأ عينيه من حجرة المدير العام، ولا من شخصه المتفرد الذي يحرك الإدارة كلها من وراء برافان، في نظام دقيق وتتابع كامل يذكر الغافل بالنظام الفلكي وبحكمة السماوات“. ربما لو ملأ عثمان بيومي عينيه من المدير العام وحجرته لأدركها كما هي دون أحكام قيمية مسبقة تخلع القداسة على غير المقدس، لكن تشبثه بالشكل المفهومي أعاقه عن ذلك، وهيأ للحكاية أن تمضي قدما حتى تكتمل فصول المأساة.

5

يخلق الوقوع في أسر الإيجو حالة من الاغتراب للإنسان عن نفسه، فيشعر بعدم الراحة طيلة الوقت. ولكي يستمر الألم والاغتراب، يورطنا الإيجو كذلك في فخاخ الأدوار. وكلنا يمارس أدوارا، لكنه ليس أمرا صحيا أن نتماهى مع هذه الأدوار. بيد أن عثمان فعل. يحب الإيجو لعب الأدوار فهذه واحدة من طرقه للمداراة على الأنا الحقة التي تكشف ألاعيبه. الأدوار معززة للانفصال عن الذات، وعن الآخرين، لأنها دوما ما تضع التواصل الإنساني في قوالب سابقة التجهيز، وتعيق الانفتاح المخلص للذات على العالم والآخرين، وهذا جوهر المانيفستو الذي كتبه عثمان بعد أن بدأ مساره الوظيفي وأسماه “شعار للعمل والحياة” الذي تنص إحدى مواده على “الإعلان بكل وسيلة مهذبة عن تديني وخلقي اجتهادي في عملي“. يسيطر التصنع على ما هو طبيعي وتلقائي في سلوك عثمان بيومي، والتصنع الواعي لن يؤدي إلا إلى الشعور بالذنب، كما حدث في زيارته لسعفان أفندي حال مرضه: “ولم تكن لديه نية لزيارته، ولا هو جاء لتوديعه بدافع حقيقي من عواطفه ولكن خوفا من أن يتهم بالجحود، ولذلك كرّبه ضميره وورعه الديني، ومضى في طريقه لا يرى شيئا“.

حالة الاغتراب عن الذات والتصنع المستمر تخلق ثلاثية الكبت – الانفجار – الشعور بالذنب، التي تغذي المشاعر السلبية داخله، وتجعله مصرا على البحث عن لحظة الراحة المطلقة التي لا تأتي أبدا، وهكذا في دائرة جهنمية: “وقلب عينيه القلقتين حتى استقر على صيد، ويعقب ذلك عادة إكباب على طلب الغفران، وعكوف طويل على الصلاة والعبادة. وهو ما يفعله عادة كلما واجه نواياه العميقة الخفية من ناحية سيدة. فإلى جانب عناء العمل المتواصل وجد عناء أشد من عذابات ضميره. وكان يختم لياليه الطويلة المرهقة في إعياء نفسي شديد،  كالإغماء، وأحيانا تبتل جفونه وهو لا يكاد يدري“. وما الإعياء الذي يشعر به عثمان إلا نتاج للانصياع الكامل للإيجو المرضي بما هو جملة من التصورات والأفكار المعطلة عن المكوث في اللحظة الراهنة بما تحمله من بهجة أو معاناة. الإعياء علامة على حالة من الانضغاط الشديدة التي يحيا بها وفيها عثمان بيومي.

تخلق الأشكال المفهومية جدارا سميكا عازلا بين عثمان بيومي والحياة. حين يدعوه سعفان أفندي إلى بيته للاستمتاع بأجواء فرح عند جيران الأخير، يكتب محفوظ: “خفق قلب عثمان وهو يرنو إلى جو الفرح وانتقلت إلى فؤاده حرارته الفواحة بعطر الجنس والحب. لذلك تلقى دغدغات التخت الأولى بأشد بتأثر أشد مما توقع ومما ألف. فهو لا يعشق الغناء ولكن إذا جاءه بلا كلفة فلا بأس به ولو إلى حين قليل. حسن، الموسيقى لا بأس بها أحيانا، شيء طيب ومريح. الزواج علاقة باهرة وفرح ودين. وخالجه شعور شامل بالأسى” . الإيجو الضاغط على عثمان بيومي يحيل كل تجربة حية إلى شلال من المفاهيم المتكلسة؛ فالموسيقى – التشكيل الجمالي للصوت منزوع المعنى – تجري “مفهمتها”؛ يحولها العقل إلى أفكار محضة محملة بأحكام القيمة، بديلا عن الانفعال الطبيعي في هكذا سياقات: أن تسمع وتستمتع وكفى.

وليس عجيبا حينئذ أن يتخلق هذا التذمر – والإيجو دوما يتغذّى على التذمر – من الآخرين الذين لا يفهمون معنى الحياة؛ فهو ينظر بازدراء غير قليل للعاديين من زملائه لأنهم ” لم يفكروا كفاية في معنى الحياة“، لأنهم ببساطة ارتضوا بفرحة أن يحيوا الحياة دون التقيد بمعنى الحياة بوصفه قالبا مفهوميا يحيل على ذاته لا على التجربة المعيشة بحلوها ومرها.

6

يلعب الروائي المحنك لعبة التقابلات والأضداد بمهارة؛ فلقاءات عثمان وقدرية الغانية المتكررة تضع في الصدارة الطبيعة النفسية لعثمان من خلال سرد الراوي لما يندهش منه عثمان في شخصية قدرية – أو ما يكبته عمدا في شخصيته هو بالأحرى – فيكتب: “واعترف بأنه لا غنى له عنها. إنها تماثله في السن، ولكن يبدو أنها غافلة عن الزمن، وعن أثره السريع فيها. وهي تعيش بلا حب ولا مجد، وكأنها تؤاخي الشيطان في غضبها. وكم غاظه أن نعترف له مرة بأنها اشتركت في مظاهرة“. تتصرف قدرية بتلقائية تُحسد عليها، وتعيش “اليوم بيومه” كما يقولون، وهي بهذا لا تعتبر الزمن عدوا يلاحق كل منهما الآخر كما يفعل عثمان، وهي كذلك لا تتعلّق بشيء (لا حب ولا مجد)، وهذا ما يجعل معاناتها أقل أو تكاد تكون منعدمة، فالتعلق هو أساس كل معاناة كما يقول البوذيون. فهي تتحدث في المشهد نفسه عن سرقة مائتي جنيه على يد أحد عشاقها باستخفاف وعدم اكتراث، وليس من قبيل المصادفة – ولا شيء عند محفوظ يقع مصادفة – أنها ستمرض وتقع فريسة للإدمان حين يضمها بيت واحد مع عثمان في أواخر حياتهما؛ لأنها حينذاك ستفقد شيئا من جوهر روحها وأناها الحقة تحت تأثير ضرباته الوعظية المستمرة.

إن عثمان بيومي هو بطل القصة ومحورها الوحيد، وهو إلى ذلك شخصية أحادية البعد والحافز، يمكن للقارئ الخبير أن يلتقط سماتها الغالبة من الفصول الأولى فلا يعود ثمة ما يجذبه إلى متابعة القراءة اللهم إلا توقه لمعرفة مصيره النهائي، وهو تحدٍ يجابهه محفوظ – جزئيا على الأقل – بلعبة التنويع – حدثا وأسلوبا – على التركيبة السردية نفسها. فالقصة تتأسس مورفولوجيا – بالتوازي مع دورة عمل الإيجو – على تكرار متوالية من ثلاث وظائف سردية ثابتة: (فرصة ترقٍ تلوح في الأفق – سعي محموم لنوالها – سعادة مؤقتة للوصول إليها أو حزن لحدوث النقيض)، وسواء ظفر عثمان بما يرغب أو لم يظفر، فإن الترقية تقود إلى ترقية اخرى وراءها، فتتكرر المتوالية، لكن خبرة محفوظ الثرية بعالم الموظفين تجعل القارئ في كل مرة أمام تفاصيل جديدة، والأهم بالنسبة لي أن عبقرية محفوظ وخياله الخلاق يقوم في كل مرة بتوليد استعارات صغرى من الاستعارة المفهومية الكبرى التي تنتظم السرد الروائي: عالم الوظيفة بوصفه عالما مقدسا، وصولا مثلا إلى ابتداع هذا التعبير “الحضرة الإدارية العليا”.

7

يلعب محفوظ في العنوان –وفقا للقراءة التي أقدمها – لعبة المشترك اللفظي البديعية؛ فالحضرة لقب رسمي معروف، وهي أيضا مصطلحمأخوذ من الثقافة الدينية الشعبية أساسا؛ دالٌّ على المكان والحالة الصوفية في الآن نفسه. ومحفوظ لا يضن على قارئه بما يعينه على إدراك اللعبة حين يصف لقاء عثمان بالدير العام بأن الله قد رضي عنه وفتح له الباب العالي الموصل إلى الحضرة الإدارية العليا. وما العنوان إلا تنويعة أخرى – وإن على سبيل التورية – على الاستعارة الكبرى الناظمة التي أشرنا إليها آنفا. يترنح عثمان بيومي تحت تأثير مواجده التي يخبرها في حضرته الخاصة؛ “حضرة” المحترم على سبيل الإضافة، وبذلك يمكننا أن نلمح في استعمال لفظة “المحترم” ضربا من السخرية الضمنية، فعثمان ليس محترما بالمعنى الأصيل للكلمة، لكنه يلعب دور المحترم سعيا لتحقيق مبتغاه، في حين أنه يعيش منقسما على ذاته بين المتناقضات.

وإذا كنا ننزع عن عثمان بيومي أصالة صفة “الاحترام”، فالحال كذلك مع “الثقافة”. لا يمكننا وصف عثمان بيومي مرتاحين بأنه “مثقف”، بل هو للدقة “حامل ثقافة”. فما يحصله من معارف هي للاستخدام النفعي المباشر، لا لمراجعة الذات ومحاولة فهمها وتصويب مسارها. تعينه الثقافة الموسوعية على أن يكوّن خطابا زائفا مكتنزا بالعبارات الطنانة حول طموحه وشهوته لاعتلاء كرسي المجد؛ المعرفة وسيلته للتشويش على ذاته لا معرفتها حق المعرفة. ولا عجب في ذلك؛ فحتى إطلاقه لشاربه وسيلة لغاية أبعد تتعلق بـ “نضاله”، فحين تنصحه سيدة بأن يُطلق شاربه ليبدو أكبر سنا ولائقا للزواج بها فإنه يأخذ النصيحة على محمل الجد: “وفكَّر بأن ذلك قد ينفعه حقا في نضاله فمنذا الذي يتصور موظفا كبيرا بلا شارب؟!”

ملحوظة ختامية: يعبر كاتب هذه السطور عن الشكر العميق للصديقة العزيزة فردوس عبد الرحمن على ما فتحته لي من أبواب عالم اليقظة الروحية

البواكير والقصص النادرة

 مصطفى جودة

26 مقالاً و 22 قصة قصيرة .. أعمال نادرة لنجيب محفوظ منذ أن كان طالبًا بالجامعة

(نقلا عن الأهرام المسائي)

لم أجد أنسب من الحديث فى ذكرى وفاة الأديب العالمى نجيب محفوظ، التي تحل بعد 3 أيام، حيث انتقل الى رحمة الله فى الثلاثين من أغسطس 2006، غير كتاباته الأولى النادرة منذ أن كان طالبا فى السنة الأولى بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، والتى تدل بحق على إضافته لثقافة مصر الرفيعة منذ مراحل شبابه الأولى والتى تنبئ بعبقرية مبكرة واضحة، قلما يُجود المكان والزمان بمثلها

تردد أن محفوظ لم يك راغبًا أن تنشر أعماله الأولى ورقيا, رغم أنى لم أجد دليلا على ذلك فى أى مكان وفى العدد الخاص الذى أصدرته الهلال فى فبراير 1970, عندما كان الناقد الكبير رجاء النقاش رئيسًا لتحرير الهلال وأصدر ذلك العدد التاريخى عنه, أو فى قصة حياته التى أشرف عليها رجاء النقاش ونشرتها الأهرام. أرجو من أسرته الكريمة السماح بنشر تلك الأعمال ورقيا لأنها جزء هام من حياته الحافلة, ولأن كل العظماء لهم فكر منشور فى مراحلهم الأولى.

استرعى انتباهى فى هذا العدد من الهلال سؤالا مهما موجه للأستاذ نجيب محفوظ من الأستاذ أنيس منصور: “عزيزى الأستاذ نجيب محفوظ, أنت رجل مقتدر على معظم الأشكال الأدبية, سدت الرواية وتفوقت فى القصة ومارست المسرحية, فلماذا لم تجرب كتابة المقال وهو من أهم الأشكال الأدبية وأصرحها للتعبير عن الرأى؟”.

أجاب محفوظ قائلا:” لقد بدأت حياتى بكتابة المقال, كتبت بصفة متواصلة فيما بين عامى 1928 – 1936, مقالات فى الفلسفة والأدب فى المجلة الجديدة والمعرفة والجهاد اليومى وكوكب الشرق. ثم اهتديت الى وسيلتى التعبيرية المفضلة وهى القصة والرواية. ولو كنت صحفيا لواصلت كتابة المقال إلى جانب القصة والرواية , ولكنى كنت وما زلت موظفا , فلم يكن شيء يرجعنى إلى المقال إلا ضرورة ملحة يضيق عنها التعبير القصصى, وأعترف لك بأن هذه الضرورة لم توجد بعد”.

استرعى انتباهى ذلك السؤال والإجابة عليه وقطعت على نفسى عهدًا أن استخدم كل قدراتى البحثية للتنقيب وجمع تلك الكتابات الأولى واستخراجها من مناجم الثقافة المصرية المتراكمة والرفيعة وتوفيرها للقراء والباحثين, وتم نشرها فى دار الشروق إلكترونيا على موقع الأديب العالمى فى مارس 2007:

الكتابات الأولى النادرة

هذه الكتابات الأولى تضم 26 مقالا أدبيا وفلسفيا , 22 قصة قصيرة لا بد من الرجوع إليها لفهم نجيب محفوظف هما كاملا شاملا. المهم فيها أنها نتاج الشباب وفورته وثورته, وأنها البدايات القوية لأديبنا العظيم, وأنها القدوة والنموذج الذى يجب أن يحتذى به أى كاتب شاب يبدأ حياته, فيقارن قدراته ونفسه مع قدرات وموهبة نجيب محفوظ فيجد أنه يتعين عليه بذل مجهودات أكثر وأخذ الأمر بجدية أكثر لكى يحقق أهدافه, ويصقل قدراته.

هذه الأعمال الهامة هى مجمل ما نشره محفوظ قبل نشر مجموعته القصصية الأولى همس الجنون فى عام 1938, ومن هنا تكمن أهميتها فى تاريخ أدب نجيب محفوظ كونها نتاج سنوات لا يجب غيابها أو إهمالها.

قائمة المقالات الموجودة على موقع دار الشروق

1- احتضار معتقدات وتولد معتقدات, المجلة الجديدة, العدد 12 , السنة الأولى, الصفحة 1468- 1470,  5 أكتوبر 1930

2-تطور الفلسفة الى ما قبل عهد سقراط, المعرفة, الجزء الرابع, السنة الأولى, الصفحة 438- 440, أول أغسطس 1931

3-فلسفة سقراط, المعرفة, الجزء السادس, السنة الأولى, الصفحة 703- 705, أول أكتوبر 1931

4-أفلاطون وفلسفته, المعرفة, الجزء السابع, الصفحة 851- 856, أول نوفمبر 1931

5-الخال فانيا, المعرفة, الجزء الثانى, السنة الثالثة, الصفحة 222- 226, يونيو 1933

6-ثلاثة من أدبائنا, المجلة الجديدة, العدد 2 , السنة الثالثة, فبراير 1934, الصفحة 65- 67

7-الحب والغريزة الجنسية, المجلة الجديدة, العدد 2, السنة الثالثة, مارس 1934, الصفحة 40- 42

8-فلسفة برجسون, المجلة الجديدة, العدد 8, السنة الثالثة,  أغسطس 1934, الصفحة 55- 56

9-البراجمتزم أو الفلسفة العملية, المجلة الجديدة, العدد 9, السنة الثالثة, سبتمبر 1934, الصفحة 47- 48

10-المجتمع والرقى البشرى, المجلة الجديدة , العدد11, السنة الثالثة, نوفمبر 1934, الصفحة 60- 62, نوفمبر1934

11-الشخصية, المجلة الجديدة, العدد 2, السنة الثالثة, ديسمبر 1934, الصفحة 77- 80

12-الفلسفة عند الفلاسفة, المجلة الجديدة, العدد1, السنة الرابعة, يناير 1935, الصفحة 9- 12

13-ماذا تعنى الفلسفة؟, المجلة الجديدة, العدد 8, السنة الرابعة,  فبراير 1935, الصفحة 37- 42

14-السيكولوجية واتجاهاتها القديمة والحديثة, المجلة الجديدة, العدد 3, السنة الرابعة, ملرس 1935, الصفحة 36- 41

15-الحواس والإدراك, المجلة الجديدة, العدد 5, السنة الرابعة, أبريل 1935, الصفحة

16-الحياة الحيوانية السيكولوجية, المجلة الجديدة, العدد 4, السنة الرابعة, مايو 1935, الصفحة 32 – 37

17-الشعور, المجلة الجديدة, العدد 6, السنة الرابعة,  يونيو 1935, الصفحة 22- 27

18-نظريات العقل, المجلة الجديدة, العدد 7, السنة الرابعة,يوليو 1935, الصفحة 58- 64

19-اللغة, المجلة الجديدة, العدد 8, السنة الرابعة,أغسطس 1935, الصفحة 65- 71

20-الله, المجلة الجديدة, العدد 1, السنة الخامسة, يناير 1936, الصفحة 43- 48

21-فكرة الله فى الفلسفة, المجلة الجديدة, العدد 3, السنة الخامسة,  مارس 1936, الصفحة

22-الفن والثقافة, المجلة الجديدة, العدد 8, السنة الخامسة, أغسطس 1936, الصفحة 46- 48

تفرغ نجيب محفوظ بعد ذلك لكتابة الرواية فنشر همس الجنون عام 1938, وعبث الأقدار فى 1939, ورادوبيس, 1943, القاهرة الجديدة, رواية, 1945, خان الخليلى, رواية, 1946.

الى جانب ذلك كتب نجيب محفوظ ثلاثة مقالات نادرة هامة ايضا هى:

23-ليلة الغارة, الثقافة, العدد 162, السنة الرابعة, فبراير 1942, الصفحة 164- 166

24-كتاب التصوير الفنى فى القرآن, الرسالة, العدد 616, السنة الثانية عشر, 23 أبريل 1945, الصفحة 432- 433

25-ترجمة كتاب, الرسالة, العدد 631, السنة الثالثة عشر, 6 أغسطس 1945, الصفحة 850- 853

26-القصة عند العقاد, الرسالة, العدد 635, السنة الثالثة عشر, 3 سبتمبر 1945, الصفحة 952- 953

دخل حديقة الأدب من باب الحكمة

تكمن أهمية تلك المقالات فى أن محفوظ كان متمكنا من الفلسفة ونظرياتها ومفاهيمها المختلفة, وربما يكون هذا هو الأساس والعامل المهم فى تفرده وتميزه الأدبى محليا وعالميا, وكأنه دخل حديقة الأدب من باب الحكمة.

كانت مقالته: ثلاثة من أدبائنا عن العقاد وطه حسين وسلامة موسى. يقول عن العقاد فيها:

” ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ ﻫﻮ ﺭﺟﻞ  ﺍﻟﺒﺪﺍﻫﺔ، ﻭﻧﻘﺼﺪ ﺑﺎﻟﺒﺪﺍﻫﺔ ﺍﻟﻔﻄﺮﺓ ﺍﻟﺒـصيرة ﺃﻭ ﺍﻹﺣـﺴﺎﺱ ﺍﻟﺼﺎﺩﻕ ﺃﻭ  ﺍﻟﻄﺒﻊ  ﺍﻟﺴﻠﻴﻢ، ﻭﻧﻘﺼﺪ ﺑﺬﻟﻚ ﺗﻠﻚ الموﻫﺒﺔ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺍلنى  ﺗﻨﻔﺬ الى الحقائق ﻓﺘﻌﺮﻑ ﻣﺎﻫﻴﺎﺗﻬﺎ، ﻭﻫﻲ ﺩﺭﺟﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻳﺒﻠﻐﻬﺎ ﺍﻟﺼوفى ﺑﺎﻻﺟﺘﻬﺎﺩ ويحرزها ﺍﻟﻔﻨﺎﻥ ﺑﻔﻄﺮﺗﻪ ﻭﻃﺒﻌﻪ، ﻭﺇﺫﺍ ﺃﺭﺩﺕ ﺃﻥ  ﺗﺘﺤﻘﻖ مما ﻧﻘﻮﻝ ﻓﺎﻗﺮﺃ ﺷﻌﺮ ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ.ﻭﺍﻟﻌﻘﺎﺩ فى ﻧﻈﺮﻧﺎ ﺷﺎﻋﺮ ﻓﻨﺎﻥ ﻗﺒﻞ ﻛـﻞ ﺷﻲﺀ ﻓﻤﻦ ﺃﻫﻢ مميزاته ﺃﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻗﺸﻮﺭﺍ ﺳﻄﺤﻴﺔ،ﻭﻟﻴﺲ ﻧﻐﻤﺎﹰ ﻟﻔﻈﻴﺎﹰ, وإنما ﻫـﻮ معنى ﻋﻤﻴﻖ ﺗﺬﻭﻗﻪ ﻭتحسه، ﻭﺗﻌﺮﻑ ﻓﻴﻪ ﺭﻭﺣﺎﹰ ﺣﻴﺎﹰ ﻳﻜﺎﺩ ﻳﺘﺤﺮﻙ ويتغير ﻛﻠﻤﺎ ﺭﺍﺟﻌﺘﻪ، ﻭﻫـﺬﻩ ﺧﻮﺍﺹ ﺍﻟﻨﻔﺲ التى ﻳﻌﺠﺰ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﺬﻛﺎﺀ ﻋﻦ ﺃﻥ ﻳﻠج ﺑﺎﺑﻬﺎ ﻭﺍﻟﱵ  ﺗﻨﻔﺬ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺍﻟﺒﺼﲑﺓ الحساسة المرﻫﻔﺔ ﻓﺘﻠﺘﻘﻄﻬﺎ ﲟﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺓ ﻭﻏﻤﻮﺽ.

ﻭﺃﺛﺮ ﺍﻟﻔﻄﺮﺓ ﺍﻟﺴﻠﻴﻤﺔ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺪﻋﻮ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ ﻣـﻦ تجديد ﰲ ﺍﻟـﺸﻌﺮ ﻭﺍﻷﺩﺏ، ﻭﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ ﻟﻴﺲ ﻫﻮ ﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﻋﻨﺪ غيره ﻓﻨﺤﻦ ﻧﻔﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﻋﺎﺩﺓ ﺃﻧﻪ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ لمذهب ﺟﺪﻳﺪ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺎﺏ ﻣﺬﻫﺐ ﻗﺪﱘ  ﻛﺎﻟﺪﻋﻮﺓ الى  ﺍﻟﺮﻳﺎﻟﻴﺰﻡ ﺃﻭﺍﻻﻳﺪﻳﺎﻟﻴﺰﻡ ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ ﻻ ﻳﺪﻋﻮ ﺇﱃ ﻣﺬﻫﺐ ﺧﺎﺹ ﻭﺇﳕﺎ ﻳﺜﻮﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪ ﻭﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﰲ الغير ﻭﻳﺪﻋﻮ ﺇﱃ تحرير ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﺸﻌﻮﺭ، ﺍﻋﻘﻞ ﺑﻌﻘﻠﻚ ﻭﺍﺷﻌﺮ ﺑﺸﻌﻮﺭﻙ،ﻭﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ المبدأ ﻳﺘﻨﺎﻗﺾ ﻣﻊ  ﺍﻟـﺪﻋﻮﺓ الى ﻣﺬﻫﺐ  معين، ﻷﻥ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﺇﱃ ﻣﺬﻫﺐ معين ﻫﻲ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪ،ﻭﺃﻧﻚ ﺇﺫﺍ ﻗﻠﺪﺕ ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ ﻓﻠﺴﺖ ﻣﻦ ﺃﺗﺒﺎﻉ ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ !.ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺃﻱ يجعل ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻦ ﺣﻴﺎﺓ ﻛﻬﺬﻩ الحياة المتجددة المتغيرة المطردة السير الى ﺍﻷﻣﺎﻡ، ﻭﺍﻟﻌﻘﺎﺩ ﻳﺴﻤﻮ ﺑﺎﻷﺩﺏ الى ﺍﻟﺬﺭﻭﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﺘﺒﺠﻴﻞ ﻭﻫـﺬا ﻃﺒﻴﻌﻲ، ﻷﻥ ﻣﻠﻜﺘﻪ ﻣﻠﻜﺔ المتصوف ﻭﻛﻴﻒ ﺗﻄﻠﺐ ﻣﻦ المتصوف ﺃﻻ ﻳﺒﺠﻞ ﻣﻌﺒﻮﺩﻩ ﺍﻟـﺬﻱ ﻳﻮﺣﻰ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺄﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﻐﻴب”.

كان محفوظ فى الثالثة والعشرين من عمره عندما كتب هذه المراجعة الرائعة الأصيلة والتى شخص فيها الثلاثة الكبار حينها بدقة.

ورغم ذلك نجد أن الأمر اعتوره الاختلاف فى آخر مقالة له والتى نشرتها الرسالة فى عددها 635 الصادر فى 3 سبتمبر 1945, الصفحة 952- 953 ,لم يكن مرد الاختلاف تغيرا فى وجهة نظر محفوظ فى العقاد, ولكن نتيجة هجوم العقاد العنيف على الرواية وفنها وأدبها, مما جعل محفوظ الروائى يرد بقوة. والحكاية كالآتى:

” فى عام 1945 نشر العقاد كتابا اسمه عاما بعنوان ” فى بيتى”, ناقش فيه العقاد كثيرا من الأمور مثل الأدب والفلسفة والحياة والعلم والحكمة وكل شيء تقريبا وقارن فيه بين الشعر والقصة, وأكد أن الشعر أنفس من القصة لأن الشعر من شأنه أن يجمع المعنى الكثير فى اللفظ القليل, وأن قليل الشعر يحتوى من الثروة الشعورية ما ليست تحتويه الصفحات المطولات من الروايات, وأن قنطارا من القصة يساوى درهمًا من الشعر, وأن القصة فى معدنها دون الشعر فى معدنه, لأن النفاسة أن يساوى الشيء القليل ما يساويه الشيء الكثير”. وأضاف العقاد: ” لا أقرأ القصة حيث يسعنى أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر, ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول”.

أثار كلام العقاد ذلك العددين حينها , وكان من بينهم نجيب محفوظ الذى رد على العقاد فى نفس العدد بالمقال المذكورة أعلاه:” القصة عند العقاد”, فى نفس عدد الرسالة, قال فى رده على العقاد, ضمن ما قال: ” الفن- أيا كان لونه وأيا كانت أداته- تعبير عن الحياة الإنسانية, فهدفه واحد وإن اختلفت كيفية التعبير تبعا لاختلاف الأداة, وكل فن فى ميدانه السيد الذى لا يبارى… ولن يفيد الفن شيئا من تحقيره لبعض أنواعه إلا أن يغضب قوما أبرياء يحبون الحق كما يحبه ويولعون بالجمال كما يولع به, ويبذلون فى سبيل التعبير عنه كل ما فى طاقتهم من قدرة وحب. فى هذه القضية رأيت العقاد الخصوم يتغلب على العقاد الناقد. انظر إليه وقد لا لاحظ أحد حواريوه فى ” بيته” أن العقاد قد صغر نصيب القصص من مكتبته, فأجابه العقاد قائلا: ” لا أقرأ قصة حيث يسعنى أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر, ولست أحسبها من خيرة ثمرات العقول… فالرجل الذى لا يقرأ قصة حيث يفضل أن يقرأ كتابا أو ديوان شعر ليس بالحكم النزيه الذى يقضى فى قضية القصة, والرجل الذى يلاحظ على مكتبته صغر نصيبها من القصة ينبغى أن تكون القصة آخر ما يرجع إليه فى حكم يتصل بها, لأن النقد ميزان لتقييم الفنون , فكيف يفضل الناقد أحدها على أحدها؟, وهل تنزل القصة هذه المنزلة عند شخص إلا إذا كان لها كارها وعليها حاقدا!!فحكم العقاد على القصة حكم مزاج وهوى لا حكم نقد وفلسفة.

بعد هذا التراشق انقطع كلاهما من الكتابة فى الرسالة رغم أنهما كانا دائمى الكتابة بها, عاد العقاد بعد شهر ولم يعدنجيب محفوظإلا فى الرسالة الجديدة, والتى صدرت بعد قفل الرسالة عام 1953, ولم ينشر أى مقال فى أى صحيفة أخرى أو فى أى مجلة, وكانت نهاية كتابته للمقال.

هذه المعركة التاريخية الضارية حسمها محفوظ بامتناعه عن الكتابة قسرا أو باختياره, تسببت فى حرمان الإنسانية جمعاء من مقالاته وهو فى أوجه. القارئ يمكنه أن يستنتج ويتكهن عما حدث. من الواضح أن محفوظ آثر الانسحاب من معركة كان يرى فيها أنها قد تضير العقاد الذى كان يحبه ويجله, وأدرك بحكمته المعهودة أنها معركة الكل خاسر فيها.

الى جانب مقالاته النادرة, يوجد 22 قصة قصيرة نادرة جديرة بالبحث والاستقراء, كونها تمثل مرحلة هامة من مراحل تطور القصة عند محفوظ, هذه قائمة بتلك القصص القصيرة:

1- خيانة فى رسائل, الرواية, العدد12, السنة الأولى, يوليو 1937, الصفحة 721- 727

2- مهر الوظيفة, الرسالة, العدد214, 9 أغسطس 1937, السنة الخامسة, الصفحة 1312- 1314

3- المرض المتبادل, الرواية, العدد16, السنة الأولى, سبتمبر 1937, الصفحة 982- 986

4- الدهر المعلم, الرواية, العدد 24, السنة الأولى, 5 يناير1938, الصفحة 1519- 1528

5- أول أبريل, الرواية, العدد 25, السنة الثانية, لأول فبراير 1938, الصفحة 31- 40

6- أحزان الطفولة, الرواية, العدد 35, السنة الثانية, أول يوليو 1938, الصفحة 581- 584

7- حكمة الموت, الرواية, العدد 38, السنة الثانية, أغسطس 1938,

الصفحة 761- 766

8- موت الحب, الرواية, العدد 39, السنة الثانية, أول سبتمبر 1938, الصفحة 816- 822

9- فتاة العصر, الرواية, العدد 43, السنة الثانية, أول نوفمبر 1938, الصفحة 1055- 1064

10- عفو الملك أسر كاف, الرواية, العدد 45, السنة الثانية, أول ديسمبر 1938, الصفحة 1152- 1157

11- روض الفرج, الرواية العدد 46, السنة الثانية, 15 ديسمبر 1938, الصفحة  1204- 1211

12- الزيف, الرواية, العدد 47, السنة الثانية, أول يناير 1939,  الصفحة 1242- 1249

13- الإرجواز المحزن, العدد 49, السنة الثالثة, فبراير 1939, الصفحة 72- 78

14- الكرة, الرواية, العدد 51, السنة الثالثة, أول مارس 1939, الصفحة 170- 178

15- الرجل الذى لا يقاوم, الرسالة, العدد 363, السنة الثامنة, 17 يونيو 1940,  صفحة 1033- 1036

16- الحب والسحر,الرسالة, العدد 393, السنة التاسعة, 13 يناير 1941

17- عودة سنوهى, الثقافة, العدد133, السنة الثالثة, يوليو 1941, الصفحة 916- 919

18- بعد عشرة أعوام, الثقافة, العدد 155, السنة الثالثة, ديسمبر 1941, صفحة 1619- 1622

19- سرقة بغير سارق,الثقافة, العدد 182, السنة الرابعة, يونيو 1942, الصفحة 726- 728

20- حضرة رءوف أفندى, الثقافة, العدد 190, السنة الرابعة, أغسطس 1942, الصفحة 921- 924

21- عمى حسن, الرسالة, العدد 566, السنة الثانية عشر, 8 مايو 1944, الصفحة 399- 400

22- حزن وسرور, 634, السنة الثالثة عشر, 27 أغسطس 1945, الصفحة933- 935

هذه ثمانى وأربعون جوهرة مكنونة من كنوز ثقافة مصر الرفيعة المتراكمة.

رحم الله نجيب محفوظ رحمة واسعة  فى ذكراه العطرة العاشرة.

عزت القمحاوي

نجيب محفوظ خبير إدارة الموهبة

إذا كان لابد من تحديد صفة وحيدة تميز نجيب محفوظ عن كل كُتّاب مصر؛ فهي 

إتقانه لفن إدارة الموهبة. 

كان مشروعه واضحًا في رأسه منذ البداية، وكان قادرًا على الاستغناء عن كل ما يمكن أن يُعطل هذا المشروع، الأمر الذي مكَّنه من إنجاز تاريخ للرواية خاص به، يوازي 

تاريخ تطور الرواية الغربية.

بدأ بالروايات التي تستلهم التاريخ، وانتهى بالقصة القصيرة جدًا والنص العابر للنوع،  الذي يضع قدمًا في أرض الشعر وأخرى في أرض السرد، كما في العملين الأخيرين «أصداء السيرة» و«أحلام فترة النقاهة» وبين البداية والنهاية، نسج على منوال  الواقعية الاجتماعية، والرمزية، واقترب من تيار الوعي، واستفاد من التراث. ولم يكن له أن يحقق ما حققه إلا بالكثير من الصرامة والشدة على النفس، وعلى الغير كذلك!

اختار نجيب محفوظ النأي بنفسه عن الشأن العام، بخلاف عميد الأدب العربي طه  حسين، الذي قام بأدوار حاول من خلالها تحقيق رؤيته الاجتماعية للتعليم الذي ينبغي أن يكون كالماء والهواء، وقد دفع أثمانًا كبيرة من راحته وسمعته، بسبب مواقفه  الفكرية والسياسية. 

هذا الالتزام تجاه المجتمع مارسه كذلك توفيق الحكيم ويوسف إدريس وعدد كبير  من الأجيال اللاحقة من المثقفين بدرجات مختلفة، وعرفوا بسببه الكثير من أشكال  التضييق بما فيها السجن، لكن نجيب محفوظ، نأى بنفسه، ولم يشترك حتي في توقيع بيان

وعندما أقدّم هيكل على مبادرته التي لا تخرج إلا من رجل كبير وذكي، بتخصيص  طابق في جريدة الأهرام لكبار الكُتاب، لم يشترط عليهم التزامًا محددًا، بل سعى إلى مجرد وجودهم، مدركًا أن هذا الوجود بحد ذاته يضيف إلى رأس المال الرمزي  للصحيفة، وترك لمن يريد أن يكتب حرية اختيار دورية ومساحة كتابته. 

وبينما اختار كل من توفيق الحكيم ويوسف إدريس كتابة صفحة كاملة أسبوعيًا،  استهلكت الكثير من طاقاتهم في الحرب ضد التخلف الديني والفساد، اختار نجيب محفوظ أن يكتب بروازًا صغيرًا تعبره العين دون أن يعلق منه شيء بالذاكرة. مرة أخرى نحن أمام خيار التخلي عن النضال اليومي، مما يمكن اعتباره شدة ضد المجتمع  وتخليًا عن دور الكاتب، وفي الوقت نفسه يمكن اعتباره استغناءً عن النجومية التي 

توفرها الصحافة بأسهل مما يفعل الأدب، وفي كل الأحوال فهذه القناعة بمجرد  «تأدية الواجب» في الصحافة تعبير عن وضوح الهدف، وهو الاستمرار في كتابة  الرواية.

 لم يبتعد نجيب محفوظ عن الصدام مع السلطة فحسب، بل مع الأفراد كذلك، فلم يدخل في خصومة تستنفد طاقته، ولا يعني هذا أنه كان متسامحًا مع ما يوجه إليه من  نقد، بل كان يحتفظ بطاقة الغضب لتظهر في الكتابة، ولا تتسع هذه المساحة لتعداد مواضع تعبيره عن رأيه في السلطة برواياته، أما لكماته المرتدة للخصوم الثقافيين  فتبدو واضحة في «أحلام فترة النقاهة» التي تستحق قراءة خاصة من هذه الزاوية.

رحمــــة ونــــور

تقديم: سيد الوكيل

الفرق بين الاستسلام والإيمان شاسع جدا، فالإيمان اختبار للحدس بالعقل، يمر بالشك، وينتهي إلى اليقين. لكن العقل لا يكتمل ولا ينضج إلا عبر خبرات ومعارف، وقدرة ذاتية على التحرر من الصور الذهنية والنمطية. لهذا فهو يحتاج وقتا وجهدا كرحلة الصوفي في ارتقاء المقامات.

مثل كثير من الشباب، بدأت رحلتي مع نجيب محفوظ بالصور الذهنية والأفكار النمطية الشائعة، التي كان أكثرها رواجا: ( إذا أردت أن تكون قاصا فعليك بإدريس، وإذا أردت أن تكون روائيا فمحفوظ) هذه الفكرة فصلت بعنف بين شكلين من السرد. فصل شكلي لا دليل على وجوده في الذات الساردة.

عندما قرأت (قلب الليل ) بدت لي بالمقاييس النقدية الشكلانية قصة طويلة، بما فيها من مركزية حدث واحد ( قصة حياة جعفر الراوي) ومكان واحد ( مكتب موظف الأوقاف) وزمن واحد لا يتجاوز يوما واحدا يقص فيه جعفر الراوي قصة حياته على موظف الأوقاف. لكن القارئ المدقق يلحظ أن الحكاية تتجاوز  قصة جعفر الراوي إلى قصة الإنسان، منذ نزوله على الأرض وسعيه فيها. وهكذا فرواية قصيرة جدا تحكي تاريخ البشرية ببلاغة منقطعة النظير، لتبدو معالجة أكثر دقة، وكثافة وفنية من أولاد حارتنا.

. إنها نفس الموضوع من زاوية نظر مختلفة، يعني هذا أمرين:

الأول: أن نجيب محفوظ يعاود النظر في الموضوع الواحد من زوايا مختلفة، على سبيل التجريب، بهدف اكتشاف الطبقات الأعمق فيه. أي أنه لا يهتم بمراكمة الأعمال بقدر ما يتخذ من السرد طريقة للتفكير في قضايا إنسانية مؤرقة.

الثاني: أن حجم العمل ليس دالا على شيء، فما يمكن أن تقوله رواية، يمكن أن تقوله قصة قصيرة، إذا ما أحسنا النظر إلى موضوع مهم كان كبيرا ومركبا.

هكذا بدأت رحلة الشك ليس في إدريس ولا محفوظ فحسب، بل في تاريخ النقد الشكلاني كله، وانتبهت إلى هذا الفصل التعسفي بين القصة والرواية،  وكان على أن أعيد قراءة نجيب محفوظ بدقة. وأول ما لاحظت أن محفوظ لم يكتب على أي من أعماله إذا ما كانت قصة أم رواية!!

لم يكن محفوظ راغبا في أن يحصر ذاته المبدعة بين شكلين، كان ينصت لموضوعة على نحو دقيق، ويختار زاوية النظر التي يراها جديرة بدقة الموضوع ودرجة تعقده. لهذا فالكثير منا لم يلتفت إلى البناء التفكيكي لشخصيات رواية (المرايا) لتنتهي بين يدي القارئ إلى شظايا متكسرة. أما ( حديث الصباح والمساء) فكانت غاية الابتكار والتجديد في الشكل، إذ جاءت على هيئة حكايات قصيرة جدا تبدو توثيقا لشخصيات مختلفة لا رابط بينها كونها مرتبة أبجديا على طريقة المعاجم. وعندما يصل القارئ لنهاية العمل، يكتشف حجم الأنفاق السرية التي بناها محفوظ بين شخصيات الرواية وعلى مساحة زمنية تتجاوز مائة العام. لنكتشف أنها جميعا، قضت نحبها، ولم يبق منها سوى شخصية وحيدة تقف على عتبة نفق الموت. كيف يمكن تصنيف عمل مثل هذا بيقين؟ 

اعترف أن رحلتي مع نجيب محفوظ خلصتني من كل التصورات الذهنية عن حدود النوع، وهو ما لم ينجح فيه عابر الأنواع الكبير (إدوار الخراط ) أعنى أنه لم يقنعني بطريقته في عبور النوع، بقدر ما اقنعني محفوظ على الرغم من أنه لم يتكلم يوما عن قلقه تجاه الأنواع الأدبية، ولم يسع لتصنيف أعماله، وعاش مؤمنا بأن الذات المبدعة لا حدود لها، ويمكنها أن تطرق بابا جديدا في كل عمل جديد، حتى عندما كتب سيرته الذاتية وأحلامه، جاءتا على غير مثال، وعلى نحو يخصه هو وحده.

ربما لأن الشفاهية غالبة على ثقافتنا، وقعت في بداية حياتي الأدبية فريسة المقولات الرخيصة، والصور الذهنية الرائجة عن محفوظ. لكن عندما عملت على قراءه أعماله بوعي مغاير، كنت أزداد إيمانا بعظمته، وجدارته بالعالمية، حتى استبدت بي رغبة في المثول بين يديه، والاعتذار له عن مراهقتي الأدبية. ولم يكن ثم طريقا لذلك، سوى أن أذهب إليه في قبرة، واقرأ له الفاتحة.

ذات يوم أعلنت عن رغبتي هذه على الفيس بوك، وكانت المفاجأة أن وجدت كثيرين غيري، تعتريهم نفس الرغبة. ثم تحولت الرغبة إلى واقع، احتشد له عشرات الأدباء والمثقفين باختلاف أعمارهم وتخصصاتهم. كانت الرحلة إلى مقبرته مضنيه، ونحن نتحرك بقول من السيارات إلى طريق الفيوم، ونبحث عن مقبرة كنا نظنها مميزة تليق بأديب نوبل، لكنها كانت تائهة بين مئات المقابر المتشابهة. رائع يا أستاذ في موتك كما كنت رائعا في حياتك.

بمجرد وصولنا بدأت طقوس الفرح المشوب بالأسى، كل على طريقته. فثم من قرأ مقاطع من أعمال الأستاذ، وثم من ألقى كلمة في محبته، وثم من انتحى جانبا واكتفى بقراءة الفاتحة، وثم من جلس في اقرب نقطة من جثمانه، يفكر فيه ويتحدث إليه، وثم من جاء بسطل ماء وراح يسقى الصبار. لكن الغريب، أننا لم نشعر بالوقت ونحن في ضيافته، إلا عندما غربت الشمس، وبدأت المقابر تظلم بسكناها، فعدنا إلى بيوتنا بقلوب جديدة .  

زيارة لمقبرة نجيب محفوظ.dhvm


بدأت الرحلة من العاشرة صباحا ، وانتهت بعد الغروب

أبناء وأحفاد في حارة نجيب محفوظ


أحمد أبو خنيجر

(شيخ الحارة)

         كنا نفرح بباب الحارة ننتظر انفتح لنا ؛ فسألت شيخى: كيف يضل المريد الطريق؟ قال دون أن ينظروى: إنما تختلف المقاصد و يقصر السعى. فقلت بعناد: أقابلت عبد ربه التائه و الزعبلاوى ؟! فتبسم فى وجهى و أذكر للباب و قال: ادخل.

         الخشب الخشب الثقيل بالمطعم بالنحاس و بعض الصدف ، تعاشيق و تلاوين دقيقة و كثيفة ، نقوش المتداولة و بعضها ببعض ، خطوط عجيبة بلغات بعضها البعض بإندغام و انسجام ، تتراكب فوق بعضها البعض بإندغام و انسجام عجيب ، تبدو كأنها تنبت ببعضها ؛ أما الرسوم المتداولة لفخلة بدت لعيني كأنها خطوط متعجلة لفنان غشيم مبتدئ ، لكن قليلا حتى تبدت عوالم من البهجة و الشقاء و الألم و الكفاح و العرق و الخيانة و القتل و الأحلام المهيضة و البكاء و الدم و لحظات سعادة قصيرة تفر هاربة تحت وطأة الوجود الثقيل كثيف لدرب كثيف على مر العصور.

 ردنى سؤال الحارس من تهويماتى: تقصد من؟ فنظرت ناحية شيخى كى يجيب، لكنه لم يكن موجودا، قلت فى سرى: كالعادة يورطنى ثم يلجأ لحيله القديمة. أجبت عينى الحارس المشجعتين: أريد شيخ الحارة. قال: الدرب أمامك. دخلت و  رد الباب خلفى.

صخب و زحام هائل كأننا فى يوم الحشر، زعيق و هتاف و تدافع بقلب الدرب، الناس و الدواب بملابس و أردية مختلفة و متباينة، ما بين البدائى بعريه و ما يستره من مزق قليلة بالية، و ملابس عصرية فى غاية التأنق، ملابس فرعونية و أولاد البلد، و أفرنجية و عربية،أطفال و رجال و نساء و عجائز،أصحاء و مرضى و حواة متحيلون على الدنيا و الناس، و ظرافة و سماجة و نذالة و نبالة تتوراى خجلا بين الجموع، وقفت محاذرا موضع قدمى، و أنا أرى نبابيت غليظة ترتفع فى الهواء متراقصة، و أغانى تتنطلق متمازجة مع زغاريد حادة، تتراقص على وقعها أبدان أولاد البلد، يتقدمهم فتوة فى كامل أبهته، و خلق كثير يتقدمون نحوه يقبلون يده التى يمدها بسماحة و كرم، سألنى من بجوارى: أرأيت أبى؟ نظرت للصوت الرخيم، الذى شعرت أنه ينبعث من داخلى، لكن بدا بالصوت نبرة من تردد و قلق خفيف تعتريه، كأنما السائل يعتذر أو هو خجل فى أفضل تقدير، نظرت إليه، فتأكد ما ذهب إليه ظنى، عيناه الزائغتان وشتا بالتوتر الذى يعتمل داخله، قلت فى سرى:ضائع آخر مثلى، أم باحث عن يقين يركن إليه. و لما لم تكن لدى إجابة على سؤاله تشاغلت بالنظر للدرب العامر الراقص بموكب الفتوة، لكن حدث شىء جعل كل هذا يتوقف و يسكن، فقد جاءت من الطرف البعيد للدرب حورية فى غاية الحسن و البهاء، عارية تماما، يتخلل جسدها ضوء الشمس، كأنما هى النور، أو النور ينبعث منها، جمالها بلا خطيئة، و كأنما حطت على رءوس الجميع الطير، فشهق الكل من فرط الجلال، تهادت الحورية غير ملتفتة لشىء، كأنها تقطع طريقا خاليا إلا منها و من النسيم الذى يدعب خصلات شعرها فيستر حينا و يكشف حينا ذلك الحياء البهى، لم يكن من تنفس بالحشد، فالكل شهق، و حبس أنفاسه، حتى توارت مختفية فى نهاية الدرب، فزفر الجمع و تنهد كأنما ردت له الحياة، فواصل حياته السابقة، ليس بنفس الكيفية، أنما صار اللطف يسيطر عليها، و قدر من المحبة و الألفة، هكذا تخيلت، و هممت بقول هذا لجارى، لكنى أنتبهت على الصخب المتعالى و الشتائم التى راحت تنهال على ذيل موكب الفتوة.

تقدمت بالدرب و أنا أتساءل: ترى أين يكون شيخ الحارة الآن؟ و كيف سأعثر عليه بقلب هذا الفيض البشرى؟ أتراه لحق بموكب الفتوة، أو هو جالس على دكته يقيد أحوال البلاد و العباد، أو منغمس فى واحدة من الحانات، أو لعله قد أختلى بالحورية بهى الحسن و الدلال؟ لم أمنع نفسى من مشاعر غيرة تحركت بداخلى، لكنها تلك الغيرة التى تدفع للبحث و التنقيب، و عدم الركون للظاهر المتاح و المبتذل للجميع، و سمعت صوت شيخى يقول: ما مبتغى الانسان؟ تلفت حولى فلم أره، هى أحواله حين يراوغنى، يرمى بسؤال عابر و يتركنى لحيرة الجواب، لكنى هززت رأسى، و انعطفت لغرزة مجاورة، طلبا لكأس من الشاى ينعشنى، جلست و ما جاء أحد، مع أن المشاريب أمام الزبائن القليلة، و على النصبة يجلس المعلم و الصبى يروح يجئ، هممت بالنداء، لكن الولد وضع الكوب أمامى، و أنصرف، رحت أقلب بصرى فى الحارة التى تمتد بلا نهاية و كأنها تشمل العالم كله، فى البعيد تلوح مئذنة عالية و قباب و جبل يحوط بهما،كأنما الجبل يحمى خلفية الحارة، و الجامع بالدرب، و كان أوان الصلاة، فقلت ألحق أخطف ركعتين قبل أن أعاود بحثى عن شيخ الحارة، ناديت على الصبى لأنقده أجره، فأشار للمعلم صاحب القهوة، و قال: أنت ضيفنا. شكرته و غادرت للزاوية القريبة.

على باب الزاوية يقوم مقام صغير لطيف البنيان،على حوائطه أثار دم لأكف ورسوم لقلوب و أثار لحرق شموع و سناج، و على هلال الباب كتب: مقام عبد ربه التائه. بخط الثلث الأنيق؛ وقفت لأقرأ الفاتحة، و جائنى صوت شيخى: هل تظن أنه يرقد بالمقام؟ أكملت الفاتحة، و دخلت لقلب الزاوية، كان البعض قد وقف خلف الإمام، وقفت معهم، وأديت الصلاة، بدا صوت الشيخ مزلزلا فى التكبيرات، يرج القلب و يستنزل الخشوع، و لما ختمت الصلاة سجدت مبتهلا أن يوفقنى فى العثور على شيخ الحارة و ألا يضيع بحثى عبثا، أستخرت و قلت أسأل إمام الزاوية، رفعت رأسى، و لم أجد الإمام، سألت من بجوارى: أين ذهب؟ قال: شيخ الحارة لا يبق عقب الصلاة. صححت له الإمام لا شيخ الحارة، قال هو نفسه، الشيخ هو الإمام، فقلت و أين ذهب؟ هز محدثى كتفه و لم يعقب، فقمت مسرعا للخارج، و فى الخارج لم أجد سوى الريح و الصمت، فتساءلت: أين ذهب الجميع؟ لم تكن الريح شديدة، لكنها ساخنة، فاحتميت منها بجدار.

نقل الصمت لأذنى ثرثرة من خلف الجدار، تلمست يدى الحوائط و فلسعتها السخونة، و قسوة المراودة الدائرة بالداخل، لكل منطقه و وجهة نظره، حتى و إن كان يزين الشر فى أسمى تجلياته، فقط يمتلك ناصية الحكمة و المنطق الكفيل بالإقناع، كان الصوت الأنثوى أكثر حضورا و طغيانا، الرغائب تتناطح معلنة عن فورتها الأثمة، يثمنها الطموح الهائل، و الخجل المتوارى بين الشقوق، كان زقاق، ربما، أو هكذا توهمت عيني المفتوحة على براح العالم و قسوة غليان الظهيرة، أيهما يا شيخى الجدير بالتخلى، الرغبة أم اليقين؟ الظل أم الخيال المراوغ للظل؟.

ودخلت لحانة محتميا من الهواجس و الاتقاد المتروك بالدرب يصطاد العابرين بحبائله الرهيفة، روائح البوظة و الكحول و الأنفاس تعبق المكان المصنوع على هيئة زهرة، أو قط، لم يكن هذا التدقيق مهما؛ فلما سألت صبى الحانة عن شيخ الحارة، قال: الرجل الذى خرج أمامك يحمل قرعته، قال يأتى هنا عقب الصلاة، يأخذ القرعة و يروح بها للدكته قبل الخلاء. فطلبت ماءً مثلجا، فضحك صبى الحانة و قال مخبول آخر، فلما استفهمت، قال: لا نقدم الماء القراح، ولو قابلك شيخ الحارة الآن ما كلمك، و ما عرفته، اشرب. ووضع القرعة أمامى. قلت لم ينقصنى سوى الجنون، فتعالت فى الحان إلحان شجية لا أدرى مكان إنبعاثها، فتمايل خلق، و غنى أخرون، فطربت روحى من وقع الغناء و السكر المباح، حاولت تبين الكلمات، لكن لطافة اللحن أنستنى ما كنت قد عزمت عليه، فشربنا على ذكر الحبيب مدامة، و تخلصت غانية من حللها مستترة بالدخان و سكر المحبة و الأشواق، رأيت كأنما العالم يتقطر هنا، يروق و يرق، يصفو و يتصافى، ينهل من منابع المحبة و الحكمة، و يحيل الغرائز فى لحظة التجلى، هى إنبعاث الكون فى كامل عنفوانه و تناقضه، وتسرب لأذنى وقع السؤال: من أين ينبت الجمال؟ و ما علته؟ ففتحت باب الحانة و خرجت.

هواء لطيف يمر بالدرب ملطفا الأجواء، تنفست بعمق و أنطلقت نحو الخلاء، و دليلى فى ذلك الجبل البعيد الذى جعلته نصب عيني، الجبل بعيد و غامض، لم يكن متجهما كما قدرت، لكنه بدا يتحرك متراجعا كلما تقدمت، كانما يداعبنى، أعرف أنها مداعبة ثقيلة، فعلى أن ألتقى بشيخ الحارة و أنهى ما جئت من أجله، و إلا ظللت عالقا هنا للأبد، تائها فى حنايا تلك الحارة العجائبية حتى يقضى الله أمرا، و ما أظن شيخى يرضى بهذا، أو أن أخذها من قصيرها و أفضها سيرة و أعود قافلا من حيث أتيت، و لا أظن أن هذا الحال سوف يرضى شيخى أيضا، فكما قال و أفاض فى شروط المصاحبة، علىَّ إذن بالإلتزام.

دكة وحيدة تقف عند حدود الخلاء، أمامها منضدة صغيرة و لطيفة، فوقها دفتر هائل الحجم، ظننت أن المنضدة تئن تحت وقع كل هذا الثقل، تلفت مستطلعا مكان الشيخ الذى لم يكن موجودا،فقط القرافة بإتساعها الهائل و رهبتها القاتلة، تمتد القرافة من أول حدود الخلاء حتى منابت الجبل البعيد، أوقفت مارا بالشارع كى أسأله، لا أدرى على أى نحو رأيت كأنه الفتوة الذى كان يمد يده للناس كى يقبلونها و هو فى عز أبهته و جلاله، الفارق الآن إن هذا الرجل و إن كان يحمل نفس الملامح، غير أنه يرفل فى ملابس متسخة و ممزقة فى أكثر من موضع، تبسم الرجل و كأنما قرأ ما يجول بخاطرى، قال: أنا عاشور. و لما لم أفهم أى عاشور يقصد، و ماعلاقة اسمه بما أنا فيه الآن، تغاضيت عن ذلك و أشرت لدكة شيخ الحارة، قال كأنما يأس من عدم فطنتى: ذهب للجبلاوى.. أقصد الجبل.. و سيعود بعد قليل… اجلس و انتظره. و تركنى و غادر المكان.

جلست على طرف الدكة و رحت أسلى ناظرى بما حولى ، محاذرا الإلتفات نحو القرافة ، لما زهدت ذلك ، تمدد يدى للدفتر القائم فوق المنضدة ، تناوله و أنا أحاذر من ثقله حجمه ، لكن الدفتر كان خفيفا ، وضعه فوق حجرى ، ورحت أفتح أوراقه ، ، فجرت عيني بين السطور: عبث الأقدار ، رادوبيس ، زقاق المدق ، بين القصرين ، ثرثرة ، فهلت على روائح الورق و الأحبار و أسعار الجدول ، وخطط الجدول منمنم و جميل ، دقيق للدرجة القصوى ، فتحت أول صفحة من الدفتر ، كانت الفهرس ، فجرت عيني فوق النيل ، اللص الكلاب و الحرافيش ، أصداء السيرة الذاتية ….تحيرت من أين تكون البداية ، تلفت علَّ شيخى يهل كى يساعدنى ويختصر على الطريق ، أو يأتى شيخ الحارة ، ينهى حيرتى ، ضياعى ، وحيدا على دكة بإزاء الخلاء الباذخ ، بين يديه دفتر هائل يتصرف في الكون لادرى على أي نحو يتصرف ، و. رأيت كأنى واقف بباب الحارة أنتظر أن يفتح لى ، أقف فقط برغبتى الكاملة فى المعرفة والتعلم والتأمل ، قمت واقفا بعد أن فتحت الدفتر ، حتى صرت عاريا ، تخلصت من ملابسى ​​، حتى صرت عاريا بلا خطيئة ، و قفزت بين ضفتى الدفتر.

اثير جليل أبو شبع (العراق)

النظرية النفسية لفرويد وانعكاسها في أعمال نجيب محفوظ

 (نموذجا رواية السراب)

حسب ما اثبتته نظرية فرويد انه  يقع الاطفال بين الاندفاعات والمتعة  وهذا مايسمى بـ الانفعال اللاواعي يحتفظ الطفل بهذا الانفعال اللاواعي في داخله حتى البلوغ ,

 وهنا يقع الفرد بين صراعين بين للواقعية وبين المتعة وتفرض الواقعية ذاتها على النفس وبسبب المحيط الموجود حول الفرد فتتحول المتع الموجودة الى ( كبت )

 وهذه الظروف المحيطة نفسها سيكون لها دور في صنع نفس الفرد وتكوين الانا المثالي

هكذا قام نجيب محفوظ ببناء شخصية  ( كمال ) بطل رواية السراب الذي كان اسمه من الاسماء ذات الدلالة العكسية كما هي عادة المؤلف في اغلب اعماله اي ان الاسم يحمل نقيض اوصاف المسمى

فكمال ليس بكمال

بل هو انطوائي خجول لا رغبة له باي تجربة من  تجارب الحياة بل معرفته لا تتعدى جدران بيته الاربعة،

هذه التربية والمعرفة هي نتيجة تربية والدته التي كانت تعاني من عقدة نفسية تدعى حسب علماء النفس بـ

(عقدة جوكاست)  والتي عرفوها  بانه هو الحب المرضي الزائد للآخر مما يتسبب له في الضيق والتقييد , مثالها المرأة التي تمنع ابنها من عيش حياته وتأكيد رجولته وذلك بالمحافظة  عليه بجانبها مثلما نجدها بالعلاقات العاطفية أو علاقات الزواج بالأطراف الذين يقيدون بحبهم واهتمامهم الزائد حركة الطرف الآخر

وسبب هذه العقدة فهي هي فقدانها لزوجها بعملية الطلاق فاخذت  تغطي على عقد نقصها بالضغط على نجلها والحفاظ عليه (حسبما ترى) وجعله لا يرى احدا سواها ,

[أأظل الدهر في حجرها كأنني عضو من  أعضاء جسدها ؟؟ !

 جاوزت الرابعة من عمري، وجاء سن الرفاق واللعب، ولم يكن لي من مهرب في البيت إلا الشرفة التي تطل على فناء البيت و الطريق ,

وكان أطفال الأسرة يلعبون في الفناء واستأذنت أمي يوما في الانضمام إليهم، فقالت لي بارتياع

ماذا حدث  لعقلك؟… ألا ترى أنهم لا يكفون عن العراك؟!…

ما  أفعل لو ضربوك أو جرحوك؟ … أو خرجوا بك إلى الطريق لا تنقطع به العربات؟

 بل ماذا تفيد منهم إلا الشقاوة وسوء الأدب؟ أما أنا فأقص عليك القصص، وإذا شئت خرجنا معا لزيارة السيدة، اذا كنت حقا تحبني فلا تفارقني ].

ونتيجة لهذا الكبت الذي تعرض له كمال من الام نشأت عند كمال مختلف العقد النفسية والخزين اللامرئي من فترة الطفولة وصولا لفترة البلوغ وتحمل المسؤولية،

وهكذا مرت حياة الطفولة لكمال بين الاندفاعات والمتعة  وهذا مايسمى ب الانفعال اللاواعي الذي يحتفظ به الطفل داخله حتى البلوغ .

  [ واستقبلت عاما مثيرا توزعتني فيه الحيرة وحب الاستطلاع والتجربة القاسية. صدمني في مطلعه هروب أختي وما علمت بعد ذلك من زواجها فحبلها، ثم إنجابها طفلة. جعلني اتساءل مع نفسي كما ساءلت أمي عن معنى هذا كله،

لماذا هربت من أبي إلى رجل غريب ؟ لماذا لم تأت إلينا ؟   ولماذا تزوجته ؟  وكيف حبلت؟  وكيف خرجت زینب الصغيرة إلى نور الدنيا ؟

وارتبكت أمي حيال إلحاحي وتطفلي،  وجعلت تصطنع لي الأجوبة الكاذبة حينا وتتأناني حتى حينا آخر،

فإذا لججت تكلفت في حزم غير معهود ولا مألوف فلم أظفر منها بشيء ينقع الغلة،

وفي الوقت نفسه شعرت بأن ثمة ما يراد إخفاؤه عني. ثم جاءني العون من حيث لا أدري ،

فتطوعت الخادمة لإماطة اللثام عما حير خيالي وألهبه ,.

كانت تكبرني بأعوام، وكانت دميمة قبيحة، ولكنها كانت تكرس فراغها لخدمتي وكانت تخلو بي في أوقات نادرة إذا شغلت أمي بعمل أو حاجة ,

وبدا أنها استرقت السمع يوما إلى ما يدور بيني وبين أمي عن الألغاز التي استثارتني من سباتي،

فصارحتني مرة بأنها تعلم أمورا خليقة بأن تعرف , وانجذبت إليها على قبحها في اهتمام وسرور ,

وواجهت التجربة بلذة وسذاجة. على أن العهد بها لم يطل، فيا أسرع أن ضبطتنا أمي متلبسين      

ورأيت في عيني أمي نظرة باردة قاسية فأدركت أني أخطأت خطأ فاحشا وقبضت على شعر الفتاة ومضت بها فلم تقع عليها عيناي بعد ذلك ,     

وانتظرت على خوف وخجل, ثم عادت متجهمة قاسية، ورمت صنیعي بالمذمة والعار، وحدثتني عما يستوجبه من عقاب في الدنيا وعذاب في الآخرة. ووقع كلامها مني موقع السياط حتى أجهشت باكيا، ولبثت أياما أتحامی أن تلتقي عينانا خزيا وخجلا

وهكذا وقع كمال بين صراعين بين الواقعية وبين المتعة وعندما فرضت الواقعية ذاتها على النفس كما اسلفنا نتيحة ضغط الام و بسبب المحيط الموجود فتحولت  المتع الموجودة في داخله الى (  كبت ) 

هذه الظروف المحيطة بكمال كان لها دور في صنع نفسه  وتكوين الانا المثالي لديه

واما عدم خروج هذه الامور من اللاوعي وبقاءها في الداخل يتعرض الفرد الى  (العصاب )

فظهرت لدى البطل بعد بلوغه عقد وامراض نفسية منها

عقدةجوناس : وهي الانسحاب عند ظهور أول صعوبة والبحث عن المساعدة والحماية او الشخصية الاعتمادية , 

وعقدة اوديبوس او اوديب والتي هي

أزمة نفسية يكابدها الطفل في لاشعوره، وقد تمتد آثارها الى سن البلوغ. وهي بنية کونية تتحدد بها نفسية الانسان،

و حاصل هذه العقدة قائم على الاشتهاء الجنسي للأم

والكراهية المطلقة للأب والغيرة منه؛  لأنه يمنع تحقيق هذه الشهوة أو ينافس الطفل فيها. هذا يعني أن القدرة الجنسية ملازمة للانسان، لكنها تختلف باختلاف مراحل حياته: المرحلة الشفوية والمرحلة الشرجية والمرحلة القضيبية والمرحلة التناسلية، ولا يتخلص الطفل في تظر فروید من عقدة أو ديوس إلا بمركب آخر هو مركب الخصاء الذي يدفعه إلى اشتهاء امرأة أخرى بدل أمه، تجنبا للآلام المصاحبة للعقد،

لذلك كان كمال عاجزا جنسيا بسبب نفسي لا فسلجي  ( تجاه زوجته الشابة)

ولكنه يتمتع بكل صفات الرجولة تجاه المرأة العجوز التي تكبره سنا ذات الوجه والاخلاق القبيحة،

   ( كيف كان نصيبي من زوجتي الجميلة العجز والإخفاق على حين أنني نعمت بين يدي المرأة !!!  الغليظة القبيحة التي تكبرني سنا بهذه السعادة الجنونية ؟؟؟

لقتني حيرة شديدة ، تلهفت نفسي على بصيص من النور وزاد من حيرتي أنني شعرت شعورا عميقا بأنني لا غنى لي عنها معا بل لم أجد سبيلا إلى المفاضلة بينهما، فهذه روحي وتلك جسدي، وما عذابي إلا عذاب من لا يستطيع أن يزاوج بين روحه وجسده , ماذا تكون قيمة الدنيا بغير هذا الوجه الجميل المتسم بالطهر والكمال ؟  ولكن ماذا يبقى لي من لذة ورجولة ؟ إذا فقدت المرأة الأخرى؟  وأغرقت في التفكير إغراقا لم يدع للنوم سبيلا إلي،

 ومضت تتراءى لعيني رباب زوجتي ثم عنایات صديقتي الذميمة، وانحرف الخيال بغتة إلى أمي بلا داع فاتخذت مكانها في شريط هذه الصور المتلاحقة !!  وتناهت بي الحيرة حتى شملتني حال الحزن والكآبة )

حسب الاقتباس الانف الذكر

 ان وعيه يتوق الى زوجته الشابة و الإمراة القبيحة التي تكبره سنا تناغي امه في منطقة اللاوعي فلازمت كمال هذه الامراض النفسية التي لا تتعالج ((حسب فرويد)) الا بالصدمة او بالتنقيب الاثري للنفس لذلك لما حصلت الصدمة لكمال رجع جزئيا لحياته  الطبيعية متخذا  طريق التصوف طلبا للطمأنينة والراحة النفسية .

[فيم أعلل النفس بالأماني الكاذبة؟ لم أخلق لشيء من هذا، وإنما خلقت للتصوف، ومن عجب ان وردت هذه الكلمة على ذهني بغير قصد، لكن سرعان ما تشبثت بها بدهشة وحيرة ……

التصوف ؟

لست أدري ما هو على وجه التحقيق !  ولكنه وحدة وعزوف وتفكير

وما أحوجني للوحدة والعزوف والتفكير. عجبا ألم أكن أشكو الوحدة طوال رقادي؟ الحق أنني لم أشك الوحدة التي القتها العمر كله ولكنني استوحشت الوحدة التي خلفتها أمي ,

 أما الوحدة المعهودة فيها أشد لهفتي إليها ؟

 الإجابة هي أن أطهر جسمي ظاهره وباطنه ، ثم أكرس قلبي للسماء. انظر الصورة إلا السماء ، ولكن أضلتني نوازع الحياة ، وتصورت نفسي في طهر عجیب ، يستحم جسدي بماء عطر ، وتتسامی روحي في صفاء ونقاء ، مشهد رؤية أرنو إلا السماء ولا خاطر ينبثق في إلا الله ، بلابل الجسر في صورة لي اذني وتلك طمينة. السلام تقر في قلبي).

أصداء السيرة ، نموذج للقصة القصيرة جدا

د. حسين علي محمد


صدرت في الأعوام الأخيرة بعض كتب السيرة الذاتية ومنها “شواهد ومشاهد” لعبدالحميد إبراهيم. و”مد الموج” لمحمد جبريل. كلها يقتدي بنجيب محفوظ في كتابه “أصداء السيرة الذاتية” حيث لاترصد السيرة الذاتية بطريقة السرد المعروفة وإنما تختار مشاهد أقرب إلي اللقطة الموحية أو القصة القصيرة جداً .
وقد أفادت هذه السير في هذه التقنية من كتاب نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية”.. وقد كتبت في مجلة “قرطاس” “عدد يناير 2001م” مقالة عن كتاب “شواهد ومشاهد” لعبدالحميد إبراهيم توقفت فيها عند التشكيل والرؤي وفي هذه المقالة سنلتقي مع خمسة مشاهد من كتاب “أصداء السيرة الذاتية ” لنجيب محفوظ تقترب في تقنية كتابتها من “القصة القصيرة جداً” وسنتوقف امامها لتأمل دلالاتها الفكرية الثقافية. وسنلاحظ في هذه المشاهد أن نجيب محفوظ اتخذ من المرأة “التي طالت صحبته معها في الحياة وفي الفن” أداة فنية: حقيقية في المشاهد الثلاثة الأولي ورمزية في المشهدين الرابع والخامس:


المرأة والنضال!
يقول في مشهد بعنوان “ليلي“:
في أيام النضال والأفكار والشمس المشرقة تألقت ليلي في هالة من الجمال والإغراء.
قال أناس: إنها رائدة متحررة.
وقال أناس: ما هي إلا داعرة.
ولما غربت الشمس وتواري النضال والأفكار في الظل. هاجر من هاجر إلي دنيا الله الواسعة:
وبعد سنين رجعوا. وكل يتأبط جرة من الذهب وحمولة من سوء السمعة.
وضحكت ليلي طويلاً وتساءلت ساخرة:
تري ما قولكم اليوم عن الدعارة؟!


إن هذا المشهد يشير إلي بداية التحرر الوطني “في الخمسينيات والستينيات الميلادية من القرن الماضي” حيث خرجت المرأة إلي ميادين الحياة واختلف الناس في فهم هذا الخروج الذي رآه البعض تحرراً ورآه البعض دعارة ولكن الزمان اختلف علي حد تعبير الشاعر محمد ابراهيم أبوسنة وجاء عهد لا يرفع شعارات النضال ولا يتعامل بمفردات القاموس التي شاعت في الخمسينيات والستينيات. بل ينحت الفاظاً أخري عن السوق المفتوحة وفوائد السفر والشركات متعددة الجنسيات والرؤية الواقعية والحل التاريخي مع إسرائيل….إلخ وهاجر من هاجر إلي دنيا الله الواسعة بحثاً عن استثمار امواله التي كسبها في سنوات النضال أو للراحة من النضال أو للبحث عن الثروة ويصور نجيب محفوظ هذا بقوله المفيد المختصر: “وبعد سنين رجعوا وكل يتأبط جرة من الذهب وحمولة من سوء السمعة“.
وهنا يحق لليلي التي عانت من قبل من هؤلاء في أيام النضال والثورة أن تتساءل ساخرة من اعمالهم الآن التي تتنافي مع اقوالهم “أيام النضال والأفكار”: “تري ما قولكم اليوم عن الدعارة؟!”.
إن هذا المشهد يرسم لوحة رآها الروائي واخترناها حتي اخرجها لنا في هذا المشهد وكأنه يقول لنا لقد عشت عصر الكلام الجميل. و”الأيديولوجيا الاشتراكية” الذي سرعان ما اتضح زيف اصحابه المنادين به عند أول اختبار.
وفي مشهد ثان بعنوان “النهر” يقدم فيه صورة قد تكون حقيقية لامرأة عرفها لكنه من خلالها يشير إلي تدفق نهر الزمن حتي ينسينا ما مررنا به من تجارب حميمة والمرأة هنا هي المرآة التي ينعكس عليها جريان هذا الزمن/النهر:


المرأة والتجربة الأليمة
وفي مشهد ثالث بعنوان “الندم” يقدم فيه صورة للمرأة التي ترمز إلي التجربة الآثمة الأليمة أو غير الصحية التي تقابلنا في حياتنا والتي نتذكرها بندم ولابد من هذا الندم الذي هو علامة صحة نفسية واستقامة دينية وصحوة نفس ترفض الانجراف في الخطأ أو مداومة السير في طريقه:
إن الإنسان قد يسقط ويمارس تجربة خاطئة في الحياة لكن الوعي بألم هذه التجربة “أو تلك الذكري التعيسة” بداية الرؤية الصحيحة للحياة وللأشياء لأنها تعني تصحيحاً للخُطي ورغبة حقيقية في عدم مداومة السير في الطريق الذي تبين خطؤه!
السوق/الحياة


ويقول في مشهد رابع يمثل فيه السوق دنيا الله الواسعة:

“ذهبت إلي السوق حاملاً ما خف وزنه وغلا ثمنه واتخذت موضعي منتظراً رزقي. وهدأ الضجيج فجأة واشرأبت الأعناق نحو الوسط نظرت فرأيت ست الحسن تتهادي في خطا ملكة علي أحسن تقويم سلبت عقلي وإرادتي قبل أن تتم خطوة فنهضت لأتبعها مخلفاً ورائي العقل والإرادة واسباب رزقي حتي دخلت بيتاً صغيراً انيقاً يطالع القادم بحديقة الورد واعترض سبيلي بواب مهيب الجسم حسن الهندام وحدجني بنظرة مستنكرة فقلت:
إني علي أتم استعداد لأهبها جميع ما أملك.
فقال الرجل بلهفة قاطعة:
إنها لا ترحب بمن يجيئون إليها هاجرين عملهم في السوق. إن المرأة الجميلة هنا ترمز للحياة الرخية الهانئة السعيدة التي يحلم بها الكادحون في هجير الحياة والتي لن ينالوها إلا بالتعب والسعي في اسباب الرزق التي يرمز إليها الكاتب ب”السوق”.. وكأنه يقول لنا إن حلم الوصول إلي السعادة والعيش الهنيء في ظلالها دون تعب محاولة عقيم!
المرأة والحقيقة!


ويقول في مشهد خامس بعنوان “علي الشاطيء“:
وجدت نفسي فوق شريط يفصل بين البحر والصحراء شعرت بوحشة قاربت الخوف وفي لحظة عثر بصري الحائر علي امرأة تقف غير بعيدة وغير قريبة لم تتضح لي معالمها وقسماتها ولكن داخلنا أمل بأنني سأجد عندها بعض اسباب القربي أو المعرفة ومضيت نحوها ولكن المسافة بيني وبينها لم تقصر ولم تبشر بالبلوغ.. ناديتها مستخدماً العديد من الأسماء والعديد من الأوصاف فلم تتوقف ولم تلتفت.
وأقبل المساء وأخذت الكائنات تتلاشي ولكنني لم أكف عن التطلع أو السير أو النداء“.
والمرأة في المقطع السابق تمثل الحقيقة التي نبحث عنها فلا نصادف إلا الوهم. وقد انتقل السارد من صوت الفرد إلي صوت الجماعة من خلال الضمير “نا” في قوله: “داخلنا أمل بأنني سأجد عندها بعض اسباب القربي أو المعرفة”. ولكن هاهو عمر الفرد نجيب محفوظ يشرف علي النهاية “أو هو عمر البشرية التي أوغلت في التاريخ” والمنادي لم يظفر ببغيته في معرفة الحقيقة رغم إلحاحه علي معرفته: “ناديتها مستخدماً العديد من الأسماء والعديد من الأوصاف فلم تتوقف ولم تلتفت”. وستظل الرغبة في الحياة ومراودة المعرفة أملاً يخايل الإنسان ويؤرق وجوده وقد يصل إلي الخاتمة قبل أن يصل إلي الحقيقة “وأقبل المساء وأخذت الكائنات تتلاشي ولكنني لم أكف عن التطلع أو السير أو النداء“.


وما أكثر التجارب التي تناولها نجيب محفوظ تناولاً فنياً من خلال تصويره المرأة تصويراً حقيقياً أو رمزاًَ فنياً يبلغ من خلاله ما يريد أن يقوله في فنية عالية تمرس عليها خلال رحلته الإبداعية الطويلة التي تقترب من ثلاثة أرباع قرن!
…………………………………
*
المساء ـ في 9/9/2006م.


شريف صالح

(اللص الهارب في أربع حكايات)

https://www.blogger.com/blog/post/edit/1473102708674021242/304047565658034803?hl=ar

شغل محمود أمين سليمان الناس في مصر مطلع الستينيات من القرن الماضي، وكان يمكن أن تُنسى حكايته كما نُسيت حكايات بشر آخرين لولا أن صاحب نوبل كتب عنه في رائعته “اللص والكلاب”، فأصبح لصاً خالداً في تاريخ الأدب العربي؛ فكيف استلهم نجيب محفوظ تلك القصة؟ ماذا حذف منها وماذا أضاف إليه؟ وما هي الفروق بين حكاية سفاح الإسكندرية الأشهر وسعيد مهران بطل “اللص والكلاب”؟ وكيف أعاد فيلم كمال الشيخ إنتاج تلك الحكاية؟ وما أوجه الاختلاف بين الفيلم والمسلسل الذي أخرجه أحمد خضر؟ عشرات الأسئلة سنحاول أن نجيب عنها مقتفينا أثر اللص الهارب عبر أربع حكايات:

الحكاية الأولى

في مطلع مارس عام 1960 تابعت الصحف المطاردة المثيرة بين الشرطة واللص محمود أمين سليمان. وقد رجعت إلى ما نشرته آنذاك جريدة الأهرام، على مدى شهري مارس وأبريل، لكن بشكل متقطع، فأحيانا يفرد له مساحة في الصفحة الأولى وأحياناً لا يوجد أي خبر عنه. وغالباً لم يذكر اسم المحرر باستثناء مرتين، في عدد 12 مارس كتب الإسكندرية في 11 ـ من سامي دسوقي بمكتب الأهرام، على موضوع خاص بوالد السفاح، ثم نجد توقيع محمود عبد العزيز على الموضوع الرئيسي بالصفحة ذاتها. ما يعني أن هناك أكثر من صحفي شارك في كتابة حكاية السفاح.

تبدأ قصة محمود أمين سليمان بإشارات عن طفولته في لبنان وعلاقاته هناك بعدد من الشخصيات السياسية ثم فجأة يتهم بالسطو على أحد هؤلاء المشاهير، فيسجن أربع سنوات وبعدها يطرد إلى مصر. كما كانت له صلة بالأنشطة الفدائية في فلسطين حيث نجح في خطف زوجة خاله من اليهود في حيفا (ت10/3).

أما ملامحه الحقيقية ومن واقع بيان للشرطة في عدد 14 مارس: “في الثلاثين من عمره، قصير القامة، نحيف الجسم، أسمر اللون وشعره أكرت. أحياناً يرتدي الملابس الإفرنجية وأحياناً البلدية. وأحياناً يرتدي الملابس العسكرية”. وقد تميز بالحركة النشطة ما بين أحياء مختلفة في القاهرة والإسكندرية أهمها: حي محرم بك في الإسكندرية، و المنيل، والدقي، والمعادي، وبولاق، والكيت كات في القاهرة والجيزة. وطبعاً استغل براعته في التنكر والتخفي للتنقل بين المدن والأحياء، ففي أحد أعداد “الأهرام” ست صور له في زي عسكري بوليس، وبواب، وفي بدلة رسمية، وزي صعيدي، ومتسول، وببنت ببرقع. ولا نعرف كيف التقطت له تلك الصور! كما أن حكمدارية شرطة القاهرة كانت تشير على الدوام إلى التغيرات الجديدة في شكله، مثلما في عدد 9 أبريل:”لقد استطاع محمود أمين سليمان أن يغير في شكله العام. صبغ شعره بالأوكسجين فأصبح بلون أصفر بعد أن كان شعره يتميز باللون الأسود الفاحم. إن اللص القاتل يرتدي الآن جاكتة زرقاء وبنطلوناً بين الرمادي والبيج. أصبحت للص علامات مميزة جديدة فوق العلامات المميزة القديمة. في خده – بجوار الأنف – الآن جرح صغير يغطيه بقطعة قطن وفي ساقه اليسرى عرج بسيط“.

ثمة جانب آخر مهم في شخصيته، وهو عمله في مهن عدة، حيث “اشتغل بالتجارة وكان لديه ورشة موبيليا ثم باعها، ومحل بقالة في شارع جامع جركس باعه قبل القبض عليه بأربعة أيام”. والأهم من ذلك ولعه بالظهور في صورة المثقف، إذ نراه يخبر أهل زوجته أنه صاحب دار نشر. (ت4/3) ويعزز من رغبته العميقة في التعبير عن نفسه كشخصية مثقفة وصاحب وجهة نظر، حرصه على تدوين اعترافات زوجته وكذلك جرائمه في كراس، وإرساله رسالة إلى “الأهرام” يشرح فيها كيف سارت حياته في هذا الاتجاه ويطلب نشرها مسلسلة كل ثلاثاء. وكتب لهذه السلسلة عنوان: “محمود أمين يتكلم بعد صمت طويل ويخص الأهرام بهذه الرسالة” (ت12/4).

وكان سليمان لا يستهدف سوى بيوت الأثرياء والمشاهير. ولا يتردد في إطلاق الرصاص على من يشعر بخطورتهم أو يرتاب فيهم، لكن يبدو أنه لا يتعمد قتلهم. كما يشعر دائماً بظلم المجتمع له وتخلي الجميع عنه. وقد اتهم صديقيه المحامي بدر الدين أيوب ومساعد مهندس يدعى محمود أمين بأنهما على علاقة بزوجته، وأن ثلاثتهم شاركوا في الوشاية به. وكان المحامي عرض على الشرطة مساعدتها في الإيقاع به، كما أعلن عن نيته في كتابة قصة السفاح، إضافة إلى اتهامه بتقاسم المسروقات مع اللص.

وأثناء رحلة المطاردة ورد ذكر فتاة تتردد على ملهى “الكيت كات” تدعى آمال الفلاحة تعرف عليها اللص وعرض عليها الزواج، وكذلك جرسونيرة في المعادي اختبأ في شقتها. وبعد أن أعلن وزير الداخلية التنفيذي عباس رضوان عن مكافأة ألف جنيه لمن يساعد في القبض عليه، أدلى خفير وفلاح بمعلومات مهمة قادت الشرطة تصاحبها الكلاب إلى مخبئه في مغارة في جبل حلوان حيث قتل بعد مطاردة استمرت حوالي 44 يوماً منذ لحظة هروبه من السجن. وصدر مانشيت الأهرام كالتالي: 17 رصاصة مزقت جسد اللص القاتل.

وعادة لا تنشر الجريدة “رأي الأهرام” إلا في حال التعليق على قضايا وطنية ودولية كبرى، ويوم مصرع السفاح نشرت تحت عنوان “النهاية المحتومة” ما يشير إلى الانقسام في تلقي قصة السفاح، وإن ألمحت إلى أن المتعاطفين معه أو المتعاونين معه “أفراد قليلين”: “لقي اللص القاتل محمود أمين سليمان نهايته التعيسة، وهي خاتمة طبيعية لقصة كل مجرم سالب للأرواح وللممتلكات خارج على القانون”. (ت10/4)

الحكاية الثانية

يتفق النقاد على أن قصة لص الإسكندرية كانت الحكاية المصدرية التي استلهم منها محفوظ روايته “اللص والكلاب” التي نشرت في جريدة الأهرام خلال شهري أغسطس وسبتمبر من عام 1961، أي بعد مرور 16 شهراً على مصرع محمود أمين سليمان. ثم طبعتها مكتبة مصر في 144 صفحة موزعة على ثمانية عشر فصلا.

وثمة إشارة بالغة الأهمية رواها يحيى حقي في مقاله عن الرواية، قائلاً:” وكان من حسن حظي أن شهدت انفعال نجيب محفوظ بفكرة رواية “اللص والكلاب” وإن كنت لم أعرف ذلك إلا فيما بعد، ففي أيام حوادث محمود أمين سليمان. وهو سعيد مهران في “اللص والكلاب” كنت ونجيب جارين في مصلحة الفنون ونخرج معاً، فكنت أسأله أحياناً ماذا تقرأ هذه الأيام وماذا يشغلك، فكان يضحك في وجهي، يقول لي: لا شغل ولا تفكير إلا في محمود أمين سليمان“.

وإذا كانت أسطورة السفاح بدأت عقب هروبه من السجن، فإن أسطورة سعيد مهران بدأت عقب خروجه من السجن إثر قضاء فترة العقوبة. ولاشك أن فعل “الهروب” للانتقام ممن خانوه أشد تأثيراً من فعل “الخروج”. وبدلاً من 44 يوماً من المطاردات المثيرة، كثف محفوظ أحداث الرواية في حدود أسبوعين. كما اختزل أماكنها الموزعة على عدة محافظات مكتفياً بالقاهرة الكبرى، وبدلاً من التركيز على حي محرم بك باعتباره مركز الأحداث في الحكاية الصحفية، أدخل محفوظ سعيد مهران عالمه الأثير وتحديداً أحياء القاهرة القديمة حول القلعة.

ومن بين حوالي 90 مكاناً ورد ذكرها في الحكاية الصحفية، اختزل محفوظ خريطة اللص في حوالي 20 مكاناً. وبينما حفلت الحكاية الصحفية بأكثر من 150 شخصية، نصفها من رجال الشرطة والنيابة والقضاء، فإن الرواية قلصت العدد إلى حوالي 40 شخصية، أهمها سعيد مهران (محمود أمين سليمان)، الزوجة الخائنة نبوية (نوال)، الصحفي رءوف علوان (المحامي بدر الدين أيوب)، الصديق الخائن عليش (مساعد المهندس محمود أمين)، أما شخصية نور في الرواية فهي مزيج من شخصيتي آمال الفلاحة وجرسونيرة المعادي. فيما أغفل محفوظ شخصية الأب وجعل سعيد يتيماً، واستبدله بأب روحي أو رمزي هو الشيخ الجنيدي، جرياً على عادة محفوظ في تأكيد حضور المرجعية الدينية.

وأضافت الرواية شخصيات أخرى لا وجود لها في الحكاية الصحفية مثل: أم سعيد، المعلم طرزان، بياظة، المخبر حسب الله ممثلاً للسلطة. لكن الملاحظة الأساسية أن معظم الشخصيات في الحكايتين كانت معارضة لسعيد مهران ومهددة لوجوده، وهي شخصيات تملك السلطة والنفوذ للقضاء عليه، بينما الشخصيات المتعاطفة معه أو المساعدة له قليلة جداً وبلا نفوذ تعيش على هامش المجتمع مثل نور والشيخ الجنيدي.

وجاء وصف سعيد روائياً بشكل موجز جداً، قد لا يتجاوز جملة أو جملتين: “فوقف بين قوم بدا فيهم غريب المنظر ببدلته الزرقاء وحذائه المطاط، وزاد من غرابته نظرته الحدة الجريئة وأنفه الأقنى الطويل”. (ص28). وتحمل شخصيته سمات البطل التقليدي الذي يجد نفسه متورطاً في لعبة قِوى ليس في الأصل نداً لها. ويبدو أن صراعه العميق في حقيقته ليس مع تلك القوى، بل هو صراع مع الزمن، مواجهة لماضي الخيانة، ومستقبل الخسارة المريرة، والحاضر القلق المشحون بالموت في أية لحظة. ففي إطار بحث سعيد مهران عن خلاص ما، وعدالة ما، تستمر خطوات الزمن ثقيلة وكئيبة بعد الفشل مرتين في إنجاز الانتقام، وكأن حركة الزمن تظل في امتدادها إلى الأبد دون أن تحقق العدالة والقصاص.

إنه شخص مسمم يتجه بقوة إلى الماضي، وهو أيضاً مضطرب لا يعرف عن حاضره ومستقبله إلا النذر اليسير ويوظف ذلك لجلب أدوات الانتقام الموهوم. إننا أمام بطل يسير عكس عقارب الساعة ظناً منه أنه يستطيع أن يطارد الماضي مطاردة الصياد للفريسة، فإذا به ينفصل عن حاضره ووجوده، شيئاً فشيئاً، ويصبح شبحاً غامضاً، أو فريسة يطاردها الماضي:”لم يسمح الماضي بعد بالتفكير في المستقبل” (ص34).

إن أزمة سعيد في جوهرها هي أزمة وجودية بسبب اغترابه و وحشته وعزلته بلا أب.. وحركته المضادة للزمن، فمن خانوه ليسوا وحدهم الكلاب، بل إن عقارب الساعة ذاتها تحولت إلى كلاب متوترة تكشر عن أنيابها للخلاص منه بينما هو يقف وحيداً كالطائر الذبيح في نشوة صوفية أو عدمية مردداً: “لا مأوى لك الساعة.. ولا أي ساعة” (ص62).

الحكاية الثالثة

بعد عام من نشر الرواية، قدم كمال الشيخ فيلمه “اللص والكلاب” تمثيل شكري سرحان (سعيد مهران)، شادية (نور)، كمال الشناوي (رءوف علوان)، فاخر فاخر (الشيخ الجنيدي)، صلاح جاهين (المعلم طرزان)، زين العشماوي (عليش)، وسلوى محمود (نبوية). وشارك مع صبري عزت في كتابة المعالجة السينمائية.

الفيلم مدته 125 دقيقة، وتضمن أكثر من مائة مشهد، تعرض لحوالي 50 شخصية، وإجمالاً التزم الفيلم بمعظم شخصيات الرواية، لكنه قلص حضور الشيخ الجنيدي في مشهدين فقط، وجعل بياظة صاحب مقهى وليس أحد أتباع عليش، واختلق بعض الشخصيات مثل السجين مهدي (صلاح منصور).

وإذا كانت الحكاية الصحفية بدأت من لحظة الهروب من السجن والرواية بدأت من لحظة الخروج منه، فإن الفيلم بدأ من فعل الخيانة ثم دخول السجن، وتمتد الأحداث لتغطي خمس سنوات تقريباً، وكلها تقع ـ أو على الأقل توهمنا بأنها تقع ـ في حي القلعة والأماكن المحيطة به، وإن كان المخرج كمال الشيخ أخبرني في حوار معه بأنه صور بعض المشاهد في الفيوم.

وقد خلت شخصية سعيد في الرواية والفيلم من أية عاهة تدل على الإجرام، كما افتقد براعة محمود سليمان في التنكر، إضافة إلى تحديد حركته في حي بعينه، ما يجعل عجز الشرطة في العثور عليه غير مبرر!

الحكاية الرابعة

في العام 1998 قدم المخرج أحمد خضر مسلسل “اللص والكلاب”، ويقع في 17 حلقة، متوسط الحلقة 41 دقيقة، ويشمل حوالي 500 مشهد. سيناريو وحوار أبو العلا السلاموني، تمثيل: عبلة كامل (نبوية)، رياض الخولي (سعيد مهران)، هاني رمزي (عليش)، بهاء ثروت (رءوف علوان)، و رانيا فريد شوقي (نور).

وإذا كانت الحكايات الثلاث السابقة بدأت من لحظة دخول السجن أو الخروج منه أو الهروب، فإن الحكاية التلفزيونية ابتعدت تماماً عن تلك اللحظة، وبدأت من مرحلة عمل سعيد في بيت الطلبة خلفاً لوالده. وبذلك فإن زمن الحكاية التلفزيونية جاء مشوشا، فقياسا على عمر سعيد استغرق ما يزيد على عشر سنوات، وقياسا على الأحداث السياسية والاجتماعية في المسلسل مثل مظاهرات الطلبة المطالبة بالحرب عام 1972 وحرب أكتوبر وصعود التيار الإسلامي وشركات توظيف الأموال والتحذير من الإرهاب، يغطي المسلسل حوالي ربع قرن من الزمان وليس أسبوعين فقط، كما في الرواية.

وعلى عكس الرواية والفيلم اللذين كثفا عدد الشخصيات، فإن المسلسل جاء مشابهاً للحكاية الصحفية في ضخ عشرات الشخصيات الثانوية في مجرى الحكاية أهمها: ضبو، شلبية، والدة نور، خشبة، ومدحت. وتعد شخصية شلاطة (توفيق عبد الحميد)، امتداداً لشخصية “مهدي” في الفيلم وليس لها وجود في الرواية.

وقد ظهر سعيد في المسلسل موفور الصحة، طويلاً عريضاً، لا تبدو عليه آثار الفقر أو الحرمان، شعره الأسود مصفوف بعناية ولامع معظم الوقت. وفي خمس حلقات فقط تنوعت ملابسه إلى حد كبير دون أن يتعلق ذلك بأية مهارة في التنكر كما هو الحال في الحكاية الصحفية. كما خلص الفيلم والمسلسل شخصية السفاح من الدمامه وجعلاه بوسامة نجوم السينما.

على المستوى النفسي للشخصية بدا سعيد مستسلماً لقدره أكثر منه راغباً في التحدي، إلى درجة أنه يبكي بسهولة في مشهدين متتاليين، كما يوافق على تقبيل حذاء رءوف علوان. ونلاحظ أن حضور سعيد تراجع تباعاً، فبعد أن كان مهيمناً على كافة مشاهد الرواية بنسبة 100% تراجعت تلك النسبة في الفيلم إلى 81% ثم إلى 37% فقط في المسلسل الذي انشغل كثيراً بشخصيات أخرى.

التلقي

تكشف قراءة الحكايات الأربع عن عدم تطابقها على مستوى بنائها وشخصياتها وأزمنتها وأماكنها ورؤيتها لشخصية البطل. فالحكاية ـ إذن ـ مفتوحة على احتمالات كثيرة في إنتاجها وتلقيها، لأن كل قارئ للحكاية لا يدخل إليها كصفحة بيضاء بل يأتي مثقلاً بالخبرات والمعارف التي يسقطها عليها. وليس صحيحاً أنه يغوص بين سطورها للعثور على المعنى الذي أودعه فيها من يحكيها، بل إن هذا المعنى يظل مراوغاً ما بين قصد الحاكي وما يضيفه المحكي له وطريقة الحكي. وبالتالي تتعدد قراءات أية حكاية بتعدد قرائها.

وخير مثال على ذلك تباين قراءات النقاد للرواية فهناك من صنفها باعتبارها رواية قصيرة (أنور المعدواي)، أو قصة قصيرة طويلة (يحيى حقي)، أو قصة متوسطة الحجم (ماهر فريد شفيق). وبالنسبة إلى الاتجاه الفكري والجمالي، فإن البعض اعتبرها “قصة كلاسيكية القالب رومانسية المضمون” (لويس عوض) فيما نسبها آخرون إلى الاتجاه الوجودي، ففي الرواية “جميع المعضلات الوجودية الكبرى”.(عبد المنعم تليمة) فأزمة سعيد مهران وجودية من وجهة نظر أنور المعداوي، وغالي شكري وإبراهيم فتحي. وإن كان الأخير يتحفظ على الطابع الوجودي كونه “لا يتعدى بعض النواحي العرضية الشكلية“.

ولم يختلف النقاد في تصنيف الرواية فكرياً وجمالياً بل اختلفوا أيضاً في الثيمة الأساسية التي تعالجها، فمثلاً هناك من يرى أنها تعالج مفهوم الحرية، فقيمة القيم التي تدور حولها المعركة هي “الحرية” أو معركة المنتمي ضد قيم فاسدة لاستبدالها بقيم صالحة.(غالي شكري). بينما يشير أكثر من ناقد إلى أنها تعالج مفهوم العدالة، فهي تطرح أبعاداً فلسفية حول مفهوم العدالة وتكافؤ الفرص.(محمود الربيعي).

إن اختلاف النقاد في قراءة الحكاية، يعود دون شك إلى تباين أدواتهم، ومدى قدرتهم على الإتيان بأدلة من النص تعزز تأويلاتهم، وكذلك تباين خبراتهم الذاتية في إضفاء معنى ما على الحكاية. ولا ينفصل ذلك كله عن وعيهم بالسياق الذي أنتجت فيه. فنجيب محفوظ كتب الرواية بعد عملين شهيرين له هما “الثلاثية” التي بلغ فيها ـ في رأي البعض ـ حد الكمال، حتى قيل إنه سيعتزل الكتابة ويتصوف. والثاني “أولاد حارتنا” المكتوبة بأسلوب رمزي مغاير لأسلوبه المعتاد والتي نشرتها الأهرام مسلسلة عام 1959، وصدامه الشهير مع المؤسسة الدينية التي منعتها، آنذاك. وبين هذين العملين قامت ثورة يوليو، فتحمس لها محفوظ ـ وربما تحت وطأة الحماس ظن أن أحلامه تحققت ولم يعد للكتابة جدوى ـ ثم راح يتأمل تحولاتها بعين الريبة والشك، منشغلاً في الوقت ذاته بعمله ككاتب سيناريو. ثم دشن بها أول أعماله عن مرحلة ثورة يوليو، وكأنها إرهاصة أولى بأنه مقبل على نقد وتشريح للثورة، وإن بشكل رمزي أو موارب. فالإدانة للسلطة واضحة في الرواية، ومواكبة لبلوغ عبد الناصر ذروة مجده السياسي في العام 1960 وتحتوي الرواية أيضاً على إرهاصات مهمة حول سطوع نجم شخصيات وصولية وانتهازية باعت مبادئها وكفاحها القديم بثمن بخس، تساندها أجهزة حكومية بيروقراطية مثل الشرطة والقضاء، وهي أجهزة عاجزة عن تحقيق حلم العدالة مثلما عجز سعيد مهران نفسه عن الانتقام.. وأيضاً ثمة مرجعية دينية تثير من الألغاز أكثر مما تنجز من حلول. فالنص إذاً ينتسب إلى مؤلف صمت سنوات متأملاً العهد الثوري الجديد، مراهناً عليه في تحقيق ما ظل يحلم به، إلا أنه أدرك إخفاق الحلم واستمرار البنية السياسية الفاسدة ذاتها على نحو ما.

هذا الرأي يؤيده كلام محفوظ نفسه في رسالة إلى خالد محمد خالد حيث يقول: “الحقيقة أنني كنت في ظروف سنة 1959 قد بدأت أشعر بشيء من الخيبة بالنسبة لثورة يوليو 1952، فهي قد جاءت وحققت أعمالاً عظيمة، ولكن بدأنا نسمع كثيراً: اليوم قبض على فلان، اليوم يعذبون فلاناً، وفيه ناس بتستفيد فوائد كبيرة جداً إلى أن أصبحوا أكثر من الإقطاعيين، وأشياء من هذا النوع، وبدأ الواحد بعد الفرحة الأولى يرمش شوية” (إبراهيم عبد العزيز).

في المقابل اختلف سياق إنتاج المسلسل وخرج كلياً من مرحلة عبد الناصر وركز إدانته على مرحلة السادات، وعن هذه المسألة قال مخرجه أحمد خضر:”لا أدين النظام ولا السادات بل أدنت الإرهاب الموجود في تلك الفترة.. وهناك مشهد حذفته الرقابة نوضح فيه أن السادات هو الذي أعطى الفرصة لهؤلاء الإرهابيين، وهذا ليس إدانة له بقدر ما نوضح إنه “انضحك عليه”.. بسبب طيبته وحسن نيته.. وإذا كانت الرواية أدانت نظام عبد الناصر والمسلسل أدان نظام السادات فهذا ليس خروجاً على فكر محفوظ. مرحلة عبد الناصر لا تهمني في المسلسل لأنني خرجت منها. والمسألة ليست إدانة بقدر ما هي تساؤل عن الجماعات الإسلامية التي كانت في السجون، من الذي أخرجها وعلى أي أساس خرجت؟!”.

حكايات أخرى

إذا كانت اللغة نظام من العلامات والرموز التي تشير إلى وقائع وأفكار، فإن الحكاية أيضاً هي نظام من العلامات التي تشير إلى حكايات أخرى سابقة عليها، قد تكون ظاهرة في متنها أو مضمرة ومخفية. ومن البدهي، في قراءات النقاد للرواية، أن الإحالة الأساسية كانت للحكاية الصحفية، باعتبارها الحكاية المصدرية الواقعية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه:هل هي الحكاية المصدرية الوحيدة؟ ألا يمكن أن تكون هناك حكايات مصدرية أخرى لكنها مضمرة؟ فعلى سبيل المثال أشار لويس عوض إشارة عرضية إلى إمكانية أن تكون شخصية سعيد مهران امتداداً لشخصية البطل الشعبي أدهم الشرقاوي، وتلقف سيد خميس تلك الإشارة دون أن يشير إلى صاحبها! محاولاً عقد مقارنة بين البطلين، لكنه وقع في فخ التعميم.

ولو جاز لنا التنقيب عن حكاية مصدرية أخرى لسعيد مهران، فمن باب أولى ستكون حكاية فيلم “جعلوني مجرما” وليس أدهم الشرقاي. قد يبدو ذلك غريبا للوهلة الأولى، لكن لو عرفنا أن محفوظ كان أحد المشاركين في كتابة الفيلم وأنه بحسب ما ذكره هاشم النحاس لم يكن راضياً عنه رغم النجاح المدوي. كذلك لو عقدنا مقارنة مباشرة بين العملين سنتأكد من صحة تلك الفرضية بدءاً من رمزية اسمي البطلين:”سعيد مهران” و”سلطان شريف” وهما على الوزن نفسه معكوساً. وكلاهما لديه هذا الشعور بأن المجتمع جعله مجرماً وأنه كان يستحق مصيراً أفضل، وكلاهما احتمى بالشيخ كمرجعية دينية (يحيى شاهين وفاخر فاخر) ووجد في فتاة الليل والملاهي (شادية وهدى سلطان) ملاذاً حنوناً، وأخيراً انتهى مصيرهما بشكل مأساوي. لذلك في ختام “جعلوني مجرماً” يصرخ سلطان (فريد شوقي) في وجه الشيخ حسن وحبيبته “ياسمينا”: “عدالة المجتمع اتأخرت عني كتير، سلطان غني عن البراءة، سلطان في إيده مسدس واتعلم ازاي يدوس ع الزناد، سلطان قلبه اتحجر ومش ها يرحم حد أبداً”. لو حذفنا اسم سلطان وحل بدلاً منه اسم “سعيد مهران” هل يتغير شيء في الخطابين؟ إنه المونولوج نفسه يتردد صداه مرة أخرى في “اللص والكلاب”: “بهذا المسدس أستطيع أن أصنع أشياء جميلة على شرط ألا يعاكسني القدر. وبه أيضاً أستطيع أن أوقظ النيام فهم أصل البلايا. هم خلقوا نبوية وعليش ورءوف علوان” (ص72).

إذن لا تتوقف الحكاية بالضرورة على حكاية مصدرية وحيدة، كما إنها تشمل العديد من الحكايات الأولية والثانوية مذابة في نسيج الحكي. ومن هذا المنطلق رد النقاد شخصية البطل سعيد مهران إلى حكايات عالمية مثل رواية”الغريب” حيث تكشف المقارنة بين بطلها “ميرسول” وسعيد مهران عن هذا البعد الوجودي، مع الفارق بينهما، فالتمرد عند كامي هو تمرد أصيل أنبتته الحضارة الغربية في مرحلة التمزق. أما تمرد سعيد فهو شكلي لأنه منتم من حيث الجوهر، وينطلق في تمرده من كون بناء من القيم قد انهار أمام عينيه. (غالي شكري) أو رواية “سن الرشد” لسارتر، فمذاقها الوجودي يفوح منه عطر سارتر الساري فيها(أنور المعداوي)، أو رواية “الأيدي القذرة” لسارتر أيضاً، حيث يُلقى بالإنسان في هذا العالم الغريب دون عزاء كما تلفظ بوابة السجن “سعيد مهران”(إبراهيم فتحي) بينما يقارن لويس عوض بينها وبين “البؤساء” لفيكتور هوجو، ويعتبر سعيد مهران هو جان فالجان القرن العشرين، اللص شبه المثقف الذي يطارده المجتمع.

في المقابل، إذا تعاملنا مع الرواية كنص مركزي، فما أكثر الحكايات اللاحقة التي اتكأت عليها، فبالإضافة إلى فيلم كمال الشيخ ومسلسل أحمد خضر، أخرجها حمدي غيث في مسرحية مطلع الستينيات من بطولة صلاح قابيل، وعالجها محسن زايد عام 1975 في مسلسل من13 حلقة، إخراج إبراهيم الصحن وتمثيل عزت العلايلي ورجاء حسين، من إنتاج مؤسسة الخليج للإنتاج الفني التابعة لتلفزيون دبي. ثم أعاد المخرج أشرف فهمي إنتاجها في فيلم “ليل وخونة” عام 1990، سيناريو وحوار أحمد صالح، تمثيل نور الشريف ومحمود ياسين وصفية العمري. كما استلهمها الشاعر سيد حجاب في ديوانه “صياد وجنية”(1966) تحت عنوان “أربع قصايد من نجيب محفوظ” حيث قدم صورة لسعيد مهران تدمجه في المخيلة الشعبية كشخصية أسطورية تجسد حلم العدالة والمساواة، وأضاف قصته إلى قصص أدهم الشرقاوي وياسين وبهية.

نخلص من ذلك إلى أن الحكاية تبقى مفتوحة إلى الأبد إنتاجاً وتأويلاً وإعادة إنتاج، كما تبقى متشابكة مع تاريخ لا نهائي من الحكايات. وتلك المساهمة البسيطة هي محاولة لإدراك عملية بناء النص الروائي لدى محفوظ وتحولاته، وتعميق الوعي به انطلاقاً من مقولة بسيطة جداً مفاداها:

لا أحد ينزل نهر الحكاية مرتين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـ الأفكار الواردة في هذا المقال هي ملخص كتاب صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة كتابات نقدية تحت عنوان “نجيب محفوظ وتحولات الحكاية”.

طارق إمام

(طعنة الواقع .. دم المنام)

(1)

هل كان نجيب محفوظ ليكتب “أحلام فترة النقاهة” لو لم يتلقّ طعنة الغدر في عنقه؟ عنوان كتابه هو من  يجيب بـ”لا”، فلولا الطعنة ماكانت النقاهة، وما انهمرت، من ثمّ، الأحلام التي تحوَّلت لكتاب محفوظ الأخير. كان بمستطاع محفوظ أن يُبعد شبح الواقعة عن عنوان أحلامه، خاصةً وأن حلماً واحداً لم يتعرض لها بشكل مباشر، لكنه شاء أن يربط نصه الأخير بمحاولة تصفيته، حفرها فوق لافتته، ليرد الطعنة بطريقته، وليُبقي البحث عن الوصمة أفقاً في آخر كتبه.

في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بالتحديد في أكتوبر من العام 1994، كان الرجل يخطو نحو عامه الرابع والثمانين، ربما كان يفكّر بالموت الموشك، الآمن كما حدس، على سريره، دون أن يتوقع وجود من يدخرون له حقداً قديماً، واتتهم الفرصة أخيراً كي يترجموه في طعنة تلقتها تجاعيدُ عنقٍ منهك بغية نحره على الملأ.

كان محفوظ قد تحول إلى رمز أكثر منه كاتب ينتظر الناس جديده. حصل على نوبل، وكأنما أغلق قوس حياته، ومنحه الإعلام صك “الأديب العالمي”، بمذاق “الأديب الراحل”. كان يُتِم الذكرى السادسة لحصوله على الجائزة، دون كتاب جديد، سنوات بدا أنها قد تطول للأبد، بسبب شيخوخته، وبسبب “لعنة نوبل” الوهمية. وكان آخر ما أصدر محفوظ كتابين، ينتميان لعقد سابق، هما رواية “قشتمر” ومجموعة “الفجر الكاذب” واللتين صدرتا عام 1988، عام حصوله على الجائزة.

في تلك الفترة الحرجة كان النظامُ المصري يخوض حرب نهاية القرن ضد الإسلاميين، حرباً استخدم فيها التنوير غطاء واهياً لخدمة مهمته “الأمنية”. كان يوفر بالتنوير مشروعية زائفة لحربه، بينما لم يوفر غطاء للتنويريين أنفسهم، قُتِل فرج فودة، ونُكِّل بنصر أبو زيد، وفي ذلك السياق جرت محاولة اغتيال محفوظ.

وبالاقتراب من الحركة الأدبية، كانت ثمة حرب أخرى، هدفها السلطة المحفوظية نفسها. عندما ظهرت أحلام فترة النقاهة، كان الواقع الأدبي المصري التسعيني يمور بصراعات شرسة، بولع في تجاوز مقتضيات بائدة للنوع: ثمة قصيدة ناهضة تمارس نزقها بتحول جارف للنثر، وبالتوازي تتململ القصة، تنحو نحو الشعر، تحاول تخفيف التشخيص لصالح قدر من التجريد، وتضيق بالحكاية الكبيرة لصالح المحكيات الصغرى. ظهرت الأحلام المحفوظية متسقة مع ذلك التململ، في أفقها الشعري، وقوامها التجريدي، بمحكياتها الخاطفة كلسعات برق، ونزوعها التلغرافي للاختزال، واتكائها على البلاغة المشهدية، وانفصالها عن نص المحاكاة الواقعي التقليدي.

هل كان محفوظ يقدم اقتراحه الجمالي مواكباً للمشهد الجديد، ومتجاوزاً نفسه مرةً أخرى بإدراكٍ للحظة الأدبية التي كتب في مناخها؟ إجابتي الشخصية هي نعم.

كانت “أصداء السيرة الذاتية” قد حملت بعض هذه السمات، إلا أنها لم تجرؤ على الشطط نفسه، كانت نصاً أكثر تردداً، سواء في شجاعة الاعتراف الذاتي أو في شجاعة الالتفات الكامل لنصٍ متحرر من أسر محفوظ نفسه:أول أسرى النص المحفوظي.

بالمقابل، مدّت “أحلام فترة النقاهة” الخيط لآخره، لتقدم وجهاً جديداً تماماً لمحفوظ: كاتب الأقصوصة، السوريالي، المتململ من نفسه.

(2)

محفوظ هو من فاجأ الجميع بمحاولة اغتياله، التي أعادته في الحقيقة للحياة، حرفياً ومجازياً، فتذكَّر الكثيرون، كأنما فجأة، أنه ما يزال يتنفس، بدليل دامغ: أنه عرضة لأن يُقتل. واقعة الدم المهدر جاءت كإفاقة للمتحدثين عن لعنة وهمية للجائزة كلعنة الفراعنة، وعاد محفوظ ليُذكِّر الجميع أنه ليس بالرجل الذي لا خطر عليه أو منه. أثبت بعدها أنه حي، بأربعة كتب، اختتمها بواحد من أعمق نصوصه تجريباً وانفلاتاً.

صنع محفوظ نصاً مفتوحاً على احتمالات شتي، لا نهائية في الحقيقية، ذلك أنها تتحقق بعدد قرائها (مفسري أحلامها) وفي ظني فإن هذه التجربة هي أعمق كتب محفوظ انفتاحاً علي التأويل الخالص.

 ثمة في “أحلام فترة النقاهة” انحياز كامل للحلم، للامعقولِه وعبثه، لدغله السوريالي، أتى كردٍ وحيد علي واقعة دموية خلقتها ذهنية وحشية، صار بمقتضاها الشروعُ في القتل منطقاً يجد من يبرره. إنه ختام مفارق لمحفوظ، الروائي، بتحوّله إلي كاتب أقاصيص نهم، ولمحفوظ الواقعي، أو حتى الوجودي أو الرمزي، كسوريالي خالص يكتب نصاً قوامه الأوتوماتية.

في “أحلام فترة النقاهة” حقق محفوظ تصوره المتكامل عن “الأقصوصة”، ذلك الشكل الفني الكثيف، الذي لم تعرفه من قبل روح القصة القصيرة المحفوظية، الأقرب إلى الطول. (بين أيدينا 239 أقصوصة، هي الغلة النهائية للأحلام، حسب طبعة دار الشروق الرابعة). النصوص قصيرة جداً، بعضها لا يتجاوز الأسطر الثلاثة، وأطولها لا يتجاوز الصفحة. وثمة سمات فنية محددة وَسَمت الأداء السردي: لغة متخلصة من المجازات الجزئية لصالح المجاز المشهدي، تحاكي فقط ما تبغي توصيله كرؤيا، لذا فهي تبدو بريئة في ظاهرها، لا تعرف سوى ما تحوِّله من مشهد مرئي لمشهد مكتوب. انتقال حر بين الأزمنة والأماكن لكن بسلاسة، فهذا هو منطق الحلم، استبعاد شبه كامل للوصف الخارجي للأشخاص والأماكن، واختزال تلغرافي يصل أحياناً إلى اختزال كامل للمشاركين في الحلم، حد أننا يمكن أن نطالع تعبيراً مثل “كان ثلاثتنا”، دون أن يوضح السارد ماهية صحبه، أو “كانت” دون أن نعرف بالضبط ماهية الأنثى. هناك أيضاً تفصيلة شديدة الأهمية من وجهة نظري، تخص استخدام علامات الترقيم، فالفاصلة بطل على حساب النقطة، وهو التفات عميق لطبيعة لغة الحلم، حيث لا تنتهي الجملة، بل تتصل. النقطة علامة واعية، تُتم معنى جزئياً مكتملاً لتبدأ آخر، وهي علامة تنظيم يهيمن عليها الوعي، أما الفاصلة فتلائم العبارات المتصلة وإن لم تبد كذلك، ذلك أن اتصالها في الحلم إجباري. تحضر في السياق نفسه أدوات العطف، فكل مشهد في المنام معطوف بالضرورة على سابقه: “رأيتني في شارع الأحباب بالعباسية ووجدت سماءها خالية من البدر، ولكن تسطع ببعض النجوم، ووجدت الهواء نقياً والماء عذباً على حين ينعم الشارع بهدوء عميق وصوت يغني: زوروني كل سنة مرة!”. إن حلماً كهذا ليس إلا نموذجاً نستطيع تعميمه، ففي هذا المقطع لا وجود لنقطة، في عالم لا يخضع لقانون الخط المستقيم، بل إن حتى الفواصل تستخدم في أضيق الحدود.

في المجمل، تبدو كل أقصوصة طاقة إيحائية وحسب، كأن ذلك مرادها، وفي النهاية يصير المشهد جدارية ضخمة من الفسيفساء، مفتوحة على التأويل.

 الأحلام، على جانب آخر، هي كتاب محفوظ المفتوح، فقد ظل يضيف إليها ما استطاع سبيلاً، ما يجعل من كل طبعة منها طبعة مزيدة، ومنقحة، وهو ما لم تعرفه الكتابة المحفوظية من قبل. تبدو الأحلام وكأنها بالفعل كتاب محفوظ الأخير، الناقص على الدوام، الذي يضيف إليه لكنه لا يغادره في الحقيقة لكتابٍ آخر.

 (3)

 في أحلام فترة النقاهة، يحقق محفوظ أشد نصوصه انزياحاً عن النص الواقعي، باعتماده الأحلام واقعاً وحيداً، لم يعبأ حتى بتفسيره. تكمن صعوبة نقل عالم  الأحلام في تفصيلة رهيفة، فمنطق المستيقظ هو الذي يتقمص وعي الحالم، لذا، كثيراً ما قرأنا أحلاماً تخلت عن جوهرها، فصارت ابنة للواقع، مغلفة فقط بقناع هش من الغرابة، يكفي نزعه لنجد أنفسنا في الحقيقة أمام نفس النص الواقعي، مكتسبةً بنية منطقية، وتاركةً خيطاً دلالياً رئيسياً يسهل تتبعه بغية “التفسير” وليس حتى “التأويل”.

 لكن ما فطن له محفوظ، في ظني، هو ضرورة كتابة الحلم بسيولته وارتباكه، وبوجدان النائم لا المستيقظ. يبدأ محفوظ ببداية الحلم، حتى لو لم تكن بداية المحكية،، ويتوقف بتوقفه، فيضع نقطة من حيث انتظرنا أن يكمل، (ذلك أننا نقرأ أيضاً بوعي المستيقظ وليس بمنطق الشريك في حلم)، ومن حيث يوجد خيط يستطيع الكاتب المحترف مده، كان محفوظ يبتر ضوء التفسير في آخر النفق.

 احتفت أحلام فترة النقاهة بالنهايات المبتورة، المفاجئة، لم يجهد الوعي المستيقظ نفسه في التسلط علي وعورتها وعدم اتساقها. بدا لي محفوظ حريصاً علي أن تكون أحلامه المكتوبة أحلاماً مرئية، كأنما كتبتها يد النائم في لحظة الرؤيا نفسها.

ذهب محفوظ بمنطق الحلم إلى آخره. أحيانا ينطوي حلم واحد على حبكتين متباعدتين كان يمكن أن تنفصما في حلمين، لكنه الإصرار على تأكيد منطق الحلم حتى لو تشوشت البنية المتوقعة. في الحلم رقم 13 مثلاً، نواجه حبكتين: “هذا هو المطار، جوه يموج بشتى الأصوات واللغات، وكن قد فرغن من جميع الإجراءات ووقفن ينتظرن، اقتربت منهن وقدمت إلى كل منهن وردة في قرطاس فضي وقلت: مع السلامة والدعاء بالتوفيق. فشكرنني باسمات وقالت إحداهن: إنها بعثة شاقة ونجاحنا يحتاج إلي أعوام وأعوام. فأدركت ما تعني وغمر الألم قلبي وتبادلنا نظرات وداع صامتة ولاحت لأعيننا مرات الزمان الأول. وتحركت الطائرة وجعلتُ أتابعها بعيني حتى غيبّها الأفق، وحال عودتي إلي بهو المطار لم أعد أذكر إلا رغبتي في الاهتداء إلى مكتب البريد”. هنا تُبتر حبكة لتبزغ محكيةٌ أخري: “وكأنني ما جئت إلا لهذا الغرض وحده، وسمعت صوتاً يهمس: أنت تريد مكتب البريد؟ فنظرت نحوه ذاهلاً فرأيت فتاة لم أرها من قبل فسألتها عن هويتها فقالت بجرأة: أنا بنت ريا. لعلك ما زلت تذكر ريا وسكينة؟ فقلت وذهولي يشتد: إنها ذكرى مرعبة. فرفعت منكبيها وسارت وهي تقول: إن كنت تريد مكتب البريد فاتبعني، فتبعتها بعد تردد غاية في العنف”.

الحلم داخل الحلم، متاهة أخري شيدها السارد أكثر من مرة. عندما يحلم شخص بأنه يحلم، فإنه في الحقيقة يصنع مستويين داخل حلمه، فيصير الحلم الإطار هو الواقع الذي يتضمن الحلم، أو الأحلام الأخري المُضمّنة أو المولّدة. هنا، يصبح طموح الاستيقاظ مرادفاً للعودة إلى الحلم الأول، وليس للواقع خارج المنام. ووفق هذه الرؤية، يتخلى الحلم الإطاري عن قدر من الغرابة لصالح الحلم الذي يحيل إليه، فمستوى الغرابة يجب أن يشتد بالإيغال في طبقات الحلم.. حد أن الحلم الإطاري يصبح بديلاً للواقع الخارجي.

(4)

 تبدو أحلام النقاهة، في مفارقة فادحة، نقضاً كاملاً لأفق النقاهة، لا تساعد هذه الأحلام على استشفاء، ليست واحة على هامش جحيم اليقظة، لكنها في الحقيقة جحيم مواز.

من يقرأ الأحلام يستطيع أن يتلمس سوداويتها، احتفاءها بالأشلاء والدماء والمسوخ، شوارعها المقفرة الشاحبة المظلمة وشخوصها المتحولة، وحدة الحالم ووحشته في عالم من الأنقاض.. لوحة جيرنيكا شاسعة من الأشلاء، الموزعة على الصفحات.

ثمة حضور فادح للغرق، حيث الحالم في مركب أو سفينة، لا يجد للنجاة طوقاً. البيت، بخلاف المتوقع، مرتبط دائماً بالخوف، والجوع والعطش، سواء أكان بيت الطفولة أو الشيخوخة أو “شقة الإسكندرية”، كل بيوت الحالم تحضر متداعية، مهددة. “المدرس”، شبح متكرر، على اختلاف أسماء الأساتذة وتخصصاتهم، تتوافد أشباحهم بامتداد الأحلام، دائماً لتؤنب، لتعاقب، لتخرج الحالم من لحظة غرام أو سكينة لواقع موجود داخل الحلم، مُحيلةً جميعها للسلطة الأبوية البطريركية، السلطة نفسها التي شرعت في اغتيال محفوظ لخروجه على النص.

أيضاً هناك حضور واضح لأنثي، تتعدد وتتغير صفاتها لكنها تبقي الحبيبة التي يفشل الحالم أبداً في الوصال معها، لتظل شريكةً غير موجودة تُعمِّق الفقد.

لفت نظري أن السارد/ الحالم دائماً ما يخضع للمراقبة. يسيطر عليه هاجس الشخص الذي يتتبعه، ليسرقه أو يقتله، بل إنه يهرب منه ليفاجأ به في بيته. هذه “التيمة” تتكرر في أحلام عديدة، ما إن تختفي حتى تعود للظهور في حلم جديد، وكأنها الهم الرئيسي للحالم/ الهارب. على مستوى أعمق، نحن أمام الشخص الذي لم يعد يستطيع المشي وحده، حتى في شوارع ناسه. إنه المجاز الأكبر، وفق تصوري، لما تعرض له محفوظ في الواقع: محفوظ المراقَب، المتبوع بعيون كل رقابة: “تواصلت أحياء الجمالية والعباسية وأنا أسير وكأنني أسير في مكان واحد. وخيّل إليّ أن شخصاً يتبعني، فالتفتُ خلفي ولكن الأمطار هطلت بقوة لم نشهدها منذ سنين ورجعت إلى مسكني مهرولاً. وشرعتُ أخلع ملابسي، ولكن شعوراً غريباً اجتاحني بأن شخصاً غريباً مختف في المسكن، واستفزني استهتاره، فصحت به أن يسلم نفسه، وفُتح باب حجرة الاستقبال وبرز رجل لم أر مثيلاً في مساحته وقوته وقال بهدوء وسخرية سلم أنت نفسك. وملكني إحساس بالعجز والخوف وأيقنت أن ضربة واحدة من يده كفيلة بسحقي تماماً، أما هو فأمرني بتسليمه محفظتي ومعطفي وكان المعطف يهمني أكثر ولكني لم أتردد إلا قليلاً وسلمته المعطف والمحفظة.. ودفعني فألقاني أرضاً، ولما قمت كان قد اختفى وتساءلتُ هل أنادي وأستغيث؟”

في حلم ثان: “خمسة انقضوا علي شاهرين المطاوي فسلبوا نقودي وفروا بسرعة مذهلة، ولكن بعض ملامحهم انطبعت على ذاكرتي ومنذ وقوع هذا الحادث تجنبتُ المشي منفرداً في الشوارع الجانبية”.

وفي حلم ثالث، يتخذ المتتبع ضمير الجمع، فيصير الحالم الفرد، متبوعاً بـ “جماعة”: “خُيِّل إليّ أن آخرين يتبعونني، ونظرتُ خلفي فرأيت عن بعد جماعة قادمة مُلوِّحة بأيديها في الهواء. فأوسعتُ الخطى حتي أخذت في الجري”.

لم يستغث الحالم أبداً، واكتفى بادخار ألمه، مثلما اكتفى المستيقظ، ربما لأن كل ألم تعقبه بالضرورة نقاهة، قادرة بمناماتها على رد الصفعة!

 إذا كانت وحشية الواقع خلقت دغل الحلم، فهل لعبت الشيخوخة، واليد المنهكة شبه العاجزة، دوراً في صياغة الحبات الصغيرة للأحلام على هذا “الشكل”؟ هل كان محفوظ “مضطراً” لذلك التكثيف، الاختزال، حتى لو كان يملك رغبة مخلصة، لكن وجدت ضالتها في اضطرارها؟ السؤال مفتوح، لكني ألتفتُ للعلاقة غير الملموسة بين ما يمليه ظرف الواقع وما تقتضيه الكتابة، علاقة الأدب بالواقع لا تتوقف فحسب علي قدر إحالته له من عدمه، لكن في شروط ، أو قيود، تحتاج إلى التفات عميق لتحويل حيرة العجز إلى إلهام تقني.

شخصياً، لا أستطيع نسيان خط اليد المرتعشة، عندما كنتُ أقرأ الأحلام متفرقة قبل جمعها في كتاب: يد مغدورة، مرتعشة، يد ذاهبة إلي التراب، شعرتُ بحروفها المشوشة التي كأنما ارتدت إلى طفولتها، تُطابق شكلانياً جوهر المكتوب نفسه.

طلعت رضوان

نجيب محفوظ: الأديب الفيلسوف فى أصداء السيرة الذاتية

       تقوم صناعة العطورعلى عصرأطنان من الورد..وهذا ما فعله نجيب محفوظ فى (أصداء السيرة الذاتية) فصاغ فلسفة عشق الحياة وتعظيم قيمة التسامح وإدانة التعصب، فى مقاطع قصيرة، فيكون كل مقطع  (بذرة) رواية، فإذا به يجعل من (البذرة) ثمرة مُـكتملة النمو فكان أشبه بصانع العطور.

     فى مقطع  (التحدى) نائب برلمانى يسأل الوزير: هل تستطيع أنْ تدلنى على شخص طاهر لم يُـلـوّث؟ فيرد الوزير((الأطفال والمعتوهين والمجانين)) وبالتالى فإنّ ((الدنيا مازالت بخير)) وفى مقطع (المُخبر) يقول الراوى ((أصبح من المألوف تغلغل الـفساد فى مصر)) وقال ((لمحتُ فى النوافذ أشباح الناس يـُـتابعوننا ويتهامسون)) والدلالة هنا أنّ قهرالسلطة لم يترك للمواطنين إلاّ الهمس والمشاهدة السلبية لكل من يقع عليه الدورفى الاعتقال.     

    ومع تصاعد البؤس الاجتماعى يتخـيّـل محفوظ مجذوبًا يُـذكــّرنا ب (دون كيخوتى دى لاما نشا)  فى رائعة الأديب الإسبانى سرفانتس..وقف هذا المجذوب فى ميدان عام ((يضرب بعصاه فى جميع الجهات كأنما يـُـقاتل كائنات غيرمنظورة)) وعندما سأله الشيخ عبدربه ((ماذا تفعل؟)) قال ((كنتُ أقاتل قوة جاءتْ تروم القضاء على الناس)) ويرى محفوظ أنه لاتعارض بين عشق الإنسان   والتدين))..وهذا الفهم للعلاقة بين التدين المصرى..وعشق الحياة، عبّرعنه محفوظ فى مقطع  (الطامة) حيث المرأة التى تـُـلبى نداء الشوق ولكنها ((كانت شديدة الإيمان بالعفوالرحيم))..وفى مقطع (الدرس) صورة أخرى لهذا الفهم العميق بين التطرف الدينى وأسلوب الحياة، حيث نجد الراوى يحرص على حضورحلقة ذكرللإنشاد الدينى، بينما لايهتم بمنظرالرجل العجوزالذى صادفه فى الطريق وهويبكى.

     والمرأة عند محفوظ كثيرًا ما تكون رمزًا للحياة، ففى مقطع (الاختيار) الراوى يرى امرأة جميلة. يتبعها مخلـفــًـا وراءه العقل والإرادة وأسباب رزقه، فيقول له البواب ((إنها لاتــُـرحّب بمن يجيئـون إليها هاجرين عملهم))

     إهتم محفوظ بمعالجة قيمة التسامح. ففى مقطع (المعركة) صديقان نشبتْ بينهما خصومة. ذهبا إلى الخلاء واقتتلا حتى نزفتْ الدماء منهما. لم يكن معهما أحد، فيقول الراوى ((لزم أنْ نتعاون لتدليك الكدمات. ونتعاون على السير..وفى أثناء الخطوالمُـتعثرصفتْ القلوب. ثم لاح الغفران فى الأفق))..وفى مقطع (الصفح) يقول الراوى لصديقته ((إنك ضحية القسوة والأنانية)) فترد عليه  ((بل إنى ضحية الحب)) ولما قرأتْ الدهشة فى وجهه قالت ((أنت تتوهم أنّ سلوكهم معى صادرمن قسوة وأنانية. الحقيقة أنه صادرمن حبهم الشديد لأبنائهم..وهكذا كنتُ أحبهم..ومن أجل ذلك صفح قلبى عنهم))..وفى مقطع آخريأخذ نفس العنــوان (الصفح) لخــّـص الشيخ عبدربه قيمة التسامح قائلا ((أقوى الأقوياء من يصفحون))

     الشيخ عبدربه التائه شخصية مهمة فى (أصداء السيرة الذاتية) فهومُـتعدّد الأبعاد، عاشق للحياة  نشعرأنه بوهيمى، ثم نـُـدرك أنه فيلسوف..وفى أول صورة له يقول عنه الكاتب ((كان أول ظهورله فى حينا حين سُمع وهوينادى: ولد تائه يا أولاد الحلال)) ولما سُـئل عن أوصاف الولد المفقود قال ((فقدته منذ أكثرمن سبعين عامًا، فغابتْ عنى جميع أوصافه)) فهل نحن أمام رجل معتوه؟ أم أنّ هذا التظاهربالعته وراءه إنسان حكيم؟ فى مقطع (سؤال عن الدنيا) سأل الراوى الشيخ عبدربه عما يـُـقال عن حبه للنساء والطعام والشعروالمعرفة والغناء، فأجاب جادًا ((هذا من فضل الملك الوهــّـاب)) ولما أشارله الراوى عن ذم الأولياء للدنيا قال ((إنهم يذمون ماران عليها من فساد)) وفى مقطع (المشى فى الظلام) يحكى الشيخ عبدربه عن صديق له عرف طريق الخمارة فى شيخوخته وكان يرجع إلى بيته وهويغنى..وعندما حذره محبوه من المشى فى الظلام قال ((حراسٌ من الملائكة يحيطون بى..ويشع من رأسى نورٌيـُـضيىء المـــكان))

    وفى مقطع (على وشك الهروب) يتمنى الشيخ عبدربه أنْ ينتقل من الطرب الأصغرإلى الطرب الأكبر..ويسأل الله أنْ يُـكرمه بحسن الختام..وفى هذه اللحظة همس صوت فى أذنه ((بارك الله فى الهاربين)) أما مفهوم حــُـسن الختام عند عبدربه فهوالعشق وذلك فى مقطع (دعاء)..وفى مقطع (الواعظة) تقول امرأة جميلة للشيخ ((هل أعظك أيها الواعظ؟))..وبعد أنْ رحــّـب بها قالت ((لاتعرض عنى، فتندم مدى العمرعلى ضياع النعمة الكبرى))..وفى مقطع (الثبات) رأى الراوى عبدربه ماشيًا فى جنازة..وهولايـُـشيّع إلاّ الطيبين، فسأله عن المرحوم فقال ((رجل نبيل، رفض رغم طعونه فى العمرأنْ يـُـقلع عن الحب حتى هلك))..وهوفيلسوف يـُحذرمن أخطرتجارة، أى ((بيع الأحلام))..وله فلسفته عن الحب والحياة والموت، فيقول ((ما روّعنى شييء كما روّعنى منظرالحياة وهى تــُـراقص الموت)) أما الحب (( فهويُـطارده من المهد إلى اللحد))  وعندما سُـئل: هل تحزن الحياة على أحد؟ أجاب ((نعم إذا كان من عشاقها المخلصين))

    هذا العاشق للحياة يرى أنّ ((نسمة حب تهب ساعة تــُـكفــّـرعن سيئات رياح العمركله)) وينصح اليائسين قائلا (( (إذا راودك خاطراكتئاب فعالجه بالحب والنغم)) وعندما جاءه قوم توقفوا عن الحياة حتى يعرفوا معنى الحياة، قال لهم ((تحرّكوا دون إبطاء، فالمعنى كامن فى الحركة)) وعن العلاقة بين الحياة والموت قال ((ما نكاد نفرغ من إعداد المنزل حتى يترامى إلينا لحن الرحيل))..وإذا كان الموت حتميـًـا فلماذا لانــُـرحــّـب به مثل الحياة؟..ويرى أنّ على الباب الذهبى للحياة جوهرتيْن: هما الحب والموت..وأنّ أشمل ((صراع فى الوجود هوالصراع بين الحب والموت))

000

     فى عام1932ترجم نجيب محفوظ كتاب (مصرالقديمة) تأليف جيمس بيكى..وفى عام39كتب رواية (عبث الأقدار)..وفى عام43 كتب رواية (رادوبيس)..وفى عام44كتب رواية  (كفاح طيبة) ومن هذا البيان يتبيـّـن أنّ: الكتاب المُـترجم والروايات المذكورة عن الحضارة المصرية، عندما كان المصريون يتكلمون عن تاريخ مصر القديمة، أمثال سليم حسن، محرم كمال وسليمان حزين وآخرين..ولكن محفوظ– فى أواخرحياته– يُـلاحظ انصراف غالبية المصريين عن حضارتهم، فيرصد وهويكتب (أصداء السيرة الذاتية) هذا التجاهل للجذور..ولخــّـص موقفه على لسان (أبو الهول) الذى يقول للشيخ عبدربه ((كنتُ سيد الوجود، ألم ترتمثالى العظيم؟ ومع شروق كل شمس أبكى أيامى الضائعة وبلدانى الذاهبة وآلهتى الغائبة)) وإذا كانت هناك مفارقة بين عنوان المقطع (الخلود)..ومضمون حديث (أبوالهول)، فإنّ المعنى والرسالة التى يتضمّنها المقطع..هى أنّ على شعبنا المصرى أنْ يهتم بحضارة جدوده، وأنّ خلود الشعوب والأوطان يتمثل فى تواصل الأجيال. وهكذا تكون (أصداء السيرة الذاتية) قد جمعتْ بين فلسفة الحب والحياة والموت والواقع الاجتماعى وعشق الوطن.

***

عاطف محمد عبد المجيد

(لا تقلق يا محفوظ..لن يقتربوا منك)

لقد رحل نجيب محفوظ جسديًا عن عالمنا ومات فعليًّا لا إكلينيكيًّا، غير أن أعماله لم تَمُتْ، كما لم يَمُت ذكره، بل ربما يكون ازداد ذكرًا بعد رحليه، وهذا هو حال المبدع الحقيقي الموهوب، الذي يليق معه لقب الكبير الذي تظل أعماله مادةً خصبة طوال الوقت، فاتحة صفحاتها لمن يريد أن يكتشف ما بها من جديد.

مثار دراسة ونقاش

لا تأتي عبقرية نجيب محفوظ من كونه الأديب العربي الوحيد الذي حصل على نوبل منذ أن فكر الله في خلق الكون وحتى يومنا هذا، بل تأتي عبقريته من أنه شاء أن يظل هو وأعماله مثار دراسة ونقاش، بين قبول واعتراض.لكنْ هل كان يتخيل محفوظ أنه سيصبح ذات يوم مادة لنكتة سخيفة يتناقلها الجميع بعد أن طالب أحد أعضاء مجلس النواب بإعادة محاكمة محفوظ وأعماله؟      

                        مؤكد أنك تضحك الآن يا صاحب أولاد حارتنا بملء فيك ساخرًا ومتحسرًا على مجتمع عشت أكثر من عشرة عقود بين ناسه.تتحسر على هؤلاء البسطاء الذين جاء اليوم ليكون نوابهم أمثال هؤلاء، لا علم ولا فكر، بل سطحية وحماقة لا نظير لها. عن نفسي أعتذر لك أيها النجيب المحفوظ عما بدر من ذلك الأحمق، ولا تخف من مثل هذه المهاترات.إنني أعدك وبكل ثقة، أن أحدًا لن يستطيع أن ” يِهَوِّب ” ناحية قبرك ليقتادك إلى المحكمة ومنها إلى السجن مباشرة.لا تقلق، بل نم هانئًا قرير العين، وراقب عن كثب ما يحدث من سجالات ومشاحنات ودراسات حول أعمالك وما تركته وراءك من قيمة أدبية، يصعب على كثيرين أن يحققوا عُشرًا منها.

 مهمة الدين قد انتهت

النائب الذي طالب أسفل قبة البرلمان بإعادة محاكمة نجيب محفوظ وأعماله، ربما لا يختلف كثيرًا عن المدعو سيد فرج الذي قال ذات مرة عنه إنه اختزن أفكارًا حاقدة على الإسلام والمسلمين، رضعها من فكر النصراني الذي كان يُشهر إلحاده سلامة موسى.لقد حدد نجيب محفوظ موقفه من الدين ومن الإسلام بالذات منذ وقت باكر حسبما وجّه أستاذه سلامة موسى بأن مهمة الدين قد انتهت، وأن العالم يعيش دينًا جديداً هو الاشتراكية.هذا هو الفكر المغلوط الذي ينظر إلى المبدع على أنه عدو للدين، ويُلقي على المبدعين تُهم الكفر والإلحاد من دون بيّنة.يفعل هؤلاء هذا لأنهم لا يزالون قُصَّرًا في التفكير.ويبدو أن قدَر المبدعين الكبار أن يخرج عليهم كل حين من يسبهم ويخرجهم من الملة بسبب كتاباتهم التي غالبًا ما يفهمها هؤلاء فهمًا خاطئًا.وهناك شخص آخر يذكر أن  رفيق نجيب محفوظ خليل عبدالكريم يقول  إن روايات نجيب محفوظ، ما عدا أولاد حارتنا، حفلت بحشد هائل من البغايا والراقصات والقوادين والديوثيين واللصوص والنشالين والفتوات وصانعي العاهات والمرتشين والملحدين. ويضيف أن قصص نجيب تقوم على الحط من قدسية الدين وهيبته، ومزج رموزه مع الخمر والجنس والنساء، وبالذات احترام المومسات، فلا تكاد تخلو قصة من قصصه من المومسات، وقد حفلت قصصه التي تمثل تاريخ مصر بصور نساء غارقات في الخيانة، ومجتمعات تفوح منها رائحة الحشيش والإباحة.ويورد عن  أنور الجندي قوله إن الجنس واضح في معظم روايات نجيب محفوظ، شأنه في ذلك شأن إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي، ولكنه عند محفوظ أشد خطورة؛ فهو يجعله نتيجة للفقر، ولا يرى للمرأة إذا جاعت إلا طريقًا واحدًا، هو أن تبيع عرضها.

  تُرى بعد هذه الآراء المتطرفة التي تنمّ عن عدم فهم أصحابها لماهية العمل الأدبي، هل نتعجب ممن ينادون بسجن الكتّاب وحرمانهم من حريتهم، التي كفلها الله لهم، ومصادرة أعمالهم بل وحرقها في ميدان عام؟ وهل نتعجب حين ينادي برلماني، الله وحده يعلم كيف وصل إلى عضوية مجلس النواب، بمحاكمة محفوظ هو وأعماله؟ إنه واقع تعيس، للأسف الشديد، الذي جعل أصدقاء الجهل يتحكمون في مصائر المبدعين.واقع تعيس الذي يجعل شخصًا، ليس ذا صفة، يفتش في أعماق الكتب عن جملة يقتطعها من سياقها ويتهم كاتبها بالكفر والزندقة والفجور، وبالتالي يحق له أن يرفع ضده دعوة ربما يُساق بسببها إلى السجن!   

حرية التفكير

غير أن محفوظ الذي افترى عليه كثيرون بعدم فهمهم لأعماله، يُنصفه سلام كاظم فرج في مقال له سمّاه  هل كان نجيب محفوظ كافرًا أم متأملا، يقول فيه: ” أثار اهتمامي خبر مثير عن رسالة تركها أحد منفذي اعتداءات بروكسل الدموية في صندوق من صناديق القمامة في المطار يقول فيها ” لا أعرف ماذا أفعل ..” فتذكرت حادثة الاعتداء على الروائي الكبير نجيب محفوظ قبل سنين.وطعنه من قِبل فتى أمي أجاب المحققين عن أسباب فعْلته من ضمن عدة أجوبة أنه لم يقرأ أية رواية لمحفوظ، بل إنه لا يجيد القراءة ولا الكتابة.. وإن أحد الشيوخ حدثه عن بعض دلالات روايات محفوظ..بمعنى أنه جازف بحياته ومصيره ومستقبله اعتمادًا على تحليل قد يكون خاطئًا أو مفتريًا لرجل دين لا يفهم ما تعنيه الرمزية في الأدب، ولم يسمع بشيء اسمه حرية الفكر وحرية التفكير، ولا تعنيه موضوعية الإبداع في الأدب والفن..ولا يعرف شيئًا عن التورية والمجاز والترميز..في حين إن الكتب المقدسة ومنها القرآن الكريم زاخرة بالرموز والتوريات والمجازات وحافلة بالحوارات الجميلة بين شخوص كثر..كحوار الله والملائكة..وحوار الله وإبليس.. وحوار فرعون وموسى.وسليمان وبلقيس..وبلقيس وطاقمها الحكومي والاستشاري. كاظم يذكر كذلك أنه فى محاورة شيقة بين رجاء النقاش والكاتب الكبير نجيب محفوظ يعلن محفوظ عن تعاطفه الشديد مع الماركسيين رغم توكيده أنه ليس ماركسيا.النقاش يسأله: إن الماركسيين في رواياتك هم الأبطال والشهداء وحاملو الزهور الحمراء وهم الذين يضيئون الحياة بنور الأمل في الظلمات…وأحيانًا يبدو نقدك لهم نقد” العشم..أي أن مسارك السياسي امتد من الوفدية إلى الماركسية، فهل أنا مصيب في ظني ؟ فيجيبه محفوظ : لقد شخّصتني فأجدت التشخيص، فأنا لست ماركسيًّا رغم التعاطف الشديد ولكي أكون واضحًا أكثر أعترف بأنني مؤمن بتحرير الإنسان من الطبقية وما يتبعها من امتيازات…والاستغلال بكافة أنواعه.

لم يكن كاتبًا عاديًّا

وهنا أكرر ما كتبته من قبل أنني سأظل مندهشًا طوال حياتي مارًّا على حياة نجيب محفوظ وإبداعه، درجة أني أحسده في كثير من الأحيان على ما وصل إليه من نظامٍ حياتي، واظبَ عليه إلى أن فارق الحياة.وسيظل هو أيقونة عبقرية لمن يريد أن يستثمر كل لحظات حياته، دون أن يُضيّع منها لحظة واحدة فيما لا يفيد، إذ كان محفوظ النوبليّ الوحيد في مجال الأدب العربي، مثالا يُحتذى به في ترتيب وتنظيم وقته، مقسمًا وقته ما بين وظيفته وكتابته الإبداعية، دون أن تطغى إحداهما على الأخرى.كذلك لا ينبغي أن نحتفل به مرة أو مرتين في العام، بمناسبة عيد ميلاده ووفاته، بل علينا أن نستفيد من سيرته وحياته، على المستوى الشخصي والمستوى الإبداعي، خاصة وأنه لم يكن كاتبًا عاديًّا، ولم يكن أديبًا منشغلا بأشيائه الخاصة عن المجتمع الذي يعيش فيه، بل على العكس إذ سلط الضوء على ساكني الحواري والأزقة جاعلا إياهم أبطالا في رواياته وقصصه.

عبير سليمان

الرمز في التنظيم السري

عالم نجيب محفوظ يخطفك ويأسرك، تدخله ولا تملك الخروج منه بسهولة ، حيث تجد نفسك تسير مشدوهاً ومنبهرا بروعة حكاياته ، وعبقريته التي تتجلى في ثرائه اللغوي ، بلاغته وجمال صوره التي يرسمها كفنان غارق في تفاصيل أبطاله ، وطبيب يشرّح نفسية مريضه ليخرج منها مكنونها كمن يخرج اللؤلؤ من تحت قشور الأصداف ، أو الديدان والسموم من باطنه ، ستشعر بروحه المرحة تطل بوضوح عبر سطور قصصه من خلال شخصياته والحوار الذي يجري على ألسنتها أو ينعكس في مسلكها . محفوظ  لا يكف عن السخرية من أبطاله ، خاصة هؤلاء المستسلمون لأقدارهم ، المتخاذلون والمكاسلون عن خوض الصعاب من أجل حياة أفضل ، وينتظرون في خمول أن تهبط عليهم ثروة من وقف أو من ثروة أب يرفض ملك الموت زيارته! فلا عجب أن تخبيء لهم الأيام المفاجآت الغير سارة  والنهايات العبثية التراجيدية التي يستحقونها .

لا يجب أبدا أن تقرأ لأديبنا العظيم إلا وقد شحذت كل حواسك ، وسخّرت كل انتباهك لما يرويه لك ، فهو بشكل غير مباشر يقول لك ومن أول صفحة :” أريد قارئاً ذكيا يفهمني جيدا ، خاصة هنا في هذه المجموعة التي اتخذتُ من الرمزية أسلوبا يغلب على معظمها ، كي أوصل رسالة هامة وخطيرة ، وأدق ناقوس الخطر محذرا المصريين من أيام صعبة قادمة تتطلب منهم وعياً وشعوراً بالمسئولية حتى لا يقعوا في أخطاء الأجيال السابقة ، لن تجدي هنا القراءة العابرة فكل كلمة وصورة تعبيرية ادخرت لها معنى عميقاً يتطلب ذهنا صافيا وبصيرة ثاقبة” .

يبدأ محفوظ مجموعته بقصة ” التنظيم السري ” التي ترى من خلالها كيف شرح من خلال حكاية بطله منهج العمل داخل هذه التنظيمات ، مشيرا إلى جماعة الإخوان المسلمين ، وخططهم التي يضعونها في الخفاء ، ويتكتمون عليه بسرية تامة ، لدرجة أن رؤوس فرق العمل “كما أسماها هنا : الأُسر” تُخضع العاملين لنظام رقابة مشدد و عقوبات صارمة إن خالف منهج الجماعة ، ولم يتخذ في مسلكه الاحتياطات الكافية والويل لمن يتبع هواه في أول انضمامه لها، ولا يغفل محفوظ تفاصيل الشخصيات حتى في قصصه القصيرة ، فترى بنفسك كيف يرمق رئيس الأسرة الأعضاء التابعين له ، مرة بنظرة صلبة ، ومرة بنظرة ثاقبة ، ومرة أخرى بنظرة طويلة صامتة ، وحتى نبرة الصوت مرة يصفها بهدوء أشد من الحدة ، ومرة أخرى بالبرود .

المذهل أنه لم يأت على ذكر طبيعة هذه التنظيمات ومنهجها الفكري مباشرة وبشكل صريح ، إنما بوصفه لها بالجماعات التي تشق سراديبا لها تحت الأرض ، كما عرض لأسلوب قادتها وكيفية إخضاعهم لمن ينضمون إليهم أولا بسلب لإرادتهم ، وتنبيههم أن أول شرط للانضمام هو الطاعة العمياء ، ثم وضعهم تحت الرقابة المشددة لضمان استمرار ولائهم ، وليبثوا الرعب في نفوسهم إن خالفوا تعاليم قادتهم ، أو إن فكروا بالخروج منها وتركها ، والأدهى أنه لم يفته قول إن البطل فكر بالانضمام للجماعة بدافع كسب رزق إضافي وتحسين ظروف معيشته.

هناك عدة قصص استهوتني تطل منها وبقوة روح السخرية والتهكم التي تميز أسلوب محفوظ وبرع فيها بشكل لم ينافسه فيه آخرون ، وهي “ممر البستان ، في أثر السيدة الجميلة ، النسيان ، الخندق ، عندما يأتي الرخاء، آخر الليل ” ، حيث يصف حال أبطالهم بأنهم يسعون بلهفة خلف أمل مستحيل أو حلما باهراً ،  فتلقفتهم يد القدر بالصفعات ، جزاء إفراطهم في الحلم دون أخذهم بأسبابه على أرض الواقع !

أروع القصص التي سأظل أذكرها هي السيد “س” ، المسخ والوحش ، شارع ألف صنف” ، وهي قصص تحمل عمقا فلسفيا ، خاصة وأنه اختار في السيد س أن يقص رحلة وجود الإنسان منذ تكوينه في رحم أمه حتى نهاية رحلته على الأرض ، مازجا بين العلم والخيال وبين البعد الإنساني والاجتماعي ، و أنه لابد لكل إنسان منا أن يجد له هدفاً يحققه ورسالة يجب أن يؤدها في حياته قبل انتهاء أجله .

المسخ والوحش  قصة رائعة فيها مزج بين الخيالات وهلاوس السكارى وبين واقع إنسان حائر، يتمنى أن يبلغ منزلة الشاطر حسن ويقضي على المسوخ والوحوش ، ليصبح بطلا أسطوريا ، وكلما سأل ممثل أحد التيارات السياسية أو الدينية زادت حيرته ، فالمسخ والوحش ليس لهما شكلا محددا ، ويبدوان كأنهما هما الآخران كائنان هلاميان غير مرئيان ، ولكن الإنسان يلمس وجودهما وأثرهما الضار في حياته،  وهنا رأى أن اختلاف الناس حولهما يحول دون القضاء عليهما والتخلص منهما ومن تأثيرهما السيء.

في قصة ” الفأر النرويجي عبّر محفوظ بأسلوبه الساخر عن جبن الناس وسلبيتهم في مواجهة الكذب من قبل الحكومات ووسائل إعلامها الخادعة ، واصفا بلسان لاذع حالهم بعد انتشار خبر عن هجوم جماعات غفيرة من الفئران على البيوت، حتى أن أذاها وضررها امتد لحد مهاجمة القطط والبنى آدمين ، ورغم هذا لم يستوعب الناس الخدعة وامتثلوا لتعليمات الحكومة التي بثتها لهم من خلال الإذاعة والتليفزيون ، وتحصن الناس بالقطط  رغم علمهم بأنها فشلت في حماية نفسها حسب ما ورد في الأخبار ، فوضعت كل أسرة قطة على السلم وفي المنور، دون أن تحدث طيلة القصة هجمة واحدة لفأر،  ورغم وجود المصايد التي نبهت الحكومة على الناس بضرورة وجودها في كل غرفة في بيوتهم إلا أن الفأر الوحيد الذي سقط في إحداها كان هزيلا ، لنجد أنها إشاعة وحيلة من حيل أي نظام ديكتاتوري لبث الرعب في نفوس الناس وإلهائهم عن العدو الحقيقي ، وشغلهم بتوافه الأمور حتى لا يؤدوا أعمالهم كما يجب ، ويعجزون عن التفرغ لممارسة حياتهم العادية بشكل آمن ، وسنجد أن هناك بطلا أخرجه محفوظ من جرابه السحري وضع فيه خلاصة الدرس الذي أراد توصيله لقارئه بشكل غير مباشر !!

وهناك البقاء للأصلح ، صاحب عقار يمنح صلاحية إقامة مطعم في دورين من منزله الملك، حتى يأمن غوائل الدهر وتقلب الزمن ، لمن يا ترى ؟ لمن رأى من وجهة نظره أنه الأصلح بعدما تخلص من اثنين مستأجرين ، ليوصل رسالة أيضا ملخصها أن بعض البشر من أجل مصالحهم يفرطون في جزء من أرضهم لمن لا يستحق ، متعامين في سبيل المال عن الشرف وعن سمعة من يرضون أن يكون جارهم ، وفي هذه القصة معنى عميق جدا، ربما قصد به ما فعله الرئيس السادات ومن خلّفه في الحكم من التفريط في سيناء وتركها مرتعا للصهاينة ، وبيع أصول مصر كلها لرجال أعمال من الموالين لإسرائيل ، لا يسعون إلا إلى الكسب بشتى الوسائل الغير مشروعة .

وصعقتني  قصة “تحت السمع والبصر” كيف ظل الجيران –الذين يعيشون في مبنى صغير بشارع فرعي صغير جدا – صامتين في جبن واستسلام تام أن يصل العراك بين زوج وزوجته لهذا الحد من العنف،  دون أن يحاولوا الفصل بينهم وحماية أطفالهم الصغار من الفزع والرعب الذي أصابهم ، هل يمكن أن يصل الناس لهذا الحد من الجبن والتبلد والسلبية ، وحتى هذه القصة لم تخل من معنى يشير لتأثير الفساد السياسي على الحياة الاجتماعية ، وكيف يؤثر الفساد سلباً على سلوكيات البشر في المجتمعات، فتكثر حوادث العنف والسرقة والاغتصاب والقتل.

وأخيرا تتجلى روعة محفوظ في وصفه لحال الإنسان إن اختبر بالرخاء ، فنجده يتمرد على حياته ويتنكر لزوجته وقد تجاوز الاثنان سن الستين ، ومن المفترض أنهما لا يقعان في مثل هذه السقطات الأخلاقية ويرمي كل منهما الآخر بالسباب والاتهام بسوء العشرة والعناد ، ولكن لم لا نصدق ونحن نرى مثل هذه القصة المؤلمة تحدث في واقعنا ، ونجد أزواجا بعد كبرهما وكبر أبنائهما يتنكران لبعضهما البعض ، فيحل الجفاء والقسوة محل الحنان والسكينة ، ونرى كثيرا من الرجال يُختبروا بالثروة فتخرج أسوأ ما بداخلهم من طباع كانت مستترة وإذا بهم يتحولون إلى أناس بقلوب حجرية قاسية ، ويتنكرون للعشرة الطويلة ، وينسون أنهم عاشوا سنوات طوالاً تشاركوا فيها المر قبل الحلو ، لقد تأثرت جدا عندما ربطت بين هذه القصة ” عندما يأتي الرخاء ” وما رأيته في الواقع من قصص تطابقت معها .

أما صاحبة العصمة فهي ألطف وأخف القصص ، كيف أن المرأة بطلة القصة اختارت العزلة وغلفت حياتها بالغموض والكتمان ، وكيف تعامل أهل الحي معها ، وخاضوا في سيرتها لمجرد تصورهم أنها أرملة حسناء قد أتت لتبث الفتنة بين الأهالي ، وربما تفكر في خطف أحد الأزواج من عائلته ، وتظل على صمتها إلى أن تفاجئهم بقرارها المدهش وحيلتها الذكية ، فتضرب بكل أحاديثهم وتفاهاتهم عرض الحائط ، وتقرر أن تتزوج بمن لم يخطر لهم على بال كي تكمل حياتها في أمان ، دون أن تفرط في ثروتها من زوجها المتوفى.

د. عزة بدر

(القصص المجهولة)

عشق نجيب محفوظ القصة القصيرة وكتبها قبل أن يقرر التفرغ لعالم الرواية , بل إن قصصه فيها النواة الأولى , وجذور كتاباته الروائية , فقد كان يحول رواياته  لقصص قصيرة لرواج هذا الفن وانتشاره فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى  , بل إن شخصيات  قصصه هى شخصيات رواياته التى كتبها فيما بعد  , وقد فسر محفوظ إقباله على نشر قصصه التى هى فى الأصل تحمل أفكار وشخصيات رواياته , فيقول : ” إن عصر العلم الذى نعيش فيه يحتاج حتما لفن جديد يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق , وحنانه القديم إلى الخيال  وبذلك تكون القصة شعر الدنيا الحديثة فضلا عن مرونتها , واتساعها لجميع الأغراض مما

يجعلها فى النهاية أبرع فنون الأدب التى أوجدها خيال الإنسان المبدع فى جميع العصور ” .

وقد سجل الناقد الراحل د. على شلش شهادة نجيب محفوظ تلك فى كتابه ” نجيب محفوظ –  الطريق والصدى ” , وأورد أصداء معركة  كان طرفاها محفوظ والعقاد , فقد كتب العقاد يقول : ” أن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذى يعطيه لك بيت شعر كهذا البيت ” وتلفتت عينى فمذ بعدت / عنى الطلول تلفت القلب ” , لكن محفوظ رفض مقياس العقاد فى ترتيب الآداب قائلا ” يريد العقاد أن يقول إن القصة تنتشر فى طبقة لا يُتناول إليها الشعر , وإذن فالشعر أرقى من القصة , وهذا قول وجيه من الظاهر لكنه لا ينطوى على شىء خطير فمجرد انتشارفن فى طبقة لا يدل على شىء ما لم نبحث عن أسباب انتشاره ” .

وهى مقولة لا زلنا فى حاجة إليها عند مقاربة الفنون , لكن خلاصة الأمر أننا فزنا برؤية محفوظ بأن القصة القصيرة هى شعر الدنيا الحديثة .

ولذا فقد أثار دهشتى أن النقاد قد ألفوا أن يسموا أكثر من سبعين قصة لمحفوظ  بالمرحلة التاريخية , ولعل السبب فى ذلك هو أن القصص القصيرة التى كتبها نجيب محفوظ قبل نشر رواياته لم ُتنشر فى كتب , ولم يُنشر منها سوى مجموعته القصصية الأولى ” همس الجنون “

وهو الكتاب الذى صدر عام 1947 .

وأرى أن قصص نجيب محفوظ المجهولة  , والتى لم يتحمس لجمعها فى كتاب , فى رحلة بحثه عن الأدب الكامل الذى ينشده , هى ثروة أدبية لدراسة تطور فن نجيب محفوظ , على الرغم من أن النقاد لا يعترفون سوى بالمرحلة التى نشر فيها رواياته الثلاث الأولى كما يقول د. حمدى السكوت فى كتابه ” نجيب محفوظ – ببلوجرافيا تجريبية ,سيرة حياة ومدخل نقدى ” , فى حين أن نجيب محفوظ نشر أكثر من سبعين قصة قصيرة شملت موضوعات مختلفة , ولو أنها جُمعت فى كتب لصدرت فى ثلاث أو أربع مجموعات قصصية .

وهذه القصص المجهولة والتى نُشرت على صفحات المجلات الأدبية  فى ثلاثينيات القرن الماضى قد أشار إليها د. عبد المحسن طه بدر فى كتابه الرائد ” نجيب محفوظ – الرؤية والأداة وأشار إليها أيضا د. حمدى السكوت فى كتابه ” نجيب محفوظ – ببلوجرافيا تجريبية ” , ولما صدر كتاب محمود على  ” قصص نجيب محفوظ التى لم تُنشر ” , والذى ضم هذه القصص , عاودنى حلمى القديم بأن أكتب عن هذه القصص المجهولة    , وعكفت على قراءة وتحليل تلك القصص , ونشرت عدة مقالات عنها على صفحات مجلة صباح الخير , ثم جمعتها فى كتابى ” الحياة فى مقام الحيرة – قراءة فى قصص نجيب محفوظ المجهولة  ” , والذى صدر حديثا عن دار المعارف .

ولا تزال هذه القصص ثروة بين أيدى الباحثين , لابد أن نضعها فى مكانها من تاريخ الأدب العربى الحديث , وتاريخ فن القصة القصيرة , والتأكيد على دور المجلات الأدبية فى الكشف عن جذور الأدب العربى المعاصر فى مراحل تطوره المختلفة , حسب دوريتها , فهى الوعاء الحافظ الأمين على تراثنا الأدبى .

لقد جعلنى نجيب محفوظ دائما فى مقام الحيرة , منذ أن قابلته فى ندوته , وكنت وقتها أكتب تحقيقا صحفيا عن أحياء القاهرة , ففكرت أن أسأله عن بعضها , وخاصة حى ” السُكرية  ” , فقلت له : من أين يبدأ حى ”  السُكرية ” , و أين ينتهى  ؟ , وقد شغلنى تصويره لهذا الحى فى الثلاثية , فقال لى إجابته العبقرية ” يبدأ فى داخلى ثم لا ينتهى ” , ففتحت لى إجابته عالما ثريا أتأمله فى محبة المكان , والشغف بالكتابة , ورحلتها , زادها شوق , وأسئلة لا ترتوى , وأرانى ولا زلت فى مقام الحيرة , أود الحديث عن إيمانه بالحياة , ومحبتها , والتى تجلت فى إبداعه , منذ قصصه الأولى المجهولة , وظل تأثيرها واضحا فى أعماله الحديثة ,  فقد شغلته  أسئلة الوجود  ,  الدنيا ومعناها , ومصير الإنسان , وحقيقة الإيمان , فمن يقرأ فى ” أصداء السيرة الذاتية ” نصه ” عندما التقت العينان ” , ويقول فيه : ” مضى زمن قبل أن يلتفت إلىّ , وتلتقى عينانا , ولما شاعت ابتسامة فى ملامحه , وثبتُ غلى جانبه , وقلت :

اقبلنى فى طريقتك

فسألنى :

ماذا يدفعك إلينا ؟

فقلت بعد تردد :

أكاد أضيق بالدنيا , وأروم الهروب منها  , فقال بوضوح :

” حُب الدنيا محور طريقتنا , وعدونا الهروب , وشعرت بأننى أنطلق من مقام الحيرة  ” .

القارىء لهذا النص , يجد له أصداء عديدة فى كتابات محفوظ المجهولة , والحديثة , فبطله

عبد الرحيم جاد فى قصته ” الأراجوز المحزن ” , والتى نشرها فى مجلة الرواية بتاريخ أول فبراير 1939 , تنتابه دائما عواصف الشك والخوف والحيرة , والشيخ عبد ربه التائه فى ” أصداء السيرة الذاتية ” فى رأيى هو التطور الطبيعى لشخصية الشيخ إبراهيم فى تلك القصة ” وأبطال قصصه المجهولة يعيشون فى مقام الحيرة , فبطل قصته ” أحزان الطفولة ” , يفقد فيها بطله الأمان بعد وفاة والده , خائفا من وحش الفناء القريب الذى يبتلع الجميع , وهم يتخبطون على غير هدى , فيهتف بسؤاله الوجودى : ” أى حياة هذه , وما الفائدة منها ؟

وما الحكمة من وجودها ؟ ” .

أليست هى نفسها أسئلة  ” أصداء السيرة الذاتية ” ؟ , أليست الهدية التى منحنا إياها نجيب محفوظ فى هذه الأصداء  بل هى جوهر قصصه القصيرة المجهولة , ومنها قصة ” أحزان الطفولة ” فهاهو بطله بعد أن تراكمت عليه المسئوليات والأحزان بعد فقد والده يفيق من هول صدمته , ” ثم طوى النسيان متاعبه فى زوايا مغلقة الأبواب , فرأى مرة أخرى دنياه القديمة : دنيا الجمال والمتع التى يشرق حسنها فى السماوات والأرض , والإنسان , والحيوان , والجماد لا دنيا الزلازل والحرائق والأمراض والفناء , فانطلق يعدو فى طريقه من حيث حبسته المخاوف حينا ليس بالقصير ” , وقد نُشرت هذه القصة فى مجلة ” الرواية ” بتاريخ  أول يوليو 1938 .

فإذا عدنا للهدية , نص نجيب محفوظ فى ” أصداء السيرة الذاتية ” فإننا نجد المعانى نفسها التى شغلته , وشغلت حيزا مهما فى أدبه .

الهدية

” فى عز الشيخوخة وعجزها ينتشر التأمل مثل عبير البخور , وقال لصاحبه العاكف على العبادة , وكأنه يعتذر :

فى زحمة هموم أسرتى , ومطالب الشئون العامة ضاع عمرى , فلم أجد وقتا للعبادة

فى تلك الليلة زاره فى المنام من أهدى إليه وردة بيضاء , وهمس فى أذنه ” هدية لا يستحقها

إلا العابدون الصادقون ” .

هذه العوالم التى تفيض بها قصص نجيب محفوظ المجهولة  لتعد ثروة أدبية , لابد أن تأخذ مكانتها فى تاريخ الأدب العربى الحديث , وفى تاريخ القصة العربية والمصرية , وهى كما قال

عنها الناقد الراحل محمود أمين العالم  فى كتابه ” نجيب محفوظ : الرمز والقيمة ” : ” إن هذا الفيض من الكتابات والقصص التى لم تُجمع فى كتب , قد لا تزيد الغامض وضوحا من كتابات محفوظ وأسرارها بل على العكس قد تُزيد الواضح غموضا ” .

ولذا أرى أن كل قراءة جديدة لعطاء نجيب محفوظ الأدبى , تتجدد إشكاليات , وتُطرح أسئلة مهمة حول أسرار عالمه الإبداعى , وإذا كان الأمر يتعلق بقصصه الأولى المجهولة , فهذا يُزيد الأمر تشويقا , إذ يمكننا أن نضع أيدينا على تطور إبداعه , وأن نجتلى مراحله وجذوره الخصبة  .

د. عمار على حسن

نجيب محفوظ ابنا شرعيا لثورة 19 العظيمة

لم تكن الثورة عند نجيب محفوظ أمرا متعينا في واقعه المعاش، وفيما يبدر عنه من سلوك وتصرفات. فالرجل كان يميل إلى الإصلاح الهادئ والناعم، ويختار مأمون العواقب من الأفعال والأشياء، وينفر من الدم والإرباك قدر نفوره من نزعة التسلط التي تنتاب بعض الراغبين في التغيير الجذري والجائح تحت طائلة “الشرعية الثورية” أو مواجهة “الثورة المضادة” عبر الإقصاء والتطهير. هكذا بان في موقفه من ثورة يوليو، حسبما تجلى في ثنايا بعض رواياته، أو في تعليقاته المقتضبة التي نقلت عنه، ونسبت إليه.

لكن محفوظ هو ابن شرعي لثورة عظيمة في تاريخ مصر، وما أبدعه من أعمال سردية هبة لهذه الثورة، ليس لأنها انعكست في أعمال عديدة له، موضوعا ومضمونا وسياقا وشخصيات ورؤى ومشاعر، بل لأنها شكلت وعيه بالمجتمع والعالم، وعاشت معه طيلة حياته، ينهل منها ويحن إليها ويقيس عليها. إنها ثورة 1919 التي أحبها حبا جما، وارتبطت في ذهنه بالتحرر والراحة، وهو ما يعبر عنه في كتابه الأثير “أصداء السيرة الذاتية” قائلا: “دعوت للثورة وأنا دون السابعة. ذهبت ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن، بيدي كراسة وفي عيني كآبة، وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقيّ شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا. غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطيء السعادة، ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد”.

وظل سعد زغلول هو الزعيم السياسي والرمز الوطني المكتمل في نظر محفوظ، فما صوره إلا في أبهى الصور، وما أتى على ذكره إلا بأنبل وأفضل الكلمات في الغالب الأعم. هكذا يحصي ويجلي لنا مصطفى بيومي في كتابه المهم “سعد زعلول في الأدب المصري”، وهكذا نعرف من تتبعنا لما يقوله عنه أبطال الثلاثية (بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية) وما ورد في كتابه المختلف “أمام العرش”. فهذه الصورة تبدأ باهتة قبل انطلاق الثورة، مثلما نفهم من من كلام أحمد عاكف بطل “خان الخليلي” حين يقول عن سعد رغم حبه له واتخاذه مثلا أعلى: “لقد مهد له صهره سبل النجاح، ولولا صهره ما كان سعدا الذي نعرفه”، بل إن طاهر الأرملاوي أحد شخصيات رواية “قشتمر” يبدي رأيا أكثر وضوحا وصراحة حين يبوح بأن والده ليس معجبا بتاريخ سعد. وبينما لا يلقي ياسين عبد الجواد بالا لسعد حين يذكر أسمه أمامه كأحد أعضاء الوفد الذي ذهب للتفاوض مع الإنجليز، يبدأ أخوه فهمي في تكوين فكرة أولية عن الزعيم، فيعول عليه مع الأيام أن يكون مثل مصطفى كامل ومحمد فريد، لنصل إلى الشيخ هجار المنياوي أحد شخصيات “المرايا” الذي يعلم تلاميذه طرفا من سيرة سعد، والشيخ متولى عبد الصمد، أحد شخصيات الثلاثية، الذي يضيف اسم سعد إلى دعائه المسترسل الدائم.

ومع اندلاع الثورة ننتقل مع محمد عفت أحد شخصيات “الثلاثية”  أيضا إلى وضع مقدس لسعد، حين يقول عنه: “أثبت دائما أنه جدير بإعجاب المعجبين، أما حركته الأخيرة فهي خليقة بأن تحله من القلوب في أعز مكان”، بل يصل الأمر عند فهمي عبد الجواد إلى أن يشبه مهمة سعد بمهام الرسل الكرام، حين يقول: “سيعمل سعد ما كانت الملائكة تعمله”، ويطلب أحمد عبد الجواد من جميل الحمزاوي، العامل في متجره، أن يعلق صورة سعد تحت البسملة، لأنه في نظره صاحب كرامات.

ويصل الأمر بإسماعيل قدري في “قشتمر” أن يجيب عندما يسأله أصدقاؤه عن تخيله لله سبحانه وتعالى: “لعله شيء مثل سعد لكنه يمارس سلطانه على الكون كله”. ويؤكد منصور باهي الماركسي، أحد شخصيات رواية “ميرامار” على هذا المعني، حين يقول عنه سعد: “لقد عبده الجيل السابق عبادة”. وحين يموت يتحول تاريخ وفاته إلى سنة تقاس عليها الأيام، إذ يقول عفت: “نحن في السنة الثامنة بعد وفاة سعد”، ليصبح سعد: “رجل ولا كل الرجال، لبث لحظة من الحياة باهرة ثم مضي”، ليترك حزنا دفينا حتى في نفوس الأطفال، كما نعرف من الحكاية رقم (23)  من “حكايات حارتنا”، إذ يروي بطلها الطفل: ” … أثب من الفراش مندفعا نحو الباب المغلق، أتردد لحظة ثم أفتحه بشدة لأواجه المجهول. أرى أبي جالسا. أمي مستندة إلى الكونصول. الخادمة واقفة عند الباب. الجميع يبكون. وتراني أمي فتقبل علي وهي تقول: أفزعناك .. لا تنزعج يا بني. أتساءل بريق جاف: ماذا؟ فتهمس في أذني بنبرة مختنقة: سعد زغلول. البقية في حياتك!، فأهتف من أعماقي: سعد!، وأتراجع إلى حجرتي، وتتجسد الكآبة في كل منظر”.

لكن هذه الثورة العظيمة لم تلبث أن تخبو ويشعر بطلها الأول وزعيمها بأن كل شيء يتسرب من حوله. ويستدل  على هذا من حديث الكاتب عامر وجدي أحد أبطال “ميرامار” وهو يتذكر حوارا دار بينه وبين سعد عام 1925، حيث يقول له: “ها أنا شبه سجين في بيتي وعرائض التأييد تزف إلى الملك” وحين يواسيه قائلا: “زيف وكذب يا دولة الزعيم” يرد سعد متحسرا: “حسبت الثورة قد طهرت النفوس من ضعفها”.

وفي كتاب “في حضرة نجيب محفوظ” ينقل محمد سلماوي عن أديبنا الكبير أنه شارك في المظاهرات التي أعقبت ثورة 19، وكانت أول مظاهرة شارك فيها هي التي اندلعت في ركاب الخلاف بين سعد زغلول والملك فؤاد عام 1924، وكان عمر محفوظ يومها لا يتعدى ثلاثة عشر عاما. والمرة الثانية كانت عام 1929 أثناء حكومة محمد محمود الثانية، وطارده ضابط هو وصديقه فلاذ محفوظ ببيت الأمة. والثالثة كانت ضد إسماعيل صدقي، وتعرض لمطاردة أيضا لكنه هذه المرة لاذ ببيت في حارة ضيقة، وتمكن من الهرب إلى سطح بيت مجاور.

أما في ثنايا النص السردي فإن محفوظ يتذكر كل هذا في الحلم الثامن من “رأيت فيما يرى النائم” حين يقول البطل: “رأيت فيما يرى النائم أنني عيسى بن هشام بطل مقامات الهمذاني ومريد أبي الفتح السكندري، وأنني أعبر ميدانا في مكان وزمان غامضين، وترامي إلي هتاف مدو بحياة الاستقلال وسقوط الحماية، ثم وجدتني على حافة مظاهرة ضخمة تحدق بخطيب مفوه جهير الصوت، عرفته رغم بعده عني بزيه الأزهري وهو يمدد داعيا للثورة والفداء. وهجم الفرسان الإنجليز فنشبت معركة ثم وجدتني وجها لوجه مع الخطيب قريبا من مدخل جامع. قلت له: أنت أبو الفتح السكندري خطيب الثورة الحرة. فقال بحزن ملتهب: نفوا الزعيم الجليل نفاهم الله من الوجود”.

 ومع هذا تبدو الثورة في نظر محفوظ أحيانا نوعا من الجيشان العاطفي الذي لا يبحث عن معقول ولا منطق، إنما يستجيب لنداء الرغبة العارمة في التمرد والتحرر وكسر القيود. ونفهم هذا من الحوار الذي دار بين ابن وأبيه في “حكايات حارتنا” فالولد اشترك في المظاهرة من دون أن يعرف هدفها وغايتها ومسارها ومطالبها. فحين يسأله الأب: “هل عرفت وجه الخلاف بين سعد والملك؟” فيرتبك، ثم يأتي بإجابة عابرة لا ترد على السؤال مباشرة: “نحن مع سعد ضد الملك”، فيرد الأب: “عظيم. ماذا كان هتافكم في عابدين؟”، فيجيب: “سعد أو الثورة”، فيسأله: “ما معنى ذلك؟”، فيصمت ويطرق مفكرا ثم يقول: “معناه واضح. سعد أو الثورة”.

وتذهب ثورة 19 بأيامها المستقرة في أعماق محفوظ ليجد نفسه بعد ثلاثة وثلاثين عاما أمام ثورة جديدة، وقف على مسافة منها، ولم يعلق عليها آمالا، ولم ير في زعمائها ما رآه في سعد زغلول، بل انعقد لسانه من الدهشة وآثر الترقب، فامتنع عن الكتابة ما يربو على خمس سنوات، ثم عاد ليعمل قلمه فيها ناقدا وناقما ومتسائلا. ويوزع كل هذه المشاعر والمواقف على رواياته “ثرثرة فوق النيل” و”الكرنك” و”قشتمر” و”يوم قتل الزعيم” و”الباقي من الزمن ساعة” و”ميرامار”، متأرجحا بين قديم لا يراه شرا خالصا، وجديد لا يطمئن إليه. أو بمعنى أدق بين شعوره الجارف بالحرية ورغبته الملحة في تحقيق العدل. ويعبر حوار بين حسني علام وسرحان البحيري، من شخصيات “ميرامار” عن هذا بجلاء:

“ـ نحن مؤمنون بالثورة، ولكن لم يكن ما سبقها فراغا كله.

ـ فقال بعناد مثير:

ـ بل كان فراغا.

ـ كان الكورنيش موجودا قبلها، كذلك جامعة الإسكندرية.

ـ لم يكن الكورنيش للشعب، ولا الجامعة”.

وتبلغ المفارفة مداها مع عيسى الدباغ بطل رواية “السمان والخريف” الذي ذهب في مهمة وطنية لإيصال السلاح إلى المقاتلين في مدن قناة السويس، وعاد ليجد نفسه خارج التاريخ، بعد أن قامت ثورة يوليو، واعتبرته من رجال “العهد البائد” ففقد مكانه وموقعه السياسي وخطيبته وتساقطت أحلامه تحت قدميه، فترك نفسه للضياع، متقلبا بين ماضي يتحسر عليه، وحاضر يتفطر منه آلما، ومستقبل لا يرى فيه أي بارقة نور.

وحتى الشباب الذين آمنوا بالثورة وعلقوا عليها آمالا عريضة لم ينجوا من الملاحقة والمطاردة والتعذيب والتضييق باسم “حماية الثورة”. فإسماعيل الشيخ وزينب دياب وغيرهما من أبطال رواية “الكرنك” هم شباب آمنوا بثورة يوليو، وكانوا يعتقدون أن العسكر على صواب مطلق، لكنهم استيقظوا على واقع أليم، حين مروا بتجربة قاسية بعد أن اتهمتم السلطة، ظلما، أنهم من “أعداء الثورة”، فانتهك عرض زينب، وجلد إسماعيل، وأجبرا على أن يكونا عملاء للمباحث، يتجسسون على رفاقهم.

وجسد محفوظ موقفه بشكل أشمل في روايته الرمزية “ثرثرة فوق النيل” التي توقعت مآل الثورة حين تخلت عن أحد مبادئها، وهو الديمقراطية، فانحرفت وانجرفت إلى متاهة عميقة. فهاهي “العوامة” التي يجلس في جوفها مجموعة من “المساطيل” المنتمين إلى “الطبقة الوسطى” في الغالب الأعم، تنفك الحبال التي تربطها وتثبتها بالشاطيء، فتنزلق إلى جوف المياه، دون أن يعرف راكبوها شيئا عن مسارها ومصيرها. ويتكالب على الثورة المنتفعون في صيغة سرحان البحيري أحد شخصيات “ميرامار”، الذي يستغل نفوذه وموقعه في الاتحاد الاشتراكي، ليتربح ويسرق، وكذلك رؤوف علوان بطل “اللص والكلاب” الذي يقول كلاما عميقا عن العدل وتمضي تصرفاته في الطريق المضاد. لينتهي الأمر إلى الغرق في تفاصيل “الثورة المضادة” التي بدأت عقب الانفتاح الاقتصادي، لتطل شخصيات رواية “يوم قتل الزعيم” ونجد الشباب ضائعين من جديد في مسار بطلي قصة “الحب فوق هضبة الهرم”.

وتأخذ الثورات عند محفوظ طبقات أعمق، فنجدها “ثورات دينية” في روايته التاريخية “العائش في الحقيقة” حيث إخناتون الباحث عن التوحيد في وجه تعدد الآلهة، و”أولاد حارتنا” حيث يأتي أدهم وجبلة ورفاعة وقاسم، ليتمردوا على الوضع السائد، ويجمعوا حولهم بسطاء الناس والمغلوبين والمقهورين، فيقيموا حياة جديدة، لا تلبث أن تتداعى لأن “آفة حارتنا النسيان”. ونجدها كذلك “ثورات حياتية” في “ملحمة الحرافيش” حيث يتوق أهل الحارة إلى العدل، لكن يتعاقب “الفتوات” من دون أن يتحقق هذا الحلم، فكل منهم يصل إلى القمة محمولا على أكتاف المطحونين وهم يهتفون له: “اسم الله عليه” لكنه لا يلبث أن يستبد ويفسد، إلى أن يأتي في النهاية”عاشور الناجي” رمز العدل الإنساني المفرط، والذي لا يخون.

كما تأخذ الثورة طبقات أعرض، من خلال انتصار محفوظ لقيم الحرية والعدل والتقدم والتسامح، لكنه يبقى في أغلب الأحوال ممن يميلون إلى الإصلاح المتدرج والمستمر والهادئ أكثر ممن ينادون بتغيير جذري يقلب كل شيء رأسا على عقب. ولعل هذه هي خلاصة تجربته الطويلة من ثورتين، ولذا لم يكن من بين المطالبين بالانتفاض على نظام مبارك، وتمنى لو أنه قد أصلح من نفسه، وأنصت إلى صوت العقل والحكمة واستجاب لسنة التغيير، فتجنب المصير القاسي الذي آل إليه، بفعل ثورة 25 يناير، التي وقعت بعد رحيل محفوظ بسنوات، لكن بعض طليعتها كانوا إحدى ثمار القيم والأفكار التي آمن بها وهي الحرية والعدل والكرامة.

فهد العتيق ( السعودية)

حارات نجيب محفوظ الموحية

من الصعب ايجاز رأي عن قيمة وقامة أدبية مصرية عربية وعالمية رفيعة مثل الكاتب القدير الراحل نجيب محفوظ بعد مئات الدراسات عن أدبه الرفيع والخالد. ما يمكن قوله هنا الشكر لكم على هذا الملف الذي يعيد قراءة أعماله الأدبية الملهمة بتقنياتها العالية في الرؤية واللغة والسرد والحوار وموضوعاتها الغنية والمتنوعة وما تتضمنه من أسئلة ورؤية الناس المتعددة المستويات لقضاياهم وهموم واقعهم اليومي المعيش .

نجيب محفوظ بالنسبة لي هو الكاتب العربي الأول الذي علمنا أن المثقف ليس هو الأديب فقط . وأن الشأن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي العام له مثقفيه ومبدعيه لأن الثقافة ليست حكرا على الكاتب الأديب فقط . وكأنه رمى السؤال في وجوهنا : من هو المثقف . النقطة الأخرى الأهم من وجهة نظري أنه لا يوجد مثقف نخبوي خطف روايات نجيب محفوظ وادارها من وجهة نظره الفوقية الخاصة . فكل هؤلاء الناس البسطاء والموظفين والمتعلمين وغير المتعلمين وغيرهم، والذين يجلسون في مقاهي حارات نجيب محفوظ يستطيعون أن يناقشوا القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بكل عفوية وجمال. لهذا يحضر المكان في كل روايات الأديب العربي الكبير نجيب محفوظ باعتباره بطلا دائما من أبطال رواياته. هذا الكاتب المصريّ العربي وُلد في القاهرة وعاش في أرقى أحيائها القديمة التي كانت مصدر إلهامه في كتاباته الأدبيّة. يقول نجيب محفوظ: «حبي وارتباطي بالقاهرة القديمة لا مثيل له. عندما أمرُّ في المنطقة تنثال عليَّ الخيالات، وأغلب رواياتي كانت تدور في عقلي كخواطر حيّة أثناء جلوسي في هذه المنطقة. يخيّل لي أنه لا بد من الارتباط بمكان معين، أو شيء معين يكون نقطة انطلاق للمشاعر والأحاسيس. والجمّالية بالنسبة إليّ هي تلك المنطقة» .

أدب نجيب محفوظ هو أدب رفيع الابداع عبر باللغة وبالفن العالي عن هموم واسئلة أمته، ومن خلال قراءة متأنية في أغلب أعماله القصصية والروائية نلاحظ أن الحضور الكبير للمكان والرؤية الفلسفية أو السياسية في أدبه ليست تنظيرية أو مقحمة على النص لكنها جزء من الموقف الاجتماعي والسياسي والأدبي في النص الروائي الذي يكتبه وجزء من نسيج البناء الموضوعي والفني للنص وجزء من أسئلة الناس ومن الحوار العفوي بين البشر, وهذا يعني الصدق الفني العالي في هذه الروايات والقصص دون افتعال أو تكلف في الرؤى والقضايا والأحداث. وإذا كان أغلب النقاد قد اتفقوا على أن أفضل أعماله على الإطلاق هي الثلاثية وبداية ونهاية وخان الخليلي والحرافيش وأولاد حارتنا على سبيل المثال ،  فإن له روايات أخرى لا تقل جمالا وابداعا مثل قلب الليل وحديث الصباح والمساء . جميع كتبه الأدبية السردية أبدعت بلغة عالية وبفن رفيع واغتنت بقضايا متنوعة سياسية واجتماعية وكان في أغلبها روح مرحة وساخرة أضافت متعة وجمالا لكتاباته الأدبية وعبرت عن روح الحارة المصرية بكل اقتدار وبشكل انتزع الاعجاب لأنه لم يفتعل موضوعات وحكايات وشخصيات وأساطير في أدبه الروائي الذي كان بمثابة أدب سيرة جماعية لأناس وأمكنة وحارات خبر دروبها وخبر أسرارها وخبر همومها وتناقضاتها وأفراحها وأحزانها.

محمد عبد النبي

الثلاثية بين نجيبين: كاتبها وناقدها.

“وَمهما قِيل عن “ثورية” نجيب محفوظ فهو لم ولن يكون أبدًا “ثائرًا” […]، ومهما قِيل عن عالم نجيب محفوظ فسيظل دائمًا محدودًا في حدود الطبقة الوسطى […]، وهو القمة ككاتب الطبقة الوسطى المصرية المستعدة دائمًا لخدمة أي سلطة تركب السلطة في أي عهد وأي نظام […]، ثم إنَّ نجيب محفوظ محايد ورمادي ولا مبالٍ – أو هكذا يدعي – مع أنه في الداخل مُنتمٍ إلى أعمق أعماق الانتماء إلى السلطة الحاكمة مهما كانت نوعية السُّلطة”.

 ترد الفقرة السابقة في رسالة كُتبت عام  1973 على أقرب تقدير بقلم شاعر ومسرحي كبير تركَ أعمالًا بالغة الأهمية، وعرفَ الاضطهاد  – في عقد الستينيات – حتى جاع وتشرد ومات موصومًا بالجنون صدقًا أو كذبًا، هو بطبيعة الحال نجيب سرور. كتبَ رسالته تلك إلى يوسف إدريس، ثُمَّ نُشرت في مجلة أدب ونقد في عدد ديسمبر 1987. المفارقة أنَّ هذا لم يكن رأي نجيب الشاعر في نجيب الروائي على الدوام، حتى إنه كان قد كتب سلسلة من الدراسات حول الثلاثية، نُشرت أواخر الخمسينيات في  مجلة “الثقافة الوطنية”، وأرسلها تباعًا من روسيا إلى لبنان، إلى أن توقفَ إصدار المجلة عام 1959، فتوقَّفت الدراسة، ثُمَّ تم العثور عليها لتصدر في كتاب، بعنوان: رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ، عن دار الفكر الجديد، عام 1989، ويمكن الاطلاع على قصة هذا الكتاب والعثور على مخطوطه  في المقدمة الوافية لمحمد دكروب، وأعيد طبع الكتاب منذ سنوات قليلة عن دار الشروق.

لكن حتى تلك الدراسة التي تواترت حلقاتها طائرةً من موسكو إلى بيروت لم تكن أولى تقاطعات الطرق بين النجيبين، فَوِفقًا لمقدمة محمد دكروب لكتاب سرور، فإنَّ الشاعر الشاب وقبل سفره إلى موسكو لدراسة الإخراج المسرحي، كان “ضمن حلقة من الشباب التقدمي على علاقة صداقة فكرية وأدبية وإنسانية بنجيب محفوظ، يلتقون به بين أسبوع وآخر يتناقشون في مختلف شؤون الثقافة والسياسية والأدب… وكان سرور يطرح على محفوظ، في هذه الجلسات، الكثير والكثير من الأسئلة والتساؤلات بصدد الثلاثية”، كما نعلم من قائمة مسرحيات سرور أنه حوَّل رواية ميرامار إلى مسرحية وأخرجها بنفسه عام 1968. مع هذا، يبقى كتاب “رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ” حالة شديدة الخصوصية من بين أعمال وتجارب نجيب سرور العديدة، التي تتنوع ما بين الشِّعر والمسرح الشِّعري والإخراج، بل والتمثيل السينمائي في أحد الأفلام أمام هند رستم. فالرحلة – وإن لم يُكتب لها الاكتمال فتوقفت عند الجزء الأول من الثلاثية – قد تكون، في حدود ما قرأت، مِن بين أهم ما كُتبَ عن الثلاثية، أو صرحه الواقعي الذي ما زال بانتظار التنقب واكتشاف المزيد عنه.

رأى سرور ألا يدخل إلى الثلاثية، والتي أطلق عليها قصر التيه، من غير نية مسبقة، من غير علامة أو دليل هادٍ، أو بتعبيره هو “مفتاح” للعمل الفني، ووجد مفتاحه هذا في أزمة المرأة في مجتمع ينتقل من النمط الإقطاعي إلى النمط البرجوازي، في حقبة تَحوُّل تاريخي للمجتمع المصري. وما إن استراح لاختياره شُعلته هذه، حتى اندفع يحلل الثلاثية موغلًا في قصر التيه على هَدي هذه الشُّعلة وحدها، مستعينًا بتحليل مادي جدلي لا يكاد يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. بادئًا مِن أمينة، فإن كانت أسرة السيد أحمد عبد الجواد تُنمذج المجتمع فإن أمينة تنمذج الأسرة، لكنه يمضي إلى اعتبار أنَّ “كل امرأة… هي وجه لأمينة”، ناسفًا الاعتبارات الفردية وشديدة الخصوصية للشخصية الروائية، ليصل مثلًا إلى أنَّ “هنية [أم ياسين، والزوجة الأولى لسي السيد] هي الوجه المتمرد لأمينة، وأمينة هي الوجه المستسلم لهنية]، وهو أمرٌ صحيح في العموم، لكنه لا يكاد يقول شيئًا عن خصوصية أمينة أو هنية كشخصيات إنسانية مُتخيَّلة. ينتهي نجيب سرور بمجرد أن تبدأ رحلته إلى أنَّ تشييء المرأة وتسليعها هو مركز الثلاثية وهو المفتاح الكاشف لكل مستوياتها، ثم يمضي لا يوفر جهده في إثبات تلك المستويات لدى جميع الشخصيات النسائية، مُصرًّا على تأويل كثيرٍ من أقوالها وأفعالها باعتبارها دلالات تمرد كامنة في اللا شعور، فمثلًا حين تدخل خديجة لتوقظ عائشة من أحلامها الوردية، وتقول: “تفضلي.. أعدت لك خادمتك السفرة!” – قاصدةً نفسها – يرى سرور في تعبيرها هذا دلالة التمرد على الأزمة، مؤكدًا “أنَّ لا شعور الشخصيات يلعب دورًا كبيرًا في عمل نجيب محفوظ. والمجال الداخلي أغنى دائمًا بالدلالات من الواجهة المباشرة”، ورحلته هذه تكتظ بتأويلاته للمجال الداخلي، وتمتلئ بتفسيراته الخاصة لمحتوى ومضمون تلك الإشارات الخفية، والتي تؤدي كلها بالضرورة إلى النتيجة نفسها: إشارات تمرد وعلامات على الثورة الباطنية – إلخ… حتى في موقفه من الشخصية المركزية لديه، أمينة، التي تتفرع عنها كل نساء الثلاثية في تأويله، عندما يصف عالمها الخاص، الذي ينبض فيه كل شيء بالحياة حتَّى الجماد، وحبها لمخلوقات الله جميعًا من الحيوانات إلى الإنجليز المحتلين، نجده يتحامل عليها بتصويرها كضحية لضيق الأفق والجهل، فيكتب: “وهكذا يتضح لنا إلى أي حد يضغط الإطار الاجتماعي حدود الفرد الذهنية ويختصرها ويلفعها بالغيبيات”.

الشواهد كثيرة، ولكن السؤال الآن: كيف نوفق بين الحساسية المرهفة في قراءة نجيب سرور للثلاثية، حيث يستشعر أدق تفاصيل العمل، مع التعميمات الآتية من بطون كتب الماركسية والمادية الجدلية؟ إلى حد استعانته بإنجلز وكتابه أصل العائلة لكي يوضح الخلفية التاريخية والاقتصادية لأزمة المرأة في المجتمع الإقطاعي كجزء من ملكية الرجل، ودور نشوء الأسرة والنَسب الذكوري في ذلك. كأننا حين نبدأ الرحلة وفي أذهاننا – سلفًا – مقصد واضح لا يعنينا سواه، فإننا لا نبدأ رحلة ولا نقطعها بالمرة، فنقول ما نعرف ولا نرى إلَّا ما نريد.

نجيب سرور ليس ناقدًا، وسطوري هذه لا تدخل بالمرة في باب نقد النقد، كما أن كتابه عن الثلاثية من أهم وأعذب الكتب القليلة التي كُتبت عن محفوظ على الإطلاق، لكنَّ ما أفسد عليه رحلته، في ظني، إصراره على حشد العلامات التي تؤيد فكرته الأساسية أو مفتاحه، يلتقطها من بين السطور ويبتدعها ابتداعًا كأنما من العدم حتى لا يدع مجالًا للشك في تقدمية الرؤية المحفوظية في الثلاثية.

ولكن هل يعني ذلك أن الثلاثية ليست تقدمية؟ هل معنى هذا أن محفوظ بالفعل كاتب رجعي؟ الإجابة البسيطة والتي لا أعرف سواها أنَّ تقييم الفن والأدب لا يصح بمعايير مثل التقدمية والرجعية. صحيح أنَّ ما كتبه سرور، خلال رحلته في بين القصرين، وهو الجزء العمدة والمؤسس لعالم الثلاثية ككل، يؤكد قبل كل شيء مدى تقدمية محفوظ في مواقفه إزاء وضعية المرأة، لكنه – مثلًا – لا يدين السيد أحمد عبد الجواد إدانة صريحة، وهو ما لاحظه سرور نفسه وخرج منه مستعينًا بالميكانيكية المادية، حيث البطريرك المستبد نفسه هو ضحية، ومفعول به من قبل نظام أكبر منه هو الجبرية التاريخية وما شابه ذلك.

*علَّ تقدمية محفوظ، إن أصررنا على هذا المصطلح، لم تكن من النوع الصارخ الطائش، كما لم تصدر عن قصدٍ واعٍ ومبيّت النية، بقدر ما نبعت ببساطة عن عمق بصيرة فنية، وحساسية لا تحوزها إلا الأرواح الكبرى، مهما بدا هذا كلامًا ميتافيزيقيًّا بلا أساس صلب. سرور نفسه لا يستبعد هذا، ويشير في غير مرة أنه ربما كتب محفوظ هذا أو ذاك عن غير وعي أو أنَّ القارئ الجاد يمكنه أن يضيء للكاتب نفسه ما خفي في لا شعوره من دلالات وتضمينات، وفي هذا على الأقل يمكننا الاتفاق معه بقدر كبير.

تظل قراءة سرور مجرد قراءة، ثاقبة وخلَّاقة في أجزاء كثيرة منها، لصرح الثلاثية، كما تبقى الثلاثية – مثل كل عمل فني فريد –  أكبر حتَّى من مبدعها، إذ امتلكتْ حياتها الخاصة، حياتها التي تعيد إنتاج ذاتها مع كل قراءة وكل قارئ يسكن إلى سطورها فينفخ كلٌّ منهما في صاحبه من روحه، من غير أن يضطر أحدهما – لا النص ولا قارئه – أن يتسلَّط على الآخر، مجردًا إياه من كل شيء لا يتفق مع قناعاته وتصميمه الضمني.

*

لكنَّ نجيب سرور، في رحلته داخل الثلاثية، لم يقتصر على كشف الرموز من وراء الشخصيات، وتحويل الحكاية الدرامية المتشابكة إلى أصلها السياسي و الاجتماعي. فإنَّ مبدعًا بحجم موهبته لم يكن غافلًا عمّا للشخصية الدرامية من استقلال وأبعاد نفسية، قد تلتقي مع النماذج الكبرى في تاريخ الفن والأسطورة، شريطة أن تكتمل لها عناصرها الأساسية وقوة حضورها في سياقٍ واضحٍ ومترابط. وليس أدل على هذا من تحليله لشخصية ياسين عبد الجواد، الذي لم ير فيه البعض إلا الجانب الشهواني من أبيه السيد أحمد عبد الجواد، و قد تكثف واتضح على جبلته الأصلية، لكن سرور ودون تَزيُّد على النص، بل بالاعتماد عليه والرجوع إليه مرارًا، يلمس أدق أبعاد شخصية ياسين نفسيًّا واجتماعيًّا، ويرى بوضوح الوجهَ (الهاملتي) له، في علاقته المرتبكة بأمه بين الحب المطلق والكراهية المطلقة.

في هذا السياق يعمد سرور للتوازي بين مشهد لقاء ياسين بأمه هنية والمشهد الشهير لهاملت مع أمه جرترود بغرفة نومها، بالطبع ليس بغرض إبراز نواحي تأثير النص الشيكسبيري على رواية محفوظ، وهو ما أكد سرور على استبعاده أكثر مِن مرة، إنما بغرض التأكيد على الملامح المشتركة في وضعية درامية مثالية، حتى أنه أشار لمسرحية النورس لأنطون تشيخوف، وطابق بين أزمة بطلها قسطنطين تريبليف مع أمه الفنانة محبوبة الرجال آركاديا وبين أزمتي هاملت وياسين. مبرهنًا على الطبيعة الأوديبية لشخصية ياسين، بأكثر من اقتباس واستشهاد دامغ من بين القصرين. هذا إلى جانب العديد من الالتقاطات الذكية التي تتناثر على مدار فصول الكتاب التي قد تدفع قارئه إلى إعادة قراءة الثلاثية من جديد، أو على الأقل بعض أجزائها.

لقد أدرك نجيب سرور – بروحه المتقدة، وحساسية نظرته الفنية -مقدار اتساع عالم محفوظ، فيما خذلته تجربته وقناعاته عند التوغل في قصر التيه، لكنه مع هذا لا يُنكِر أنَّ:

محفوظ قدوة لكل المخلصين لفنهم، ليوقنوا كما أيقن هذا الرجل أنَّ قوى العالم أجمع لا يمكنها أن تقتل فنانًا أصيلًا، وأنَّ نقَّاد العالم أجمع لا يستطيعون أن يخلقوا من الأقزام عمالقة ولا من العمالقة أقزامًا، وأن النصر في النهاية للإخلاص والإصرار والثقة بالنفس واحترام الكلمة”.

(2 )

كمال عبد الجوّاد؛ أول سكان البرج العاجي

استطاعت ثلاثية نجيب محفوظ أن تنحت شخصيات شديدة الخصوصية، ومع مرور الوقت كُرّست تلك الشخصيات لتصبحَ إشارة دالَّة على أنماط بعينها من النماذج الإنسانية، فَصارَ هناك نموذج سي السيد أو نموذج الست أمينة. ولم تكتسب هذه النماذج قوة سطوتها وحضورها الطاغي إلا لأنها أحاطت بظاهرة إنسانية لها سياقها الخاص بالطبع، لكنها مع ذلك عابرة له بقدرتها على التنكُّر والتحوّل واتخاذ أشكالٍ جديدة، طَالما بقيت شروط إنتاجها في المجتمع الحاضن لها.

وَلعلَّ كمال عبد الجواد مِن تلك النماذج التي تَمكَّن نجيب محفوظ من الكشف عنها، وتحليلها، واستيعاب تناقضاتها.  كَمال أحد أهم شخصيات الثلاثية، حيث كان الصبي الشاهد على الأحداث منذ صفحاتها الأولى، يتطوّر وعيه بالعالم و تتبلور مواقفه المختلفة مع المضي قدمًا في تفرعات حكاية الأُسرة والمحيطين بها. لكن ما الذي يميز كمال عبد الجواد ويمنحه ثقله الخاص كنموذج للمثقف الحالم  المثالي؟ رغم تكرر هذا النمط نفسه، في روايات أخرى عند نجيب محفوظ نفسه، ثم نزوع هذا النمط للوجود والتكرر وإعادة إنتاج ذاته، بين صفحات كثير من كُتَّاب القصة والرواية، فيما تلا جيل نجيب محفوظ، و خاصة عند جيل الستينيات. على سبيل المثال في قصص و روايات بهاء طاهر و إدوار الخراط و إبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم، كلُّ على طريقته الخاصة.

هذا الحضور الذي لم يتوقف تياره حتى هذه اللحظة، في مُنتَج الأجيال الأحدث من الروائيين، و لو من زوايا جديدة و بأساليب مستحدَثة. لا عجب في ذلك إذا وضعنا في الاعتبار قدرة هذا النمط الروائي على استيعاب هموم وهواجس كل كاتب وكل روائي على وجه العموم، ونَقل حيراته الوجودية و أسئلته المعضلة، وربما كذلك عزلته عمّا يُسمَّى بالواقع، ولَعلَّ العزلة هي السمة الأهم في الصورة الروائية الأقدم لهذا النمط؛ كمال عبد الجواد.

 من العسير أن نجد عملًا أدبيًّا، تاليًا على الثلاثية، له بعض قدرتها على تعرية هذا النموذج حتى العظام كما هو الحال مع كمال عبد الجواد. فغالبًا ما نراه، في تلك الأعمال التالية، مُنْجزًا وكاملًا وكأنه وُلد فجأةً مِن الفراغ، وربما مع إشارات سريعة إلى البيئة التي تشكّل فيها وعيه وتكونت فيها قناعاته، ولكن دون  تتبع صبور لدرجات تطور هذا الوعي خطوة بعد أخرى، أو دونما تَقصٍّ لجوانب العزلة وسبر أعماقها. من هنا تنبع الأهمية التأسيسية في شخصية كمال عبد الجواد، ولذلك قد يحق لنا الإشارة إليه باعتباره نموذجًا دراميًّا أصيلًا، نتجت عنه صورٌ عديدة، رُبما ما كان لها أن تُرسَم و أن يتم استيعابها أو تلقيها فنيًّا، لولا الأصل الذي ترسّخ في وجداننا، حتى إن لم نرجع إليه ونتذكره عن وعي وقصد، مع كل  تفاعل مع صورة جديدة من صوره المتناسخة والمتواترة.

*

يظهر كمال، في بين القصرين، ظهورًا هامشيًّا ولكن له ثقله ودلالته مع هذا. إنه الصبي المتَّصف بالذكاء والنُّبوغ وسعة الخيال، إلى جانب غرابة منظره، كبر الرأس والنحافة وضخامة الأنف، يفتقدُ الشجاعة اللازمة لارتكاب حماقات هذه السن، ويخشى على الدوام مِن تلقي عقاب أبيه. ينطوي على مشاعر دينية عميقة، متوارثة عن الأسرة عمومًا، وتغذيها علاقته الوثيقة بأمه، حيث يجلس معها يوميًّا لتدارس ما تلقّاه بالمدرسة من جديد في الدين، حيث يعمل جاهدًا على إبهارها والطعن في معارفها الدينية، المكتظة بحكايات الجن والعفاريت. كمال الصبي، الذي “لم تكن الرغبة في العِراك تنقصه لكنه كظمها تقديرًا للعواقب” والذي كان يحتال بالكذب واختلاق الحكايات المؤثّرة ليفوز بانتباه أفراد أسرته في مجلس القهوة كلَّ أصيل، والطامح للتوظُّف بالشهادة الابتدائية، مثل أخيه ياسين، وليس إلى الالتحاق بمدرسة الحقوق مثل شقيقه فهمي، لمجرد أن يظفر بحقوق الرجل في السهر بالخارج.

يسأل كمال أمه، خلال جلسة درس الدين الخاصة بهما: “أيخاف أبي الله؟”، فَكأنه وقد وقع في أسر طغيان أبيه، ربما أكثر من أي فرد آخر في الأسرة، يحاول البحث عن مُتنفَس مِن هذه السطوة في عالم الغيب، يحاول البحث عن سُلطة أخرى، أكثر رحابة وحُنوًّا، سُلطة يُرمَز إليها بضريح الحسين الذي ورث حبه عن أمه. وقد كان كمال شريك أمه في رحلتها إلى الحسين الحبيب، الرحلة المختلسَة من بين أنياب السلطة الاجتماعية للأب الطاغية، وقد جرَّت تلك الرحلة عليها وعلى البيت كله عِقابًا أليمًا.

يظل كمال، على مدار الكتاب الأول و المؤسس للثلاثية، متنقلًا بين عالم الكبار، حاملًا الرسائل وهامسًا بالأسرار والنمائم، متلهفًا على تلقي الانتباه الجدير به، والذي ضحّى في سبيله بكل شيء، حتى حماسته الوطنية الفِطرية التي تشَّربها عن فهمي، حين صادق عددًا من العساكر الإنجليز المرابطين أمام البيت، وراح يتقبَّل هداياهم، ويغني لهم “يا عزيز عيني”، وقد وجدَ فيهم ملامح أقرب إلى حُسْن الملائكة بعد أن كان يتخيلهم كالشياطين.

*

مع الصفحات الأولى للكتاب الثاني، قصر الشوق، يكون لكمال نصيب أعظم من السرد، حيث يستوي شابًّا نال البكالوريا ويستعد للتعليم العالي، نتعرف على المرحلة التالية التي تُرسّخ عزلة كمال وتعاليه عن الواقع المحيط. ونتابع جداله المضني مع والده، من أجل إقناعه برغبته في الالتحاق بمدرسة المعلمين، المجانية والتي لا يدخلها إلا أبناء الفقراء في رأي أبيه، و لكنها تمثل لكمال السبيل الطبيعي لكي يواصل إطلاعه دونما حدود، وربما أيضًا بدون التزامات التخصّصات الأخرى الأشدّ تطلبًا.

“أجل إنه لا يشك لحظة في صدق رأيه وجلاله، ولكن هل يدري ماذا يريد؟ ليست مهنة المعلم بالتي تجذبه، إنه يحلم أن يؤلف كتابًا، هذه هي الحقيقة، أي كتاب؟ لن يكون شِعرًا، إذا كانت كراسة أسراره تحوي شِعرًا، فمرجع ذلك إلى أن عايدة تحيل النثر شِعرًا لا إلى شاعرية أصيلة فيه، فالكتاب سيكون نثرًا، وسيكون مجلدًا ضخمًا في حجم القرآن الكريم وشكله، وستحدق بصفحاته هوامش الشرح والتفسير كذلك، ولكن عَمَّ يكتب؟ ألم يحوِ القرآن كل شيء؟ لا ينبغي أن ييأس، ليجدنّ موضوعه يومًا ما، حسبه الآن أنه عرف حجم الكتاب وشكله وهوامشه، أليس كتاب يهز الأرض خيرًا من وظيفة وإن هزّت الأرض؟! كلُّ المتعلمين يعرفون سقراط، و لكن مَن مِنهم يعرف القضاة الذين حاكموه؟!”

في شبابه المبكر يطمح لكتابة كتاب جامع مانع، بل و يشبه القرآن الكريم شكلًا على الأقل. وكأنَّ الاكتفاء بما هو أقل من العَظَمة المطلقة والخلود الحقيقي لا يُرضي مَن لا يجد له موضعًا مُشبِعًا في الحياة كما يحياها سائر الناس، لضعفٍ أصيل في ثقته بنفسه و بالعالم. لكن هل من المحتوم أن يبلغ هذا الطموح إلى مبتغاه إذا ما ساندته إرادة قوية؟

كما نطلع أيضًا في مستهل قصر الشوق على اكتشافه المحزن لخواء ضريح الحسين، الذي لم يستطع أبدًا التعامل معه بالعقل، كما فعل صديقه فؤاء، ابن الحمزاوي مساعد السيد أحمد في دكان تجارته. بل ونَقمَ كمال على برود العقل، ولم يتقبل أن يكون ضريح الحسين مجرد رمز، ولا شيء غير ذلك.

    ما يتوافق مع هذا التوجه المثالي، موقف كمال الشاب من الغرائز، عندما يثير فؤاد سيرة قمر ونرجس، البنتين اللتين اكتشف كمال وفؤاد معهما الجنس الآخر مع مطلع المراهقة، فحين يقول له فؤاد: “إنك تحمل نفسك ما لا يُحتمل؟ يجيب كمال: إني كذلك وما ينبغي لي أن أكون غير ذلك…”، ثم يضيف بعد قليل: “إني أرى الشهوة غريزة حقيرة، وأمقتُ فكرة الاستسلام لها، لعلّها لم تخلق فينا إلا كي تلهمنا الشعور بالمقاومة والتسامي حتى نعلو عن جدارة إلى مرتبة الإنسانية الحقة، إمّا أن أكون إنسانًا و إمّا أن أكون حيوانًا…”.

*

في العباسية تحوَّلت قِبلة المثالي الحالِم مِن ضريح الحسين إلى سراي آل شداد، حيث تقيم المعبودة عايدة، شقيقة زميله وصديقه حسين شداد، الذي يقاسمه الولع بالمعرفة الإنسانية، وإن خالفه في الانتماء الطبقي و الميول السياسية. “ليس من الهيّن على قلبه الخفاق أن يمشي في هذا المحراب الكبير، ولا أن يطأ أديمًا وطئته قدماها من قبل، إنه يكاد من إجلالٍ أن يتوقف، أو يمدّ يده إلى جدار البيت تبركًا، كما كان يمدها إلى ضريح الحسين من قبل أن يعلم أنه لم يكن إلا رمزًا”. غير أن حبه لعايدة سرعان ما يتحول هو الآخر إلى ضريح خاوٍ، بعد أن يُمضي أربعة أعوام هائمًا في عالم فردوسيّ من صنعه الخاص، وبعد أن يتم التلاعب بمشاعره طويلًا، يكتشف أنه كان طرفة يتندَّر بها أهل السراي، عندما تحكي لهنَّ عايدة عن العاشق الولهان. ثم تعلَن خطبة عايدة بخصمه، ابن المستشار، وتُزَف إليه. في الوقت نفسه تقريبًا يتخلَّى كمال عن مظلة الدين، وإن بقى له إيمانه بالله كما بقى إيمانه بعايدة وبالحب، في عالم مثالي مجرد. لكنه كان يستعين بالدين وعايدة في مواجهاته مع الغريزة، والآن وقد ذهبا بدأ يخطو خطواته الأولى نحو اكتشاف عالم الخمر والنساء. فمع سقوط عايدة المعبودة افتتح كمال تاريخًا طويلًا مع البغاء، وأكمل من حيث لا يدري التاريخ الأسري المجيد، سائرًا على خطى أبيه وأخيه ياسين،  وإن كان يختلف عنهما في الحوافز، ففي حالتهما كانت الغريزة هي القائد، مع الفارق الكبير بينهما من حيث تذوق بالجمال وسِعة الإنفاق، أما كمال فهو في مقام الحيرة، واليأس من الحب.

 النتيجة التي توصَّل لها كمال عند تحطم أوثانه، هي فقدان الإيمان بنفسه أيضًا، وكأنَّ وجوده الهش مُعلّق بوجود أصنامه ودورانه في فلكها وكأنه يسقط بسقوطها، حتَّى العلم أو الفلسفة لم يمثلا لكمال دعمًا كافيًا يحول بينه وبين السقوط.

*

“قد يلوذ من الوحشة بوحدة الوجود عند سبينوزا، أو يتعزَّى عن هوان شأنه بالمشاركة في الانتصار على الرغبة مع شوبنهور، أو يهوّن من إحساسه بتعاسة عائشة بجرعة من فلسفة ليبنتز في تفسير الشر، أو يروي قلبه المتعطش إلى الحب مِن شاعرية برجسون…”.

هكذا نرى كمال في مطلع كهولته، مع بداية السُّكَّرية، حيث صار مُعلمًا محترمًا ومحبوبًا، رغم هجمات السخرية على منظره الغريب من التلاميذ، يقف شاهدًا على شيخوخة أسرته وجفاف ماء الحياة من أوصال البيت القديم. هكذا يتهكم راوي الثلاثية العليم علمَ الآلهة، تهكمًا مريرًا، على هذا الذي يشبه الناس ولكنه ينأى عن الناس، ليسجن نفسه سجنًا اختياريًّا بين كتبه وأفكاره، ليستبدل بالحياة وحرارتها وكفاحها الحي سطورًا تكاد تُوحي بامتلاكه الحقيقة، وسرعان ما تتبدى سرابًا لا يمكن القبض عليه.

عندما حاول كمال أن يعبّر عن نطاق طموحه المعرفي، لم يجد خيرًا من كلمة (الفِكر) لتضمّ كل ما تاقَ للغوص في أعماقه، ومِن الطريف أن يكون هذا هو اسم المجلة الشهرية التي نشرَ مقالاته الفلسفية فيها بانتظام.

“واجهته مشكلة أخرى تتعلق بمقالاته الشهرية في مجلة “الفكر”، وكان يخاف هذه المرة الناظر والمدرسين أن يسألوه عما يعرض فيها من فلسفات قديمة وحديثة تنقد أحيانًا العقائد والأخلاق بما لا يتفق ومسئولية “المدرس”، ولكن من حسن الحظ أن أحدًا من المسئولين لم يكن بين قُرَّاء “الفكر”، ثم تبين له بعد ذلك أن المجلة لا تطبع أكثر من ألف نسخة يصدر نصفها إلى البلاد العربية، فشجعه ذلك على الكتابة إليها و هو آمن على نفسه ووظيفته”. 

تتضح هنا عزلة كمال الاختيارية في أكثر من مفارقة، فهو راضٍ عن النطاق الضيق لتوزيع المجلة التي يكتب لها، ما دام هذا سيجعله بمنأى عن تساؤلات واستجوابات الزملاء والمسئولين. فكمال ليس على استعداد لمناطحة السُّلطة، وعمله كمدرس لا يعني أن يدافع عن أي من الأفكار التي يكتب عنها، وينقلها للآخرين، من تلاميذ أو غيرهم، فضلًا عن أنه لم يكن إلا ناقلًا لأفكار الآخرين وفلسفاتهم، وعدم اقتناعه العقائدي بأيٍّ منها بما يكفي للدفاع عنها والتضحية في سبيلها.

وإذا كان نجيب محفوظ يوجه سهام النقد القاسي و السخرية المضمرة إلى كمال، فقد يكون هذا راجعًا في جزءٍ منه إلى الحسرة على الإمكانات المعطلة لهذا النموذج، تلك الإمكانات نفسها التي لم يكن صاحبها غافلًا عنها، ولا غافلًا عن تعاطفه مع الجماعة بروحها الخاصة وقوتها التي لا تحد.

“لذلك لم يكن عجيبًا أن يهتف “الوفد عقيدة الأمة” غداة ليلٍ قضاه في تأمل عبث الوجود وقبض الريح، والعقل يحرم صاحبه نعمة الراحة، فهو يعشق الحقيقة ويهوى النزاهة ويتطلع إلى التسامح ويرتطم بالشك ويشقى في نزاعه الدائم مع الغرائز والانفعالات، فلا بدَّ من ساعةٍ يأوى فيها المتعب إلى حضن الجماعة ليجدد دماءه ويستمد حرارةً وشبابًا. في المكتبة أصدقاء قليلون ممتازون مثل دارون وبرجسون وراسل. في هذا السرادق آلاف من الأصدقاء، يبدون بلا عقول، ولكن في مجتمعهم شرف الغرائز الواعية، وليسوا في النهاية أقل من الأول خلقًا للحوادث وصُنعًا للتاريخ. في هذه الحياة السياسية يحب ويكره ويرضى ويغضب ويبدو كل شيء ولا قيمة له. وكلما واجه هذا التناقض في حياته زعزعه القلق. ولكن ليس ثمة موضع في حياته يخلو من تناقض وبالتالي من قلق.”

من النادر أن نجد مريضًا على وعيٍ تام بطبيعة مرضه، بدرجةٍ تفوق ما لدى الأطباء والعلماء. نموذجنا المثقف الحالم، كمال عبد الجواد، لم يكن يعوزه الوعي، ولم يكن جاهلًا بدائه وأصله وسببه. لكن القلق الوجودي الذي لا يبدو له أول مِن آخر كان هو السور الذي يحميه، ويعزله عن تلك الحشود حتى وهو وسطها، وهو مرض يتفاقم مع كل لحظة تمر بالعليل، ومع كل لحظة يصير أهون الأفعال سؤالًا كبيرًا، يولّد بدوره علامات استفهام بلا نهاية، فتختفي المسئولية ويكتفي العليل بما هو ضروري وحسب، الحد الأدنى من التفاعل الإنساني والاجتماعي ليرجع ملهوفًا إلى قوقعته، حيث يجد الأمان في كنف الكتب والأفكار. مِن غير أن يكون بمقدوره حتَّى أن ينتج في هذا ما يمكن اعتباره فعلًا إيجابيًّا من نوعٍ ما، فحين يواجهه رياض قلدس، صديقه كاتب القصة، في لقائهما الأول بمجلة الفكر، قائلًا :”حاولتُ عبثًا أن أهتدي إلى موقفك أنت مما تكتب، وأي فلسفة تنتمي إليها…؟”، يقول كمال: “إني سائح في متحف لا أملك فيه شيئًا، مؤرّخ فحسب، لا أدري أين أقف…”، ونظرًا لموقف كمال المتشكك حيال كل عقيدة وكل إيمان، لا يتحمَّس كثيرا إزاء إيمان رياض قلدس بالعلم و الفن.

“لم يكن كمال غارقًا في السياسة كرياض، أَجَل لم يستطع الشك أن يدمرها فيما دمَّر فلبثت حية في عواطفه، كان يؤمن بحقوق الشعب بقلبه، وإن كان عقله لا يدري أين المفر. عقله يقول حينًا: “حقوق الإنسان”، وحينًا آخر يقول: “بل البقاء للأصلح وما الجماهير إلا قطيع”، وربما قال: “والشيوعية أليست تجربة جديرة بالاختبار؟”.

*

لا نستطيع إنهاء هذه السطور عن كمال عبد الجواد دون أن نشير إلى موقف كمال عبد الجواد، في الصفحات الأخيرة مِن الثلاثية، من ابني شقيقته خديجة، عبد المنعم المنتمي إلى الإخوان المسلمين وأحمد المنتمي إلى مجموعة ماركسية سرية، بعد القبض عليهما، وما يقوله له أحدهما، أحمد، ويوافقه عليه شقيقه الإخواني عبد المنعم، من دعوة للإيمان وللثورة الأبدية، والعمل الدائب على تحقيق إرادة الحياة ممثَّلة في تطورها نحو المثل الأعلى، مهما كانت طبيعة هذا المثل الأعلى الذي يؤمن به المرء. وعندما يروي كمال ما قاله له الشابان على صديقه رياض، يستبشر الأخير انقلابًا خطيرًا يوشك أن يقع، وهنا يقول كمال في حذر: “لا تسخر مني. إنّ مشكلة الإيمان ما زالت قائمة بدون حل، وغاية ما أعزي به نفسي هو أن المعركة لم تنته، ولن تنته ولو لم يبقَ من عمري إلا ثلاثة أيام كأمي…”.

متأخرة للغاية ربما جاءت صحوة كمال عبد الجواد، و لعلّها صحوة سطحية قصيرة الأجَل، تحت وطأة ما يحدث مِن حوله، ولن تلبث أن تمر مرَّ الكرام مع الوضع في الاعتبار تراكم الخبرات والسنوات، ومعركته الأبدية مع الإيمان. ولو أن روائيًّا طَموحًا قرَّر في المستقبل أن يسجّل تلك الأيام الثلاثة الأخيرة من حياة كمال عبد الجواد في رواية، فلا أظنّه سوف يجده هناك وقد حطَّم عزلته واستعاد إيمانه الضائع بنفسه وبالحياة، بل على الأغلب سنرى عجوزًا ثرثارًا ومثيرًا لبعض الشفقة وشيء هين مِن السخرية، لم يزل ضائعًا في متاهة مكتبته متسائلًا عن معنى الوجود، وعبث الموت، وأسطورة الحب، ولم يزل يُسائل الصمت الكوني عما يحكم هذا الوجود: العقل أم الجنون؟

محمد عطية محمود

نجيب محفوظ ، والإبداع القصصي [i]

ينشغل الإبداع القصصي لنجيب محفوظ بالحياة، وتتجسد فيه صورها المتعددة، كما تتدرج فيه مستويات انشغاله بها منذ بدايات إبداعه، تبعا للمرحلة الزمنية / الحالة السائدة في إبداعه بصورة عامة، بحيث دائما توجد الحياة ومترادفاتها ومضاداتها؛ فمن الحياة ينبثق الموت، ومن الموت تنبثق الحياة، وهكذا فالمبدع / الإنسان في رحلة بحث دائمة فيما حوله وفي الآخرين، انطلاقا من ذاته، في وجه الوطن، وأديم أرضه وثراه، وفي أغواره، لا تني تنتهي إحدى مراحلها حتى تبدأ مرحلة أخرى أشد أو أخف وطأة؛ لتتواتر فيها سبل الإبداع ووسائله لتشكل هذا النسيج المتواشج المتنامي لمظاهر الحياة؛ فتمثل شهادته نحو الذات/ الإنسان/ الأرض/ الوطن، ميثاقا لا تقوض أركان علاقته بالواقع أي مؤثرات خارجية مسجلة حتى ولو كانت تاريخا يؤرخه مؤرخ؛ فالمبدع الصادق هو الأقرب لرصد علاقة مجتمعه بتاريخه في حقبته الزمنية/ حياته التي يعيشها ويبدع من خلالها.

يقول نجيب محفوظ في أحد حواراته عن علاقته بالقصة القصيرة، وسط طوفان أعماله الروائية الضخمة وتحولاتها المدهشة، أبان إتمامه لرواية “المرايا” (1971/1972)، مع تتابع مجموعاته القصصية:

“صدقني.. أنني أبدأ القصة القصيرة الآن دون أن أعرف كيف تنتهي.. لكنني لا أستطيع أن أغلق على نفسي الباب عاما كاملا كي أكتب رواية، منصرفا عما يحدث في الواقع وفي نفسي.. الانفعال اليومي عذابي وعزائي.. لهذا لا أستطيع تثبيت ما في الخارج وإطالة النظر إليه” (1)

من هذا المنطلق، منطلق القصة كمعبر آن عن العذاب والعزاء على حد السواء، لفعاليات الحياة والانفعال بمنغصاتها، يبدو الإبداع القصصي لنجيب محفوظ، رافدا هاما من روافد إبداعه لا يقل بأي حال من الأحوال عن أعماله الروائية الخالدة التي حفرت للأدب العربي مسارا، وأسست له علامات بارزة في ذاكرة الأدب العالمي وحاضره؛ فنجيب محفوظ الذي قدم، أول ما قدم في عطائه الأدبي غير المحدود، روايته التاريخية “مصر القديمة” 1932، كتب القصة القصيرة ولازمها فترة طويلة متصلة امتدت من عام 1932 إلى عام 1946، أنجز فيها مجموعته القصصية البكر “همس الجنون”، والتي بلغ عدد طبعاتها عشر طبعات حتى العام 1979!! لتشكل عطاء قصصيا حقيقيا امتدت معاناته طيلة الإثنى عشر عاما مع القصة القصيرة، عرفه فيها الواقع الأدبي قاصا مجيدا، على صفحات مجلات “المجلة الجديدة”، و”الرواية”، و”الرسالة” و”الساعة”. (2)

هذا التأصيل المكافح، الذي انتقل به ومنه، مبدعنا الكبير إلى مرحلة هامة ومفصلية من مراحل مسيرة الرواية العربية حيث انتقل بها من نقلات واسعة غير مسبوقة، بعد مرحلته التاريخية (رادوبيس ـ كفاح طيبة ـ عبث الأقدار) مرورا بالمرحلة الواقعية الاجتماعية، وصولا إلى روايته المغايرة “اللص والكلاب” وما تمثله من نقلة فنية فلسفية هائلة في أعماله الروائية، والرواية العربية بصفة عامة؛ لتتجاور بعد ذلك أعماله القصصية مع تلك الروائية، التي قال عنها نجيب محفوظ نفسه ضمنيا كما أسلفنا، أنها ليست كافية لإدرار هذا الزخم النفسي والوجداني مع سرعة الأحداث في الواقع المحيط، مما يعكس تأثر الأديب والكاتب بما يدور حوله، وينفي صلته بمجتمعه وبيئته وهموم وشجون مواطنيه ووطنه، فضلا عن ذاته، وبما يؤكد على كون المبدع ليس كائنا منفصلا أو منبتا عما حوله، وهو بلا شك تأكيد على أهمية دور الكاتب في مجتمعه واختلاطه بهمومه التي تنطلق من همومه الذاتية، لا قوقعته وعزلته، وممارسة إبداعه من موقع الأعزل المنطوي، بعيدا عن بؤرة صراعات المجتمع ومشكلاته؛ فالخيال وحده لا يصنع إبداعا أو فنا.

إلا أن لافتات التميز والظهور اللافت، قد أعطت وجهها المضيء لأعمال نجيب محفوظ الروائية الفذة التي لا خلاف عليها، رغم توفر إبداعه القصصي على أسباب متعددة للنبوغ والسطوع؛ فنبض مجموعاته القصصية بداية من مجموعة “دنيا الله” ـ التي صدرت طبعتها الأولى 1962، وبلغت عدد طبعاتها ست طبعات حتى عام 1987، ونشرت قصصها بالكامل بجريدة الأهرام المصرية عامي 61 &1962 (3) ـ جاء هذا النبض معبرا عن اكتمال الرؤية الإبداعية، وتكاملها مع ما يواصل العزف عليه من تنويعات روائية مبدعة، ظلت ترتقي إلى مستويات من الفكر الجديد والتأصيل معا، كما جاء متسقا مع ما يدور حوله من أحداث تحيط بالمجتمع وأخطار تحيق به؛ فمع روايات مرحلة ما قبل وما بعد النكسة ظهرت مجموعات: “خمّارة القط الأسود”1969، “تحت المظلة”1969، “حكاية بلا بداية ولا نهاية”1971، شهر العسل”1971، “الجريمة” 1973، بحسها جميعا المتسق مع روايات نفس المرحلة، النفسي والمادي، والمكمل لرؤيتها على المستويين الاجتماعي والعام.

كذلك أتت باقي المجموعات لتساير نبض إبداع نجيب محفوظ المتأصل بقيمة التصاقه بهموم وقضايا الوطن، وتمكنه ببراعة التوازن بين تأثره المتفاعل مع واقعه المحيط، والمنفعل به، وإمكانيات القدرة الهائلة على التعبير؛ ليصوغ لنا مجموعة من النصوص القصصية المعبرة، المرتبطة بمجموعات تحقق له فيها النبوغ القصصي على نحو من تطويع المادة القصصية، وأسلوب القص المتنوع بين اعتماده على استخدام الحوارات المتصلة المعبرة عن دراما الموقف القصصي، في الكثير من النصوص مثل نص “روبابيكيا ـ مجموعة حكاية بلا بداية و لا نهاية”، أو حوارات تشارك السرد بصورة شبه متكافئة، أو سرد تقطعه الحوارات الدافعة لحركة النص، وهكذا؛ لتتماهى أساليب عدة في بناء/ معمار متون نصوصه القادرة على التلون، قدر عطائها، لإبراز الرؤية العامة كإطار للنص، وكذا الرؤية الخاصة كمدلولات على ما يريد طرحه من قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية ومعالجتها.

لا شك هي براعة الروائي في شخص المبدع / الرمز الكبير، الذي ابتلع بريق أعماله الروائية الكثير من الضوء الواجب تسليطه على نصوصه القصصية المثيرة للدهشة والعجب، وكما يقول نجيب محفوظ في معرض سؤاله ـ في أحد حواراته ـ حول ظلم قيمته ككاتب قصة بارع، لحساب تفوقه في كتابة الرواية:

“العادة هكذا.. إذا اشتهر الإنسان بنوع معين، لا يرد ذكره إلا في هذا المجال وحده مهما كانت له قيمة شيء آخر.. فسيظل يوسف إدريس عند الناس كاتب قصة قصيرة مهما كتب من روايات.. وأنا لا أعتقد أن الظلم يقع علىّ بقدر ما يقع على الأدب ذاته، والمضحك والغريب أن قصصي القصيرة منتشرة بين القراء أكثر من كتاب القصة الفعليين، كل مجموعة طبعت خمس مرات، و كل طبعة بالآلاف. على أية حال إذا كان النقد قد ظلمني في هذا المجال، فقد عوضني القراء”(4)

فهو بهذا الرهان الرابح يكون قد تلمس جوهر الحقيقة، وجوهر القيمة الأدبية الساطعة، التي تسبغ على المبدع حقه ولا تغمطه؛ حيث أن الفيصل دوما والرهان الحقيقي للمبدع هو القارئ، وأي قارئ؟؟؟! لابد أن يكون قارئا محبا متابعا شغوفا، لا تفوته درر الإبداع ولا مذاقه، ولا متعة البحث عنها. لكن لا شك أن للإعلام دور هام لا يمكن إغفاله. و كما يقول في موضع آخر من حواراته الثرية، منتقدا بحسه الساخر تلك النظرة النقدية/ الإعلامية المحدودة الضيقة لتجنيس النوع الأدبي، دون إطلاقه على حرية المبدع في التنقل بين أنواع الكتابات الأدبية، وإلزامه ـ قسرا ـ بنوع لا يعرف إلا به، مهما أوتي من أسباب التفوق والإبداع اللافتين، الدافعين لحركة الإبداع بصورة عامة:

“… كأن الأمر خانات توضع فيها بطاقات التوصيفات وملفات الوظائف واللوائح، وأنها عملية تنطبق عليها تداعيات الإشاعة، فمن السهل أن تطلق الإشاعة، ويتسع مداها ولكن من الصعب أن توقفها”(5)

لكن الأمر لا يعدو كونه غمط لحق، تستنفر على رده تلك القراءات المتواصلة الواعية التي تحاول استجلاب الغالي والنفيس من إبداعات محفوظ القصصية، التي لا يجب توقف البحث فيها، انطلاقا من كونها خطوط متوازية مع خطوط إبداعه الروائي الفارق، بنظرة تكاملية عميقة؛ فمن الحياة وتشعباتها ونهمها، وإليها تنطلق كتاباته القصصية لتعانق دقائقها وساعاتها وأيامها، عناقا أدبيا راصدا، متغلغلا، حالما، رافضا، مستنكرا، آملا في واقع جديد/ حياة موازية، تتغير دائما لتحريك برك الحياة الراكدة، تأصيلا لرسالة الأديب المبدع الفنان، لدفع حركة الفكر ومخيلة الإبداع لدى متذوقه وقارئه ومبدعه على حد السواء.

ولتتخذ الحياة صورها المتعددة على مدار قصصه القصيرة التي تخطت حاجز المائتي قصة قصيرة، تنوعت مضامينها واختلفت؛ لتصب في مجرى نهر الحياة، وتساير إيقاعها من منظورها الخاص والعام، المادي والمعنوي، الرمزي والفلسفي على حد السواء.

هوامش :

( 1 ) روايات الهلال ـ العدد 479 ـ عدد خاص بمناسبة حصوله على جائزة نوبل للآداب 1988 ـ ص 8

( 2 ) بنية القصة القصيرة عند نجيب محفوظ ـ محمد السيد محمد إبراهيم ـ كتابات نقدية ـ قصور الثقافة 2004

( 3 ) المرجع السابق .. ص 35

( 4 ) هكذا تكلم نجيب محفوظ ” محاورات ” ـ عبد العال الحمامصي ـ قصور الثقافة ـ طبعة ثانية 2006

( 5 ) المرجع السابق .. ص 160

محمود أحمد حسانين

(الصنايعي القراري)

يقول المثل الشعبي المصري” شغل القراري معاك ولو اكل عشاك” وهنا إشارة للصنايعي الماهر الحذق في صنعته, وان كانت ضريبة عمله لديك ان يأخذ ضعف ثمن ما انجزه.

الخلود لا يحتاج انفجار, أو دوى لطلقات نيران, لكي يخلدك التاريخ تحتاج فقط لقلم أو قيثار, انه الإبداع الخالد أبدا, في هذه السطور نجد صوت يأتي من أعماق التاريخ يقول:

” أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهى الحضارة الإسلامية. ولعلى لست في حاجة إلى تعريف بأي من الحضارتين”
وكأنه صوت يتردد من أعماق التاريخ يتلوا للأجيال سفر الفن والإبداع, انه صوت الخلود الذي يردد كلمات خالدة لكاتب من العظماء انه الكاتب العالمي نجيب محفوظ.

تمر ذكرى رحيل الكاتب الكبير نجيب محفوظ, وفى وفي كل عام تتجدد هذه الذكرى, ويتجدد الأمل لدى قراء هذا الأب الروحي, ليفاجئوا بان العم نجيب مازل حيا, يتنفس رحيقهم ويكمل سيرته بأصداء عالية, من وقت قريب جدا تعاقدت دار الشروق على طباعة أصداء جديدة للسيرة الذاتية لم تنشر من قبل, فيأتي نداء من التاريخ إلى الخالدين, وإلى كل من امسك بالقلم يوما ما استعدادا لكتابة شيء ما, أن تكتب وتكون مسئولا عن ما كتبت, أو أن تقرأ ما يكتب باهتمام حتى تكون أهل لمسؤولية الكتابة يوما ما, ستحتاج من بين ألف مؤلف أو كاتب واحد فقط, يدرك قيمة الإبداع, الكاتب الكبير نجيب محفوظ كان من أهم من صاغ الحرف, كاتب في مستوى قائد حرب, كان يخوض معاركة بقلمه صاغ بهذا القلم اختصار لحيوات البشر في هذا الكون, أول من رصد العولمة في مفهوم الأدب, فأن العولمة لم تقتصر فقط على البعد المالي والاقتصادي, بل تعدت ذلك إلى بعد حيوي ثقافي, متمثل في مجموع التقاليد والمعتقدات والقيم, التي قدمها نجيب محفوظ في بضع صفحات مثلت ملاحم وسير شعبية, فلقد كان كاتبنا أول عربي يحصل على جائزة عالمية, وهى جائزة “نوبل” في الأدب, قال في الخطاب الذي صاغه مؤكدا انتماءه, ” قدر لي يا سادة أن أولد في حضن هاتين الحضارتين, وأن أرضع لبانهما وأتغذى على أدبهما وفنونهما. ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة, ومن وحى ذلك كله بالإضافة إلى شجوني الخاصة, ندت عنى كلمات, أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم الموقرة فتوجت اجتهادي بجائزة نوبل الكبرى, فالشكر أقدمه لها باسمي وباسم البناة العظام الراحلين من مؤسسي الحضارتين”

 كان العالم من حوله يدور في فلك الخيال والتكنولوجيا, وكان هو يجدف بمجداف الثقافة, ومجداف الهوية, لخص مفهوم العولمة, في الحارة وأبطالها, جعل منها متخايل لقوى الكون, خير وشر, خيال وواقع, كل من قرأ له تذوق نكهة الفن الإبداعي, كل إنسان يرى فى كتاباته انه بطل من أبطاله, هو نفسه كان أهم أبطال أعماله, كان أهم ما يميز كاتبنا الكبير  أن الجميع أمامه سواء, مهما علت رتبه أو نزلت, في العمل التاريخي يربط بين واقعين المنهج والسلوك لدى الأشخاص, ويستثنى من ذلك  الحقب المتفاوتة ولا اعتقد أن المبدع في مهرب من الولوج إلى  الاعتبارات دينية /عقائدية في التقييم, بل يكون التقييم بحيادية بعيداً عن التوجهات والانتماءات, والناس ما اختلفوا في رجل غير ذي بال، وإنما كان الاختلاف على من أثاروا فيهم دوافع الفكر، وبواعث إعمال العقل بما قالوه، وبما أتوه من فعال, وكاتبنا الكبير من اكثر المبدعين اللذين صوروا التأثر بشخصيات العظماء, كالقادة السياسيين أو المفكرين والثوار والقادة الشعبين بحيادية, كما تحدث أيضا في نص خطابه قائلا:

” أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصا؟ ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف, وكما أنه يعايش السعداء فأنه لا يتخلى عن التعساء. ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره

حرفوش الكتابة:

حينما يصير المبدع كالشمعة تضيء لغيرها، ويظل رغم المعوقات في خروج عمله إلى النور, يجاهد بما يمتلكه من حرفية, كانه شمعة في جو عاصف, تقاوم ما يحيط بها, لتظل تضيء وتخبو، كذلك المبدع يخرج ثمار تجاربه, وعصارة عقله, التي لخصها من تأمل في الواقع, وبين دفتي الكتب, وضوء عينيه, الذي اخذ يخبو حتى كاد أن يختفي, لكي يخرج لنا ما رأته ورصدته عيناه, في سطور لها معاني ومغزى، هذا الأديب الذي صور الحياة من مختلف الزوايا, ورصد الأشياء من وراء الحجب, هذا الأديب المبدع في سطوره.

الحرفوش نجيب محفوظ نجده قد استطاع في الكتابة الروائية, أن يصنع الخلطة لمزيج أدبي متكامل إلى حد جميل, كأن الكاتب ينضج روايته بهدوء, حتى إن اللحظات التي استعجلها كانت قليلة, كأنه يعد فنجان قهوة أثير لديه, ولتخرج رواياته لم تخل بالقوام المتماسك للبناء الروائي, الكاتب مزج في رواياته السحرية الواقعية والمتخايل في عالم مواز, الرواية عند نجيب محفوظ تحلل الصراع الإنساني بشكل فني, لم يجعل أيا من أطراف الصراع الإنساني يطغي على الأخر.

المتخايل في كتاباته:

المتخايل في السرد لديه, يتقطر بكل تلقائية, لتجذبك إلى عالمها السحري بكل انسيابية, الواقعية للصراع الإنساني لإثبات الوجود, صورا قدمها في أعمال له, فكانت تنساب بسلسة, كأنها شيئا لم يكن عائش بيننا يومًا, الكلاسيكية “التلقائية الشعبيوية” كانت تتعامل بكل قوتها مع أبطال أعماله كأنها الهواء, الذي يمد أفراد الكوكب بحياتهم, كانت كتاباته تتناسق وتتلاحم رغم زخم الأحداث في بعضها, والتي قد تجعل فيه فجوات, لكنها كانت تتلاشي, بمجرد أن تلتهم عيناك أول كلمات في الفصل الذي يليه.

حساسية المتلقي:

تجذبك أحداث روايته إلى الدهشة, والولوج عبر التفاعل الحسي, وتدلف بك إلى عوالم شتى, كما هو الحال في الثلاثية, والحرافيش, أولاد حارتنا, اللص والكلاب, تجده يعزف على وتر المشاعر والعطف الإنساني؛ ما بين حاله تتلبس الكثير من البشر في النوازل, الفقد الحيرة, الاستدراك, الذكريات, ومشاعر البشر تجاه الأخر, والتي تعامل معها الكاتب بحذر, تدفعك كل الرواية من ما سبق إلى التهام الأحداث, وتجذبك بلهفة لاستدراجك دون وعى إلى منطقتها.

رشاقة الكتابة:

تنتقل الكتابة لدي نجيب محفوظ, بين حدث إلى آخر في مرونة, و هذا أهم ما يميز كتاباته, يجمع في الحدث عدة أطراف, ويلقى به في عالم السرد, دون النظر إلى الكم, بل يكون تركيزه على الكيف, فهو بارع ومحنك في تنقية النصوص من كل العوالق التي قد تلحق بها, كالصنايعي “القراري” ولقد استطاع أن يوظف النصوص, لتكون ناقدًا لأوضاع الحياة المحيطة به, ولقد تناول وجهة نظر الإنسان في تلك المرحلة من القرن الفائت, من خلال منظوره للأشياء والمواجهات, ومن خلال تعايشه وانغماسه, في محيط تواجده المستمر في حياة الحارة, فقد جعل من رحلة الهروب من الذات إلى الحياة, أيقونة للحيرة, فدائما يبحث بطله عن أي طريق ليسلكه, للعودة مرة أخرى, عندما يتحول الوطن/ الإنسان, إلى خائف من مجهول لا صنيع له فيه.

الزمكان:

الزمان والمكان, جعلهما نجيب محفوظ, كالإنسان يحتمي من نيران الدنيا, برفات المغريات والأمل في مستقبل مجهول, يتحول ويعود إلى سابقه, يجاذب القارئ للحنين لكليهما, ويجذبه مسحورا إلى عالمهما, يتركه للتمني في الحياة, يجعل من القارئ منصفا وشاهدا على زمان ومكان الحدث, ثم يجعله توءم لروحه, ليحلق معه في الأمنيات, السيرة الذاتية مثلا للبطل-عاشور- في رواية الحرافيش, تخص اغلب الشرائح في الحارة المصرية, في مطلع القرن العشرين, يتقلب البطل في طرق الحياة, جعل منه مدرس جغرافيا يشرح على خريطة موضوعة فوق السبورة, معالم الكرة الأرضية, يلخصها في الزمان-المكان, مهما اختلف واقعهم, لم يجعل لك الكاتب جانبا إلا وقد تطرق إليه, حتى انه قد كان مباشرًا, في وصف بعض الأحداث, التي قد تصنع فجوة بلغتها, بينك وبين الربط, بالانسيابية التي تسحبك إلى الغوص في أعماق الرواية من جديد. وكل ذلك هو خليط المفهوم الدلالي للنص, غير أن النص يتجلى وينجلي بألعابه السردية من طبيعة كاتبه.

العالمية الأدبية:

فالتأمل قليلا نص ما كتبه نجيب محفوظ في خطابه للأكاديمية السويدية المانحة لجائزة نوبل:

قدر لي يا سادة أن أولد في حضن هاتين الحضارتين وأن أرضع لبنها وأغذى على آدابها وفنونها ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة ومن وحى ذلك كله بالإضافة إلى شئوني الخاصة ندت عنى كلمات أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم الموقرة فتوجت اجتهادي بجائزة نوبل الكبرى“.

سادتي لعلكم تتساءلون عن هذا الرجل القادم من العالم الثالث وكيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص، فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون والمجاعات والحرمان من أي حق من حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر، لكن من حسن الحظ أن الفن كريم وعطوف فكما أنه يعايش السعداء فإنه لا يتخلى عن التعساء، ويهب لكل فريق وسيلة للتعبير عما يجيش في صدره“.

اعتقد بعد ذلك أن العالمية هي أن تجعل عملك ينطلق في الأفاق, رغما عن الجميع ليحلق في أرجاء الكون, تتلقفه الأيد, وتخترقه العيون فيحرقها تشويقًا, الكثير من الكتاب يكون مهموما بعد صدور عمله, بالشهرة, وان يستجدي السبل لها, وهناك من يكون تركيزه على جوائز بعينها, وقليل من يشغله أمر ترجمة عمله, وهناك أيضا من لا يهتم إلا بما يكتب, واعتقد أن نجيب محفوظ كان من هذا الصنف الأخير, حياته معروفة للجميع, طريقته في الكتابة أيضا جلية للكل, نحن نعترف لنجيب محفوظ بمزاجية الكتابة الجيدة, هو من جعل من فن الرواية الذي يختلف على نسبه, بان يكون عربيًا مؤصلا,  لقد جعل من رواياته, أيقونة لفن السرد الروائي, هو صاحب السبق في طغيان الرواية على اغلب الفنون, جعل منها فتوة الصنف الأدبي.

ففي سنة “1943 حصل على جائزة قوت القلوب الدمرداشية, وجائزة وزارة المعارف”1944” وجائزة مجمع اللغة العربية”1946” وجائزة الدولة التقديرية في الآداب”1968” وسام الجمهورية من الطبقة الأولى”1972” وفي سنة “1988” توج كل ذلك حيث حاز نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأدب, وبعدها حصل على قلادة النيل العظمى”1988” كما حاز على جائزة كفافيس”2004“.

هذا إلى جانب أن ما صاغه بيديه, جعل صورته تعلق في كل قلوب العالم العربي, فقد كان متفائلا يحب الحياة فقد علق أيضا بقوله:

اليوم يجب أن تتغير الرؤية من جذورها, واليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته, وشعوره بالمسئولية نحو البشرية جميعا, وما العالم الثالث والمتقدم إلا أسرة واحدة، باسم العالم الثالث لا تكونوا متفرجين على مآسينا“.

ثم يقول:

” رغم كل ما يجرى حولنا, فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية, لا أقول مع الفيلسوف, إن الخير سينتصر في العالم الآخر!, فإنه يحرز نصرا كل يوم, بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير”

ـــــــــــــــــــــــــ

منير عتيبة

(عن نجيب محفوظ)

كنت فى الحادية عشرة من عمرى عندما أقنعت أحد أصدقائى بالمساهمة معى فى ثمن كتاب لنجيب محفوظ الذى لم أكن قرأت له شيئا وإن كنت أعرف اسمه جيدا من الصحف والتليفزيون، كان ذلك قبل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل بثمانى سنوات، وكانت رواية الطريق التى فتحت لى الطريق إلى عالم هذا الكاتب، فقد حرصت على قراءة كل كتاب له يمكن أن أحصل عليه، بالاستعارة أو بالشراء، وبعد حصوله على جائزة نوبل التى جعلته فى مصاف الشخصيات الشعبية المشهورة كأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وجمال عبد الناصر؛ بثلاث سنوات قابلته فى مقهى ديليس بالإسكندرية لأجرى معه حوارا لمجلة الشباب التى كنت قد بدأت مراسلتها فى تلك الفترة، لكنه بتواضع وأدب جم أخبرنى أنه يأتى للإسكندرية للراحة، وأهلا بك فى مكتبى بالأهرام بعد أن ترتب لك “الست كوثر”موعدا، ولم أسأله من هى الست كوثر، لعلها سكرتيرته فى الأهرام أو ما شابه، لكننى لم أكرر محاولة مقابلته، اكتفيت باللقاء به من خلال كتبه وما كتب عنه.

كان نجيب محفوظ فى الثامنة من عمره عندما انتفض الشعب المصرى أول انتفاضة شعبية حقيقة شاملة فى تاريخه الحديث سنة 1919، رأى الطفل الصغير المظاهرات والمصادمات الدموية بين المتظاهرين والإنجليز من شرفة منزله فى ميدان بيت القاضى بحى الجمالية الذى بناه بدر الجمالى أحد القواد الفاطميين، وشاهد مظاهرات النساء الشعبيات بالملاءات اللف، فقبل ثمانى سنوات من هذه الثورة التى أثرت بعمق فى شخصية وأدب نجيب محفوظ، مساء 11 ديمسبر 1911، كانت زوجة عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا تعانى حالة ولادة متعثرة، لم تستطع “الداية” فعل شئ إلا الاستنجاد بالزوج، الذى أسرع أحد أصدقاؤه بإحضار الدكتور نجيب محفوظ، وهو الذى أصبح من أشهر أطباء النساء والتوليد فى العالم، فأصر الأب على أن يسمى وليده باسم الدكتور القبطى الشهير. كان نجيب محفوظ أصغر الأبناء، لكنه عاش مع أبيه وأمه كأنه طفل وحيد، لأن الفارق الزمنى بينه وبين أصغر إخوته كان لا يقل عن عشر سنوات، وكانوا كلهم رجالا ونساء قد تزوجوا وغادروا بيت العائلة، إلا أصغرهم الذى التحق بالكلية الحربية، ثم عمل بالسودان بعد تحرجه مباشرة، لذلك كانت علاقته بأمه علاقة وطيدة، وكان تأثيرها فيه عميقا، بعكس والده الذى كان طوال الوقت فى عمله خارج البيت، وكان صموتا لا يتحدث كثيرا داخل البيت، يصف والدته بأنها:”سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ومع ذلك كانت مخزنا للثقافة الشعبية.. وكانت تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار.. والغريب أن والدتى أيضا كانت دائمة التردد على المتحف المصرى وتحب قضاء أغلب الوقت فى حجرة المومياوات.. ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية خاصة دير مارجرجس.. وكنت عندما أسألها عن حبها للحسين ومارجرجس فى نفس الوقت تقول “كلهم بركة” وتعتبرهم “سلسلة واحدة”.. والحقيقة أننى تأثرت بهذا التسامح الجميل لأن الشعب المصرى لم يعرف التعصب، وهذه هى روح الإسلام الحقيقية”.

كان والده موظفا، “لم يكن من هواة القراءة، والكتاب الوحيد الذى قرأه بعد القرآن الكريم هو “حديث عيسى بن هشام” لأن مؤلفه المويلحى كان صديقا له” وعندما أحيل إلى المعاش عمل فى مصنع للنحاس يملكه أحد أصدقائه.

التحق نجيب محفوظ بالكتاب وهو صغير جدا ليتخلص أهل البيت من شقاوته، لكنه عندما أصبح تلميذا بالابتدائية لم يكن والده بحاجة إلى حثه على المذاكرة، لأنه كان مجتهدا بالفعل ومن الأوائل دائما، أما أولى المحطات الفاصلة فى حياته فكانت حصوله على شهادة “البكالوريا” التى تؤهله لدخول الجامعة، كان والده يرى أن أهم وظيفتين فى مصر هما وكيل النيابة والطبيب، لذلك أصر على التحاق ابنه بكلية الطب أو كلية الحقوق، وكان أصدقاؤه مع هذا الرأى من حيث أن نجيب محفوظ كان متفوقا فى المواد العلمية، وكان ينجح بصعوبة فى المواد الأدبية كالجغرافيا والتاريخ واللغتين الإنجليزية والفرنسية، والمادة الأدبية الوحيدة التى تفوق فيها كانت هى اللغة العربية، وكان نجاحه فى البكالوريا عام 1930 بمجموع 60% وترتيبه العشرين على المدرسة، وكان هذا المجموع يلحقه بكلية الحقوق مجانا، لكنه اختار لنفسه كلية الآداب قسم الفلسفة.

نمت علاقة نجيب محفوظ بالأدب من خلال قراءته للعقاد وطه حسين وسلامة موسى وتوفيق الحكيم والشيخ مصطفى عبد الرازق الذى درس له الفلسفة الإسلامية فى كلية الآداب وكان يظنه قبطيا، وسير ريدر هجارد وتشارلس جارفس وجيمس بيكى وتوماس مان وسارتر وكامى وبيكيت وبروست وأناتول فرانس وهربرت ريد الذى كان يكتب فى مجال الفن التشكيلى، وجولزورثى وتولستوى، بالإضافة إلى قراءاته فى الأدب الإغريقى، وبعد تخرجه سنة 1934 كان نجيب محفوظ مرشحا لبعثة لدراسة الفلسفة فى فرنسا، لكنه حُرم منها، لأن اسمه القبطى أوحى بوفديته، وكانت الحرب ضد حزب الوفد على أشدها فى تلك الفترة، مما حسم صراعا كبيرا كان يدور فى نفس نجيب محفوظ بين الفلسفة والأدب، فحسم الأمر لصالح التفرغ للأدب.

التحق نجيب محفوظ بالسلك الحكومى فعمل سكرتيرا برلمانيا بوزارة الأوقاف من 1938 إلى 1945، ثم عمل بمكتبة الغورى بالأزهر، ثم مديرا لمؤسسة القرض الحسن بوزارة الأوقاف حتى عام 1954، فمديرا لمكتب وزير الإرشاد، ثم مديرا للرقابة على المصنفات الفنية، وفى عام 1960 عمل مديرا عاما لمؤسسة دعم السينما، فمستشارا للمؤسسة العامة للسينما والإذاعة والتليفزيون، ومنذ عام 1966 حتى 1971 وهو عام إحالته إلى التقاعد عمل رئيسا لمجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما، وبعدها انضم للعمل كاتبا بمؤسسة الأهرام.

بدأ نجيب محفوظ يكتب المقالات وهو فى التاسعة عشرة من عمره، ونشر أول قصصه القصيرة “ثمن الضعف” بالمجلة الجديدة الأسبوعية يوم 3 أغسطس 1934، لكنه انطلاقا من روح ثورة 1919 خطط لمشروعه الأدبى الكبير، وهو إعادة كتابة التاريخ الفرعونى بشكل روائى، وكتب بالفعل ثلاث روايات فى هذا الاتجاه وهى: عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة. لكنه توقف بعد ذلك وأعاد دراسة مشروعه، لم يغير الفكرة الرئيسية فى المشروع وهى كتابة التاريخ المصرى، لكنه غير الفترة الزمنية، فقرر كتابة التاريخ المعاصر روائيا، وكان طبيعيا أن يختار المدينة التى يعرفها، القاهرة، والمكان الذى يعيش فيه، الحارة، والطبقة التى ينتمى إليها، المتوسطة، وبدأ هذا الاتجاه برواية خان الخليلى.

لم تكن رواية خان الخليلى نقطة فاصلة فى أدب نجيب محفوظ من حيث الفترة الزمنية التى تدور فيها الرواية فقط، بل من حيث الأسلوب والاتجاه الأدبى أيضا، فقد تابع محفوظ التيارات الفنية الحديثة فى أوربا فى ذلك الوقت، وأهمها تيار الوعى، لكنه عندما بدأ يكتب اختار الاتجاه الواقعى، لأنه “بالنسبة لى، وللواقع الذى أعبر عنه، لم يكن قد عولج معالجة واقعية بعد حتى أقدم على استخدام الأساليب الأدبية الحديثة التى كنت أقرأ عنها وقتئذ، كيف أغوص إلى واقع لم يوصف فى ظاهره، ولم ترصد علاقاته”، فقد كان نجيب محفوظ يؤمن بحرية الفنان فى الاختيار، ويرى أن تقليد الحديث كتقليد القديم هو أمر قاتل للفنان، وقد بلغت المرحلة الواقعية لدى نجيب محفوظ قمة نضجها مع ثلاثيته الشهيرة: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، التى انتهى من كتابتها سنة 1954 ثم توقف بعدها عدة سنوات عن الكتابة، واتجه إلى كتابة السيناريوهات للسينما، لأنه شعر بأنه قال كل ما لديه، وليس لديه جديد يضيفه، لكنه عاد سنة 1959 لينشر رواية أولاد حارتنا، التى بدأ بها مرحلة فنية جديدة فى حياته يمكن أن نسميها الواقعية الرمزية، وهى الرواية التى أحدثت ضجة كبيرة ومنعت من النشر فى مصر وكانت أهم أسباب محاولة اغتياله فيما بعد. فى هذه المرحلة كان نجيب محفوظ قد وصف الواقع ورصد ظواهره واستنفذ كل ما يمكن أن تمنحه له الواقعية، فبدأ يستبطن القضايا الإنسانية الكبرى، والقضايا الاجتماعية والسياسية المشكلة، الدين، العدالة الاجتماعية، الحرية، المساواة إلخ، دون أن يخرج من عالمه المكانى الأثير والذى يعرفه جيدا؛ الحارة، فاستخدم المكونات الأساسية فى الحارة وعلاقاتها الاجتماعية ليلقى عليها بأفكاره ورموزه وأحلامه ومعاناته، وفى نفس هذه المرحلة وضح اتجاهه فى كتابة الرواية التى تنتقد الأوضاع السياسية والاجتماعية القائمة، تجلى هذا فى ميرامار وثرثرة على النيل، كما نرى اهتمامه بالبحث الروائى فى مسألة الدين والاعتقاد، نرى ذلك فى الطريق والشحاذ على سبيل المثال.

كان الوطن بالمعنى الكبير للكلمة، والإنسان المصرى، الشاغل الأول لنجيب محفوظ، لأن “روح نهضة مصر ودوافع الوطنية يشكلان الإطار المعنوى للإنتاج الفنى عند هذا الفنان” كما يقول د.عزت قرنى فى كتابه “فعل الإبداع الفنى عند نجيب محفوظ”.

الحياة المديدة التى عاشها نجيب محفوظ، وإنتاجه الضخم، يجعلان الكتابة عنه من أصعب ما يكون، إذ أنه لا يمكن إدعاء الإحاطه بكل جوانبه فى مقال أو كتاب، وهو الذى تناقش رسائل الماجستير والدكتوراه حول بعض ملامح أدبه. ومع ذلك فهناك ملامح أساسية لأدب نجيب محفوظ فيما أرى؛ كالمكان الذى يلعب دور البطل فى كل أعماله بمختلف مراحلها الفنية، والمكان الأثير لدى نجيب محفوظ هو الحارة، كما يقول جمال الغيطانى”لم أر إنسانا ارتبط بمكان نشأته الأولى مثل نجيب محفوظ، عاش فى الجمالية إثنى عشر عاما، هى الأعوام الأولى من عمره، ثم انتقل إلى العباسية، لكنه ظل مشدودا إلى الحوارى والأزقة والأقبية، إلى الحسين، إلى الجمالية، إلى الناس الذين عرفهم وعرفوه، ثم كان المكان محورا لأهم وأعظم أعماله الأدبية.. تظل الحارة هى محور ما كتبه نجيب محفوظ من أعمال.. غير أن الحارة فى رواياته تتخذ أبعادا أخرى لتصبح ملخصا للعالم كله.. فهو لم يصور الحارة تصويرا فوتوغرافيا سطحيا، إنما يمكن القول أنه استوعب جيدا عناصرها ثم فكها وأعاد ترتيبها من جديد”. نلحظ أهمية المكان لديه بداية من أسماء رواياته التى أخذها من أسماء أحياء القاهرة ومقاهيها، ونلحظ أهمية المكان من تأثيره فى تصرفات الشخصيات الروائية وعلاقاتها بعضها ببعض وتحديد مكانتها وطبقتها الاجتماعية.

الوطن من الملامح البارزة أيضا فى أدب نجيب محفوظ، فهو كأحد أبناء ثورة 1919 مشبع بالانتماء الوطنى وفكرة الوحدة الوطنية، لذلك يمكن أن نؤرخ لمصر سياسيا واجتماعيا وثقافيا من خلال أعمال نجيب محفوظ، فنرى انعكاس صورة مصر منذ تفجر بركان ثورة 1919 حتى الآن، والكاتب هنا لا يدبج القصائد فى حب الوطن، لكنه يقوم بدوره فى فهم ما يحدث ورصده وتحليله محاولا التوصل إلى أسباب الانتصارات والانتكاسات، والمكونات الأساسية لروح الشعب، بما فيها من إيجابى لابد من تنميته، وسلبى لابد من الحد منه، فثورة 19 التى أحيت موات الشعب المصرى تنكسر بتحولها إلى أحزاب متناحرة، وثورة 52 التى حققت أحلام الشعب فى الاستقلال تنطفأ بالديكتاتورية ثم تموت بالنكسة سنة 1967، محاولات النهوض الاجتماعى، والعثرات والسقطات الكبيرة التى عاشها الشعب المصرى، كل ذلك نجد انعكاسه فى أدب نجيب محفوظ من خلال الشخصيات الحية التى يعرضها، الشخصيات المأخوذة بلحمها ودمها من المجتمع المصرى، والموضوعة فى إطارها الحقيقى على الورق، دون تزييف أو مزايدة، فكما يقول رجب سعد السيد “نجح –محفوظ- فى نقل الواقع الاجتماعى المصرى، دون أن يقلد تيارا خارجيا، وإن كان استفاد كثيرا بالتقانيات البنائية للرواية، لقد جعل محفوظ من الرواية سجلا اجتماعيا لمصر الحديثة، إذ نقل بصدق وبدرجة عالية من الفن واقع الوعى المصرى المعاصر وتفاصيل الحياة اليومية الاعتيادية فى حوارى وأزقة القاهرة المعزية” فالكاتب يؤمن بأنه صاحب رسالة وعليه واجب ودور لابد من تأديته وفاء بحق الوطن، كما أدى سعد زغلول والعقاد وطلعت حرب ومختار والنحاس وغيرهم واجبهم، وإلا كان من المقصرين.

المرأة فى حياة وأدب نجيب محفوظ مهمة للغاية، رأينا كيف كان تأثير أمه فيه، ولم يتزوج محفوظ إلا سنة 1954 وهو فى فى الثالثة والأربعين من عمره لأنه كان يخشى أن يعطله الزواج عن التفرغ للأدب، وإن كان قد اعترف باكتشافه لخطأ هذه الفكرة وتأكيده أن العكس هو ما حدث، وفى دراستها “المرأة فى أدب نجيب محفوظ.. مظاهر تطور المرأة فى مصر المعاصرة من خلال روايات نجيب محفوظ 1945-1967” للدكتورة فوزية العشماوى وهو رسالتها للدكتوراه باللغة الفرنسية من جامعة جنيف، والتى ترجمتها بنفسها إلى العربية، تشير إلى الاهتمام المبكر لنجيب محفوظ بالمرأة حيث نشر مقالا فى مجلة السياسة الأسبوعية عام 1930 وهو فى التاسعة عشرة من عمره داعيا إلى تعليم المرأة مع عدم خروجها للعمل بدواوين الحكومة، وتؤكد على أهمية ثلاثة تواريخ فى حياة الشعب المصرى وفى أدب نجيب محفوظ، وهى ثورة 1919 التى يعد محفوظ ابنا لها، والتى بثت فيه الوعى السياسى والاجتماعى، وثورة 1952 التى انتقدها كثيرا فى رواياته، وهزيمة 1967 التى أثرت بشدة فى شخص وأدب نجيب محفوظ سواء فى مضمون رواياته أو شكلها الفنى، اختار نجيب محفوظ نساء رواياته من الطبقة الوسطى، لم يحاول المبالغة أو تجميل الواقع، وكن مطابقات تماما لواقعهن الإجتماعى، وبعضهن كن البطلات الأساسيات اللاتى دارت حولهن أعماله الفنية مثل حميدة فى رواية زقاق المدق ونفيسة فى بداية ونهاية، ومن خلال أولئك البطلات وجه محفوظ نقده لمجتمع ما قبل ثورة يوليو، والذى وصل إلى قمته فى الثلاثية، ثم توقف عن النظر إلى تلك الفترة، بعد انهيار ذلك المجتمع من أساسه بقيام ثورة يوليو 1952، فاتجه إلى نقد مجتمع ما بعد ثورة يوليو، وذلك بعدد من الروايات التى اتخذت منهج النقد الاجتماعى، ومن أهم هذه الروايات اللص والكلاب والسمان الخريف والطريق والشحاذ وثرثرة فوق النيل وميرامار، يحتفى محفوظ بالبطلات غير العاديات، أى البطلات الشاردات اللاتى أجبرتهن ظروف المجتمع وأوضاعه على الانحراف عن خط سير القطيع، فالدكتورة فوزية العشماوى ترى أن محفوظ فى احتفائه بالضالات الشاردات يجتهد أن جعل القارئ لرواياته يتعاطف معهن ويتفهم الظروف التى دفعت بهن إلى الخطيئة، لذلك ترى أن نفيسة هى أفضل نموذج روائى للمرأة المصرية من الطبقة المتوسطة يجسد حياة تلك الطبقة وأزمتها الاقتصادية الطاحنة فى فترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، ويقدم نور بطلة اللص والكلاب كامرأة ملوثة الجسد نقية النفس قلبها من ذهب، أما زهرة بطلة ميرامار فهى امرأة يرمز بها محفوظ إلى مصر كلها. إن نجيب محفوظ يرد على من انتقدوا كثرة وجود المنحرفات فى رواياته بأنهن جزء من الواقع، فهو يعتبر رواياته “حشمة” بالنسبة للواقع “أعرف عن الواقع الاجتماعى حقائق مخيفة.. الحياة الاجتماعية التحتية مرعبة لماذا نتجاهلها” وهو يرى أن “حركة تحرر المرأة هى سمة أساسية من سمات فترات النهضة فى تاريخ الشعوب، فلا يمكن أن تكون هناك نهضة فى المجتمع دون أن تصحبها حركة لتحرر المرأة، وأقرب شاهد على ذلك هو تاريخنا نفسه ابتداء من فترة صدر الإسلام حين كان مكان المرأة جنبا إلى جنب مع الرجل سواء فى الشعر أو فى ساحة القتال، إلى تاريخنا الحديث، فثورة 1919 التى نفخت فى المجتمع رياح التقدم صاحبتها حركة قوية لتحرر المرأة استمرت فى المجتمع حتى الثلاثينيات”.

الدين ملمح مهم من ملامح أدب نجيب محفوظ، بمعنى الدور الذى يلعبه الدين فى صياغة العلاقات الاجتماعية، وتأثيره على تصرفات الشخصيات، وتأثيره على علاقة الإنسان بنفسه وبربه والآخرين، هذا الملمح موجود فى كل رواياته على اختلاف مراحلها الزمنية والفنية، لسبب أساسى وهو أن الدين من أهم العوامل المؤثرة فى حياة المجتمع المصرى، فالناقد ماتتياهو بليد يرى أن البعض يعتبرون محفوظ يساريا لكن الحقيقة أنه أقرب إلى التعاطف مع فكر الإخوان المسلمين، والدليل أن الشيوعى فى الثلاثية تزوج لكنه لم ينجب، ومن أنجب كان الإخوانجى، مما يعنى أن الفكر الشيوعى لا مستقبل له فى مصر بينما سيكون المستقبل للاتجاه الدينى، وقد أكد محفوظ أنه لم يكن واعيا بهذا عند كتابة الثلاثية، مما يعنى أن عمله الروائى كان يستقرئ الواقع ويبنى عليه توقعات المستقبل دون تدخل مباشر من الفنان. فى رأيي أن أزمة الشك الإيمانى تأتى من سبب مهم وهو وضع المعرفة العقلية مقابل الإيمان القلبى، إما هذا أو ذاك، فى حين أن الإنسان كلٌ متكامل، والمعرفة لا حدود لها، ووسائل الوصول إليها متعددة، وهذا ما يصل إليه معظم الشاكين فى النهاية، لأنهم يبدءون من محاولة معرفة غير المحدود بوسائل محدودة، لكن التجربة الروحية العميقة التى يخوضونها تفتح لهم آفاقا أخرى من المعرفة، وقد اعترف نجيب محفوظ أنه مر بهذه المرحلة، وأنه عبر عنها فى روايتى الطريق والشحات.. “مررت بلحظات الشك حين أردت فى مقتبل حياتى أن أخضع عقيدتى للعقل والمنطق والعلم، كانت تلك فترة طويلة وأليمة، لكنى خرجت منها كما خرج الغزالى أى خرجت بقلبى لا بعقلى، خرجت منها باليقين، لكنه يقين الإيمان أما العقل فقد سحبه اليقين وراءه.. ولقد استمرت مرحلة الشك أربع أو خمس سنوات.. ولقد انعكست هذه الفترة فى رواياتى مثل الطريق والشحات حيث محاولة معرفة المطلق معرفة عقلية، وهى محاولة تفشل فى الروايتين، فى الطريق يسعى البطل لمقابلة والده ليتعرف عليه أو ليبادله السلام لكنه لا يصل إليه أبدا رغم شعوره الأكيد بوجوده، أما الشحات فهناك خطوة متقدمة على ذلك هى أن البطل يتنازل عن المطلق حين يشعر به بقلبه، أى يتنازل عن المعرفة العقلية فى مقابل المعرفة القلبية بعد أن يكتشف البطل فى نهاية الرواية أن هناك معرفة أخرى هى المعرفة القلبية”، وقد بدا لى محفوظ متأثرا فى بعض أعماله بفكر عالم الاجتماع الفرنسى أوجست كومت الذى يقسم تطور التفكير البشرى من التفكير البدائي الحسى إلى التفكير الدينى ثم التفكير العلمى، فنرى بطل الرواية ينغمس فى شهوات الجسد، ثم يتحرر منها متجها إلى الإيمان، متطلعا من موقفه هذا إلى العلم، ولعل هذا ما جعل “عرفة” بطل الرواية المشكلة “أولاد حارتنا” يقتل الجبلاوى، تأثرا بفكرة موت الإله فى الفلسفة الغربية الحديثة، لكن محفوظ يشير فى نهاية الرواية إلى أن العالم لا يصلح بعرفه وحده، وكأنه يعود إلى فكرته الأساسية التى نقلناها عنه فى الفقرة السابقة، وقد أثارت هذه الرواية مشاكل عديدة منذ نشرها، ولم تنشر بشكل رسمى فى كتاب فى مصر، ومحفوظ نفسه يرفض الآن نشرها بدون موافقة الأزهر، وقد قرأتها وأنا طالب بالجامعة عندما كان يتم تهريبها من لبنان، ثم قرأت رواية الحرافيش التى أدمنتها لدرجة أننى أعدت قرأتها عدة مرات برغم ضخامة حجمها لأنها فى رأيي درة أعمال محفوظ ولو لم يكتب غيرها لاستحق نوبل بجدارة، أرى أن محفوظ عمد فى أولاد حارتنا إلى إعادة كتابة التاريخ الدينى والفكرى والاجتماعى للإنسانية روائيا، وهو نفس ما فعله فى الحرافيش، لكنه فى أولاد حارتنا اتكأ على مصدر أساسى وربما وحيد هو قصص الأنبياء، وأعاد كتابتها ساحبا إياها إلى الفضاء الروائى الذى يألفه وهو الحارة بكل سماتها المعروفة فى أدبه، ولم يتصرف كثيرا فى القصص التى بين يديه، فبدا وكأنه يضع قصص الأنبياء أمامه ثم يقوم بتغيير أسماء الأشخاص والأماكن لتناسب الحارة، بل إنه عند تغيير الأسماء كان حريصا على اختيار أسماء ذات دلالة واضحة على الأسماء الأصلية، وهذا ما وضعه فى المأزق المعروف الذى أدى إلى محاولة اغتياله، لست بالطبع مع من حاولوا القيام بهذه الجريمة، ولست مع التفسير الذى يدين محفوظ عقائديا لدرجة التكفير، فالرجل هنا كان يقدم محاولة طموحة لعرض تاريخ الفكر الإنسانى فى رواية واحدة، لا أكثر ولا أقل، لكنه فى رأيي الشخصى، وقع فى فخ المباشرة، فخانه الفن، فقدم رواية أرى أنها متوسطة القيمة إذا قيست بأعماله الأخرى وبالذات الحرافيش التى كان فيها فى قمة نضجه الفنى فقوبلت بالحفاوة التى تستحقها دون أن تثار حولها المشاكل، رغم أن موضوعهما واحد فيما أرى، وهذه المباشرة هى التى أعطت الفرصة لمن لا يقرءون الأدب، ولمن لا يفهمون الفن، ولمن لا يتسامحون مع الرأى الآخر أو يردون عليه بالرأى، ولمن يلصقون نقائصهم بالإسلام؛ أن ينقضوا عليه، لذلك نجد عالما جليلا كالشيخ محمد الغزالى يقول:”أدنت محاولة اغتيال محفوظ فى اليوم التالى لوقوعها، أنا ضدها على طول الخط، والمحاولة لا يقرها شرع ولا دين، والإسلام دين السماحة والعقل والتفكير.. الذى يفتى فى الناس لابد وأن يكون من العلماء الذين يعلمون أصول الدين”.

ومن الملامح المهمة فى أدب نجيب محفوظ والمرتبطة باهتمامه بفكرة الدين؛ التجربة الصوفية التى تناولها فى الكثير من أعماله، والتى يرى محمد ناظم العبيدى أنه “توقف عند مظهرها الخارجى ولم يلج تفاصيلها العميقة لأسباب تتعلق بطبيعة التجربة الصوفية ذاتها، لما يكتنفها من غموض تستعصى معه وتستحيل إلى معرفة ذاتية تقصر اللغة عن الإحاطة بدقائقها” فالمنحى الصوفى عند محفوظ “يحتاج إلى بحث ووقفة طويلة تستقرئ مظاهره لما شغله من حيز كبير فى إبداع نجيب محفوظ، ولأنه التجسد الفعلى لسعى الإنسان إلى الحقيقة المطلقة ولجذوره العميقة فى الثقافة العالمية والإسلامية”.

_ نورهان صلاح

 نجيب محفوظ .. من الحكاية للرواية  

.. الكتابة الادبية فن لغوى من خلاله تستطيع ان تعبر بصدق عن قضايا

المجتمع .. عن البشر الذين يسيرون فى الطرقات يحملون حكايات على

اكتافهم المثقلة بالفرح القليل والحزن الكثير .. الرواية هى حكاية صيغت

بشكل ادبى  . وعلى هذا الشكل الادبى ان يتطور ويواكب الحداثة فى

تقنية النص ولغته وما يدخل فيه من اراء الكاتب نفسه فيما يجرى فى

مجتمعه من معضلات سياسية واقتصادية ومجتمعية لأنها تؤثر بطريقة

أو بأخرى فى حياة الانسان ..

 الانسان المحرك الوحيد لعجلة الحياة .

.. هكذا نقلنا نجيب محفوظ  من الحكاية الى الرواية .

من حكايات المنفلوطى وتيمور و المازنى . التى صيغت بلغة جامدة . الى  لغة متحركة بسيطة ومهضومة للقارئ العادى . ومن موضوعات تراثية يغلب عليها الخيال الى موضوعات تفاعلت مع ما يحدث فى المجتمع

وحركته الآنية .

  الرواية المحفوظية هى رصد للواقع وتسجيل ما يجرى فى الحياة المصرية من خلال البيت وافراد العائلة . أو من خلال حياة الفرد المؤثرة فى حركة المجتمع  _  الطريق  _  اللص والكلاب  _  وزقاق المدق

كمثال على رصد حركة الفرد وتأثيرة فى ضمير المجتمع .

ومدى تفاعل المجتمع مع الحدث . لهذا اصبحت الرواية المحفوظية تاريخ خاص وجغرافيا خاصة اهتمت بالمكان والزمان .

 الحارة والشارع والبيت . وتلك الاحياء الشعبية التى تحوى النمازج المصرية بمافيها من حاجة وفقر . وشهامة ونخوة . وخير وشر .. الحرافيش كمثال ..

وصل نجيب محفوظ الى قمة تعبيره  اللغوى فى رواية اللص والكلاب

واستخدم فى هذه الرواية تقنية فى حركة الاحداث غير النمطية التى

اعتاد عليها الكتاب . ونستطيع ان نقول بكل صدق ان الكتابة السريعة التى اسموها فيما بعد بالبرقية التى استخدمت جملا اقرب الى النثر

هى خاصته . وقد تميزت بأحكام الحبكة . وسهولة ايصال المعنى للقارئ

وفلسفة الحوار ووضع اطر جديدة لمهمة الكاتب .. ان يضع رأيا  فيما

يحدث … وماذا يريد ان يقول للناس . ومدى تجاوبه مع المجتمع الذى

يعيش فيه . ثرثرة فوق النيل . وميرمار . كمثال آخر .

نجيب محفوظ  هو مؤسس الرواية العربية الحديثة . لغة وفكرا .

وسيبقى التراث المحفوظى  . حيا فى ضمير الامة . لانه استطاع ان يعبر

عنها ويتفاعل مع الاحداث التى مرت عليها طيلة نص قرن من الزمن

من شخصيات نجيب محفوظ

نساء في الظل

سيد الوكيل

الست أمينة في الثلاثية،  حميدة فى “زقاق المدق”، زهرة فى “ميرامار”، إحسان فى “القاهرة 30″، نور فى “اللص والكلاب”، ونفيسة فى “بداية ونهاية”. نساء حظين بانتباه قراء نجيب محفوظ، على الرغم من أنهن لا يمتلكن أكثر من بعدهن المباشر، هناك أخريات في المقابل يحظين بمستويات رمزية ودلالية متعددة، تجعلهن أكثر ثراء في سياق التأويل. وظني أن وجودهن في أعمال لم تحظ بالشهرة المناسبة، كان سببا في بقائهن في الظل.

الست عين

في الحلم رقم 104من أحلام فترة النقاهة، نقرأ:

” رأيتني في حي العباسية أتجول في رحاب الذكريات، وذكرت بصفة خاصة المرحومة (عين ) فاتصلت بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتي عند السبيل، وهناك رحبتُ بها بقلب مشوق، واقترحت عليها أن نقضي سهرتنا في الفيشاوي كالزمان الأول. وعندما بلغنا المقهى خف إلينا المرحوم المعلم القديم، ورحب بنا، غير أنه عتب علي المرحومة عين طول غيابها، فقالت إن الذي منعها عن الحضور الموت، فلم يقبل هذا الاعتذار، وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة.”

الست عين هي الشخصية الرئيسة في رواية (عصر الحب- 1980م) ويقدمها محفوظ في مفتتح الرواية، فيصفها امرأةً قويةً، لا حدود لإمكانياتها. وعلى الرغم من أن الرواية قصيرة ومكثفة، أو ربما هي قصة طويلة لم يتوقف النقاد أمامها، إلا أنه استدعاها من جديد في الأحلام. ربما ليضعها في فضاء أكثر تكثيفًا واحتشادًا بالرموز. وكأنما ثمة شيء لم يُشبع في الرواية، أراد التركيز عليه هنا. أراد اختباره وتأكيده بعد كل هذه السنين التي مرت على عصر الحب، لتكتسب بعد رمزيا مركبا، في نص قصير، على قدر كبير من الكثافة.

كان موت الست عين في الرواية ملتبسًا بواقعة غريبة. ففي ليلة القدر دب في جسدها العجوز الواهن نشاط مفاجئ، وراحت تغني بصوت ضعيف ولكنه مثير (يمامة حلوة.. ومنين أجيبها) ثم هتفت: إني أرى الذين ذهبوا ينادونني .. سمعًا وطاعة.. عين قادمة.(15)

عين قادمة: كانت هذه آخر جملة في الرواية، قبل أن يعقب الراوي بالقول: إن الست عين لم تمت.

 هكذا يذكرنا اختفاء الست عين باختفاء عاشور الناجي، أبو الحرافيش وصاحب الحارة. وإذا كانت الحارة عند محفوظ رمز كوني فمعنى هذا أن كلا من عاشور الناجي والست عين اكتسبا قدسية خاصة في وجدان سكان الحارة، وكأنهما آدم وحواء. رمزين روحيين يذوبان في فضاء الحارة. ومن ثم نتوقع ظهورهما في كل وقت، إنهما حلم الفقراء والمهمشين، ونجدة المستضعفين في الأرض.  

  تظهر الست عين في عمل آخر، مختلف، ويفارق زمن كتابة (عصر الحب) بربع قرن تقريبًا. هو ( أحلام فترة النقاهة )  وكأن ثمة استباق في وعي نجيب بحركة الشخصية في الزمن، ومن ثم إمكانية تتبع صفحات جديدة من حياتها على نحو ما يقول عيسى عبيد.

فهل ذهبت للحياة في مكان آخر؟ وما هو؟ هل هو عالم الأحلام؟

ومن هم الذين ينادونها؟ هل من بينهم (محفوظ) الذي استقبلها في حلمه بقلب مشوق؟ كيف يمكن فهم هذا الارتباط الوثيق في الوعي بالزمن بين عملين كتبا في زمنين متباعدين؟ هل هو استباق في الزمن؟ وكأن محفوظًا وقت كتابته للرواية، يستشعر إنه سيعود للنظر إليها في نص آخر.

أم هو الشوق الذي عاش في قلب محفوظ؟ فراح يخفق بشخصياته التي خلقها. ثم أسكنها جنة الأحلام، حيث الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة. هكذا يبدو الحلم يوتوبيا، ونبوءة بحياة أبدية لا يموت فيها المؤلف ولا شخصياته.

كأن الحلم، يجيب عن السؤال الذي شغل سكان الحارة عما إذا كانت الست عين ماتت أم لا. الست عين لا تعرف الحدود حقًا، يمكنها أن تقهر الموت، وتؤسس عصر الحب في مكان آخر بلا شيخوخة أو مرض، مكان حاضر أبدًا وبلا غياب. مكان يتأهب له نجيب محفوظ في شيخوخته وبحضور المعلم القديم.

 محفوظ يكتب الأحلام، ويلتقي فيها بالمحبين الذين ينتظرونه في أماكنهم الحبيبة إلى قلبه. وظني أن السؤال عما إذا كانت هذه الشخصيات حقيقية أم من وحي خيالة كالشخصيات الروائية، هو سؤال عبثي، ففي الأحلام تتلاشى المسافة بين الذاتي والموضوعي.كما تتلاشى بين الحقيقة والخيال. فنحن نعيش الحلم كأنه واقع يحدق الآن، وعندما نفيق منه، نعيد قراءة واقعنا المعاش ونفهم معطايته عبر وعينا بعلامات الحلم. وكأن الحلم هو الحقيقة الغائبة لا الواقع.

على مستوى تقني، يستحضر نجيب محفوظ الراوي الشعبي ليصبح شخصية مضمرة في عصر الحب، الراوي الشعبي يكشف لنا عن البعد الأسطوري في حياة الست عين ومماتها. يستطيع الراوي الشعبي أن يحكي عن عوالم الغيب، إنه لا يخضع لقوانين الواقع، ولا لقوانين السرد ومنطقه، ولا لقوانين الزمان والمكان، فالنص الشعبي، هو نص جمعي، مرجعه الوجدان، ومادته المخيلة. إنه مثل الست عين بلا حدود، لأنه صوت الزمن الهامس في الضمير الجمعي. إنه يمثل المعنى الأسطوري المفارق للواقع المعاش، الواقع المنشغل بهموم الحياة اليومية. واقع الأسطورة قديم وغامض، موجود وسارٍ في التاريخ الإنساني كجينات يمكنها أن تتحور ولكنها لا تموت، بهذا المعنى حصلت الست عين على أكسير الحياة، الذي فشل (جلال صاحب الجلالة) في الحرافيش أن يحصل عليه. لننظر كيف يعرّف لنا محفوظ الراوي الشعبي في عصر الحب، يقول محفوظ عن الراوي الشعبي:

 “لعله خلاصة أصوات مهموسة أو مرتفعة، تحركها رغبة جامحة في تخليد بعض الذكريات، يحدوها ولع بالحكمة والموعظة وتستأسرها عواطف الفرح والأحزان، ووجدان مأساوي دفين، وعذوبة أحلام يعتقد أنها تحققت ذات يوم. إنه في الواقع تراث منسوج من تاريخ ملائكي ينبع صدقه من درجة حرارته وعمق أشواقه، ويتجسد بفضل خيال أمين يهفو إلى غزو الفضاء رغم تعثر قدميه فوق الأرض..” (16)

في الشاهد السابق ينبغي ألا يشغلنا جمال اللغة وتحليقها المجازي عن المعنى الإيماني الذي يمنح الإنسان اليقين بتحقيق المعجزات.. إنه غامض وغير متعين، ولكنه نسيج قوي من تاريخ ملائكي صادق، ومهما تجاهلناه يلح ويهفو ويعاود الظهور ليصبح تمثيلاً حيويًا لأسطورة العود الأبدي، حيث لا شيء يموت. ربما نحتاج أن نلتفت أكثر إلى الثقل القدري الذي يعانيه الإنسان في واقعه المعاش، ومن ثم تأتي فكرة العود الأبدي كما وصفها نيتشه، بمثابة وعد بالخلود، تعويض نفسي للإنسان عن معاناته في الواقع. ما لا يمكن تحقيقه في الواقع، يمكن تحقيقه في الحكايات والأساطير والأحلام، أنفاقنا السرية المؤدية للخلود، وعبر شبكة الأنفاق السرية تلك، تتواصل شخصيات نجيب محفوظ، وتتنقل من قصة إلى رواية إلى حلم. حيث لا سلطة للموت ولا يمكنه أن يفرق بين المحبين كما يقول في الحلم رقم 104.

إن حكاية الست عين ليست مجرد حكاية عابرة، ولكنها المعنى الأعمق للوجود الإنساني، رعب العدم، وحلم الخلود، فلا بد من شيء يفسر وجودنا، لا بد من أن يأتي جودو.

نعيمـــة

إنها قصة (الخوف ) من مجموعة قصص  ( فتوة العطوف )

الحكاية تبدأ من حارة (الفرغانة) وهي منطقة وسطى تقع بين حارتي: الحلوجي و دعبس.

الفرغانة!! هل يوحي اسم الحارة، بالخلاء الذي تبدأ منه و تنتهي إليه حكايات فتوات الحرافيش؟

 الفتوات الجدد يبدءون بانتصار على الفتوة القديم في الخلاء، وينتهون بانكسار على يد فتوة جديد في الخلاء أيضًا. ترى إلى أي معنى عبثي تأخذنا دلالة الخلاء بين الميلاد والموت عند نجيب محفوظ؟ وعليه، فهل حارة الفرغانة مجرد مكان فحسب، أم نشعر فيها بعمق الزمان، وبداية التكوين؟

 كان (جعران) هو فتوة حارة الحلوجي، وكان (الأعور) هو فتوة حارة دعبس، فيما كانت الفرغانة بلا فتوة، لهذا عانت الفرغانة وسكانها من صراعات (جعران، والأعور) لفرض سيطرتهما على الفرغانة الخالية من السلطة فيما هي تنعم بالجمال البري ممثلاً في نعيمة، وكانت مسرحًا لمعاركهما، والضحايا دائمًا هم سكان الفرغانة، حتى ظهرت (نعيمة) بائعة الكبدة، فأصبحت موضوعًا لصراعهما. نعيمة.. صبية جميلة ريانة القوام، فأثارت شهوة كل من جعران والأعور. لجمال نعيمة سلطة تثير غرائز الجسد، لكن جعران والأعور يدركان ألا سبيل إلى امتلاك الجمال بالعنف والقوة، فراحا يخطبان ودها ويتناوبان حمايتها من مشاكسات أهل الحارة، ويتوددان إلى أبيها الكفيف المغلوب على أمرة. وخلال هذه الفترة القصيرة نعمت حارة الفرغانة بالسلام ورعاية كل من جعران والأعور  كرامة لعيون نعيمة. لكن هذا لم يدم طويلاً، إذ تقدم كل من: جعران والأعور، بطلب الزواج من نعيمة، فوقع الأب، ووقعت الحارة كلها في حيص بيص، لأن الرد بالموافقة على طلب واحد منهما، يعني رفض الآخر، الذي سوف يجعل من أهل الفرغانة هدفًا مباشرًا لغاراته.

في هذه الأثناء يظهر ضابط البوليس الشاب. وعد أهل الفرغانة أن يخلصهم من الفتوات إلى الأبد. لكن تاريخ أهل الحارة مع الخوف، جعلهم حذرين، متوجسين، فوقفوا يشاهدون الضابط الشاب وهو يصرع الفتوات واحدًا بعد الآخر، بلا حماس، ولا انحياز لأي من الطرفين، إنه ميراث الخوف.

 سيطر الضابط ليس على الفرغانة فحسب، بل على كل الأراضي المجاورة، حتى بلغت خلاء شبرا. إنه -مرة أخرى- انتصار سلطة شابة منظمة وممنهجة، على سلطة تقليدية، عشوائية، نبتت باللانتخاب الطبيعي، ثم شاخت بطغيان الزمن. فبدأ سكان الفرغانة يشعرون بالامتنان للضابط الشاب الذي خلصهم من الخوف. لكن الخوف هو قدر سكان الفرغانة.

 في خلاء شبرا، رأى الناس الضابط الشاب يختلي بنعيمة الجميلة. كانت قد وقعت في غرامه، كأي امرأة تبهرها القوة ويثيرها الشباب، حتى عندما اكتشفت استغلاله لجسدها، لم تتمكن من الخلاص منه. عانت نعيمة قهرًا مضاعفًا، بين ابتزاز الضابط لها، وغمزات وتلسينات أهل الفرغانة عليها. هنا ينبثق معنى جديد لسلطة قديمة، سلطة القيم والتقاليد الاجتماعية التي لم يجرؤ الفتوات أنفسهم على المساس بها، بل تظاهروا بحمايتها، وعقاب كل من يتجرأ بالخروج عليها، فحتى الفتوات يعرفون أن الخروج على قيم الجماعة الشعبية، يعني الخروج من الجماعة الشعبية نفسها. ففي رواية الحرافيش، بدأت نهاية الفتوة (حسونة السبع) عندما اخترق قوانين الجماعة الشعبية

ومن جديد يعود الخوف لحارة الفرغانة. وقفت الحارة عاجزة عن الدفاع عن قيمها، وبدلًا من مواجهة الضابط، وجهت غضبها نحو نعيمة. لنقرأ هذا الوصف البديع الذي يجسد المعنى المركب لمشاعر نعيمة بالخوف:” وانتبهت نعيمة إلى الصمت الذي يطوقها والازدراء، وجعلت تتودد إلى هذا وذاك لتختبر شكوكها فارتطمت بجدار من الحنق. ولم تخش اعتداء عليها، وفتوة الفتوات قائم بمجلسه أمام النقطة، ولكنها عانت وحدة غريبة. ورفعت رأسها في استكبار ولكن نظرة عينيها العسليتين خلت من الروح كورقة ذابلة. ولأقل احتكاك عابر كانت تنفجر غاضبة وتمسك بالتلابيب. وتسب وتلعن  وتصيح في وجه ضحيتها: أنا أشرف من أمك. وتربع الضابط على الكرسي الخيزران يدخن النارجيلة ويمد ساقيه حتى منتصف الطريق وقد امتلأ جسمه وانتفخ كرشه وتجلت في عينيه نظرة متعالية، ولكن خمد حماسه حتى بدا أن نعيمة نفسها لم توقظ مشاعره، والذين لم ينسوا فضله رغم كل شيء تنهدوا قائلين: المكتوب مكتوب” 

هكذا، تتقلب القصة، بين معاني مختلفة للسلطة، لتؤكد المعنى العميق للخوف الذي يحكم الإنسان. وحيرته، بين آليات الترغيب والترهيب، التي تستخدمها كل السلطات. وتظل الجملة الأخيرة: المكتوب مكتوب. تعكس عجز الإنسان وتسليمه بقدره، وتحيل في نفس الوقت، إلى معنى ميتافيزيقي للسلطة، سنراه في رواية (قلب الليل) أكثر تركيزًا. فالتحرر من الخوف، لا يكون إلا بكسر وهم السلطة بالخروج عليها. كخروج جعفر الراوي على سلطة الجد في قلب الليل، أو خروج الحرافيش بالنبابيت، لمواجهة (حسونة السبع) ورجالة. أما قصة الخوف، فقد اكتفت بالنظر إلى معنى الخوف، وتأمله من زوايا عدة. نظرة مجهرية لفحص وتحليل معنى عميقًا في مسيرة الوجود الإنساني على الأرض ومرافقًا للطغيان. لننظر كيف ذبل شباب وجمال نعيمة تحت سطوة الخوف الذي يحاصرها في عيون سكان الفرغانة، كيف للجمال أن يحيا تحت الخوف!! يقول محفوظ:” لم تعد نعيمة تمكث في العطفة إلا أقصر وقت ممكن ثم تسرح في الأحياء ولا تعود إلا مع الليل. ولأنها دائمًا مكفهرة ومتوثبة للشجار، فقد قست ملامحها وبردت نظرتها وطبعت بطابع الجفاف فركضت الشيخوخة نحوها بلا رحمة”.  ولم يكن من قبيل المصادفة أن ينهى محفوظ هذه القصة العجيبة بسطر مستقل عن الصمت كمظهر للخوف، وهو يصور الضابط في مجلس الفتوة، أمام النقطة، بكرشه المنتفخ، على الكرسي الخيزران، يدخن النارجيلة “وفي لحظات الصمت ترتفع قرقرة النارجيلة في العطفة الخابية الضوء كسلسلة من الضحكات الساخرة“. 

كان الخوف يضحك ويعربد بين جوانب الفرغانة.

أما بعد .. رواية مصطفى بيومي

 الأستاذ مصطفى بيومي من أبرز المثقفين المعاصرين الذين كتبوا عن نجيب محفوظ ، وله كبير هو معجم لشخصيات نجيب محفوظ ، يعتبر مهما للباحثين. ولعل آخر إصداراته عن نجيب محفوظ هو رواية (أما بعد) الاحكام عن هيئة الكتاب سلسلة (إبداعات قصصية) وبناء الرواية يوافق البناء المعجمي الذي انتهجه محفوظ نفسه في رواية (حديث الصباح والمساء) تسرد تحولات كل شخصية في رواية (حديث الصباح والمساء). استقامتها ومن ثم فهو عبارة عن ملف افتراضي. هذه الطريقة في الكتابة يمكن تسميتها نصا على نص.

ما يمكن استخلاصه من هذا العمل ( أما بعد ) هو اتنباه مصطفى بيومي إلى أن طاقة الشخصية عند محفوظ بلا حدود، يمكن استثمارها سرديا، وتطويرها، لنحظى بأبعاد أكبر كثيرا مما نطن. إنها المثافة المضمرة التي ربما لا ننتبه لها اثناء الانهماك في القراءة.

 ننشر من هذا الكتاب واحدة من أهم شخصيات نجيب محفوظ ( عيسى الدباغ) بطل  ( السمان والخريف ) على الرغم من أنها لم تحظ بنفس شهرة السيد أحمد عبد الجواد أو محجوب عبد الدايم، أو الجبلاوي..أو كمال عبد الجواد الذي قيل أنه نجيب محفوظ نفسه.

عيسى الدباغ – 1989

مصطفى بيومي

شخصية عيسى الدباغ

بعد اللقاء القصير العاصف الصادم مع ريري وابنته التي لا تعرفه ، تتجهم الإسكندرية في عيني عيسى الدباغ ، ويضيق به تمثال سعد زغلول. كانت صورة جميلة لا تنتسب إليك ، وزوج عقيم تزداد بدانة وترهلا وقبحا كل يوم ، وابن عم يصعد فجأة إلى القمة بسرعة الصاروخ ويخلفك وحيدا منبوذا في القاع بسرعة.

يعود عيسى إلى القاهرة متشبثا بالبطالة والفراغ، فاقدا الشهية للعمل والاندماج في المجتمع الجديد الغريب الذي يهرول بلا رحمة بعيدا عن ماضيه. يلتقي بأصدقاء الزمن المندثر فلا يجد في مجلسهم متعة وسلوى، ويعز الإشباع والتحقق. ينازعه الشوق إلى المائدة الخضراء وتحولاتها وقفشاتها وما يصاحبها من مرح، لكنه يقاوم شهوته بشراسة حتى لا يتورط في خسائر فادحة تعصف باستقراره المادي، ويقول لنفسه ساخرا إنه من القلة سيئة الحظ في اللعب والحب معا.

الحياة مع قدرية وأمها جحيم لا يُطاق، وهمساتهما الساخطة المتذمرة تصل إليه فلا يبالي بها ويتجنب الصدام والشجار. ينفق ساعات اليوم الطويل في اللاشيء، ويطالع الصحف المتشابهة الماسخة كأنه يتابع أخبار كوكب بعيد لا يعرف أحدا من ساكنيه. يقبل بشراهة على الطعام الدسم والويسكي فينتفخ ويزداد وزنه بصورة لافتة، ولا يتفاعل الأصدقاء مع تعليقاته اللاذعة فيبدأ بدوره في التراجع وإيثار الصمت.

تمر به الأحداث التاريخية بلا اهتمام، ولا شيء من التحولات الخطيرة يثير حماس وفضوله ويدفعه إلى المتابعة. لم تكن تجربة الوحدة المصرية السورية عنده إلا انفعالا عاطفيا غير محسوب، والانفصال السريع نتيجة منطقية للاندفاع وغياب النضج. بعد القرارات الاشتراكية وطوفان التأميم وفرض الحراسات، يتنبأ بانهيار بقايا الاقتصاد المصري خلال عشر سنوات.

في الشهور الأولى من حرب اليمن، يستشهد ابن شقيقته فيختلط الهمان الذاتي والموضوعي. ضابط شاب في النصف الأول من عشرينيات عمره، وانهيار أخته يمزق قلبه فيغمره الشعور المدمر بالعجز وعبثية كلمات العزاء التقليدية التي لا يملك غيرها. في سرادق العزاء، يلتقي مع ابن عمه حسن بعد انقطاع طويل، ويتأمل كاظما غيظه مظاهر العظمة والأبهة التي تحيط به. يوشك على الانفجار عندما يستمع إليه يلقى قبل المغادرة خطبة إنشائية ملونة قبيحة، عن التضحية والواجب وأمجاد القومية العربية، كأنه في مؤتمر سياسي ينظمه الاتحاد الاشتراكي، التنظيم المضحك الذي يشغل مركزا قياديا في قمته.

قرب نهاية شهر مايو 1967، بعد سنوات من مخاصمة الإسكندرية وتجنب زيارتها، يشتعل حنين عارم في أعماق عيسى لرؤية ابنته التي لا تعرفه. يحاصره الأرق، ويستيقظ مبكرا على غير عادته. يحلم في القطار بملامح مراهقة جميلة تقترب من معانقة الأنوثة، ولعلها تحمل خليطا من ريري وأمه وكبرى شقيقاته. لا يجد أحدا في المكان الذي يتغير نشاطه ويديره شاب غريب لا يعرفه، ومنه يتلقى خبر موت زوج ريري في السجن، وزواجها بعد شهور من موته. تسافر مع زوجها المدرس إلى ليبيا، مصطحبة من كان يتوق إلى رؤيتها واحتضانها وتقبيل وجنتيها.

يستقبل عيسى ما يُقال له في استسلام من يدرك أن تحولات كهذه لا تمثل مفاجأة صاعقة غير متوقعة، ويسير طويلا قرب البحر يشكو همومه، قبل أن يعود إلى القاهرة قرب منتصف الليل مرهقا محبطا يائسا فيدب شجار عنيف مع قدرية، ينتهي بسباب وصفعات وركلات تنهال على الزوجة البدينة المزعجة، ولا تملك أمها إلا أن تنكمش ذعرا وتبكي، قبل السقوط في إغماء طويل.

**

لا تحتمل العجوز التي تستوطنها أمراض شتى قسوة الاعتداء على ابنتها، ولا يمهلها الحزن والشعور بالقهر إلا أياما. تموت في الأول من يونيه، ومنذ اللحظة الأولى لا يخفى عيسى سعادته بالميراث الضخم الذي يئول إلى قدرية وإليه بالتبعية، ولم يكن يعلم أن الأخبار السعيدة سوف تنهمر تباعا.

في الخامس من يونيه تبدأ الحرب المفضية إلى هزيمة تنعش روحه، وتنبئ باقتراب نهاية الغمة. في اليوم الأخير من الشهر نفسه تلحق قدرية بأمها، ويصعد عيسى بموتها المفاجئ غير المتوقع إلى قمة الثراء. كل شيء في قبضته بعقود بيع صحيحة موثقة لا تحتمل الطعن والتشكيك: ثلاث عمارات وخمسون فدانا ورصيد مشترك في البنك يتجاوز المئة ألف جنيه. تكتمل السعادة بالخبر الأعظم الذي يشفي غليله، وهل من فرحة تفوق سقوط ابن عمه حسن الدباغ وتناثر الإشاعات عن اقتراب محاكمته بتهم الفساد والتربح واستغلال النفوذ وإهدار المال العام؟.

مهزلة ادعاء التنحي والمظاهرات المرتبة التي تطالب بعودة عبدالناصر، بدلا من محاكمته، تستفز عيسى وتشعل غضبه. يجتمع بالأصدقاء في شرفة بيته، التي تخلو في الليلة الصيفية القائظة من نسمة هواء، ويتساءل في حدة تختلط بالسعادة:

-لماذا لا ينتحر ليعلن عن ندمه ويثبت وطنيته؟

يشيرون إليه في خوف أن يصمت، وعندئذ يصب كوبا جديدا من زجاجة البيرة الثالثة، ويشرب منتشيا مستمتعا بحرية مزدوجة لم يذق متعتها من قبل: حياة تخلو من قدرية وعبدالناصر معا.

شهور ما بعد الهزيمة حافلة بالأحداث المثيرة: انتحار المشير عامر والمحاكمات الهزيلة ومظاهرات الاحتجاج، لكن الأمل يتلاشى في سقوط النظام القوي المتماسك. يعود الإيقاع القديم بوجوه جديدة، وتتردد الشعارات الماسخة فارغة المضمون مثل: “إزالة آثار العدوان” و”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. عند صدور بيان 30 مارس يجد فيه عيسى عملية نصب تاريخية لخداع البسطاء ومغازلة أحلامهم المستحيلة، ولا أمل يراوده في عودة الوفد واستعادة المجد الضائع. ينصب الطموح كله على سقوط النظام، وليكن بعده ما يكون.

لا موضع لجلال الموت وهيبته وما يحيط به من تسامح عند موت عبدالناصر، وتغمر الفرحة قلب عيسى كمن يفيق من كابوس طويل يوقن أنه بلا نهاية. لا يؤمل خيرا في السادات، ويجد في معركته مع على صبري ومجموعته صراعا منطقيا مبررا حول الاستحواذ على السلطة والانفراد بها. قمع المظاهرات الطلابية في قسوة دموية يؤكد أن السادات امتداد لعبدالناصر، لكن الوفدي المأزوم يشعر بشيء من السعادة عند الاستماع إلى بيان عبور قناة السويس في السادس من أكتوبر. قلبه مع الوطن الجريح المهزوم، وعقله ضد النظام، والحياة الشخصية تعيسة قوامها الخواء. الثروة الطائلة تغنيه عن التفكير في العمل، ومبدأ الزواج مرفوض لا يقبل المناقشة. اليوم طويل ممل، والخطى بطيئة متعثرة بفعل الترهل والبدانة المفرطة. يتحمس أحيانا لاتباع نظام غذائي يعود به إلى الاعتدال، ويتراجع سريعا. لا شيء يملأ الفراغ إلا الصحف والمجلات والراديو والتليفزيون والقليل من الكتب الخفيفة سهلة الهضم، وتمر أيام متتالية لا يرتفع فيها رنين التليفون، ولا يطرق أحد بابه.

**

تفاؤل حذر بما يتردد عن الاتجاه إلى التعددية الحزبية عبر بوابة المنابر داخل الاتحاد الاشتراكي، وينتهي الأمر بثلاثة أحزاب لا يجد نفسه في أي منها. عندما تلوح بوادر عودة الوفد، يرتد عيسى شابا في غمضة عين. ابن الخامسة والخمسين ينفض غبار الزمن عن روحه، ويهرول لمقابلة فؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج وغيرهما من زملاء ورموز، وسرعان ما تتحطم الأحلام الوليدة بالإجراءات التعسفية المضادة، وصولا إلى قرار التجميد.

يعود الوفد عملاقا فيحكمون الحصار حوله ليموت في المهد، ويبوخ حماس عيسى فيلوذ مجددا بأحضان الاكتئاب والوحدة. معاهدة السلام مع إسرائيل لا تروقه، وتزعجه التداعيات المرعبة المتلاحقة جراء ما يسمونه بالفتنة الطائفية. الوفد وحده من يملك المعادلة الذهبية لتحقيق التوازن في المجتمع المصري، والسادات في نهاية الأمر ليس إلا رجلا عسكريا جاهلا لا يؤمن بالديمقراطية. على مشارف عامه الستين، عند بداية حملة الاعتقالات في سبتمبر، يبدو عيسى خائفا مذعورا. الآلة الجهنمية للدولة الفاشلة تنطلق عشوائيا بلا ضوابط، تدهس وتنكل، فمن يضمن له النجاة من العاصفة؟.

من مقعده الوثير أمام شاشة التليفزيون، يتابع اغتيال السادات المحاط بجيشه وغروره. يعى عيسى أن قتل الرئيس على هذا النحو لا يعني تغييرا إيجابيا، ولابد أن النظام البديل سيكون شرسا مسرفا في القمع. الجماعات الإسلامية المسلحة المتطرفة، صنائع السادات وقاتلوه، كابوس جديد يتمزق معه الوطن الذي يبدأ رحلة الضياع منذ يوليو 1952.

العمر يقترب من نهايته، والأحداث الدموية تدفع عيسى إلى التقوقع ملتحفا بالحزن الثقيل، متخوفا من حرب أهلية تعود بمصر إلى ما كانت عليه بعد هزيمة الثورة العرابية. فقر واستبداد وغباء، فهل يقود هذا كله إلا إلى الخراب؟.

سنوات من الخواء لا يفعل فيها شيئا إلا أن يأكل وينام ويتثاءب وينتظر اللاشيء، ويشرق بصيص الأمل مع عودة الوفد بحكم قضائي. يفشل في الترشح على قوائمه في الانتخابات البرلمانية، ويلتقي ببعض الزملاء القدامى فيتبادلون الشكوى من هيمنة المستوفدين. المخلصون من أمثاله منبوذون مهملون، والجدد يصعدون ويحتلون المراكز القيادية وهم الذين يجهلون مبادئ وتاريخ الوفد.

**

الأعوام الثلاثة الأخيرة في حياة عيسى هي الأسوأ والأعظم ركودا ورتابة وإرهاقا. يعتل القلب من فرط البدانة والتطرف في الطعام والشراب، ويرحل الأصدقاء والشقيقات تباعا فيتحول الحزن إلى مفردة شائعة مستقرة في إيقاعه اليومي. لا يزور ولا يُزار، أما الشقة فلا يغادرها إلا مرة واحدة على الأكثر كل أسبوع. يستأجر سيارة تطوف به أحياء وشوارع غريبة لا يتعرف على معالمها، وذات صباح شتوي دافئ يشير إلى التاكسي ويركب. يسأله السائق عن مقصده، فإذا به يجيب:

-إسكندرية يا أسطى.

في ساعات الرحلة الطويلة يستعيد شريط حياته، ويقول لنفسه في أسى إن السنوات الثلاثين الأولى حافلة بالنشاط والأحلام والحب والمسئوليات الجسام في الوزارة والحزب، ولا شيء بعد ذلك إلا العقم والركود والحركة البطيئة القاتلة في اللامكان، لا يتقدم خطوة ولا يتأخر.

مع الوصول إلى الإسكندرية، ينتشي بإطلالة البحر الذي لم يره منذ الزيارة الأخيرة قبل أيام من هزيمة يونيه. من يدري؟. قد تقع المعجزة الخارقة. يصادف ريري بصحبة ابنته التي لا تعرفه، لكن المعجزة لا تقع.

في طريق العودة، يشتد البرد فيحكم إغلاق سترته الصوفية الثقيلة. يغفو قليلا، ويحاور أباه وأمه وشقيقاته وأصدقاءه، ويستعيد وجه ابن عمه حسن متساءلا عن المصير الذي يئول إليه بعد الخروج من السجن. يتعرض لسباب متنوع مقذع من قدرية وأمها في غفوته القصيرة التي يفيق منها على صوت السائق، يسأله عن العنوان الذي يتوقف عنده وهما على مشارف القاهرة.

يغادر السيارة في مشقة، ويهرول إليه البواب ليعينه في ركوب المصعد. يفتح له باب الشقة، ويقوده إلى غرفة النوم، وتتراكم الأغطية فوقه بلا جدوى. تجتاحه رعشة عنيفة كأنها الحمى، وتمتلئ عيناه بالدموع فيدرك البواب الصعيدي أن أزمة البك نفسية وليست جسدية. يعد له طعاما خفيفا وكوبا من الشاي بالليمون، ويشعل المدفأة الكهربائية فيهيمن اللون الأحمر القاني على الغرفة المعتمة. يمليه عيسى رقم تليفون أمينة ابنة شقيقته الكبرى، وتصل الفتاة بعد دقائق.

**

أمينة هي الأقرب إلى قلبه من أبناء وبنات شقيقاته، والأشبه بأمه في الحنان والعطف والقوة. عانس جميلة في الخامسة والثلاثين، ولا شيء يعيبها ويبرر تعثر الزواج. متعلمة مهذبة موفورة الأنوثة، تعمل في بنك استثماري ذي رواتب ضخمة، أنيقة لبقة خفيفة الظل متوهجة الروح، لكنها مثله يعاندها الحظ وتعانق الوحدة والخواء.

يسقط عيسى في براثن المرض بلا مقاومة، وتلازمه أمينة فتبدد الكثير من وحشتها ووحشته. تعود من البنك قرب العصر فيتناولان الطعام معا ويتبادلان الحديث ويشاهدان التليفزيون. عند الخامسة، تفتح الراديو للاستماع إلى محطة أم كلثوم، ويسعد عيسى بالغناء والصحبة. الفتاة جمة النشاط تتابع مواعيد الأدوية بدقة، وعند الوصول إلى العاشرة يتناول آخر حبيبات اليوم، ويخلد إلى النوم مثل طفل مطيع.

ذات مساء ربيعي تعربد فيه الرياح والرمال خارج الغرفة مغلقة النوافذ بإحكام، تفاتحه أمينة برغبة زميل في البنك أن يتزوجها. تلوح على وجهها علامات الخجل والسعادة، ويهز الخال رأسه معلنا في صمت عن موافقته وسعادته، ويدرك في أعماقه أن الحظ التعيس قدره الذي لا مهرب منه.

يغدق عيسى على ابنة أخته بكرم لا اعتدال فيه، ويتحامل على نفسه ليشارك في حفل الزفاف. عند عقد القران، ينتبه إلى الوثيقة وتاريخ اليوم. تتزوج في الثالث والعشرين من يوليو 1989، فيا لها من مصادفة عبثية مضحكة، كأنه موعود بالهزائم في اليوم الذي تنتهي فيه المسرات.

صباح اليوم التالي، يستيقظ عيسى صارخا من فرط الألم. يشعر أن جبلا عاتيا ثقيلا يقبع فوق صدره ويمزق قلبه. يزحف إلى باب الشقة في مشقة، ويخرج ليستغيث بالبواب. لا يسعفه صوته، وبعد ساعات من موته يعثر البواب على جثته، وفوق الوجه المتجهم مزيج من الغضب والاستياء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتــاب: الدراســات والأبحــاث

حمدى النورج

التحليل البنيوي ووجهات النظر المختلفة في ميرامار

بقلم كاثرين سوان

ترجمة / أشرف دسوقي علي

بالرغم من أن تحليل بنية ما لايمكن أن يمنحنا تحليلا كاملا لعمل أي أدبي مهما كان , فإنه يمكن استخدامه كمنهج للتفسير . ففي كتاب ” القصة , العلامة , الذات , الظاهراتية والبنيوية كمنهج نقدي أدبي ” لروبيرت ديتويلار” , واصفا محاولة البنيوية تحليلها الأدبي”في الكل توجد بنية , العلاقات بين ” الفونيمات ” و الجمل وكل عناصر السياق الأخري , وليس مجرد عناصر متفرقة هي القادرةوحدها علي إنتاج المعني !وبعبارة أخري , فلا يمكن القول بأن دراسة بنية اللغة والعمل ككل يمكن أن يفسر المعني , ولكن يمكن ان يمنحنا فهما لكيفية استنباط المعني

.تمنحنا ميرامار نجيب محفوظ, مثالا لتطبيق التحليل البنيوي, فهي كقصة رئيسة تحكي عبر وجهات نظر مختلفة لأربعة شخصيات, من منظور لغوي,وعبر الأسلوب الذي يستخدمه كل راو, ليكون مغايرا للآخر ينفي تحقق الجميع عبر التباين الثقافي .

فعلي مستوي الحبكة,ورغم تكرار سرد الأحداث تتباين وجهات النظر , عبر تعددية القص ” السرد”,وعبر هذه الأفكار المركزيةمجتمعة تتشكل الصورة الكلية

شريحة من الحياة والمجتمع المصري , من خلال بنسيون ميرامار, وحياة ساكنيهiهنا ومن خلال

في مقاله” البنيوية , العلاماتية , التفكيكية “يناقش ديفيد ريشتار رأي ” سوسيير ” في”مفهوم المترادفات”, ولكي يستجلي هذا المفهوم , فإنه يضرب مثلا , بقائمة في أحد المطاعم تحتوي عدة انواع من الحساء – مختلفة المكونات- لكنها في النهاية تندرج كلها تحت مفهوم ” حساء “!

فالكلمات يمكن أن توجد في نفس الفئة حاملة ظلالا مختلفة تماما في الإشارة لشخصيات مختلفة وخلفية لماتتمتع به الطبقات الاجتماعية, علي سبيل المثال :- عامر وجدي , الرجل الكبير, الصحفي الشهير, يستخدم لغة بليغة وأسلوبا راقيا, يفتتتح الرواية ” بغارة ” شعريةقائلا :- ” هي الإسكندرية أخيرا , قطر الندي , نفثة السحابة البيضاء , فهبط الشعاع المغسول بماء السماء , وقلب الذكريات المبللة بالشهد “, فجوهر الحنين ولبه غارق في الشهد والدموع”!فالكلمات التي اختارها نجيب محفوظ كانت كلمات مثقفة ورومانسية عند وصفه للإسكندرية, مؤكدة لمستواه العلمي, كما أنه يميل إلي حكي الذكريات بشكل متكرر والتي تنعكس عليه هو شخصيا.

سرحان البحيري، صبي ريفي. عائلة محترمة، متعلم تعليما جيدا، يركن إلي الذكريات، ذكريات بريئة وريفية “كل الناس تثير رغباتي الخاصة، رقة شعاع الشمس، والجموع التي رأيتها منتظرة حولي. أتذكر ثانية موسم الجزر في بلدي”. ذلك عكس “حسني علام” ، مالك الأرض غير المتعلم “والذي يعد – من أميته_من الشعوب العليا ، يستخدم كلمات سوقية مثل” فريكيكو “، لامؤاخذة” ، يؤكد – طوال السرد- أميته مما وجهله. من خلال هذا التحليل للغة أخر مختلف الشخصيات في السرد ، يتعرف القارئ على ملامح وشخصية كل راو،.

علاوة على تأسيس شخصية الراوي ، فإنهم يظهرون في لغته ، “حضور الراوي” ، “يظهر حضور الراوي عندما تصنع معه تصوير نفسه” ، ويوضح “شاتمان” الفرق بين الراوي الذي يحكي قصته وعرضها قبل أحد آخر غيره

“. إذا كان بعض المتلقين يشعر بإحساس يساوره , – وبغض النظر عن الوسيط – فإن وجود الراوي لابد أن يستمر , فالراوي , يفعل ذلك بصوت موجه توجها واضحا للمتلق., ومع ذلك , فالراوي الذي يعرض قصته , يكون لديه صعوبة في اقناع القارئ بكونها جزء لاغني عنه من القصة, وعلي الكاتب بذل جهد خاص لإثبات أن هذا السرد الأدبي المتخيل وكأنه ,شئ حقيقي يحدث أمام أعين القارئ, كما يقول ” شاتمان “.

يبدو اختلاف الأصوات وتباينها في الرواية بشكل واضح في أسلوب السرد من البداية ,فقصة عامر وجدي تخبرنا بأنه :- يناجي نفسه بجمال الإسكندرية والتغيرات التي حدثت لصديقته القديمة ” ماريانا ” , متفاخرا أمام القراء, وعندما يدلي برأيه مباشرة في المدينة والشخصيات الاخري, متحدثا إلي قرائه, من خلال جملته :-” حذار من الكسل “مناجيا ذاته المختبئة معلنا ظهورها..

كذلك , سمات حسني علام توضح مهارة الراوي , واستمرارية ” لزماته :- ” فريكيكو ” , و ” لامؤاخذة “بالمثل اثنين آخرين , هما ” منصور باهي “يفترض صوتا واحدا يخاطب الجمهور, بعبارات مثل :- ” أنا بحب طقس الإسكندرية , إنه مناسب جدا لي “.ساردا ما يفكر به أو يشعر به , بدلا من أن يسمح للجمهور بتخيل ذلك , من وجهة نظره .مؤسسا دوره كراو , يحكي, ولا ” يعرض “, ومع ذلك يمضي الكتاب إلي شخصية ” سرحان البحيري “, فالقارئ, يعرف سلفا_ ماقيل مرات ثلاث من قبل_أن السرد سينتهي بموت الراوي نفسه, حيث أن الموتي لايعودون لاستكمال سردهم !.فإنه من المفترض منذ البداية, أن سرحان معروض علي القارئ, هذا الافتراض مدعوم بالطريقة التي يستخدمها سرحان في السرد.أكثر من مسألة التعبير عن الأفكار مباشرة للجمهورلتقديمها بشكل شخصي, ” لم يتم كسرها تماما , اعتقدت ,” تأملات سرحان “, استخدام كلمات ” اعتقدت “, توضح أننا –ببساطة- داخل رأس سرحان!, مشاركة في تأسيس شخصيته!, بدلا من التحدث عنه,تماما , مثل دعم الخلاصة الحتمية للرواة الأربعة:- موت سرحان البحيري ….

بمجرد رسم الشخصيات , يتبين تفرد الخلفيات الثقافية المتباينة لكل راو . وكما يعلن دريدا أن ” الإثنولوجيا, شأنها شأن أي علم, تسفر عن نفسها عبر السياق “, فالبنسبة للنموذج, كما يروي كل شخص قصته الأثيرة, فينشأ شعور الانتماء العرقي! يتحدث عامر وجدي عن شبابه قائلا :-” كانت تلك الأيام , أيام المجد والعمل من أجل استقلال الأمة “!وكان عامر وجدي شخصا في النهاية, محبا لأصدقائه, وإن كان _ في الوقت نفسه _ مهاب الجانب ومتجنب من قبل الأعداء. تجربة عامر وجدي الثقافية بدأت مع الثورة , فهو مثقف, و أكثر الرواة تفتحا للذهن , مما أكسبه مشروعية افتتاح وإغلاق الرواية .ويمكن القول أن منصور الباهي يأتي من نفس الخلفية” انا أعمل في إذاعة الإسكندرية “- يقول لماريانا – صاحبة ميرامار!إنه يعتبر عامر وجدي مثله الأعلي, ويتمني أن يصل إلي نفس المستوي , فهويبدو من البداية,

شخصا متطورا , غامضا , يقلد أفعال عامر

.” .حسني علام بلهجته السوقية, ونظرته المتعالية , كونه أحد ملاك الأراضي المتغطرسين , يتحدث بإزدراء , مع شعوره بالنقص والرفض حيث لم يكمل تعليمه .

مفيش تربية هكذا قالت , والمائة فدان الهامة ” , هذا ما قالته السيدة ذات العيون الزرقاء, وهي تصفق الباب في وجهي وتجلس خلفه !في انتظار القادم المحتمل. يتضح هنا , ليس فقط اتجاهات حسني , إنما أيضا شخصية السيدةالبرجوازية ذات العيون الزرقاء التي رفضته! وبنفس الطريقة,يكشف سرحان البحيري عن جذوره, من خلال إشاراته المتكررة للطبيعة, وخلفيته الثقافية .ففي أول مقابلة له مع زهرة- الخادمة في ميرامار – تلك الهاربة من حفل زواجها في مسقط رأسها الريفي,يقول لها بلهجته وأسلوبه الريفي :_ ” فكرتيني بموسم جني القطن في البلد “, ويتكرر هذا مما يكشف عن جذوره الريفية.ناتج التعلم في أسرة متوسطة. وبذلك , تكشف كل شخصية عن خلفياتها الثقافية ” المعرفية “عبر درجات متفاوتة تتبدي عبر المستوي اللغوي.,.

بالرغم من جدوي دراسة البنية اللغوية في تحليل السمات والمحتوي, إلا أنها ما زالت محدودة , كما يشير

كولر ” إن اللغويات يمكن أن تزودنا “بنظرة عامة, مما يوحي باقتراح للناقد أن يبحث عن الاختلافات والمتناقضات, التي يمكن أن ترتبط الواحدة بالأخري لتنتظم في سياق يخلق حلقات أو أشكال النص, أو تقديم مجموعة من المفاهيم .ومع ذلك , فإن ” كولر “يصف ” المقاربة الثانية “للتحليل البنيوي, بقوله إن دراسة الحبكة لا يعني دراسة طرق ارتباط الجمل بعضها مع بعض كما أن إعادة إنتاج الحبكة لايحتاج جملا ! , كذلك لاتحتاج أو _ ربما_ لليس لديها أي بنية لغوية عميقة بشكل عام .

في ميرامايساهم البناء اللغوي في تطوير كبير للشخصية والثقافة, ولكن تحليل بنية الرواية نفسها هو الذي يظهر تطورها حقيقة ., وكما تخبر وكما تعيد الإخبار من وجهات نظر جديدة . كل راو يستخدم أسلوبا لغويا جديدا , لسرد القصة الأساسية من خلال وجهة نظره , مع أن التحليل اللغوي الدقيق للبنية يمكن أن يعجز عن ذلك !لذا , فتحليل بناء الحبكة , يسمح بهذه المتناقضات بين الرواة .ولقد لاحظ ” كولر “:_أن الحقيقة والحدس المتاحان يشيان بأن القصة يمكن أن تحكي بعدة طرق مع بقائها -القصة نفسها– .

باستخدام أصوات مختلفة للحكي, فإن الأحداث تفضي إلي موت سرحان البحيري, تظهر ميرامار هذه القدرة الفطرية للقراء لإادراك مختلف الروايات لنفس القصة, وبنفس التوقع , سيكونون قادرين علي تفسير تطور السرد بكل ما تحكيه بتفرد

.في مقاله ” أسطورة السوبر مان ” يناقش” أومبيرتو إيكو “قيمة تكرار الحبكة” يلتقط الراوي خيطا من الحدث مرة بعد مرة, كما لو أنه نسي بعض التفاصيل ويعيد كتابتها مرة أخري, بالرغم من اختلاف مرجعية سياق ” إيكو ” نلحظ الدلالة نفسها تنطبق علي ميرامار أيضا , كلما دمج نجيب محفوظ المزيد من المعلومات في الرواية , فإن كل وجهة نظر تكشف جزء من الجريمة . تبدأ الرواية بما يحكيه عامر وجدي, متبوعة في الحال بقصة حسني علام , لا أحد يعرف شيئا عن جريمة قتل سرحان البحيري , اللهم إلا بضع كلمات قالتها ماريانا !. ووجهة النظر الأخري تخص ” منصور الباهي “التي نعرف منها تطور كراهيته لسرحان البحيري, متعقبا إياه بقصد قتله!, المقص الذي نوي استخدامه, ضرب سرحان باعتباره الرجل الآخرالذي سقط مغشيا عليه!يصف منصور باهي الجريمة:-” ركلته في ضلوعه, مرة , مرتين, بقسوة شديدة, كنت أركله بجنون , في كل مكان, حتي سكن غضبي ,

تراجعت قرب السور الحديدي , وقلت في نفسي , لقد أجهزت عليه.وعند هذا الحد كان قراري شديد الوضوح, ومع إعادة سرد قصة سرحان ثانية, نلحظ منعطفا جديدا ,تنتهي محاسبة سرحان كشخص مخمور, يا ئس ولديه ميل للانتحار.يغادر سرحان ممسكا شفرة حلاقة بيده ” أنا أترنح ليس من السكر ولكن من اليأس , حيث لا أمل عندي”, ثم يعود السرد إلي عامر وجدي, الذي يؤكد الانتحار !.ويذكر تقرير تشريح الجثة أن الجريمة تمت باستخدام شفرة حلاقة, وقطع شرايين معصم اليد اليسري, وليس ضربا بالحذاء, وليس كما ادعي القاتل من قبل .وعبر سرد القصة نفسها مرات أربع ,ومن خلال وجهات نظر مختلفة يتعمق الغموض علي مدي الرواية. ومع كل إعادة, نتعرف علي شئ جديد, مما يزيد من التشويق , وإعطاء المزيد من المعلومات عن الشخصيات, ثم العودة إلي عامر وجدي لإنهاء القصة.

في مقاله ” التعددية وخصومها ” يناقش ” واين سي بوث ” قيمة تعدد وجهات النظر في قطعة أدبية” قد تكون كل وجهة نظر -عبر مصطلحاتها- صحيحة تماما, لكنها علي كل حال تظل وجهة نظر ضمن عدة وجهات نظر أخري, لايمكن اختبارها من قبل وجهات النظر الأخري في الواقع , والتي قد تكون خاطئة من أي منظور آخر, وهذا يتجسد من خلال المفهوم السردي عند ” منصور باهي “, الذي كان مقتنعا بأنه ضرب سرحان حتي الموت, مورطا نفسه في جريمة قتل .وبالمثل , كان سرحان يبدو مغيبا , بينما كان منصورقد بدأ في ضربه, وربما لم يكن يعلم أن أحدا قد خطط لقتله!, ومع ذلك لايمكن لهذه الحسابات أن تقف وحدها , عبر الإصرار علي هذا التفسير !فإن وجهات النظر الثلاث مطلوبة لتأسيس سياقا مناسبا .

إن رواية الأحداث عبر العديد من وجهات النظر, ليس مجرد تطورا في سرد قصة ما , في كتابه ” العمل عبر البنيوية ” وتحديدا في مقالات لاستعراض لأدب القرن الناسع عشر والعشرين “يناقش ديفيد لودج قيمة التحليل البلاغي “أن الهدف الأساسي من النقد يوضح أن ما يبدو ترهلا أو تفاصيل عشوائية زائدة في الأدب , إنما هو في الحقيقة في استراتيجيات الأدب الواقعي هو مساهمة وظيفية في نمط من الدوافع ذو دلالة موضوعية. إن إعادة حكي القصة عبر العديد من وجهات نظر الرواة,والذي يقودنا لوفاة سرحان البحيري من المؤكد أنه يبدو نوعا من الإسهاب ! ,فالقارئ بداية يعلم ما سيحدث لحسني علام ومنصور باهي,وخصوصا تخطيطات سرحان البحيري, وذلك مع تكرار القصة , تتضح أهمية الوجهات نظر الأربع, أن كل شخصية تفصح عن خلفيتها الثقافية التي أتت من خلالها , ويعلق ” كولر “قائلا :- أن ظاهرة استقراء موضوع ما , تتجلي عبر تكنيكات النص, والتي تحدث” بسبب مقاربتنا لهذا النص , بافتراض أن أي شئ نلاحظه, ربما يكون ذا دلالة كبيرة .ولذلك , فإن الرواة في ميرامار يمثلون أطياف الثقافة المصرية, التي يفترض القارئ صدقها وتمثيلها تمثيلا حقيقيا لأطياف الشعب المصري كله

.يمثل التنوع الثقافي أساسا لمثل هذا السرد , الذي تم بناؤه لغويا , ومن خلال الحبكة أيضا , يمنحنا نجيب محفوظ مادة للتحليل البنيوي, -حيث يكرس الرواة مفهوم التنوع الثقافي في المجتمع المصري, عبر تعدد وتكرار مما- يطور القصة والحس التعددي الجمعي فيكون وفقا لهنري جيمس ” أن السبب الرئيس لكتابة رواية هي

محاولتها لتمثيل الحياة “:وبشكل عام ,تمثل الرواية ,شريحة حياتية بكل التباينات

الشخصية والثقافية والطبقية والحياتية, وعليه فإنه لايمكن اعتبار ميرامار مجرد رواية مصرية , بل هي في الحقيقة رواية ذات صبغة عالميةبما تعنيه الكلمة من معني .

********************************

نجيب يقرأ

زمكـــــان الطريق

(قراءة في روايات نجيب محفوظ)

د. حسين حمودة

(1)

فى روايات نجيب محفوظ، إجمالا، يمكن ملاحظة أن هناك شكلا من أشكال الالتصاق النسبى بالمكان، ونوعا من الضيق المكانى، إلى حدٍّ، فى مقابل اتساع الزمن؛ امتداده ورحابته[ii] (يؤيد هذا المعنى إلحاح هاجس “البيت القديم” في بعض روايات محفوظ، كما تؤكده كثرة تناولات محفوظ لأماكن محددة، مثل: الحارة، الزقاق، البيت.. إلخ، واستكشاف كل منها خلال أزمنة متعددة). ولكن، مع هذا، ففى عدد ملحوظ  بين روايات محفوظ مجموعة من التناولات تنطلق من فكرة “الخروج” من المكان (وأحيانا “الخروج على” المكان)، مما يجسد تجارب متعددة تنبنى على مفهوم “متصل زمن الطريق ومكانه”، أو “زمكان الطريق”، كما تصوره ميخائيل باختين.

*إن روايات مثل (الطريق) 1964، (اللص والكلاب) 1961، و(السمان والخريف) 1962، و(الشحاذ) 1966، و(قلب الليل) 1975، و(رحلة ابن فطومة) 1983 تتمحور، بشكل واضح، حول تنويعات متعددة على “زمكان الطريق”. فى هذه الروايات الست يجاوز هذا الزمكان أشكال حضوره الهامشى، العابر، فى روايات أخرى (ولعل زمكان الطريق حاضر فى أغلب الروايات بشكل عام؛ إذ يندر أن “تجد عملا يستغنى عن تنويع أو آخر على هذا الموضوع”[iii])، بحيث يلوح هذا الزمكان ـ فيما نرى ـ التناول المحورى الذى تتأسس وتشيَّد فيه، وبه، الوقائع الأساسية فى هذه الروايات الست.

(1 ـ 2)

فى زمكان الطريق، كما صاغه ميخائيل باختين، “تتقاطع فى نقطة زمانية ومكانية واحدة الدروب الزمانية والمكانية لمختلف ألوان الناس ـ ممثلى كل الفئات والأوضاع والمعتقدات (…) والأعمار. هنا يمكن أن يلتقى مصادفة [أولئك] الذين تفصل بينهم عادةً المرتبية الاجتماعية أو البعد المكانى”[iv].

 ولزمكان الطريق، الذى يعد موضوعا مهما من موضوعات الأدب، أبعاد متنوعة.

 هناك، من جانب، بعد عيانى (كأن يكون التناول مرتبطا بطريق مكانى فعلى)، حيث يكون الانتقال المكانى واضحا، وقد يكون متصلا “بطريق حياة” ـ بتعبير باختين[v]، إذ يلوح فى انتقال الإنسان عبر المكان شكل من أشكال الارتباط بامتلاء هذا المكان “بمعنى حياتى فعلى”، وباكتساب هذا المكان “علاقة جوهرية بالبطل ومصيره”[vi].

وهناك، من جانب آخر، “الاستعارية الفنية للطريق؛ “طريق الحياة”، “تحول إلى طريق جديد”، “الطريق التاريخى”، إلخ”؛ إذ “إن استعارية الطريق متنوعة ومتعددة المستويات، لكن النابض الأساسى فيها هو جريان الزمن”[vii]، كما أنها تنطلق من أو تمرّ بـ “موطن الرأس (البلد الأليف)”[viii]. وقد خرج أبطال الرواية الرومانتيكية، فيما يرى باختين، إلى “طريق نصف فعلى نصف مجازى”[ix].

وبوجه عام، فزمكان الطريق يمكن أن يكشف عالما ثريا فى العمل الروائى وفى العالم الذى يتمثله ويحيل إليه، بما يجاوز الشخصيات التى تخرج إلى الطريق؛ تبدأ خوضه أو تمضى فيه أو تجتازه. وقد خرج دون كيخوته، كما لاحظ باختين، فى القرن السادس عشر والسابع عشر، “إلى الطريق ليلتقى بإسبانيا كلها”[x].

(1 ـ 3)

هذه الأبعاد المتنوعة لزمكان الطريق قائمة، بتنويعات ثرية، فى روايات نجيب محفوظ الست التى نتوقف عندها هنا، وبعضها قائم ـ بحضور أقل ـ فى روايات أخرى. فشخصيات مثل “حميدة” و”حسين كرشة” فى (زقاق المدق)، ومحجوب عبد الدائم فى (القاهرة الجديدة)، وسماحة بكر الناجى فى (الحرافيش)، مثلا، يمكن تحليلها على أساس من اقترانها بزمكان الطريق؛ إذ تخرج هذه الشخصيات ـ لأسباب مختلفة وبكيفيات متباينة ـ من عوالمها المألوفة، وتقطع طرقا متنوعة إلى عوالم أخرى. ولكننا ـ مع هذه الشخصيات ـ لا نتوقف عند المقابلة بين المكان المألوف وخارجه، أو لا نكون إزاء زمكان الطريق بحيث يغدو محورا أساسيا فى العمل الروائي. أما مع شخصيات مثل: سعيد مهران (رواية “اللص والكلاب”)، عيسى الدباغ (رواية “السمان والخريف”)، صابر الرحيمى (رواية “الطريق”)، عمر الحمزاوى (رواية “الشحاذ”)، جعفر الراوى (رواية “قلب الليل”)، قنديل محمد العنابى (رواية “رحلة ابن فطومة”)، فنحن ـ بالفعل ـ إزاء “زمكانات طريق” مكتملة المعالم تخوضها تلك الشخصيات، وتمثل تناولات مركزية حاضرة بوضوح فى تلك الروايات جميعا، وإن تعددت ملامح هذه الزمكانات واختلفت معالمها وأسباب ارتباطها بهذه الشخصيات وارتباط الشخصيات بها[xi]، بما يصوغ تباينا فى “الطرق” التى تتجسد فى هذه الروايات: طريق البحث، طريق الانتقام، طريق التساؤل، طريق التمرد، طريق الاستكشاف والتعرُّف.. إلخ.

(2)

يتأسس زمكان الطريق فى (اللص والكلاب) مندمجا فى موضوعتين مترابطتين: البحث عن العدالة الغائبة، وعلاقة الفرد والجماعة. ويرتبط هذا الزمكان بالشخص المحورى، سعيد مهران، الذى يبدأ “طريقه” ـ داخل الرواية ـ لا بخروجه من “مكان أليف” وإنما من نقطة انطلاقه، بعد خروجه من السجن[xii]، فردا وحيدا حيال جماعة، لتحقيق عدالة يتصورها، هى فى جوهرها نوع من أنواع القصاص أو الانتقام. من هنا، تتخلل زمكان الطريق فى الرواية مطاردة مزدوجة؛ مهران، من ناحية،  يطارد الذين يريد القصاص أو الانتقام منهم، بسبب خيانتهم، فيجعل من نفسه ـ مستعيدا مفهوما بدائيا قديما لتحقيق العدالة ـ قاضيا وشرطيا وجلادا معا. ثم هو، من ناحية أخرى، مطارَد من قبل الكثيرين، ضحايا وجلادين، حراس عدالة أخرى معترَف بها بقانون قد تخطى أعراف العالم البدائى،  وإن صيغ بعض هؤلاء، حراس تلك العدالة، صياغة لا تخلو من مفارقة، ولا من تساؤل حول المسافة التى اجتازوها، افتراضا، من زمن العدالة “البدائى” إلى زمن عدالتهم “المتحضرة”.

كان سعيد مهران قد خرج من “مكانه الأليف” فيما قبل الزمن الذى تبدأ به الرواية. نعرف ذلك خلال إشارات، على مستوى زمن الوقائع، إلى حياة سابقة عاشها. كان قد تنقل بين أماكن عدة، منها مدينة الطلبة حيث كان يعيش فى كنف أبيه الذى عمل هناك، وكان قد تزوج، وكان قد تحول إلى ذلك “اللص” ـ الذى يشير إليه عنوان الرواية ـ بمباركة “أستاذه” رءوف علوان، ثم كان قد اقتيد إلى السجن الذى خرج منه الأن، فى حاضر الرواية. لم يعد إذن ذلك العالم الأليف أليفا. الرواية تبدأ طريق سعيد مهران الراهن من نقطة تالية لذلك كله، وتومئ عبارتها الأولى: “مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يطاق..” إلى بداية هذا الطريق المقترنة بنوع من العودة إلى نقطة سابقة ـ “مرة أخرى” ـ و”لكن” بعدما كان قد تغير عند هذه النقطة كل أحد وكل شئ: هو نفسه، سعيد مهران، والزمن، والطرقات، والمعنى، والناس، والعلاقة التى تصله ـ أو لا تصله ـ بهم. هاهو قد خرج من سجنه، “هاهى الطرقات تعود (…) هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين.. إلخ”، ولكنه عند خروجه ـ وقد انقطعت روابطه بالجميع ـ لم يجد أحدا ولا شيئا فى انتظاره: “وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد أحدا” (الرواية، ص 7).

لا يرى سعيد مهران فى فعل “خروجه” من السجن انتقالا من عالم إلى عالم آخر جديد، بل ولا حتى عودة إلى عالم سابق بات قديما بالفعل، مرّ وانقضى. فالعالم القديم قد آل إلى خيانة لا تزال حية ماثلة، حاثّة على الغضب دافعة إليه، تجمّد عندها الزمن أو توقف فى نقطة محددة. خروج سعيد مهران من السجن ليس سوى “إياب” إلى تلك النقطة التى انقطع عنها طيلة سنوات أربع “خسرها غدرا” فى السجن. الآن، بهذا الإياب، يستطيع سعيد مهران أن ينطلق فى طريقه؛ الآن، صار بمقدوره أن “يبدأ” من حيث “انتهى” من قبل؛ بات من الممكن أن تكتمل الحركة التى تجمدت وظلت معلقة بين خطوتين متعاقبتين، فعلين متلازمين، تم ـ عسفا ـ الفصل بينهما، طيلة سنوات أربع: الخيانة والقصاص، أو الجريمة وعقابها. بخروجه من السجن بدأ سعيد مهران طريقه، وابتدأت عجلة الزمن ـ التى تعطلت ـ تدور مرة أخرى، فآن ـ فيما يؤكد صوته الداخلى الذى يتداخل وصوت الراوى ـ “للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة” (الرواية، ص 7). وفى هذا الطريق، الغاضب المحرق المنتقم، اللاهث وراء تحقيق عدالته الخاصة المبتغاة، يجب أن ينال العقاب أشخاصا بأعيانهم: زوجه (نبوية) وتابعه (عليش) وأستاذه (رءوف علوان). ولكن فى هذا الطريق، أيضا، مع هؤلاء، يطل وجه آخر مغاير، هو وجه ابنته “سناء”.

سوف يقطع مهران، وصولا إلى هؤلاء جميعا، طرقا عدة، تبدأ من طريق قديم اجتازه مرارا من قبل فى زمن ما قبل الخيانة، وكان مألوفا ولم يعد كذلك؛ هو الطريق الذى يؤدى إلى أكبر خائنيه كما يؤدى إلى ابنته، معا؛ فيه نتانة الخيانة وكدرها المنتشر وفيه أيضا يمكن أن يطالعه ـ وأن يطالع ـ الوجه البريء،  ذلك هو طريق “البواكى العابسة، طريق الملاهى البائدة، الصاعدة إلى غير رفعة.. إلخ” (ص 8). ثم سوف تمر الطرق التى يقطعها مهران بأماكن شتى، فى أوقات متعددة أغلبها يلفها ظلام الليل؛ كلها أماكن مطاردة، وتوحُّد، وانفصال، ونأى، ثم أخيرا موت يبدو تتويجا لرحلة بحث فردى، عبثى، عن عدالة غائبة، تجاوز شروط إقرارها إمكانات كل فرد، فضلا عن فرد مدفوع بغضب أعمى ورغبة محرقة فى الانتقام.

(2 ـ 2)

طريق سعيد مهران هو طريق الفرد المستوحد فى مواجهة الجماعة. يتدعم هذا المعنى ابتداء من عنوان الرواية نفسه، وإن كانت الرواية تجسد ما يشبه الاختبار المثقل بتساؤلات ـ تشارف حدود الشكوك ـ وبتأويلات ممكنة متنوعة، لدلالات هذا العنوان؛ لمعنى “اللصوصية” ولإيحاءات “الكلاب”، معا. فـ”اللص” هنا محض سارق صغير، فى عالم حافل بلصوصية متعددة الأشكال والأحجام، مؤسَّسة على أعراف وقوانين، ومدعومة بقوى عاتية، كلية القدرة. و”الكلاب” ـ بدلالة مفارقة للوفاء الملازم للحيوان المعروف، مفردة تتردد فى الرواية فى سياقات متباينة، تومئ أحيانا إلى الجماعة التى خانت سعيد مهران، أى التى يطاردها هو، ثم تومئ أحيانا أخرى إلى معنى المطاردة التى تضطلع بها الكلاب عادة. فى هذه السياقات المتباينة، تترى الإشارات إلى عدد من الأشخاص: فى مونولوج سعيد مهران حول أستاذه “الخائن” رءوف علوان يقول: “إن يكن فى القصر كلب ـ غير صاحبه ـ فسيملأ الدنيا نباحا” (الرواية، ص 38)، وفى حوار بين سعيد مهران ونور (المومس التى أحبته وبدت “الوفية” الوحيدة له بالرواية)، سيقول لها: “لمَ الإلحاح على حديث القلوب. اسألى الخائنة واسألى الكلاب” (ص 57)، وعن عليش ونبوية ـ تابعه وزوجه الخائنين ـ سيتساءل مهران: “وهى كيف تميل إلى الكلب وتعرض عن الأسد..” (ص 82). ولكن هذا التمثيل يتخطى هؤلاء الأشخاص المتعينين، بأسمائهم، إلى من ـ ثم إلى ما ـ يمثل سندا لهم، بما يجاوز دائرة الانتقام لخيانة ما، محددة ومحدودة، إلى أفق البحث عن العدالة الشاملة المنتفية؛ حيث يطال هذا التمثيل شخصيات أخرى، منها المخبر حسب الله ـ التمثيل الصغير، لكن الواضح، للسلطة ـ الذى يفرض فى حواره مع سعيد الكلام فى “ناحية واحدة” هى ابنته، فيتساءل سعيد بصوت غير معلن: “وزوجتى وأموالى ياجرب الكلاب!” (ص 12). وفى تلاعب بين المستويين، الحقيقى والمجازى، لدلالات الكلاب، سوف يتردد ـ على خلفية من تناول الشواء والشراب ـ بين سعيد ونور،  حوار (باسم من ناحيتها، غير قادر على مجاوزة الإحساس بالمرارة من ناحيته):

“فقال ببساطة:

ـ أكثرية شعبنا لا تخاف اللصوص ولا تكرههم.

وتواصلت خمس دقائق فى التهام الشواء ثم قال:

ـ ولكنهم بالفطرة يكرهون الكلاب..

فقالت باسمة وهى تلعق أناملها:

ـ أنا أحب الكلاب.

ـ لا أعنى هؤلاء” (الرواية، ص 100).

وفى المطاردة الأخيرة من قبل متعقبيه، سوف يفكر سعيد مهران فى “أنهم يتفحصون الآن البدلة [بدلته] وهناك الكلاب” (ص 138)، وسوف تتعقبه فى المقابر الكلاب ـ بالمعنى الحقيقى هذه المرة ـ (وقد “كان يخشى الكلاب” ـ انظر ص 138)، ثم يرد بصوت داخلى على من يطالبه بالتسليم ويعده بأنه سيعامَل بإنسانية: “كإنسانية رءوف ونبوية وعليش والكلاب” (ص 139)، ثم أخيرا، عندما ينهال الرصاص حوله فيخرق أزيزه أذنيه، يصرخ: “ياكلاب” (ص 140).

*خلال إمعان سعيد مهران فى طريق انتقامه، فردا وحيدا فى مواجهة الجماعة، يأتينا عالم الرواية من خلاله هو، أو من خلال الراوى الذى يوازيه وأحيانا يتناوب دوره معه[xiii]؛ فلا نرى هذا العالم ـ بكلمات مباشرة ـ من خلال الجماعة التى يطاردها وتطارده. وعبر هذا الطريق، تتأكد وحدة مهران، خطوة بعد خطوة، كلما قام بمحاولة جديدة من محاولات تحقيق قصاصه، مما يدفع بملامحه، شيئا فشيئا، إلى التوارى خلف هالة ترسمها أدوات تصوغ ـ فى الوقت نفسه ـ معالم أسطورته: مجرما مطلوبا للعدالة (عدالة أخرى غير العدالة التى يتصورها)، قاتلا لأبرياء، خطرا على الجميع (قل أيضا: خطر على المجتمع).

وعبر تنامى وقائع الرواية ـ المتكئة على استخدام “تيار الوعى”[xiv] وعلى تقنيات غير بعيدة عن تقنيات الرواية البوليسية[xv] ـ ثمة قوقعة تطبق، أكثر فأكثر، على سعيد مهران. شيئا فشيئا تتصاعد مكابدته للوحدة (لا يخفف كثيرا من وحدته لقاءاته مع الشيخ على الجنيدى أو مع نور[xvi])، ويتفاقم إحساسه بالمطاردة؛ يود “لو اتصل بالناس ليعرب لهم عما يهز صدره فى الصمت والوحدة (…) إنه وحيد حيال الجميع ولكنهم لا يعلمون، لم يفقهوا بعد حديث الصمت والوحدة” (ص ص 84، 85)، “وتضاعف إحساسه بالمطاردة والوحدة” (ص 93).. إلخ، وشيئا فشيئا تتغيم صورة العالم الذى يراه، وتنكمش وتتضاءل ثم تختفى معالمها، فيغدو هذا العالم محض “كتلة” من “الأعداء” مفعمة “شهوة وخوفا”، ” لن يرتاح لها بال حتى تراه جثة هامدة” (ص 93). ويتصل بهذا دفع سعيد مهران إلى مزيد من الإيغال فى “طريقه” الموحش، الذى يتجسد ـ مكانيا ـ فى “الهامش”: الصحراء والمقابر والخلاء، وكلها أماكن واقعة خارج المدينة التى تضم أعداءه فيمن تضم من الناس. سوف ينأى مهران، كلما أوغل فى طريقه، بعيدا فى ذلك الهامش، يتسلل “وحيدا فى الظلمة، تتربص به المدينة التى تلوح أضواؤها فى الأفق، ويتجرع وحدته حتى الثمالة” (ص 91). وفى ذلك الهامش سوف ينصاع لما تفرضه عليه حياة المطاردة من التحول عن آدميته، يتحرك فى الظلمة مثل “خفاش” (الصفحة السابقة)، أو يجرى مثل “فأر” هاربا من جحر إلى جحر، بينما هناك، بالمدينة، “أعداؤه يمرحون” (ص 7).

لكن الأماكن الهامشية التى يتم دفع سعيد مهران إليها[xvii] (وكلها تبدو خارج العالم المأهول، تكاد تمثل استعادات جديدة لأماكن النفى القديمة فى الكتاب المقدس وفى عالم الشعراء الصعاليك) ـ من ناحية أخرى ـ مصوغة بنوع من التعاطف الذى يستكشف فيها وجها آخر غير وجهها الشائع، وكأنها موازاة مكانية لاستكشاف بعد آخر، من منظور “اللص”، فى أبعاد قضية العدالة الغائبة. فالأماكن التى يلوذ بها مهران، إذ هو بلا مأوى ثم إذ هو فار من العدالة الأخرى التى تطارده: بيت الشيخ على الجنيدى وبيت نور ومقهى طرزان، تنتمى جميعا إلى مواقع نائية عن تجمعات الأحياء: بيت الشيخ فى طريق الجبل، وبيت نور على حافة “القرافة”، ومقهى طرزان بالصحراء. ويقطع مهران إلى هذه الأماكن جميعا طرقا فى الظلام والصمت ـ انظر صفحات: 18 ثم 56، ثم 46 على التوالى). ولكن هذه الأماكن جميعا تستعيد شيئا ما قد فقدته المدينة المأهولة وافتقدته الحياة فيها: البساطة التى ترتد إلى عهد آدم (انظر ص 18)، والهواء النقى المنعش (انظر ص 46)، والسكون الذى تتجاور فيه الحقيقة والسلام والصمت، النطاق الذى تتلاشى فيه الفوارق وتتحقق المساواة (اقرأ أيضا: العدالة) الغائبة؛ حيث يجتمع النجاح والفشل والقاتل والقتيل واللصوص والشرطة معا “لأول ولآخر مرة” (انظر الرواية ص 76).

(2 ـ 3)

إلى جانب ذلك الاستكشاف لأماكن هامشية يلوذ بها مهران، خارج الأماكن المأهولة للجماعة، تستكشف الرواية أيضا بعدا مهما فى عالمه الداخلى الحافل بامتلائه الزمنى الخاص، بالذكريات المستعادة التى تقتحم حاضره وتزيحه؛ كأن هذا الحاضر زمن الجماعة بينما الماضى زمنه هو. تتوارى من هذا الحاضر ـ تقريبا ـ الإحالات التى تصله بزمن مرجع واضح (سوى إشارة واحدة إلى “عيد الثورة”. انظر الرواية ص 9)، ولا يطل مهران على هذا الحاضر إلا من زمن آخر؛ زمن الماضى الذى تشكلت فيه، واكتملت، ملامح الخيانة؛ كأن كل زمن، لسعيد مهران، لا وجود له إذا لم يندرج جزءا من طريقه الذى سلك للقصاص، وكأنه لا يستطيع أن يرى فى حاضره وفى حاضر خائنيه، معا، سوى لحظة واحدة، هى لحظة ترقبه لتحقيق عدالته التى يتوق إلى تحقيقها. يسأله رءوف علوان: “هل فكرت فى المستقبل؟” فيرد: “ـ لم يسمح الماضى بعد بالتفكير فى المستقبل” (ص 34). ويقول له رءوف: “ليس اليوم كالأمس” (ص 35)، ولكنه لا يرى فى هذا القول سوى تعبير عن رغبة الخائن فى الفرار من عدالة لم تعد متجردة عمياء.

حاضر سعيد مهران، إذن، فى طريق انتقامه، ليس سوى انتظار لزمن مرجأ؛ ليس أكثر من ترقب قلق لفعل يجب ـ فيما يتصور ـ أن يرتد بالزمن ويعيد وضعه على مسار كان مقدَّرا له. لا يبدأ حاضر مهران ولن يبدأ، أبدا، إلا من تلك النقطة القديمة التى تنتمى إلى ما قبل الخيانة. لقد صادر ماضى مهران حاضَره، باختصار. من هنا، نشهد ـ من جانب ـ لواذ مهران المتكرر بذلك الزمن القديم خلال استعادات شتى له تحتشد بها صفحات الرواية، ثم نشهد ـ من جانب آخر ـ ركاما من لحظات انتظار ممضّ، متلهف، يعيشها مهران فى الحاضر، بين فعل وآخر من سلسلة ضربات طائشة يقوم بها لتحقيق عدالته. ومن بين هذه اللحظات ستكون تلك المحاكمة المتخيلة التى يعقدها، هو المستوحد، فى غرفة نور؛ إذ يحملق فى الظلام ويخاطب ـ من قفص اتهام يرسمه حوله ـ قضاة ومستشارين سوف يحكمون ـ فى زمن لن يأتى أبدا ـ ببراءته، على الرغم من أن بينهم وبينه، بكلماته، “خصومة شخصية لا شأن لها بالصالح العام” (انظر ص 120).

تختلط الحقيقة بالحلم، ويتحول الحلم إلى كابوس، ويمضى سعيد مهران من ظلام إلى ظلام، من هامش ناء إلى آخر أكثر نأيا، حتى ذاك الموضع الأخير فى الطريق الذى اختار، حيث يقترب منه مطاردوه المسلحون، وحيث يتضاءل ثم ينطفئ الأمل “فى الهروب من الظلام بالجرى فى الظلام” (ص 139). سوف يتكاثف هذا الظلام بعد أن انهمر الرصاص حوله، ولم يعد بإمكانه أن يتساءل إذ “سرعان ما تلاشى التساؤل وموضوعه على السواء”، كما لم يعد بمقدوره أن يستعيد ـ حتى ـ صورة واحدة من ماضيه، إذ لم يعد بمستطاعه أن يظفر “بذكرى” ما، وأخيرا لم يجد “بدّا من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة” (ص 143). لم يعد لسعيد مهران، من الأزمنة والأماكن جميعا، سوى تلك اللحظة الخاطفة فى ذلك الحيز المحدود الخانق. لقد توقف هو، عند تلك النقطة فى طريقه الذى اختار، أو الذى دفع به إليه، كما تجمد وانغلق هذا الطريق، فى لحظة، مرة وإلى الأبد.

(3)

 زمكان الطريق فى (السمان والخريف)، الموصول بتجربة عيسى الدباغ، الشخص المحورى بالرواية، يضعنا إزاء “توحد” من نوع آخر، يبدأ مما بعد الخروج من عالم الأضواء، والمشاركة، والتفاؤل، والعمل، والتحقق، والحياة الرخية الواعدة.. إلخ، إلى نقيض ذلك كله.

خلال العبارات الأولى بالرواية، التى تتحدد زمنيا بحريق القاهرة، ومكانيا بمحطة القطار فيها، يجيل الدباغ بصره، دونما جدوى، بحثا عن أحد بانتظاره (هل هى موازاة للعبارات الأولى فى “اللص والكلاب” إذ لم يجد سعيد مهران وقد خرج من سجنه أحدا بانتظاره؟!). هاهى الخطوة الأولى فى زمكان طريق المستوحد. ليس غياب الجميع، اختفاؤهم، انفضاضهم، مقتصرا على سبب “عارض” مقترن بهذا الحريق المشتعل الآن، سيكون هذا الغياب “معتادا” فى زمن لاحق؛ فالحريق نفسه علامة، زمنية وغير زمنية، على انهيار عالم الدباغ وبزوغ عالم جديد[xviii]، ستتضح معالمه فيما بعد[xix]. وفى هذا العالم الجديد لن يجد الدباغ لنفسه مكانا ولا دورا، بل ـ أكثر من هذا ـ سيجد نفسه مستبعدا، ملفوظا، ثم متهما، مبتور الصلات بأولئك الذين كانوا حوله، مرتبطين به قريبين منه، بمن فيهم خطيبته الجميلة “سلوى” التى سوف يصك أذنه وهو يكلمها صوت إغلاقها سماعة التليفون. وسوف يختار عيسى الدباغ، طريق “الهجرة” أو “الغربة”؛ “النفى” داخل وطنه، إذ يهجر القاهرة، بمن فيها وما فيها، إلى الإسكندرية، منفاه المختار الجديد، فيغدو مطارَدا “بغير مطاردة”، بعد أن “انهارت الأرض تحت قدميه فجأة كأنها نفخة من تراب”، وبعد أن “تقوضت الأركان التى قاومت الدهر ربع قرن من الزمان” (انظر الرواية، ص 54)، وبعد أن بات مستقبله “ماضيا” ـ بكلماته التى يتوصل إليها فى خلاصة يائسة (انظر الرواية، ص 7).

*فى الإسكندرية، المنفى/الموطن الجديد، ثمة مجال رحب لاجترار الماضى، ولمعايشة التوحد، وللاحتماء بأستار الظلام.

هنا، بعد أن تباعد الجميع، وبعدما أصبحت القاهرة “ذكرى مغلفة بالحزن” (ص 79)، يمكن لعيسى أن يجرب “الوحدة ورفقاء الوحدة ـ الراديو والكتاب والأحلام”. وهنا، حيث بات يعيش فى شقة مفروشة صغيرة محاطة بوجوه يونانية، يمكنه أن يجابه غربته الكاملة، أن يحيا “غريبا فى موطن غرباء”، فيخيل إليه أنه هاجر حقا، وينهل من الغربة حتى يسكر؛ أن ينظر بطريقة أخرى لأولئك الذين لم ينتم إليهم أبدا من قبل، أولئك الذين ـ بكلماته: “طالما أسأت بهم الظن أنت اليوم تحبهم أكثر من مواطنيك وتلتمس عندهم العزاء، إذ إن جميعكم غرباء فى بلد غريب” (ص 78). من هذه الشقة اليونانية يمكن للدباغ أن يحدق فى بحر الخريف وأن يرقب تجسيدا حيا لعالمه ولعالم جماعته الذى انهار؛ أن يشهد “أسراب السمان تتهاوى إلى مصير محتوم عقب رحلة شاقة مليئة بالبطولة الخيالية” (ص 78). وفى هذه الشقة اليونانية، حيث “ثمة وحدة حقيقية وقلب نابض” (ص 79)، بمقدور الدباغ أن يستجلب على مهل ـ إلى مكانه وزمنه ـ ذاك العالم الحافل الذى كان ولم يعد. لديه الآن متسع من الوقت لتساؤلات بلا حصر، عن الماضى والحاضر، والأصدقاء الذين تباعدوا أو تلاشوا، وعن “العقد الصفراء” والمال الحرام الذى اغترف منه ما صار رصيدا له فى البنك، وأحلام اليقظة التى “ينتهى فيها العذاب بالانتصار” الذى لم (لا، ولن) يتحقق، وعن افتقاد المعنى فى “تلك الرحلة الشاقة المخضبة بالدماء”، وأيضا عن غياب أى دور له فى مسرحية هذا العالم الصاعد الجديد، بينما “للحجر دور (…) وللحشرة دور، وللمحكوم عليه فى الجبل دور” (ص ص 79، 80).

فى أماكن الإسكندرية، خلال زمن الفراغ الممتد، يعايش عيسى الخواء ويبحث عن سبل لقطع الوقت.. يدخل أول سينما تصادفه، أو يجلس فى مقهى، أو يمضى إلى مجلس “معتم” فى طرقة “التريانون الصغير” (انظر ص95)، أو يتسكع ـ كأنما فى زمن خارج الزمن ـ على الكورنيش، أو يقطع ـ على مهل ـ شارع سعد زغلول “أحب شوارع الإسكندرية إلى نفسه وبخاصة بعد الثورة، إنه شارعه الخاص على وجه ما، ويحب كثيرا أن يقطعه ولو مرة كل يوم جيئة وذهابا ليناجى فيض الذكريات” (ص 88).

سيمضى عيسى الدباغ الخريف بالإسكندرية، سيشهد المدينة التى تنطوى على نفسها “فى غير أيام الصيف” (ص 89)، ويلتقى “ريرى”، فتاة الليل التى ستقيم معه، يلتمس فى جسدها شيئا من السلوى. ولكنه أيضا سوف يشهد “إسكندرية الشتاء المتقلبة كامرأة” (ص 106)، وسوف يتخلص من ريرى فور أن يستشعر أن هناك ما يمكن أن يوثق علاقتهما (يكتشف حملها منه)، وسوف تشتد “وطأة الوحدة عليه فلم يعد يتحمل الرجوع إلى الشقة إلا آخر الليل”. وأخيرا سوف يفجر “جو الأجانب فى نفسه أحلاما بالهجرة الأبدية” (ص 105). ولكنه سوف ينقطع عن هذا كله فجأة، ويعود للقاهرة عندما تصله برقية تنبئه بوفاة أمه.

**عيسى الدباغ، الآن، بالقاهرة التى اختلفت عما كانته، كما اختلف عما كانه، وإن ظل غير قادر على الانفصال عما كانه ولا على نسيان ما كانته.

هاهنا، فى الزمن والمكان، التقى عيسى بعض أصدقاء قدامى، لقاءات بلا مستقبل، وشهد الرقص فى “الأريزونا” مع “حسناوات من أمم شتى” (ص 120)، وتسلى “بتعقب الفتيات فى شوارع القاهرة”، فى رحلات عابثة غامضة وبلا نتائج” (ص 121)، ثم تزوج ـ زيجة هى نوع من الصفقة ـ بامرأة مطلقة ثرية يسافر معها إلى رأس البر، ليقضيا وقتا هناك قبل أن يعودا إلى القاهرة مرة أخرى.

 مر زمن ما. ها هو الآن وقد أصبح “متخم الحواس”، زاد وزنه زيادة ملحوظة، وعاد مرة أخرى يسشعر هجرته وانفصاله. لم يعد يجديه تذكر عالمه القديم الذى تنهال عليه ذكرياته الحزينة (انظر ص 133)، ولم تعد القاهرة ـ مرة أخرى ـ تدافع شعوره بالنفى، بل أصبحت تغذيه. لقد اكتمل منفاه، هنا وهناك وهنالك، فى الإسكندرية والقاهرة ورأس البر؛ لكل “إنسان عمل وهو بلا عمل، ولكل زوج ذرية وهو بلا ذرية. ولكل مواطن مستقر وهو منفى” (ص 147)؛ لم يعد بإمكانه سوى القيام “بدورات هروبية” متكررة معادة، يتسكع خلالها متنقلا من مقهى إلى مقهى، و”زيارات عائلية مملة فى محيط الأسرة”؛ لقد بات “يعانى وحشة ومللا ويتساءل:”إلام تمتد هذه الحياة الكئيبة” (انظر الرواية، ص 147)، وهاهو يتمتم، فى جلسته مع أصدقاء ـ باعتبار ما كان ـ باتوا قدامى وبعيدين وغائبين: “ـ ما أجمل أن نهجر الأرض إلى الأبد”، “الأرض أمست مملة إلى درجة المرض” (انظر ص 150).

استكمالا لهجرته الأبدية، يسافر الدباغ مرة أخرى إلى رأس البر، يعايش تجربة القمار ثم الملل مرة جديدة. ويسافر مرة أخرى إلى الإسكندرية فى الخريف مع زوجه، تمر عليه الأيام فى ضجر، “لم يجن من الشواطئ شبه الخالية إلا الوحشة” (انظر الرواية، ص 164)، يكابد ـ هو المتزوج ـ وطأة الإحساس بالتوحد، ويهيم فى الليل المتأخر “على وجهه طويلا فى الكورنيش ولا ثانى له” (ص 173)، وتتفاقم وحشته إذ يكتشف أنه ضيع فرصة أن يكون أبا حين يرى ريرى ومعها طفلة يعرف أنها ابنته. ولكنهما، ريرى والبنت، كانا قد انتميا إلى رجل آخر، تبنى الطفلة “بأخلاقه فملكها إلى الأبد” كما ملك أمها أيضا (ص 177).

باكتمال التوحد والوحشة لم يعد بإمكان الدباغ إلا أن يتوارى: يتوارى وهو جالس فى الظلام (والظلام حاضر فى الرواية بترديدات متنوعة) يسترق النظر إلى “أسرته الطبيعية” (ص 178)، أو يتوارى وهو قابع فى الظلام تحت تمثال سعد زغلول[xx]. وفى ظلامه وجلسته الأخيرة بالرواية، سوف يكون الدباغ قد وصل إلى نقطة متقدمة، وإن لم يبرح فيها مكانه الأول، فى طريق توحده، هجرته ونفيه. ولكن هذه الجلسة نفسها تلوح وكأنها تومئ إلى منعطف ما فى طريقه الذى اختار. سوف ينتفض الدباغ من جلسته هذه ويمضى وراء شاب ـ هو خصم قديم ـ لا يزال، فى الزمن الراهن، قادرا على أن”ينظر إلى الأمام بوجه مبتسم رغم كل شئ” (ص 182)،  وقد عرض على الدباغ فرصة “لتبادل الرأى”.

نهض الدباغ “ومضى فى طريق الشاب بخطى واسعة تاركا مجلسه الغارق فى الظلام” ـ يقول الراوى فى عبارة الرواية الأخيرة.

هل غادر الدباغ مجلسه الغارق فى الظلام هذه المرة، الآن، فحسب. . أم غادره مرة وإلى الأبد؟[xxi]

هل “طريق الشاب” يمكن أن ينتزع الدباغ من طريق توحده وهجرته ونفيه؟

تتركنا الرواية نقلّب الإجابات!

(4)

وفى رواية (الطريق) ـ لاحظ العنوان ـ يتجسد زمكان آخر، لرحلة ابن يبحث ـ بحثا متعدد المستويات والتأويلات[xxii] ـ عن أب غائب، غامض، غير مؤكَّد الوجود، ليس معروف المكان، ما من شئ معلوم عنه سوى اسمه وصورة قديمة جمعته والأم/الزوجة التى ماتت وأشارت، قبيل موتها، إلى وجوده وإلى زواجهما قبل ثلاثين عاما، مؤكِّدة للابن أن عثوره على هذا الأب يعنى الحصول على “المال” ـ الذى سيبدأ يحتاجه ـ و”الأمل”، كما يعنى الحصول على “الاحترام والكرامة” (انظر الرواية، ص 12 وص 14)، فضلا عن أنه يجنب هذا الابن “طرقا” للعيش ـ بات عليه أن يخوضها أو يختار من بينها ـ كلها محفوفة بالمخاطر، أوـ على الأقل ـ مقرونة بعدم الاستقرار (انظر الرواية، ص  12).

يبدأ صابر طريقه للبحث عن ذلك الأب/الأمل، فينقطع عن مكانه المألوف وعن زمنه الذى عاشه فيه، إذ يرحل من الإسكندرية إلى القاهرة ـ وهى مدينة كبيرة، لم يزرها من قبل ـ حيث كان قد التقى الأب والأم فى ذلك الزمن البعيد رغم أن كلمات الأم ـ قبل موتها ـ كانت واضحة فى غموضها ـ إن صح التعبير: “من قال إنه اليوم فى القاهرة؟، لم لا يكون فى الإسكندرية، أو فى أسيوط، أو فى دمنهور..” (انظر الرواية، ص 14).

*

قبيل سفره للقاهرة، وفى المسافة التى قطعها صابر بين قبر أمه وشقته، كان قد أدرك أن عالمه الذى كان رحبا قد تضاءل وضاق، وإن امتلأ بمفارقة كبيرة (فأمه ـ التى عرفها حية ـ قد ماتت، بينما أبوه ـ الذى تصور، طيلة حياته، أنه قد مات من زمن ـ قد بُعِث إلى الحياة)، كما كان صابر قد وجد نفسه يواجه تساؤلات، قريبة، حول كيف يمكن أن يحيا وقد غدا بلا مورد؟، ويجابه تساؤلا أبعد، أكثر مراوغة: “أين الحقيقة وأين الحلم؟”

لقد أدرك صابر ـ بعد موت أمه، مصدر الدخل والحماية ـ وضعه الراهن الجديد: “المفلس المطارَد بماض ملوث بالدعارة والجريمة” (انظر الرواية، ص 96)، كما أدرك أنه “ابتداء من اليوم سيعرف الحياة على حقيقتها. إنه وحيد بلا مال ولا عمل ولا أهل (…) مطالَب منذ اليوم بتأمين حياته، وهى مسئولية لم يتحملها من قبل” (الرواية، ص ص 6، 7). وفى هذا الوضع الجديد، بوطأته ومفارقته وبإلحاح تساؤلاته وأسئلته، لم يعد صابر يملك سوى ذلك الأمل الذى انبثق فجأة، كأنما فى حلم، وانفتح على أفق مثقل بالاحتمالات، وإن كان هناك، دون تحقيق هذا الأمل، سعى فى طريق غامض، يجب ـ وربما لا مفر من ـ الخروج إليه والمضى فيه.

*إذ يصل صابر إلى القاهرة ينقطع ـ ظاهريا فحسب ـ عن مكانه الأليف وعن زمنه الذى عاشه فيه، عن الإسكندرية وعن ماضيه. سوف يطارده، خارج هذا الانقطاع الظاهرى، زمنه القديم وتلاحقه مشاهد مدينته. إنه، ابتداء من لحظة خروجه إلى الطريق الذى قاده إلى المدينة الغريبة، يتعلق بصره بمدينته بينما “القطار يرج الأرض مبتعدا”؛ يراها “مدينة الأطياف مغروسة فى حلم الخريف تحت مظلة هائلة من السحب” (ص 21). وستلح عليه صور هذه المدينة، وستنسل إلى المشاهد التى سوف يراها فى طريق بحثه الجديد؛ سوف يلمح، فى القاهرة، عمارات النبى دانيال وزرقة البحر، ويستنشق هواء الإسكندرية المعربد العامر بالفتن (انظر الرواية، ص 30)، وسوف يتحرك قلبه حين يشهد سحابة كبيرة من السحب، “زفرة من الإسكندرية”، فوق مبنى دار القضاء العالى (انظر الرواية، ص 110)، وسوف يذكّره أحد مبانى القاهرة بفيللا ثرى يونانى فى الأزاريطة (ص 35)، وسوف يلوذ كثيرا بعالمه الذى تناءى فى المكان، وإن لم يتناء أبدا فى الزمن، فيستعيد ذاك/هذا العالم مرارا بينما يقطع شوارع تلك المدينة الغريبة التى “لا يلقى فيها إلا العناء” (انظر الرواية، ص 55، وانظر أيضا صفحات: 27، 29، 30، 38، 71، 95، 101).

عناء الغريب، فى مدينة غريبة، متعدد الوطأة متنوع الأشكال؛ إشارات الرواية إلى هذا المعنى تشارف حدود الإلحاح: من اللحظة التى وصل فيها للقاهرة “هاله الزحام فى محطة مصر فألح عليه شعوره بالوحدة” (ص 22)، دارت رأسه مع السيارات و”البصات” والعابرين، وسأل عن الاتجاهات (انظر ص 32)، وتأكد لديه أنه يحتاج إلى مرشد ولا أحد له فى هذه المدينة (انظر ص 35)، عرف السير وحيدا، بلا هدف، فى الطرقات والشوارع (انظر ص 46)، وتأكدت له وحدته فى طريقه الذى اختار؛ “تعب البصر من تصفح الوجوه. وشوارع القاهرة الزاخرة بتيارات البشر والسيارات كأمواج البحر فى الأيام العاصفة” (ص 55، ولاحظ مرجعية التشبيه التى ترتد بصابر إلى مكانه الأليف)، وسوف يقول صابر لإلهام، التى يلتقيها فى رحلة بحثه بالقاهرة، ويشعر بميل إليها، ثم يتوزع بينها وبين “كريمة”: “ولكنى وحيد فى المدينة والفراغ يوشك أن يقتلنى” (ص 49، وانظر أيضا ص 71 وص 110).

مع وطأة الإحساس الراهن بالوحدة التى لا يخفف منها اللواذ بذكريات زمن ومكان قديمين أليفين، يمضى صابر فى طريقه، يطرق رأسه أحيانا السؤالُ المحبط: “وماذا بعد الانتظار والجرى وراء المجهول فى الظلام؟” (ص 55)، ولكنه يواصل سيره مستمسكا بالأمل الذى دفعه إلى خوض هذا الطريق، ملتمسا العزاء عند من يلتقى، خصوصا عند “كريمة” و”إلهام”.

كريمة هى المرأة الفاتنة، الخطرة، المغوية، الشابة زوجة العجوز “عم خليل” صاحب الفندق الذى نزل صابر فيه. يقود صابر إليها نداء الشهوة، ثم يقودهما معا نداء القتل. وإلهام هى الموظفة بجريدة “أبو الهول”، التى يتعرف إليها صابر وتتعدد لقاءاتهما، ينجذب لها وللعالم الذى تومئ إليه علاقة محتملة بينهما.

لقد ذهب صابر فى طريق، ثم وصل إلى نقطة ما فيه، ليكتشف أن هذا الطريق ليس واحدا. كريمة وإلهام سمرتاه عند “مفترق طرق” عليه أن يختار من بينها واحدا (“وشد ما يهرب من هذا السؤال المزعج: “من تختار إذا خيرت”، ص812)؛ فثمة اختلافات عدة تبرزها الرواية بين كريمة و إلهام، وهى اختلافات يمكن تأويلها على مستويات عدة تتصل بالشهوة، والعقل، والتسلط، والاستقرار..إلخ، بل يمكن بسبب من تباين هاتين الشخصيتين ملاحظة ما يدعم وضعهما كطرفين متناقضين فى ثنائية واضحة (والرواية نفسها ترجح هذا المعنى: “إلهام سماء صافية يجرى تحتها الأمان وكريمة سماء ملبدة بالغيوم تنذر بالرعد والبرق.. إلخ”، ص 81، مثلا)[xxiii].

 وإذا كان صابر ـ عند هذه النقطة من طريقه الحاضر ـ يتوزع بين هاتين الشخصيتين، فإنه ـ فى الحقيقة ـ يتوزع بين عالمين فى حياته كلها: عالم أتى منه، عرفه وتشكل فيه، وعالم آخر مجهول، لم يعرفه أبدا، يتوق إليه ويحلم به. فكريمة تتجاوب مع ماضى صابر ومكانه السكندرى القديم، الحافلين بالعنف وبالرغبة (بل إنه فى المرة الأولى التى رآها فيها ظنها فتاة عرفها فى الإسكندرية، انغرست أظافرها فى ساعده عقب مطاردة “بدأت من ساحات الصيادين فى الأنفوشى واستقرت فى الركن المظلم بعطفة القرشى”، انظر الرواية ص 27)، أما إلهام فتومئ إلى مجهول لم يعرفه صابر فى المكان ولا فى الزمن؛ لا فيما خبر من أماكن ولا فيما اجتاز من أزمنة؛ ومن ثم فإنها تومئ إلى مستقبلٍ ما محتمل، وإن بدا غامضا (قالت له، بعدما حدثها عن “ماضيه” الشائك: “ـ صابر (…) أريد أن أقول لك إن ما قلت لى (…) لا يهمنى”، ص 142)، وربما كان فى هذا المستقبل شئ مما يبحث عنه خلال طريق بحثه عن أبيه: الاستقرار والكرامة والسلام.

يصل صابر فى توزعه بين كريمة وإلهام إلى شكل من أشكال التمزق الحقيقى[xxiv]، يتوق وهو مع كل واحدة منهما إلى الأخرى، بل يتعذب بالأخرى (“مع إلهام تعذبه كريمة، ومع كريمة تعذبه إلهام”، الرواية ص 110)[xxv]، ولكنه يمضى ـ بالأحرى: يندفع ـ فى علاقته بكريمة، أى بالضبط ينقاد  للمضى باتجاه طريقه القديم[xxvi]؛ عالمه الذى عاش وخبر، الشهوة والعنف اللذين عرفهما كحقيقة، والقتل الذى كان مطروحا دائما كاحتمال، أو كـ”طريق” مفتوح حذرته الأم منه قبيل موتها، عندما أكدت له أن عثوره على أبيه يجنبه أن “يعمل” “برمجيا أو بلطجيا أو قوادا أو قاتلا”، (ص 12 ـ ولاحظ أن القتل فى هذا التعبير ليس مصيرا يتهدده، أو تتهدده عاقبته، بل هو محض عمل من الأعمال!).

*انتهى طريق صابر لا إلى ما كان يبحث عنه ولكن إلى السجن (لعله سيبقى فيه إلى الأبد، أى يغدو السجن زمكانا جديدا لبقية حياته كلها،  أو سيواجه مصير الإعدام فيغدو القبر زمكانا أبديا له). لم يعثر على أبيه وإن عرف عنه ما أزاح شيئا من غموض غيابه/ حضوره (وكان مما عرفه أن خصالهما واحدة ـ انظر ص 168، وأن المسافة بينهما، مع ذلك، لا تحد، وأنهما كانا ـ فى زمن ما ومكان ما ـ جد قريبين، انظر ص 171). لقد انتهى الطريق ـ الذى كان مشرعا على أمل فى بداية جديدة ـ إلى ضياع: “ضاعت الحرية والكرامة والسلام وإلهام وكريمة” (الرواية، ص 170)، أو ضاع (مَن/ما) كان صابر يبحث عنه فى بداية طريقه، بمن وبما فى ذلك صابر نفسه، ثم ضاع (من/ما) عثر عليه فى ذلك الطريق. كان صابر قد قال لإلهام، قبل زمن القتل والسجن: “يخيل إلى أننى لم أجئ إلى القاهرة للبحث عن سيد سيد الرحيمى ولكن لكى أجدك. أحيانا نجرى وراء غاية معينة ثم نعثر فى الطريق على شئ مانلبث أن نؤمن بأنه الغاية الحقيقية” (الرواية، ص 82). وبقطع النظر عما يمكن أن تحمله الكلمات التى تقال لفتاة من مساحة ما لغزل قد لا يلتزم الصدق التام، فإن صابر لم يصل أبدا لتلك “الغاية الحقيقية” التى تكلم عنها، فضلا عن أنه لم يصل أبدا للغاية الأولى التى وضعته على طريقه. لقد كان ذهاب صابر “إلى” طريقه، ثم ذهابه “فى” طريقه، يستلزمان الانقطاع عن طريق قديم، عن زمن ومكان قديمين. وهو لم يستطع أن ينقطع، “تماما” ـ وربما لم ينقطع “أبد”ا ـ عن ذاك الزمن أو عن ذاك المكان، إذ لم يكن بإمكانه أن ينفصل عن صابر الذى “كانه”؛ حمله دائما معه وحمله دائما بداخله. ولعله ـ بذلك، ولذلك ـ لم يبدأ “طريقه” على الإطلاق.

(5)

وفى (الشحاذ) يتصل زمكان الطريق بصياغة خاصة، تجسد تمرد عمر الحمزاوى على عالمه المستقر الراكد، إذ يكتشف ـ ربما فجأة ـ أنه، وهو فى الخامسة والأربعين، قد وصل ـ رغم صورته البراقة ـ إلى نوع من الموات الداخلى، وأن زوجه قد تحولت إلى برميل من الدهن، وأن حياته كلها قد غدت جد ضئيلة، جد خانقة، على اتساعها الظاهرى، وأن المعنى الغائب عن هذا كله هو ما يستحق، وحده، السعى لبلوغه؛ البحث عنه، وربما مطاردته، لا فى حدود المكان والزمن القريبين فحسب، وإنما حتى الأقاصى النائية، فى المكان وفى الزمن وفى داخل الذات نفسها وفيما يمتد من ذلك كله بخيوط غامضة، غير مرئية، موصولة بالكون ذاته، الرحيب والمبهم واللامتناهى، معا.

*يبدأ التعبير عن ثوران سؤال المعنى، فى الرواية، حين يذهب عمر الحمزاوى ـ وقد أفقده الإحساس بالخمود رغبته فى العمل، وهو المحامى الناجح ـ إلى طبيب، كان زميل مدرسة قديم قبل ربع قرن. يشير الطبيب إلى سمنته، ويفحصه، ثم: “ـ لا شئ البتة” (ص 9). يقول ـ مثلما قال طبيب المتنبى القديم ـ إنه يجب أن يبحث عن دائه فى الطعام والشراب، وينصحه بأن فيهما، بجانب الرياضة، السبيل إلى شفائه، مؤكدا: “هنالك شبان فوق الستين، المهم أن نفهم حياتنا“، ويجيبه عمر: “ولكنك تدواينى بنوع من الفلسفة، ألم يخطر لك يوما أن تتساءل عن معنى حياتك” ص 10).

 فى حديثهما، بعد الفحص الذى ذهب فى وجهة بينما العلة كامنة فى وجهة أخرى، يتصل سؤال المعنى بسؤال الزمن. يرى الطبيب: “ما أجمل أيام زمان“، فيؤكد الحمزاوى: “ما أجمل كل زمان باستثناء (الآن)“؛ فى هذا الآن كل شئ “يتبدد بلا معنى“. يشير الطبيب إلى حب الحياة؛ يراه “هو المعنى“، ويختزل عمر حالته، عائدا إلى مشكلته، نقطة البداية مرة أخرى: “شد ما كرهتها [الحياة] فى الأيام الأخيرة” (ص 12).

سؤال المعنى الغائب موضوع ـ من أول الرواية ـ ليس إزاء ما يجلوه ويفسره (فغموض الأسباب جزء من ضرورة البحث الذى سيصوغ طريق الحمزاوى وتجربته)، ولكن إزاء ما يجسده ويبرزه. هناك، فى عيادة الطبيب، التوقف، ثم التساؤل، أمام وحول تلك اللوحة التى يرصد الراوى معالمها بعين تنتمى إلى عالم عمر الحمزاوى الداخلى. فى هذه اللوحة سحائب بيضاء وخضرة و”أبقار ترعى تعكس أعينها طمأنينة راسخة”، وفى أسفلها طفل يمتطى جوادا خشبيا ويتطلع إلى الأفق (…) وفى عينيه بسمة غامضة” (ص 5). ثم هناك، فى شقة الحمزاوى المطلة على النيل، حيث “تنهض الزوجة رمزا للمطبخ والبنك”، يتذكر الحمزاوى ذاك الطفل الباسم، فى اللوحة، الذى “يتوهم أنه يمتطى جوادا حقيقيا”. وهناك، فى تلك الشقة أيضا، يستعيد الحمزاوى بعض الاشتقاقات اللغوية للضجر، ويسمع صوت صديقه القديم “مصطفى” (الكاتب الذى آمن قديما بالفن الحقيقى ويؤمن الآن بالتسلية)؛ إذ يردد فى حديثه كلمات عن تحول قد اعترى الفن، يتصل كذلك بسؤال المعنى: “قديما كان للفن معنى حتى أزاحه العلم عن الطريق فأفقده كل معنى” (ص 21 ـ ومصطفى نفسه سوف يقول، فى سياق آخر: “ربما اعترضنى سؤال شيطانى عن معنى وجودى ولكنى سرعان ما أدفنه فى الأعماق كذكرى مخذية” ـ ص 100).

وقد أصبح سؤال المعنى عرضا ملحا، كأعراض المرض الغامض، سواء بسواء، يجد الحمزاوى نفسه ـ كما وجدها وهو ينظر إلى تلك اللوحة ثم وهو يستعيدها ـ يواجه فكرة أن كل شئ فى حياته الراهنة غير حقيقى؛ ويجد نفسه يتساءل ـ مرات ـ التساؤل نفسه حول معنى حياته، ومعنى الحياة بوجه عام. يقول لنفسه، بصوت الراوى الموازى: “لا داعى للانفعال ولا معنى له” (ص 107)، ثم يطرح هذا السؤال حول المعنى على من يلتقيهم، يثير دهشتهم وربما استنكارهم ولكن لا يعثر أبدا عندهم على إجابة، كأنهم جميعا ـ وإن كانوا قريبين أمامه ـ يقفون على أرض أخرى، أو يطلون عليه، أو يطل هو عليهم، من عالم آخر، فى زمن آخر. يسأل، مثلا، صاحب ملهى ليلى: “خبرنى يا مسيو يزبك ماذا تعنى حياتك؟” فيرد عليه مندهشا: “الحياة هى الحياة” (ص 92)، ثم يسأل وردة التى سوف يتخذها عشيقة “خبرينى يا وردة لماذا تعيشين؟” فترد ـ بعدما يكرر سؤاله ـ بسؤال: “وهل لهذا السؤال من معنى؟” (ص 117).

**  قبل ذهابه، ثم غيابه، فى طريق بحثه عن المعنى الذى تناءى، يقطع عمر الحمزاوى الأواصر التى تربطه بعمل وبعالم يراه الكثيرون “نجاحا” أو “وصولا”، ويراه هو نقطة نهاية للمضى فى طريق خطأ. لقد اجتاز مسار التحقق المألوف، الذى يلهث فيه الكثيرون، فغدا محاميا شهيرا، ثريا، زوجا وأبا.. إلخ، ثم: ماذا بعد؟

بعد هذا كثير.

وأول ذلك الكثير سؤال: وماذا فَقَدَ؟

لقد فقد الحمزاوى ـ تقريبا ـ كل ماكان يمثل عالمه القديم. وهذا العالم القديم لم يكن ليخلو ـ أبدا ـ من معنى.

هكذا يبدأ الحمزاوى فى مواجهة عالمه الراهن بعالمه القديم. إنه يرى ـ الآن، من شقته ـ النيل “ساكنا هامدا شاحبا معدوم المرح والمعنى” (ص 19)؛ وينظر إلى زوجه بأشكال متنوعة، كلها تدور فى مجال دلالى واحد: هى “تحاكى البرميل” (ص 18)، تمثال “لوحدة الأسرة والبناء والعمل” (ص 29)، “كتمثال ملئ بالثقة والمبادئ” (ص 15).. إلخ، كما يشعر بنفسه ـ الآن ـ غير بعيد عن هذه الدلالات؛ جامدا خامدا غارقا فى مستنقع من المواد الدهنية (انظر مثل ص 41).

ألم يكن عالمه القديم مختلفا عن هذا كله؟!

 يستعيد الحمزاوى ذلك العالم بأزمنته التى ولت وأماكنه التى تناءت، أو يأتيه ذلك العالم بطرائق شتى؛ فمرة “تلطمه الذكرى بقبضة من حديد” (ص 13)، إذ يذكّره الطبيب بصديقه القديم، عثمان، الاشتراكى رهين السجن الآن.. ومرة يأتيه ذلك العالم القديم بصيغة أقل حدة وإن كانت تستثير حسرة أكبر. يتعب من المشى عملا بنصيحة الطبيب فيجلس على أول أريكة تصادفه، متعبا كأنما يتعلم المشى لأول مرة، ويتذكر عمر الذى كانه؛ “الشاب النحيل ابن الموظف الصغير” الذى كان يقطع “القاهرة طولا وعرضا على قدميه دون تذمر” (ص 23).

فى ذاك العالم المستعاد كان الحماس، وكان الشعر (الذى أحبه وكتبه) وكان الإيمان بالفن (انظر ص 20)، وكان الحلم بتغيير العالم (وقد دفع ثمن ذلك الحلم عثمان، دونه هو ودون مصطفى المنيلاوى)، وكان تحدى المواضعات (وقد تحدتها معه زوجه. تزوجا على اختلاف الدين).. إلخ. لم يبق من هذا كله، الآن، سوى الرماد والذكرى. تسلل الملل وانسرب إلى كل شئ، ووهت الصلة بكل أحد وبكل شئ.

*بتحول سؤال المعنى إلى مطرقة لا تكف عن طرق رأس الحمزاوى، فيتحرك إلى طريق البحث عن إجابة له. كانت الطرقة الأولى لهذه المطرقة/هذا السؤال، حين سأل أحدَ عملائه وقد كسب قضية له: “تصور أن تكسب القضية اليوم وتمتلك الأرض ثم تستولى عليها الحكومة غدا. فهز رأسه فى استهانة وقال: “المهم أن نكسب القضية، ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها”. سلم الحمزاوى بوجهة نظره، ولكن ـ بكلماته: “ذهل رأسى بدوار مفاجئ واختفى كل شئ” (الرواية، ص ص 45، 46)[xxvii].

تلك كانت البداية الأولى لسؤال المعنى. أما البداية الأولى للخروج فى طريق البحث عن إجابة له فتمثلت فى محاولة الحمزاوى (التى “تزامنت” ـ ويمكن أن نضيف: و”تماكنَتْ” ـ وسفره صيفا للإسكندرية) منصاعا لنصائح الطبيب. كان هناك “الزحام والرطوبة ورائحة العرق”، وكانت مكافحة منه للتملص من المواد الدهنية، وكان يتقدم “نحو شفاء جسمانى واضح ولكنه “يقترب من جنون طريف” (ص 29). لقد أدرك الحمزاوى، بجلاء، أن مشكلته تتجاوز ذلك الحجم الذى تصوره كل من حوله. مشكلته تتخطى حدود العقل، تنزع إلى ثورة تدمر كل تصرفات منطقية: “ما أجمل أن يثور البحر حتى يطارد المتسكعين على الشاطئ (…) أن يطير الكازينو الكبير فوق السحب. وأن تتحطم الصور المألوفة.. إلخ” (ص 44).

بالقاهرة، التى رجع إليها فى نهاية الصيف، يتأكد لديه أنه أصبح يكره عمله، وما هو “أعز” من العمل؛ زوجه زينب، و”البيت الذى لم يعد بالمأوى المحبوب”، ولعل اللغز وراء ذلك كله ـ فيما يقول لصديقه المنيلاوى ـ “الكون ـ بدورانه على وتيرة واحدة” (انظر الرواية، ص 54). لقد بات يتوق إلى التحليق بعيدا؛ إلى الخلاص من عالمه “القائم” كله بما فى ذلك نفسه “الراهنة”: “عملى وزينب ونفسى، كل أولئك شئ واحد هو ما أود التخلص منه” (ص 56). هكذا يخرج خروجا نهائيا إلى طريقه الجديد، بعدما انقطع، مرة وإلى الأبد، عن طريقه القديم الذى سلك (فى مواجهة ذلك الفعل ثمة إشارة إلى اكتشاف لاختيار طريق آخر خاطئ، إذ يقر صديقه مصطفى: “أما أنا فأخطأت الطريق، استبدلت بالفن الزائل عملا ينافسه فى البلى”. انظر ص 57).

*ثمة جولات تشى بتشوف ظامئ “إلى الوجوه الواعدة بالنشوة المستعصية” (ص58) تقود الحمزاوى إلى زمكانات للمتعة، وللتوق إلى التحليق فى الكون. فى ملهى “باريس الجديدة” يلتقى مارجريت ويذهب بها إلى حيث يمكن رؤية “الهرم بعد منتصف الليل” بعيدا ـ فيما يقول ـ عن المدينة التى “حرمتنا من جمال الظلام” (انظر الرواية، ص ص 63، 64). وفى شقة يجهزها للذة وينتقل للعيش فيها مع “وردة” راقصة ملهى “كابرى” يحاول أن يدق “الجدار الأصم فى كل موضع حتى يرن صوت أجوف يشى بالكنز المدفون” (انظر الرواية، ص 79). لكنه سرعان ما يهتف ملولا: “ياإلهى” (انظر الرواية، ص 105 ثم ص 109). يخرج ـ مرات أخرى ـ لزيارات الملاهى الليلية، و”كل ليلة يذهب بامرأة [فى سيارته] من هذا الملهى أو ذاك أو حتى من الطريق” (ص 114). وبانتهاء الشتاء وعودة الربيع تنطلق سهراته “من القاعات المغلقة إلى الحدائق”، ولكنه يظل يعانى “الضجر والأحلام المرهقة” ويظل يتساءل: “متى يخترق الفضاء لغير رجعة” (ص 116). يقترب فى لحظات ـ فجر إحدى الليالى، بالطريق الصحراوى ـ من ذلك الكون الفسيح الذى تاق إليه، يحدق فى الأفق، ليشهد رؤيا أشبه برؤى القديسين، إذ يرق الظلام وتنبثق فيه شفافية، وتنبعث “دفقات من البهجة والضياء”، و”فجأة رقص القلب بفرحة ثملة (…) وشملته سعادة غامرة جنونية آسرة وطرب رقصت له الكائنات فى أربعة أركان المعمورة.. إلخ” (انظر الرواية، ص  ص 120، 121).

لكن ليست هذه سوى لحظة عابرة ستنقضى بسرعة كما انبثفت بسرعة، وسوف تؤول كل محاولة لاستعادتها إلى إخفاق؛ سوف يخرس الفجر فى كل مكان، “على ضفاف النيل أو فى الشرفة أو فى الصحراء خرس الفجر. وليس من شاهد على أنه تكلم ذات مرة إلا ذاكرة محطمة” (الرواية، ص 150). سوف يخاطب الحمزاوى المقاعد والجدران والنجوم والظلام، ويغازل شيئا لم يوجد بعد (انظر الرواية، الصفحة نفسها)، ويوغل فى طريقه، فى غيابات عالمه الداخلى المغلق، ينشد الكون الفسيح، متخففا من بعض آلامه بجنون السرعة إذ يقود سيارته فى الليل المتأخر بلا هدف، “إلى الفيوم أو القناطر أو طنطا أو الإسكندرية”، و”قد يدخل دكان بقال ليسكر أو يجلس فى التريانون لينام أو يشيع جنازة لا يعرفها ولا تعرفه” (ص 151). يستشعر فى هذا كله حصار الزمن والمكان، فالزمن مكبِّل خانق و”المكان رغم لا نهائيته سجن” (ص 155). وإذ “ترهقه الوحشة فى الزحام” (ص 159) ينتقل للعيش فى بيت ريفى، مع الأرض المعشوشبة وبين أشجار السرو و”هسيس النبات وزفرات الصراصير والضفادع” (ص 159)، يراوده حلم آخر فى الطريق ذاته، أن يجد نفسه، عندما يظفر قلبه بضالته، “خارج أسوار الزمان والمكان” (انظر الرواية، ص 158).

لن ُيخرج الحمزاوى من عالمه الذى استغلق صوتُ عثمان خليل وقد أتى إليه مطارَدا، بعد عام ونصف ـ بقياس زمن انفصل الحمزاوى عنه ـ لم يره خلالهما. ولن تجعله يطل من عالمه كلماتُ عثمان الذى يحاول عبثا إخباره بأنه قد تزوج بثينة ابنته وبأن فى بطنها الآن حفيدا له. كما لن تنتزعه من جبّه تلك الرصاصة التى أطلقها مطاردو عثمان فاخترقت ترقوته هو. سوف يعود، فى النهاية، إلى تساؤله الأول الذى دفعه إلى الطريق الذى سلك، وقد اكتسى هذا السؤال صيغة جديدة: متى يرى وجهه؟ ألم يهجر الدنيا من أجله؟”. ولكنه يتلقى ـ فى الجملة الأخيرة بالرواية ـ إجابة هى باللوم أشبه، فى بيت شعر يتذكره ـ الآن، على الرغم من جرحه النازف وذاكرته المشوشة ـ بوضوح:

       “إن كنت تريدنى حقا فلم هجرتنى؟”[xxviii].

(6)

وفى (قلب الليل) يتصل زمكان الطريق بنزوع سِيرى ـ إن صح التعبير ـ تترى فيه، خلال زمن طويل (من الطفولة إلى الشيخوخة)، وخلال أماكن شتى، تجارب أساسية فى رحلة شخص محورى، هو جعفر الراوى، يقصها على الراوى ـ بنوع من تبادل الأدوار كما أشرنا ـ بعدما آل عالمه إلى ما آل إليه. نكاد، فى زمكان الطريق الممتد بجعفر، نلمح تجارب أساسية تختزل رحلة الإنسان عموما (الحياة فى كنف الأم، طور الغرائز العمياء، الانفصال عن الأبوين، طور العقل، النزوع إلى الحياة البدائية.. إلخ)، مما يجعل هذا الزمكان منطويا على طريق معرفة وطريق اختبار فى آن، ومما يقارب بين هذا الزمكان وزمكان “طريق الإنسان فى الحياة” كما تصوره ميخائيل باختين، حيث “اندماج طريق الإنسان فى الحياة (فى لحظاته الانعطافية الأساسية) بطريقه المكانى”[xxix]. ينحو الطريق هنا منحى مجازيا، إذ يخلو من “الأسفار” التى تمثل سمة لازمة من سمات طريق الحياة بمعناه الحرفى، ويغدو الانتقال المكانى، هنا، نوعا من التحولات التى يتنقل عبرها جعفر الراوى وتتنقّل به، خلال أزمنة وتجارب مختلفة.

*تمثل بداية الرواية النقطة الأخيرة فى زمنها وأماكنها معا. ينتهى إلى هذه النقطة جعفر الراوى عجوزا كليل البصر، يقدم نفسه للراوى الموظف بالأوقاف ملتمسا عنده سبيلا أو حلا ما لاستعادة كل أو بعض تركة جده التى غدت وقفا خيريا بينما هو، حفيده الوحيد، وريثه الوحيد، “فى مسيس الحاجة إلى مليم” (انظر الرواية، ص5). يراه الراوى ويتعرفه، أو بالأحرى يتعرف فيه “جعفر” الذى كانه؛ شهده فى أماكن بعينها فى زمن قديم، فيرحب به مؤكدا له أن “أيام خان جعفر لا تنسى“، فيومئ هو ـ ساخرا ـ إلى المسافة التى تفصل بين تلك “الأيام” ولحظته الراهنة، مختزلا رحلة الطريق الطويل التى قطعها وغيرت عالمه ومعالمه معا: “ـ أعتقد أنى تغيرت تغيرا كليا وأن الزمن وضع على وجهى قناعا قبيحا من صنعه هو لا من صنع والدى!” (ص 3).

من هذه البداية المتأخرة، إن صح التعبير، تستعاد أزمنة وأماكن تمثل الانعطافات الأساسية فى طريق جعفر الذى اجتاز، إذ يجلس مع الراوى (المفتون ببيت الراوى، آل جعفر، وحكاياته ـ انظر ص 8) ليقص عليه ـ ويستعيد معه ـ حياته كلها،  خلال جلسة ليلية طويلة (ومن هنا ينبثق عنوان الرواية). وهذه الجلسة تعد، هى نفسها، بمثابة زمكان أخير لعالم الرواية كله، امتدت ليلة كاملة، حتى الفجر، على “مقهى ودود” بالباب الأخضر بعد أن “هجعت عطفة الباب الأخضر تحت أستار الليل” (انظر الرواية، ص 12).

**يشير جعفر الراوى، قبل هذه الجلسة، إلى “ذكريات عزيزة، أحياء خان جعفر والحسين المقدسة، أيام الهناء والتجربة” (ص 4). كانت تلك الأماكن والأيام عالما معيشا حيا قبل أن تنأى لتغدو محض ذكريات. وفى هذه الجلسة الأخيرة تعاد الخطوات، أو تستعاد، فى طريق عكسى، فينتقل جعفر، زمنا ومكانا، من “الذكريات” إلى “العالم الحى”.

بدأ ذلك العالم بما يسميه جعفر “عهد الأسطورة” (وهى تسمية تنتمى لزمن جعفر الراهن لا لذلك العهد، بالطبع). يؤكد، الآن، أنه “لا توجد طفولة، ولكن يوجد حلم وأسطورة” (ص 13). اقترن ذلك العهد به طفلا وبأمه وبذلك البيت (كما أشرنا). يرى جعفر الآن نفسه خلال أوقات لهوه فى بعض أركان البيت، ويتحرك فى رؤيته تلك حركة متحررة من حدود الزمن، راغبا عن الانصياع لإلحاح الراوى كى يلتزم فى حكايته الترتيب المتعارف لهذه الحدود: “ألا تسمح لى بأن أعبث بالزمن كما عبث بى؟” (ص 14).

العبث الأول للزمن بجعفر أنهى بضربة واحدة عهد البيت القديم وأسطورة الطفولة معا؛ إذ اختطف الموت أمه بغتة. وبموت الأم يخرج جعفر من “جنته الأرضية” التى كان يحيا فيها ليقيم فترة مع جارة طيبة قبل أن “يلين الحجر” فينتقل للعيش فى قصر جده الثرى. لم يكن جعفر يعلم أن له جدّا، بل ـ أكثر من هذا ـ سمع هذه الكلمة للمرة الأولى عندما قالت له الجارة متهللة: “أبشر(…) ستذهب إلى جدك” (ص 27). وباجتيازه بوابة بيت هذا الجد، يواجه جعفر تجربة جديدة. خلال وبعد اللقاء الأول بالجد (وقد وجد جعفر نفسه فى هذا اللقاء ممتحَننا فى الأخلاق والدين) يكتشف أن حياته لن تكون أبدا كما كانت “لعبا خالصا”، وأن عليه أن يخطو أولى خطواته فى حياة جادة جديدة (انظر الرواية، ص 35).

تمثل الحياة الجديدة فى بيت الجد مرحلة أخرى فى طريق جعفر، عاشها كما أراد له الجد (واسع الثراء، المتدين تدينا خاصا، قائما على التمييز بين “الإنسان الإلهى” و”الإنسان الدنيوى” ـ انظر ص 40 وص 46) أن يعيشها. هناك فى هذه الحياة، بجانب الدراسة ومتعة الحديقة (كما سنرى)، تجارب للمعرفة والصداقة والنمو؛ سيعلم جعفر شيئا عن والده المتوفى (الذى عارض إرادة الجد وطرد من جنته لأنه آثر أن يحيا “كإنسان دنيوى”)، سيستمتع باللعب فى الحارة وسيتردد إلى الأزهر للدراسة وسيتعرف إلى صديق سوف يلازمه، وسيعرف ـ إجمالا ـ أن الحياة التى انتقل إليها “حلم بديع” نسى معه “الماضى كله” (انظر الرواية، ص 36). ولكن هذه الحياة الجديدة سوف تتوقف ـ فجأة أيضا ـ عندما يلمح جعفر”مروانة، راعية أغنام غجرية جميلة، فيقتحمه “الجنون الكامل” ـ بتعبيره (ص 59).

يبدأ جعفر منعطفا جديدا فى طريق حياته الممتد. يتزوج هذه الفتاة بعد أن شعر ـ بكلماته ـ بأن “قوة أخرى غير إرادتى تسلمت زمامى” (ص 60)، يخرج من كنف الجد، مطرودا ـ مثل أبيه ـ من جنته، ويتحول إلى “شخص جديد بكل معنى الكلمة (…) لا علاقة له بالشخص الميت” (انظر الرواية، ص 59). يعمل “سنيدا” فى تخت صديقه شكرون الذى بات مغنيا، وينجب من الذكور أربعة، وتمضى به “الحياة بعد انطفاء شعلتها”، ثم “تجئ أيام الجفاف والجفاء والوحشة” (انظر الرواية، ص 86)؛ إذ تهتف به زوجه يوما: “ـ إنى أكره البيوت!” ثم تأخذ أولادها وتختفى من حياته، ويجبره أهلها الغجر على أن يطلقها، لتتحول تجربته معها إلى “ذكرى الشهوة المذهلة، والقوة المتحدية، والعجرفة الصلبة” (انظر الرواية، ص  95).

يعيش جعفر فترة قلقة تنتهى إلى منعطف آخر جديد، إذ يتعرف إلى “هدى صديق”. وكما اقتحمت مروانة عالمه، فقد اقتحم هو ـ دون أن يدرى ـ عالم هدى. أرملة ثرية، بهية المنظر، كريمة الأصل، عاقلة رصينة، رأت فيه ما رأت، ورأى هو فيها سبيلا ممهدا لزواج مريح، مارس فيه ـ بكلماته ـ “حياة رائعة” بحث خلالها عما أسماه “تحقيق الذات” (ص 113)، ودرس القانون، وانتمى إلى مغامرة العقل بعدما كان من قبل يتحرك بـ”الطفرة” (انظر الرواية، ص 120).

بمساعدة زوجه، يفتتح جعفر مكتبا للمحاماة بعدما أنهى دراسة القانون، ويبدأ “مرحلة جديدة من الحياة” (ص 125). فى هذا المكتب، الذى تحول إلى ساحة للمناقشات وملتقى لأصدقاء، تم الغزو السياسى لروح جعفر (انظر الرواية، ص 126)، وفى هذا المكتب أيضا سوف يشهد جعفر وقائع جديدة تؤدى به إلى منعطف آخر جديد، إذ يقتل “أستاذه” سعد الكبير، بعدما انتبه إلى إعجابٍ ما فى عينى زوجه به، منقادا ـ خارج كل تجربة العقل الذى كان قد بدأ يقدسه ـ إلى غضب أعمى وهما يتناقشان، فيطعنه بقطاعة الورق.

المنعطف الأخير فى تجربة جعفر الراوى يتمثل فى سجنه. هناك ضعف بصره، وأصيب بأمراض شتى، وخرج إلى “حاله” التى يراه الراوى بها، ويلخصها هو بكلمات قليلة: “حالى كما ترانى أمامك، خرابة من الخرابات” (ص 15).

لقد بدا جعفر فى كل تلك الانعطافات التى مر بها فى طريقه وكأنه منقاد إلى قوة ما تحركه. قوة الحب أو الشهوة، أو نداء العقل والاستقرار، أو دافع الغضب الأعمى. ومن حال إلى حال، من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان، تنقّل جعفر خلال تجاربه التى عرفها فى طريقه. كم تباينت هذه التجارب وكم تغير هو وكم اختلفت أماكنه التى انتمى إليها أو عاش فيها عبر الزمن. وفى زمنه الأخير يلخص جعفر للراوى مآله الراهن المفارق لعهد الأسطورة القديم. لقد انتقل عبر قوس ممتد من جنة البيت إلى الخرابة التى بات يحيا فيها صعلوكا من الصعاليك، فهذه الخرابة هى نفسها بيت جده القديم الذى كان. ما أنأى الزمن عن الزمن والمكان عن المكان؛ ما أبعد جعفر الآن عن جعفر القديم، وما أبعد البيت الآن عن صورته الأولى، “لا الحديقة هناك، ولا السلاملك، لا أخلاط العبير ولا زقزقة العصافير. ولكن خرابة من الخرابات وأكوام من النفايات ونفر من الصعاليك” (ص 152).

(7)

وفى (رحلة ابن فطومة) يتأسس معنى زمكان الطريق على معنى “الرحلة” من حيث هى انتقال من مكان الانتماء المألوف إلى أماكن أخرى، وبنوع من تمثُّل تجارب ممتدة فى الأدب الإنسانى، ومنه التراث العربى الذى تومئ الرواية ـ فى عنوانها ـ إلى تجربة شهيرة فيه، هى رحلة ابن بطوطة، التى كتبها أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتى، المعروفة بـ”تحفة النظار فى غرائب الأمصار وعجائب الآثار”. زمكان الطريق، هنا، يتماس وزمكان الرحلة التى تتحقق فى الرواية بمعناها الحرفى؛ بمرتكزاتها الشائعة فى أدب الرحلات: السفر والتجوال والتدوين، كما أن الزمن، فى هذه الرواية، يتقاطع والزمن المتعارف فيما يسمى “رواية الرحلة” بشكل عام، وإن لم يتطابق معه[xxx].

*فى فقرتها الأولى تقدم الرواية، بعبارات مختزلة دونما تفصيل، ما يمكن أن يعد هاجسا للرحالة ـ كل رحالة ـ إذ يغترب عن مكان انتماء مشبع بذكريات خاصة، أى مقرون بزمن قد عاشه فى ذلك المكان، إلى أماكن أخرى موصولة بالمجهول، وبالغريب، وبالمحفوف بالأخطار، وبالواعد بالمتعة أيضا. من هذا الهاجس ما يومئ إلى روح حائر، يتلقى من الأشياء إشارات وغمزات، وتثار بداخله تساؤلات تلو أخرى؛ حول ما يبحث عنه، وأى العواطف يجيش بها صدره، وكيف يسوس غرائزه وشطحاته.. إلخ، ثم كيف ينزع إلى طريق يمكن أن يتحقق فيه الحلم، أو تتكشف فيه المعرفة التى معها ينقشع ظلام المجهول عن تساؤلاته جميعا.

وفى هذه الفقرة الأولى، أيضا، إشارات إلى بعض ملامح المسار المقبل فى رحلة الرحالة المستكشف المتسائل، إذ سوف يظل فى كل مكان يشهده وفى كل زمن سيمر به، موصولا بمكانه وبزمنه القديمين، بوطنه الذى بارحه وبذكرياته التى خلفها وراءه وحملها معه، داخله، فى آن، فمهما “نبا (…) المكان فسوف يظل يقطر ألفة، ويسدى ذكريات لا تنسى”. سيظل الرحالة، فيما يؤكد، مفتونا بكل ما أحب وما لم يحب، معا، فى ذلك العالم القديم الذى سيرتحل منه ويتناءى عنه، سيعشق ـ ما امتدت به الحياة ـ “نفثات العطارين، والمآذن والقباب، والوجه الصبيح يضى الزقاق”، وأيضا “بغال الحكم وأقدام الحفاة” (الرواية، ص 5). وسوف يتأسس الكثير، فى الرواية، على هذه الصلة بزمكان الوطن؛ فهذه الصلة هى ما ينأى بالرحلة عن أن تكون محض انتقال مكانى، مثلما هو الحال فى الهجرة أو الفرار مثلا[xxxi]؛ إذ للرحلة هدف كان قد انبثق فى تجربة الوطن، فى زمنه ومكانه، ولها مآل مرتبط بنزوع  العودة إلى هذا الوطن مرة أخرى، لتقديم ما تم اكتشافه فى الرحلة نفسها. كذلك، من هذه الصلة بزمكان الوطن، تصاغ نظرة الرحالة خلال رحلته كلها، لكل ما يشاهد ويجرب ويعرف، بما يجعل الأزمنة والأماكن جميعا، التى سيجتازها وسيمر بها، موضوعة إزاء معيار يجلوها، أو يقيّمها، ويظل يرنو إليها ويعيشها ـ فى كل الأحوال ـ من منظور كان قد تم تحديده سلفا، كان قد صيغ واكتملت معالمه، فى مكان الانتماء الأول.

من هنا، سوف نلحظ عبر مراحل الرحلة التى سوف يقطعها قنديل محمد العنابى مقارنات بين ما يشاهده وما شاهده من قبل، ومن هنا سنجد رصدا غير متجرد (أو ـ على الأقل ـ غير منفصل تماما عن أحكام قيمية تكوّنت فى المكان الأصل) لنظم وأشكال من العيش مختلفة ـ وأحيانا غريبة ـ عما خبره الرحالة قبل رحلته. سوف نرى ـ باختصار ـ الرحالة وهو يتحرك بزمكانه القديم الأول إلى زمكانات متنوعة تمثل مراحل عدة فى رحلته. وبذلك، يمكن ملاحظة أن عالم (رحلة ابن فطومة) يستعيد ـ من زاوية ما ـ سمة قديمة قدم “الرواية الجغرافية” التى عرفت فى تراث “الروايات اليونانية المرتبطة بالسفر والتجوال فى بلدان غريبة مختلفة”، حيث كان مركز هذه الروايات “هو الوطن الفعلى لهذه الرواية، فهو الذى يوفر وجهات النظر والمقاييس والتقييمات، وينظم رؤية البلدان والثقافات الأخرى الغريبة وفهمها”[xxxii]، وإن تنازع هذا المركز، فى (رحلة ابن فطومة)، مركز آخر يتمثل فى مطمح العنابى المرتجى؛ ذلك العالم النائى المنشود، أو “دار الجبل”.

*تحت عنوان “الوطن” نتعرف كيف تحول “قنديل محمد العنابى” مما كانه إلى ما أصبح، ونشهد الملابسات والوقائع التى بدأ خلالها ـ ثم تصاعد وتنامى ـ ذلك النزوع الذى قاده إلى تغيير طريق حياته المألوف، المتوقَّع، إلى طريق آخر مغاير.

يشير قنديل إلى سبب تسميته “ابن فطومة” نسبة إلى أمه، فطومة الأزهرى. ويتحدث عما كان يمثل بدايات “أولى” له: طفولته، والعلم الذى أخذه عن شيخه مغاغة الجبيلى، والتساؤلات البازغة التى انبثقت بداخله، والإشارات المبكرة التى تلقاها فأثارت أشواقه إلى رؤية ديار أخرى فى هذا العالم خارج “دار الإسلام”، وتجربة الحب الأول التى مر بها ووئدت سريعا بيد قوة باطشة متسلطة..إلخ. ومن ذلك كله، وخلال ذلك كله، تتشكل “دوافع” الرحيل عن هذا الوطن، وأسباب الانقطاع عن زمن انقضى فيه، وإن صيغ هذا الرحيل موصولا بنقيضه، أى بحلم العودة مرة أخرى إلى مكان الانطلاق الأول (كما هو الحال فى بعض الحكايات الشعبية التى ارتبطت بوظائف الرحيل ووظائف العودة معا).

من دوافع الرحيل عن الوطن مشاهدات ومكابدات وفضول وتوق. إن العنابى يرى ـ بصيغة “المضارع” الزمنية التى تعكس التكرار والاستمرار معا ـ “سيف الجلاد وهو يضرب الأعناق، وكل فعل جميل أو قبيح يستهل باسم الله الرحمن الرحيم” (ص 50)، ويشهد كيف “تزدحم الطرقات بالفقراء والجهلاء” (ص ص 7، 8)، وكيف يسوء الإنسان “الظلم والفقر والجهل” (ص 11)؛ إذ يمكن ـ مثلا ـ أن تمتد سلطة أولى الأمر لتقتحم كل حياة هادئة، تختطف ـ مثلا ـ الخطيبة من خطيبها (وهى تجربة قنديل نفسه)، وفى لحظة ـ لا تخلو من غضب ممتزج بالقنوط ـ يخلص العنابى إلى أن هذا الوطن مملوء بـ”أناس ومعاملات تستحق الطوفان ليحل محلها عالم جديد نظيف” (انظر الرواية، ص 18). إضافة إلى ذلك، يصغى العنابى، فيما يصغى، إلى أحاديث وحكايات عن عوالم مختلفة فى ديار أخرى، متعددة ومتنوعة (تعددا وتنوعا يجعلان الوطن يبدو “نجما فى سماء مكتظة بالنجوم” ـ انظر ص 8).. من هذه الديار ما وصل بعض الرحالة السابقين إليه، ومنهم الجبيلى شيخ العنابى: ديار “المشرق” و”الحيرة” و”الحلبة”، ومن هذه الديار ما يستثير فضول الرحالة للوصول إليه: “الأمان” و”الغروب”، ثم من هذه الديار تلك الدار التى تمثل غاية الغايات من كل رحلة وفى كل رحلة: “دار الجبل” التى تلوح، فيما يتردد عنها، كأنها ـ من جانب ـ “معجزة البلاد، كأنها الكمال الذى ما بعده كمال”، وتبدو ـ من جانب آخر ـ مثل “سر مغلق” (انظر الرواية، ص 10).

 من “هنا” إلى “هناك” تهفو روح العنابى وتنزع، وقد غدا مشدودا إلى حافة ذلك السر الذى أضرم النار فى خياله، فأصبح ـ بكلماته: “كلما ساءنى قول أو فعل رفت روحى حول دار الجبل” (انظر الرواية، ص ص 10، 11). وإذ يتكاثر على العنابى ما يسوء، وتنفصل عنه أمه (بموافقتها على الزواج من شيخه الجبيلى)، بعدما انتزعت منه خطيبته، وإذ تتراكم وتتصاعد من حوله ألوان الظلم؛ أى تتزايد ـ بعبارة أخرى ـ عوامل الطرد من هنا، وتتزايد عوامل الجذب إلى هناك، ينتهى العنابى إلى ترديد بعض كلمات عن هذه “الدار الزائفه” (انظر الرواية، ص 17)، وإلى الشروع فى الرحيل عنها، منتميا إلى زمكان رحلته الذى سوف يمتد ليشمل ديارا متعددة، تترى لتجسد ـ بنوع من الموازاة الفنية ـ ما يمثل التجارب والحقب والنظم الكبرى التى عرفتها الإنسانية، عبر الجهات والأزمنة المختلفة، معا، ثم ما يمثل الحلم الذى طالما تاق إليه الكثيرون من البشر، فى كل زمن وكل مكان، والذى كان ـ ولا يزال ـ عصيا على كل بلوغ.

*وقت الفجر، الحافة الفاصلة بين عالمين، والذى يمثل موعد الرحيل المتكرر بالرواية (انظر صفحات: 56، 93، 119، 141، 150، 154، مثلا)، يغص قلب العنابى للمرة الأولى بحنين الوداع، إذ يفارق وطنه ويبدأ رحلته إلى “دار المشرق”، ليعايش فى هذه الرحلة تجارب ـ ذات طابع زمكانى ـ لم يعرفها من قبل، تبدأ من فعل الارتحال نفسه، أى من مكان ومن زمن أسبق من مكان دار المشرق ومن زمن مشاهدتها، فى الصحراء الفاصلة بين داره وأول دار سيصل إليها فى رحلته.

فى دار المشرق، التى دخلها العنابى بعد ما يقارب الشهر من السير، سوف يرى ويشهد فى البداية ما يستدعى الإحساس بالغرابة والتعجب (بما هما تعبيران عن الإحساس بالانفصال والنأى، ومن ثم باستمرار الارتباط بعالم قديم)، ولكن سوف تتسع تجربة العنابى وتمتد إقامته فى هذه الدار أكثر مما قدّر وخطط، بما يخفف ـ وربما ينفى ـ أى إحساس بغرابة أو تعجب. يرى العنابى عالما يستعيد بعض ملامح بدائية؛ نساء ورجالا عرايا، وفراغا ممتدا لا يشغله إلا بعض تجمعات خيام تنهض على غير نظام. وفى ليلة البدر، يتم الاحتفال بالقمر المعبود فى تلك الدار، وتقام طقوس الرقص والغناء والسكر والغرام. يرقب العنابى ذلك كله، وكان قد جرب العشق ـ النظرة التى يعقبها ألف حسرة ـ الذى انسكب فى روحه لفتاة رآها وهام بها، وسوف يرتبط بها العنابى حسب تقاليد تلك الدار (يستأجرها من أبيها)، وتمتد معها الإقامة حتى تصل إلى خمس سنوات، ويصبح للعنابى وزوجه “عروسة” أبناء، إلى أن يًطرد العنابى من دار المشرق بعدما حاول أن يلقن أحد أولاده مبادئ الإسلام (أى بعدما حاول، تبعا لأعراف تلك الدار، تنشئة الولد على الكفر).

زمكانات مشاهدات العنابى وتجربته فى دارالمشرق هى زمكانات الاتساع، والتحرر الفطرى، والاتصال بالطبيعة فى عالم شبه بدائى، والمتعة والانغماس المباشر فيها، وهى أيضا زمكانات السعادة المقتنَصة العابرة (لكل من هذه الزمكانات تجسيد فى الزمن والمكان، معا، داخل الرواية). والعنابى، الباحث عن سعادة مقيمة، سوف يواجهه الرد: “كل علاقة عابرة ياغريب” (انظر الرواية، ص ص 48،49). هنا بساطة تشمل الجميع، كل أحد وكل شيئ. وهنا الإله، القمر،  لا يتدخل فى  شئون الناس، إنه يقول لهم  ـ فحسب ـ “كلمة واحدة، هى أنه لا شئ يدوم فى الحياة وأنها إلى محاق تسير” (انظر الرواية، ص  43). لكن العنابى سيخاطب نفسه، وهو يصغى إلى من يحدثه عن الحياة فى هذه الدار، وعن الشعب الذى يغلب عليه المرح والسعادة والرضى: “إنه فقدان الوعى بلا زيادة ولا نقصان” (انظر الرواية، ص ص 32،33).

يرحل العنابى عن دار المشرق، السعيدة فاقدة الوعى، مستعيدا دوره الذى خمل عندما نزع إلى دوام متعته فى عالم يؤمن بأن كل شئ إلى زوال. ولعله وجد عزاء ما فى رحيله الاضطرارى دون زوجه وأولاده، فى أنه يكمل رحلته، هدفه الأول، بهذا الرحيل. وقد كانت كلمات “فام”، مدير الفندق الذى نزل فيه، آخر كلمات دونها العنابى عن دار المشرق: “تعلّم أن الرحالة لا يجوز أن يسعى وراء علاقة دائمة” (ص 55).

*

إلى “دار الحيرة” يرتحل العنابى بعدما بات الماضى الذى خّلفه وراءه أكثر امتدادا، وبعدما غدا ما يربطه بهذا الماضى أكثر وثوقا (إذ ترك أسرة له). لذا، حين تتحرك القافلة فى ظلمة الفجر يجد نفسه، بكلماته: “شد قلبى إلى الوراء وغص حلقى بالحزن والدموع” (ص 56)، لكن العنابى وقد سلك طريق الرحالة وانتمى إليه يواصله ويمضى فيه.

دار الحيرة، خلال تجارب يعايشها العنابى فيها، تقدم تمثيلا مقاربا للنظام الإقطاعى (الإله هنا هو الملك). يرى الكثير من الميادين والحدائق والشوارع والعمائر والمدارس والمستشفيات. فى كل “موقع شرطى، وملاهى الرقص موفورة” والسوق مترامية (انظر الرواية، ص 61)، وهذا كله يمنح العنابى مجالا رحبا للتجوال والمشاهدة ثم التدوين. وإذ يقيم العنابى بدار الحيرة، يسمع أخبارا عن حرب وشيكة ضد دار المشرق “لتحرير شعب من خمسة من الطغاة” (ص 59). ستنشب هذه الحرب، وستأتى للعنابى بـ “عروسة” زوجه وقد غدت واحدة من السبايا بعد أن قتل أبوها وضاع أولادها ـ فيما ستخبر زوجها. لكن العنابى الذى وجد عروسة على غير توقع سيجد نفسه (بعدما رفض تسليم زوجه للحكيم “ديزنج” الذى رغب فيها)، على غير توقع أيضا، فى سجن حكم عليه بأن يدخله ويبقى فيه إلى الأبد، مع مصادرة أمواله وكل ما يملك، بتهمة السخرية من الدار التى تستضيفه، وبشهادة خمسة شهود أدلوا بها بصيغة موّحدة “كأنها قطعة محفوظات” (انظر الرواية، ص 74).

زمكان السجن الأبدى يرتبط بوداع كل زمن وكل مكان. يقول العنابى، أو يكتب فيما بعد: “دفنت آمالى، شيعت للفناء ماضىّ وحاضرى ومستقبلى” (ص 76 ـ وسنقدم إشارات أخرى لهذا الزمكان في الفصل السابع). ولكن الحياة التى تذهب بأشياء طيبة وتأتى بأشياء أخرى، قد تذهب بالأخرى كذلك. هكذا يرى العنابى ذات يوم (وقد اختفت “الأيام” فى زمن السجن) قادما جديدا، هو ديزنج نفسه، وقد سيق إلى السجن بعد أن ثار قائد الجيش على الملك وقتله وأصدر عفوا شاملا عن ضحاياه. يجد العنابى نفسه وقد عاد مرة أخرى إلى عالم الطلقاء، بأماكنهم الرحبة وأزمنتهم المحسوسة المحسوبة، ومن ثم يجد نفسه قد آب، بعد عشرين سنة ضاعت فى سجنه ـ سيعرف الرقم فيما بعد! ـ إلى رحلته وهدفه المنشود. يتردد قليلا إذ يفكر فى طريقه الذى اختار، ويحسم تردده ويستكمل رحلته؛ فقد حدثه قلبه بأنه ـ الآن ـ قد بات معدودا فى وطنه من بين الأموات، لذا لن يرجع ولن يلتفت إلى الوراء: “سأظل رحالة، وفى طريق الرحلة أسير. إنه قرار وقدر، خيال وفعل، بداية ونهاية. فإلى دار الحلبة وما بعدها حتى دار الجبل” (ص 82).

*زمكانات دار الحلبة هى زمكانات الحرية، والتنوع، والمدينة المزدحمة الحافلة بمعانى التعدد (بما يستدعى الرصد البصرى الذى كان دائما جزءا من ملامح عالم المدينة ومن سمات ثقافتها[xxxiii]). يقضى العنابى أوقاتا، ويمر بأمكنة، كلها تجسد هذه المعانى: “تركت قدمى تقوداننى بحرية فى مدينة الحرية (…) صفوف من العمائر والبيوت والقصور، حوانيت بعدد رمل الصحراء [لاحظ المرجعية المستمدة من زمكان عالم قديم] مصانع ومتاجر ودور (…) أغنياء وكبراء، وفقراء أيضا (…) ملابس الرجال والنساء متنوعة” ص87). من بين هذه المعانى يلوح معنى الحرية أساسيا، بل مقدسا؛ هنا كل تحرر خير وكل قيد شر (انظر الرواية، ص 101)

ومع إعجاب العنابى بكثير مما يشهد فى دار الحيرة وبكثير مما يعرف عن نظام الحكم (انظر ص 92) وعن مبدأ الحياة فيها (انظر ص 101)، فإنه يكابد بعض الوحشة (ص 111)، ثم يستكشف شيئا ما فى تلك الحرية يذكّره بالفوضى، ويرى أن هذا الشعب “مجموعة شعوب تمزقها الخلافات الخفية” (انظر الرواية، ص 113)، ويصل إلى أن عالم دار الحلبة إنما يجب عليه “الاعتراف بأساس أخلاقى وإلا انقلب (…) إلى غابة” (انظر الرواية، ص 114)، وسوف يصغى العنابى إلى عبارة ـ من سامية التى سوف تصبح زوجه ـ تنفى إمكان أن “يتحول” العالم إلى غابة، لأنه ـ ببساطة ـ “كان ومازال غابة!” (انظر الرواية، ص 114).

يستسلم العنابى، بعد زواجه الذى دام لوقت حتى أنجب أولادا،  لزمن الحياة الناعمة المترفة فى ذاك المكان (وكان قد شارك والد سامية فى محل تجارى). ولكنه بعد فترة سوف تعاوده ذكرى الرحلة (انظر الرواية، ص 114)، ثم سوف يجد نفسه يهتف: “آه ياوطنى.. آه يادار الجبل” (ص 115). وأخيرا يستأذن العنابى زوجه ويشبع أشواقه منها ومن أولاده ليستكمل رحلته إلى دار الأمان.

*زمكانات “دار الأمان” تجسد معانى النظام، والقانون، والعدل، والمساواة، واحترام الشيخوخة، وإن كانت ـ أيضا ـ تجسد معانى التشابه، وعدم التفرد، وفقدان الحرية وحس المبادرة، بما يجعل هذه الدار تقترب من تمثيل النظام الاشتراكى أو الشيوعى، كما عرف فى بعض تجاربه، مقابل النظام الرأسمالى أو الليبرالى الذى مثلته دار الحلبة.

سيشعر العنابى بالهول إذ يرى “مدينة خالية مهجورة، ميتة، بالغة فى نظافتها وأناقتها وحسن هندامها، فى عمائرها الضخمة، وأشجارها الباسقة، ولكن لا اثر للحياة فيها”. إلا أن إحساسه هذا سيتحول إلى دهشة حقيقية إذ يراها “مع الغروب” وكأنها بعثت من جديد، حيث “راح كل شارع يقذف بجموع لا يحيط بها الحصر من الرجال والنساء”، “لكل طائفة زى بسيط واحد كأنها فرقة جيش”، “صورة مجسدة للمساواة والنظام والجدية” (انظر الرواية ص 124 وص 128 على التوالى)، ويكتشف العنابى أن هناك وقتين فصلا بين ما هاله وما أدهشه بهذه المدينة: وقت العمل ووقت انتهائه.

سيشهد العنابى فى دار الأمان ما يراه حسنا (“الجميع متساوون إلا من يميزه عمله” ص 125، كثرة المعمرين ممن جاوزوا الثمانين والاهتمام بتقديم الرعاية لهم، ص 126، مراكز التعليم والطب التى لا تقل عن أمثالها فى الحلبة عظمة ونظاما وانضباطا، ص 129)، ويشهد أيضا ما لن يراه حسنا: (“تجهم الوجوه وصلابتها وبرودها المخيم” ص 129، تعيين مرشد له، “فلوكة”، يلازمه ويفقده استقلاله ويسلبه “روح المغامرة والحرية”، ص 121 ..ملاحظة أن رئيس دار الأمان وحاشيته مفرطون فى البدانة مما يشى بأنهم “يحظون بنظام غذائى خاص يشذ عما تخضع له جموع الشعب” ـ وإن لم يكن هذا مما “يخرق القانون السائد فى دار الأمان” ص 135.. اكتشاف أن “الحرية الفردية عقوبتها الإعدام” ص 135). سيرى العنابى باختصار أن هذه الأمة “ليست بالأمة المقهورة المغلوبة على أمرها، ولا الفاقدة الوعى والتربية”، ولكنه سيستشعر شيئا ما، غامضا، ينقصها؛ “لعل سعادتها تشوبها شائبة” (انظر الرواية، ص 136).

يسأل “فلوكة” العنابى: “لم كانت الرحلة إلى دار الجبل؟، ويؤكد له ساخرا: “ماهى إلا رحلة إلى لا شئ” ص 138). لكن العنابى سيلتحق، فى موعده، بالقافلة التى ترتحل إلى “دار الغروب” المؤدية إلى “دار الجبل”.

*زمكانات “دار الغروب” هى زمكانات الزهد، والتصوف، والتعالى على كل ماهو دنيوى، والغناء الخالص المرتقِى بالنفس، والاتصال الحى بالطبيعة. هو، باختصار، زمكان الانفصال عن الزمن والمكان، والتهيؤ لدار الجبل.

بدار الغروب، فى البداية، لن يرد على سلام العنابى أحد ممن يرى من الرجال والنساء. سيسير العنابى وحيدا، يشهد ما يشهد. هنا، مشرق الشمس مختلف: “لعلها أجمل شمس عرفتها فى حياتى، فهى نور بلا حرارة أو أذى”، وسيتجول العنابى بين مظاهر طبيعة جميلة وسيقول إنها “جنة بلا ناس” (انظر الرواية، ص 143). لكن صمت أولئك الذين ينظر إليهم العنابى ويساوى بين حضورهم والغياب، سيتكشف له عن شئ آخر، فهؤلاء الذين لا يتكلمون قادرون على الغناء؛ غناء خالصا يدربهم ويمهد الطريق لهم، يساعدهم على أن يستخرجوا من ذواتهم القوى الكامنة فيها (انظر الرواية، ص 147)، ويجعل حياتهم “موافقة للحق ومفارقة للخلق”، كلهم مهاجرون وكلهم يعدون أنفسهم للرحلة إلى دار الجبل (انظر الرواية، ص 146).

ينتمى العنابى إلى هؤلاء المغنين المتجردين المتوحدين، ويرفعه الغناء ـ معهم ـ إلى ذرى لم يخبرها فى أزمنته التى قطع وأماكنه التى اجتاز؛ ذرى تنتمى إلى عالم ينبثق من داخله أكثر مما يأتيه من خارجه. ينفصل العنابى، مع المغنين المنفصلين، عن كل زمان معروف وكل مكان مأهول، ويمضى ـ بكلماته ـ فى طريقه: “وأنسى الزمن[xxxiv] فلا أدرى كم مضى على من أيام وشهور..” (انظر الرواية، ص 152)، إلى أن يأتيه النداء الغامض، أيضا قبل الفجر، ويذهب بعده إلى شيخه الذى يؤكد له أن هذه “خطوة أولى للنجاح وأول الغيث قطر” (ص 152).

ها هو القطر قد أتى ولكن الغيث نفسه لن يأتى. يفاجأ العنابى بالكلمات المحذرة: “الشر قادم”، ويستيقظ على جلبة ليرى جيشا من الفرسان، ويكتشف أن دار الغروب قد غدت محتلة بقوات دار الأمان (كجزء من الحرب ضد دار الحلبة)، ويخيّر العنابى مع من خيّروا ـ تخييرا أقرب إلى الإجبارـ بين البقاء والانضمام إلى “البشر العاملين” أو الرحيل إلى دار الجبل، فيختار الرحيل (رغم تحذير الشيخ وتلميحه إلى عناءٍ ما سوف يتم بسبب نقص التدريب).

**لا ننتقل أبدا مع العنابى إلى دار الجبل، ومن ثم لا نشهد معه ما كان يتخيله عن خاتمة سعيدة لرحلته كلها: الإياب إلى الوطن بثمار رحلته (وإن كان وصول “مخطوطه” هو ثمرة من الثمار، ولعله ثمرة الثمار). فمن دار الغروب إلى فصل “البداية” نتحرك مع القافلة خلال “مسيرة شهر” نحو الجبل الأخضر الذى ينبغى عبوره صعودا وهبوطا. سيصل العنابى مع القافلة إلى سفح ذلك الجبل، حيث يستطيع أن يطالع مشارف حلمه؛ ذلك الجبل الذى تقوم فوقه “دار الجبل” نفسها، بما يجعل المطمح الذى كان نائيا، طيلة زمن ممتد وخلال أماكن متعددة، يلوح قريبا الآن. لكنه لواح خادع. سيهبط العنابى مع من هبطوا إلى الصحراء التى تسبق هذا الجبل، وستمر الأسابيع تلو الأسابيع: “حتى خيل إلىّ أنه قد انقضى عمر قبل بلوغنا الجبل الآخر” (انظر الرواية، ص 156)، إلى أن يبلغوا أخيرا ذلك السفح، ولم يبق سوى أن يتسلقوا الجبل الذى “يعلو على السحب ويتحدى الأشواق” (انظر الرواية، ص 156). لن نصعد مع العنابى، لن نشهد زمنه أو مكانه هناك، وإنما سنراه ـ فحسب ـ يتأهب “للمغامرة الأخيرة بعزيمة لا تقهر” ـ وهى الكلمات الختامية فى المخطوط الذى تركه ودوّن فيه تفاصيل رحلته. لا شئ بعد هذه الكلمات سوى تساؤلات الراوى ـ وكلها مطروحة دون إجابة ـ حول ما إذا كان العنابى قد واصل حقا رحلته أم هلك فى الطريق، وهل دخل دار الجبل أم لم يدخلها، وهل عاد منها إلى وطنه أم لم يعد.

*انقطعت رحلة العنابى هنا. ومع ذلك فزمكان طريقه قد امتلأ امتلاء كاملا، بمعنيين على الأقل؛ (طريق الأسفار وطريق الانعطافات فى الحياة).

اختار العنابى طريقه ومضى فيه، على الرغم من أنه ـ فى لحظات عدة من رحلته؛ نقاط واقعة على خطها ـ توقف ليتساءل حول صواب أو خطأ اختياره، أو ليستشعر التوزع بين نداء الرحلة ونداء الاستقرار: “حتى متى أظل ممزقا بين نداءين؟” ـ بكلماته (ص 97)، أو ليعانى، فى منتصف طريقه، جذبا متكافئا إلى طرفى الطريق، بدئه ومنتهاه: “آه ياوطنى.. آه يادار الجبل” ص115).

وأيا كانت ملامح نقطة النهاية، أيا كانت معالم الوصول الأخير فى طريق رحلة العنابى، فإن المخطوط الذى تركه بقى علامة على اكتمال الرحلة، شارة على تجربة ارتحال بعيدا عن زمن ومكان عاشهما العنابى فى وطنه الأول، وحملهما بداخله ومعه إلى حيث انتقل عبر الأزمنة والأماكن. وكم من المواضع، بالرواية، قارن فيها العنابى بين زمنه الأول ومكانه الأول، فى وطنه، وبين ما يشهده فى الديار الأخرى. وهذه المقارنات تمتد خلال “محطات” الرحلة كلها (انظر صفحات: 28، 31، 46، 52، 58، 59، 85، 91، 93، 95، 101، 111، 114، 129، 133، 135)، مما يشى بحضور الزمكان الأول، السابق على بداية الطريق، خلال مراحل الطريق جميعا ـ وإن لم يتحول هذا الزمكان الأول إلى قيد، كما كان فى رواية (الطريق).

اختفى العنابى ولكن مخطوطه ـ تجسيد رحلته الملموس ـ قد بقى، ومن ثم فإن العنابى قد آب ـ على نحو ما ـ إلى وطنه مرة أخرى، بتلك النظرة الجديدة التى صاغت جدتها خبرة الانتقال والمشاهدة والتعرف والمقارنة. لقد ظل وطن العنابى، تلك “الدار الزائفة”، إذن، حاضرا طوال الطريق أو الرحلة، ثم ظل أيضا حاضرا بعدهما، ووجهت تلك الدار، كما شهدنا، بديار أخرى جد مغايرة مختلفة!

هوامش:


[i] فصل من كتابي النقدي “تجليات سرد الحياة ـ قراءة في أدب نجيب محفوظ ” – كتابات نقدية هيئة قصور الثقافة 2015

[ii]  ـ فى هذا السياق راجع إشارات سامى خشبة حول توقف نجيب محفوظ عند القاهرة واستكشافها خلال زمن طويل. انظر: “نجيب محفوظ أديب القاهرة المبدع”، ضمن كتاب (نجيب محفوظ ـ نوبل 1988 ـ كتاب تذكارى)، إشراف سمير غريب، وزارة الثقافة، القاهرة، د. ت.

[iii]  ـ ميخائيل باختين، (أشكال الزمان والمكان)، ، ترجمة يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1990، ص 24.

[iv]  ـ المرجع السابق، ص 221.

[v]  ـ نفسه، ص 53.

[vi]  ـ نفسه، ص 54.

[vii]  ـ نفسه، ص 221.

[viii]  ـ نفسه، ص 223.

[ix]  ـ نفسه، ص 222.

[x]  ـ نفسه، ص 222.

[xi]  ـ قريبا من هذا السياق يشير مصطفى التواتى إلى أن المكان فى روايات (اللص والكلاب) و(الطريق) و(الشحاذ) “ليس مجرد إطار للأحداث والشخصيات وإنما هو عنصر حى فاعل فى هذه الأحداث وفى هذه الشخصيات”. انظر كتابه: (فن الرواية الذهنية لدى نجيب محفوظ)، طبعة على نفقة المؤلف، تونس 1981، ص 65.

[xii]  ـ فى هذا السياق يشير د. سامى سليمان إلى أن بداية الحدث فى هذه الرواية تتمثل فى “خروج اليطل من السجن”. انظر كتابه: “مدخل إلى دراسة النص الأدبى المعاصر”، مكتبة الآداب، القاهرة، 2003، ص 91.

[xiii]  ـ تلاحظ د. أنجيل بطرس سمعان أن (اللص والكلاب) ليس فيها راو بالمعنى المألوف فيما عدا لحظات قليلة قرب نهاية الرواية. انظر لها: (دراسات فى الرواية العربية)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987.  ودراستها عن “اللص والكلاب” منشورة فى:  (الرجل والقمة ـ بحوث ودراسات)، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989،. انظر ص 716.

[xiv]  ـ تيار الوعى نفسه له طابع زمنى مكانى إذ يقوم على “تسجيل الانطباعات بالترتيب الذى تقع به على الذهن، متجاوزا فى ذلك منطق الواقع الخارجى الذى يخضع ترتيب الأحداث فيه لعاملى الزمان والمكان”. انظر:

د. محمود الربيعى، (قراءة الرواية)، دار المعارف، القاهرة، 1997، ص 24.

[xv]  ـ راجع تحليل يحيى حقى للرواية الذى يؤسسه على فكرته حول الاستاتيكية والديناميكية، فى كتابه (عطر الأحباب)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المؤلفات الكاملة، ع 12، القاهرة، 1986. وقد نشر فى: (الرجل والقمة ـ بحوث ودراسات)، انظر ص 149 وما بعدها.

[xvi]  ـ نور والشيخ يمثلان لسعيد طريقين محتملين لم يرهما أبدا. ويرى يحيى حقى أنهما “القطبان اللذان يتخبط سعيد مهران بين جذبيهما” (انظر المرجع السابق، ص 151). ولعلنا لاحظنا أن مهران لم يعان هذا التخبط بينهما لأنه لم يستشعر جذبيهما بقدر كاف. ويرى أنور المعداوى أن هناك بعض “التعريجات” التى نجدها “على طول الطريق”، ويذكر منها رجل الدين على الجنيدى ونور ورجل الصحافة رءوف علوان.

انظر: أنور المعداوى، “اللص والكلاب”، مجلة “الفكر المعاصر”، القاهرة، مارس 1963، ومنشور فى: (الرجل والقمة ـ بحوث ودراسات)، انظر ص 108.

[xvii]  ـ انظر تحليل د. محمود الربيعى كل من بيت نور وخلوة الشيخ ا لمفتوحة دائما، ووقوعهما على حافة المدينة، بموازاة شخصية سعيد مهران “الذى يهيم على حافة المجتمع”، فى كتابه (قراءة الرواية ـ نماذج من نجيب محفوظ)، مرجع سابق، ص 26.

[xviii]  ـ حول معنى النار فى هذا الحريق، وصلته بأحداث سابقة فى الرواية تشير إلى أن “الأرض التى استقرت طويلا تحت أقدام أصحابها فى هذا الوطن قد بدأت تميد”، انظر: د. محمود الربيعى، (قراءة الرواية ـ نماذج من نجيب محفوظ)، المرجع السابق، ص 42.

[xix]  ـ يشير عدد كبير من المؤرخين إلى أن حريق القاهرة “كان أحد أسباب التعجيل بثورة 1952 بعد حوالى ستة أشهر من الحريق”.

انظر: شريف سيد عفت، (تاريخ أقل قبحا)، دار المركز المصرى العربى للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط. خامسة، 2005.، ص100.

[xx]  ـ يربط رجاء النقاش بين جلوس عيسى الدباغ فى الظلام وحنينه إلى الماضى. انظر: (نجيب محفوظ ـ إبداع نصف قرن)، إعداد وتقديم غالى شكرى، دار الشروق، القاهرة، 1989، ص 120 .

[xxi]  ـ تحرك عيسى الدباغ، فى هذا السياق،  يحتمل تفسيرات شتى. انظر تفسير صلاح عبد الصبور مثلا فى:

صلاح عبد الصبور، “الإخصاب والعقم موضوع جديد عند نجيب محفوظ”، (وتبقى الكلمة)، دار الآداب، بيروت، 1970، ومنشور فى: (الرجل والقمة ـ بحوث ودراسات).

[xxii]  ـ قرئت هذه الرواية بأكثر من منظور، وتعددت تفسيراتها وتأويلاتها، فكانت هناك مقاربات متباينة لها، تنحو منحى دينيا أو صوفيا أو نفسيا..إلخ.

انظر مثلا من هذه التناولات:

– د. لطيفة الزيات، “الشحاذ”، مجلة “الكاتب”، القاهرة، ع 112، س 10، القاهرة، يوليو، 1970.

وأعيد نشرها فى: (الرجل والقمة ـ بحوث ودراسات). سيق ذكره.

ـ د. لويس عوض،  “المحاكمة الناقصة”، فى كتابه (الثورة والأدب)، دار الكاتب العربى للطباعة والنشر، القاهرة، 1967، ونشر أيضا فى: (الرجل والقمة ـ بحوث ودراسات).

– ـ د. محمود الربيعى، “الطريق”، منشورة فى كتابه: (قراءة الرواية)، سبق ذكره.

ـ جورج طرابيشى، (الله فى رحلة نجيب محفوظ الرمزية)،ط. ثالثة،  دار الطليعة، بيروت، 1988.

ـ د.هالة فؤاد، (طريق نجيب محفوظ بين الأسطورة والتصوف)، دار العين للنشر، القاهرة، 2006.

ـ غالب حسن الشهبندر، “أصالة المخفى وعرضية الظاهر”، “إيلاف”، الجمعة 29 أكتوبر 2004. (http://www.elaph.com).

[xxiii]  ـ حول بعض التفسيرات لما يمكن أن يومئ إليه التناقض بين كريمة وإلهام انظر: د. لويس عوض، “المحاكمة الناقصة”، (الرجل والقمة ـ بحوث ودراسات)، سبق ذكره، انظر ص 166.

و: د. فاطمة الزهراء محمد سعيد، (الرمزية فى أدب نجيب محفوظ)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981، ص 185.

[xxiv]  ـ يشير د. جابر عصفور إلى تذبذب صابر بين “إلهام” و”كريمة”. انظر: “نقاد نجيب محفوظ”، أعيد نشره فى (نجيب محفوظ ـ إبداع نصف قرن)، دار الشروق، القاهرة، 1989.، ص 229.

[xxv]  ـ عن تأرجح صابر بين هاتين الشخصيتين انظر: سعد عبد العزيز، “ماوراء أدب نجيب محفوظ”، مجلة “الفكر المعاصر”، ع 42 ،القاهرة،، 1968، ومنشور فى: (الرجل والقمة ـ بحوث ودراسات). انظر ص ص 361، 371.

[xxvi]  ـ فى هذا السياق يشير د. محمود الربيعى إلى أن صابر “مهيأ لمستقبل متجانس مع نوع الماضى الذى عاشه”. انظر دراسته المشار إليها، فى: (الرجل والقمة ـ بحوث ودراسات)، سبق ذكره، ص 676.

[xxvii]  ترى د. لطيفة الزيات أن “رحلة التهلكة”، التى خاضها عمر الحمزاوى، “لم تبدأ لحظة قال الموكل لعمر الحمزاوى هذه العبارة (…) ولكنها بدأت (…) فى فترة تسبق الحدث بما يزيد عن العشرين عاما”.

انظر: د. لطيفة الزيات، “الشحاذ”، مجلة “الكاتب”، القاهرة، ع 112، س 10، القاهرة، يوليو، 1970. وأعيد نشرها فى: (الرجل والقمة ـ بحوث ودراسات)، انظر ص 566.

[xxviii]  ـ هذه الكلمات تحتمل تفسيرات متعددة. انظر تفسير د. شكرى عياد، مثلا، فى: “التساؤل الميتافيزيقى”، منشور فى مجلة “المجلة”، القاهرة، أغسطس 1971، وفى كتابه: (الرؤيا المقيدة)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978، وفى: (الرجل والقمة ـ بحوث ودراسات)، انظر ص 705.

[xxix]   ـ ميخائيل باختين، (أشكال الزمان والمكان)، سبق ذكره، ص ص 53، 54.

[xxx]  ـ هذه الرواية تختلف عن رواية الرحلة بمعناها الموروث التقليدى التى “لايوجد [فيها] شيئ يميز الزمن التاريخى؛ وحده زمن المغامرة والسفر يحظى بالاهتمام”. انظر: د. محمد برادة، (فضاءات روائية)، منشورات وزارة الثقافة، الرباط، 2003، ص 28. وسوف يتضح أن هذا الاهتمام، فى هذه الرواية، لا يتوقف عند حدود زمن المغامرة والسفر، وأن الديار التى سيرحل إليها العنابى بعضها يمثل موازاة لبعض التجارب التى عرفتها الإنسانية فى أزمنة تاريخية متعددة.

وقد لاحظ فاروق عبد القادر أن نجيب محفوظ، فى هذه الرواية، قد “اختزل التاريخ الإنسانى كله فى هذه الرحلات: اثنتين فى الماضى (المشرق والحيرة) واثنتين فى الحاضر (الحلبة والأمان) أو اثنتين فى الزمان واثنتين فى المكان”. انظر كتابه: كتاب الهلال، العدد 633، دار الهلال، القاهرة، سبتمبر 2003، ص 32.

ثم تستمر رادوبيس في خداع الشاب فتلقته بضحكة عذبة ، وقالت له:

  • إن لك صوتاً عذباً فكيف أخفيته عني طوال هذه الأيام؟ فتصاعد الدم إلى وجنتيه قانياً ، وارتجفت شفتاه ارتباكاً ، وقابل تلطفها بدهشة، وأدركت المرأة ما يدور بخلده ، فقالت تستدرجه :
  • أراك تلهو بالغناء وتترك العمل([6]).

وتكمل خداعها له :” فوضعت كفها على رأسه وقالت بحنان:

  • هكذا عرفت سر قلبي ، وإني لأعجب كيف لم أعرف هذا منذ أجل طويل .
  • فقال بنامون ، وكان يتيه في غمرات الذهول :
  • –      – مولاتي أقسم لقد شهدني الليل وأنا ذوب عذاب .
  • سأفعل ما تريدين بروحي وقلبي([7]).

وعاد بنامون من رحلته فقابلته رادوبيس :” فغمرته سعادة إلهية وارتمى على قدميها كالعابد ، ولف ذراعيه حول ساقيها بحنان ووجد، وهوى بفمه على قدميها..

 وقال :

  • معبودتي
  • فداعبت شعره بأناملها ([8]).

ونتسائل ما يفعل الشاب الساذج أمام غواية هذه المرأة الغانية ؟ لابد أن يستجيب لها بكل قوة وصدق تجعله كما يصفه نجيب محفوظ بالعابد.    انتهت الرواية بنهايات مأساوية للملك الذى أصابه سهم رماه به أحد الثائرين جراء نزعته للمتعة واللهو بلا حساب، ولرادوبيس التى قتلت نفسها بالسم، وهكذا يُفترض أن يموت طاهو بعد أن يفضح أمره، وبنامون من المؤكد أن يقتل نفسه بالسم مثلما فعلت رادوبيس، وهذه النهاية تأتي على هذا النحو من تأثير الروايات ذات النهايات المأساوية مثل الملك أوديب وانتيجون وعطيل وروميو وجولييت.

    وهذا الموت الذي حلَّ برادوبيس بالتحديد ما يجعلنا نستكمل عناصر الأسطورة الثلاثة ” حب الذات ونفي الآخر (العزلة) والموت” ورأينا فيما سبق كيف أحبت رادوبيس ذاتها وكيف نفت الآخر في كل الرجال الذين أحبوها وتحديداً الشاب بنامون (فشعرت بالعزلة والوحدة والحزن وأخيراً سنرى الموت الذي لا مفر منه في الأسطورة (النرجسية) حيث طلبت رادوبيس من الشاب بنامون أن يأتيها بقارورة السم من معمل والده وفعلاً أحضر لها السم وأعطاها إياه ، ويصف نجيب محفوظ ذلك بقوله :” وسرعان ما اتجهت أفكارها إلى القارورة العجيبة ، وأحست بشوق إلى النهاية فبحثت عيناها الموضع الذي شغله الهودج (الذي كان به الفرعون أثناء موته) منذ حين وصرخ قلبها أن ها هنا ينبغي أن تختم حياتها … وسمع بنامون صراخها وقال لها :

  • لماذا انتحرتِ… يا مولاتي؟ ([9]).

    وهكذا تحققت الأسطورة بأبعادها الثلاثة الحب والعزلة والموت لدى رادوبيس والفرعون الشاب الذين  أحبا نفسيهما – رادوبيس والفرعون – ثم تحقت العزلة عن الآخر حيت يتم الاكتفاء بعشق الذات ، وبالتالي يتم الموت سواء المعنوي أو المادي .

وفي رواية أجواء المدينة لمحمود قنديل ([10])  لقد أحب الفارس الأسير في اللاشعور رادوبيس. تلك الفتاة الفرعونية وأسطورتها التي شكلت جزءً من الخيال الأدبي العالمي في حكاية سندريلا فالتاريخ المصرى القديم مليء بالقصص والحكايات الأدبية والتى أُخذ عنها العديد من القصص والروايات العالمية، ومن هذه الأعمال قصة “رادوبيس” الجميلة، والمعروفة فى الآداب العالمية باسم “سندريلا” وهى نموذج لأدب القصة فى الدولة الحديثة، وقد وردت ضمن برديات شستربيتى بالمتحف البريطانى، والتي وجدت فى مقبرة ” قن حرخبشف” والذى عاش فى عصر الأسرة التاسعة عشرة ..وأبطال القصة هم رادوبيس، ووالدها التاجر سنفرو وأم رادوبيس، وزوجة أبيها وبناتها والأمير ([11]). فيقول سامي : ويمتقع وجهي، ويرتجف جسدي، وترتعش شفتاي، وتضيع مني الحروف، وأنا أشاهد فارسكِ الأسير، يهبط من فوق فرسه ويقترب منكِ، يدعوكِ إليه فترفضين، كان يبدو متعبًا، وعلى وجهه آثار سفر، يشدك من ذراعكِ فتقاومين، وأجذبكِ من يدكِ فتخور قواي وتضعف قواكِ، وتصرخين.

– رنا، لا تتركيني .

تحملقين في عينيّ بنظرة مذعورة مقهورة .

– رنا، لا تتركيني .

وينتزعكِ الفارس ـ عُنوة ـ من بين يديَّ، يضعكِ فوق صهوة جواده، وينطلق بكِ بسرعة الريح ـ بين سماء وأرض ـإلى أن يعلو ويعلو ويعلو …

تماهي رنا ورادوبيس:

         تعد رادوبيس – فعل اللاشعور –  وكانت رنا – فعل الشعور – وكان الفارس الأسير – فعل اللاشعور – وكان سامي – فعل الشعور -.

– رنا، أأميرة أنتِ أم مليكة ؟

– لا هذه ، ولا تلك .

– إذن فأنتِ رادوبيس تعودين إلينا بثياب تليدة .

ويستمر المؤلف في عرض التماهي بين رادوبيس ورنا “ويقف الفارس على مقربة منكِ، يمسح بيمناه على صهوة جواده، ويرمق عند التخوم بنايات المقابر، ويطالع في ملامحكِ قسمات “رادوبيس” ويبتسم:

– فارسنا الأسير، لِمَ تحدق فيَّ هكذا؟

– لأنكِ “رادوبيس” .

– رادوبيس أم رنا ؟

– أحبكِ أنتِ، وأعشقكِ .

– لعلك نسيتَ اسمي.

– اسمك محفور على جدران معابدنا القديمة.

– لكني لا أعرف.

– رادوبيس، الوقت يهرول، وقد آن ميعاد المغادرة .

    حتى التبس على سامي الأمر فلم يعد يدري من هي فيقول : “وتارة أخرى أرى فيكِ

رادوبيس برقتها ورقيها، تضعين التاج الذهبي فوق رأسكِ، وتشيرين ناحية المعابد والمسلات، تنددين بتعاليم الكهنة وأكاذيب السَّحرة، وتشجبين مراسم الدفن وتشييع الجنائز.

والآن أراكِ رنا بنقاء طفولتها، وطيبة صباها، ورصانة شبابها، تبشين في وجوه المارة، وبائعي الحلوى، وقائدي السيارات، فيولوحون لكِ وكأنهم يعرفونكِ منذ أعوام وأعوام.

        وهنا كان التناص والتماهي بين رنا ورادوبيس واستدعاء الأسطورة الفرعونية يؤكد في لاشعور المؤلف أن رنا بها ملامح نرجسية وأثرة وأنانية مثل رادوبيس إلى جانب جمالها وفتنتها أيضا فقد كانت بمثابة الغانية التى تأسر قلوب الرجال بجمالها وفتنتها، وقصة رادوبيس تُحكى فى كتب التاريخ القديمة، فهيرودوت ذكرها وإن كان قد نفى عنها أنها بنت هرما كما شاع عنها فى عصره. أما روجر جرين  فقد ذكرها فى كتابه عن أساطير مصر القديمة بقوله أن رادوبيس يونانية سباها القراصنة وباعوها لرجل غنى فكانت ضمن عبيده وكان رفيقها فى هذه الفترة إيسوب صاحب القصص الشهيرة. ثم باعها الرجل إلى تاجر يونانى مقيم فى مصر اسمه كاراكسوس وهو أخو الشاعرة سافو (وهذه التفاصيل ذكرها هيرودوت)، ولكن كاراكسوس عامل رادوبيس بنبل ودللها كابنته، حتى اختطف نسر ما صندلها وهى تستحم وحلق عالياً ثم ألقاه فى حضن فرعون مصر أماسيس، الذى بحث عن صاحبة الصندل (على طريقة سندريلا) وعندما وجدها جعلها زوجه، وعاشا فى سعادة حتى نهاية حياتهما بالطبع محفوظ أسقط كثير من هذه التفاصيل ووضع تفاصيله الخاصة ، فهى عند نجيب محفوظ مصرية ريفية هربت مع عشيقها إلى الجنوب حتى هجرها العشيق، ثم استطاعت بجمالها أن تتزوج من كهل ثرى فأصبحت غنية بفضل موته، فأقامت صالون تستقبل فيه الضيوف وتسلم جسدها كل ليلة لرجل فيهم([12]).

     وظل سامي طوال الرواية يستدعي رادوبيس ويعود للحديث إلي رنا وأحيانا عن أصدقائهما الثوار الذين تقلبت بهم الحياة وراح كل إلى غايته ولكنه فجأة يكتشف غياب رنا وكأنها رحلت وأن هاتفها مع فتاة أخرى هي رادوبيس ، ولا يخفى أن تلك الآلية كانت لمواجهة ألام الفقد والإحباط وهي عمل اللاشعور في مواجهة الواقع فحين فقد سامي رنا – الحلم – استدعى من التاريخ المصري القديم رادوبيس .

وبلهفة أفتح الخط لأتحدث إليكِ وأستفسر منكِ عن أمور كثيرة وأحوال شتَّى، فإذا بصوت فتاة يأتيني:

– هذا الرقم اتصل بي عدة مرات، مَنْ أنتَ ؟

– أنا، أنا، أنا سامي .

– لا أعرف شخصًا بهذا الاسم .

– هذا رقم رنا .

– رنا ؟

– نعم رنا، وهذا رقمها .

– هذا الخط معي منذ عام .

– ألستِ رنا ؟

– لستُ رنا، ولا أعرف أحدًا بهذا الاسم .

– هل لي أن أعرف اسم صاحبة الخط .

– أنا رادوبيس .

– مَنْ ؟

– قلتُ لكَ : رادوبيس

       ولكن دلالة استبدال رنا برادوبيس تشير إلي أن كلتيهما متمتعتين بالكثير من معاني الجمال والفتنة و النرجسية التي مثلت حبا عميقا للذات فمعروف عن رادوبيس – فيما سبق ذكره –  ذلك ولهذا استحضرها نجيب محفوظ في روايته رادوبيس وهى الرواية الثانية التى كتبها نجيب محفوظ بعد (عبث الأقدار) وهى واحدة من الروايات الثلاث التى تستدعى القصص والأساطير المصرية القديمة لاستخدامها – غالباً – من أجل الإسقاط على الواقع المعاصر فصالون رادوبيس يشبه فى جانب منه صالونات الأربعينيات الثقافية، ولفظ رئيس الوزراء، وخلاف رئيس الوزراء (المحبوب من الشعب) الدائم الخلاف مع الملك، كل هذه ليست سوى دلالات وإسقاطات واضحة على العصر وحزب الوفد ورؤسائه، والشخصيات الرئيسية هى الملك مرنرع الثانى، الملك الشاب القوى الذى لا يخلو من تهور وعناد وحب للنساء ثم مساعدا الملك وهما سوفخاتب كبير الحجاب صاحب الحكمة التى تنقصها القوة المرجوة ، ثم طاهو رئيس الحرس الملكى بقوته الظاهرة التى لن تخلو من نزوة ستؤدى إلى كارثة ثم نيتوقريس زوجة الملك المخلصة التى تُجرح فى كرامتها ومع ذلك تظل بجانب زوجها إلى النهاية وخنوم حتب رئيس الوزراء وكبير الكهنة وهو الشخصية المقاومة التى تواجه الملك وتنتصر عليه. هذه الرواية في جانبها الاجتماعي والإسقاط على الواقع السياسي في مصر ([13]). ، وتقول رنا عن نفسها ” أنا جميلة غصبًا عنكَ .. أنا أجمل من كل النساء” .  وظلت رنا هي حلم المدينة الذي يأبى النزول من عليائه فيقول سامي في جملته الختامية في الرواية “والآن يا رنا أراكِ في السماء شارة مضيئة تأبَى الهبوط” .

ويعبر سامي عن مصير رنا ومصيره في مشهد ختامي يكفي للدلالة على مصيرهما المأساوي ككل أبطال التراجيديا فيقول :

“لكن أسراب النسور تجتاح المدينة، تأكل الجيف الملقاة في الشوارع والميادين، وتنبش رؤوس الحراس، وأنتِ يا رنا بجواري ذاهلة، تهرب الأفراح من أعماقكِ، وتغادر البشاشة مُحيَّاكِ، فأضمكِ إليَّ مؤكدًا لكِ أن النسور لا تأكل غير المَيْتَة، وتتراءى لنا جثة المَلِك تتابع بعينين جاحظتين تحليق النسور، والصبي في قاع البحيرة نجح في نبذ القاع ليعانق المَلِك . ويمتقع وجهي، ويرتجف جسدي، وترتعش شفتاي، وتضيع مني الحروف، وأنا أشاهد فارسكِ الأسير، يهبط من فوق فرسه ويقترب منكِ، يدعوكِ إليه فترفضين، كان يبدو متعبًا، وعلى وجهه آثار سفر، يشدك من ذراعكِ فتقاومين، وأجذبكِ من يدكِ فتخور قواي وتضعف قواكِ، وتصرخين.

– رنا، لا تتركيني .

وهكذا كانت مصائر الشخصية الموت أو الهروب والضياع والعزلة ولكن ظل حلم الثورة والتغيير والحق في العيش والحرية والعدالة هو الباقي لدى نجيب محفوظ ومحمود قنديل.


[1]– نجيب محفوظ : رادوبيس . مكتبة مصر. القاهرة. 1977.

[2]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[3]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[4]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[5]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[6]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[7]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[8]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[9]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[10] – محمود قنديل :  أجواء المدينة . دار السعيد . القاهرة . 2018.

[11]– رضا سليمان : فتاة من نور ” رادوبيس الفرعونية” (موقع ديوان العرب). ٢٠٠٨.

[12]–  خالد محمد عبد الغني : سيكولوجية الإرهاب والعدوان والنرجسية والجسد الممزق “قراءة في الثقافة العربية” .مجلة تحديات ثقافية .الإسكندرية. العدد  35 صيف .2008.

[13]– خالد محمد عبد الغني : الشخصية المحورية في الرواية العربية . الهيئة المصرية العامة للكتاب . القاهرة . 2018.


نجيب لقطة حلوة

قراءة فى سلوك الفتوة داخل الحرافيش

د. حمدي النورج

فى قديم الزمان .. كان يا ما كان .. كانت الثمار الحمراء لشجرة التوت بيضاء كالثلج. وقصة تغير لونها قصة غريبة ومحزنة، ذلك أن موت عاشقين شابين كان وراء ذلك. فقد أحب الشاب بيراموس العذراء الصغيرة تيسبي وتاق الاثنان إلى الزواج. ولكن الأهل أبوا عليهما ذلك، ومنعاهما من اللقاء، فاكتفى العاشقان بتبادل الهمسات ليلًا عبر شق فى الجدار الفاصل بين منزليهما. حتى جاء يوم برحها فيه الشوق، واتفقا على اللقاء ليلًا قرب مقام مقدس لأفروديت خارج المدينة، وتحت شجرة توت ورافة تنوء بثمارها البيضاء، وصلت الفتاة أولًا وظلت تنتظر مجئ حبيبها. وفى هذا الأثناء خرجت لبؤة من الدغل القريب، والدم يفرج فكيها بعد أن أكلت فريستها، فهربت تيسبى تاركة عباءتها التى انقضت عليها اللبؤة وفرقتها إربًا، ثم ولت تاركة عليها آثار الدماء. حضر بيراموس ورأى عباءة تيسبى، فاعتقد بأن الوحش قد افترس حبيبته، فما كان منه إلا أن جلس تحت شجرة التوت وأغمد سيفه فى جنبه، وسال دمه على حبيبات التوت ولونها بالأحمر القانى. وبعد أن اطمأنت تيسبى لانصراف اللبؤة، عادت إلى المكان لتجد حبيبها يلفظ اسمها قبل أن يموت، وعرفت ما حدث، فالتقطت سيفه وأغمدته فى قلبها وسقطت إلى جانبه، وبقيت ثمار التوت الحمراء ذكرى أبدية لهذين العاشقين [1] .

عندما تستدعى مفهوم العنف فإننا بالضرورة نستدعى مفهوم الصراع الذى يتشكل ماديًّا فى حياتنا وإبداعيًا داخل الأعمال الأدبية التى يرفع السلاح فيها فى آخر دائرة الصراع. ثمة أسباب متعددة لوقوع العنف، وهى كلها مجتلبة من نوازع النفس نحو تحقيق الغايات والمطالب، الغايات التى تكون مبالغة فى الاستحواذ، وربما سعيا نحو تحقيق الحد الأدنى من الضروريات.

والحق إن معدلات الصراع تختلف باختلاف الأسباب التى تدفع به إلى الظهور، مثل الأسباب الاقتصادية الأسباب السياسية والأسباب الاجتماعية والأسباب التاريخية والأسباب النفسية [2] وملحمة الحرافيش تتبنى الإطار الملحمى هدفًا للوصف والكشف.وتتأسس فى جو اجتماعى حديث يرتبط بالحارة المصرية فى عشرينيات القرن الماضى، والواقع أنها حالة تنشئة جديدة لواقع الحياة ، وكيف كانت من البدء حتى النهايات. حلقات زمانية لا تنتهى. ثمة إطار مكانى ثابت هو الحارة هو مصر هو الحياة. يفترض نجيب محفوظ، وبفعل الاجتذاذ بنية اجتماعية ثم يمارس عليها طقوس الحياة بكامل تشكلاتها وشخوصها وأحداثها وجوهر صراعاتها.

فى حالة العنف التى رآها نجيب محفوظ تسيطر على سلوك العالم كتب نجيب محفوظ الحرافيش وعيناه على جوهر الصراع القائم بين الشر بكامل تشكلاته، والخير بكامل طقوسه عبر عشر حكايات متلاحقة ومتصلة فى صورة تتابع جيلى، مرتبط بالمصاهرة أو النسب، ويبدأ فعل التخليق الروائى الذى يشى باتحاد الشخصيات وتماثلها، واتساق الزمن وثبوته مع كون واقعية التجربة المقصودة ترفض ما تقدمه الرؤية الأولى.

يقدم نجيب محفوظ بنية استطالية ممتدة كما الحياة، تسقط فيها دقائق الأزمنة متتالية، تتجدد فيها رموز المكان بحسب التطور، إنه يلتفت جيدًا لحركة الزمن المتسارع فى مقابل هذا التغيير البطيء فى فعل المكان وصوره وعوالمه، فالمعروف أن الأماكن أكثر ثبوتًا من حركة الزمن، وثبوت الأماكن مع تسارع الزمن يخلق بالتأكيد أنواعًا من الأشكال الاجتماعية الآخذة فى التغيير المستمر وهذا ما قدمه نجيب محفوظ قطعا فى سلوك الحرافيش، وخطاب الفتوة، وفعل السلطة المتجدد والمتلون بحسب تشكل هذه الأشكال الاجتماعية الجديدة. وعلينا فى ملحمة الحرافيش أن نتبين ثلاثة تحولات كبرى بفعل المقارنة التاريخية الممتدة؛ الأشكال الاجتماعية أو الأبنية التى تحدد الاختيارات الفردية والمؤسسات التى تضمن دوام العادات وأنماط السلوك المقبول وبحث حركة تحللها وانصهارها بقوة وبسرعة تفوق الزمن اللازم لها، و الشيء الثانى بحث فى تغير جوهر العلاقة بين السلطة والسياسة بين ما قدمه نجيب محفوظ ،وما نلاحظه الآن من تناقص قدرة المؤسسات السياسية على جذب اهتمام المواطنين بل ووقوع حالات من الرفض جعلت لقوى أخرى ومبادرات واهتمامات شخصية دورًا فاعلًا فى حركة الأبنية الاجتماعية، مما يؤثر سلبًا على انسجام العلاقة بين السلطة والسياسة الخاصة بدولة ما، الأمر الذى يولد تماسكًا وقوة مفترضة ومطلوبة.أخيرًا كيف تم تصوير الدور الاجتماعى أو الضمان الاجتماعى المدعوم من الدولة أو من الأفراد تجاه بعضهم البعض.

فى سلوك الحارة المحفوظية لا نلمح تقلصًا لهذا الضمان الاجتماعى فى مقابل تقلصه الآن وتحوله إلى بناء هش من المصالح، أو  التحول من مجتمع البنية إلى مجتمع الشبكة.

سيكون سلوك العنف هو التيمة الكبرى فى ملحمة الحرافيش، وبه تتمايز الشخصيات، وهو أمر يتعلق باجتلاب طائفة من الأسئلة التى نبغى بحثها داخل الحرافيش، وهى كيف يقع التخلى عن الالتزامات والولاءات ؟ كيف يتغير سلوك الفتوة طبقًا لدوافع ونزوات خاصة؟ أين هو سلوك الحرافيش باعتبارهم القوة الفاعلة فى كل شيء؟ هل فى الخطاب المحفوظى تعزيز لدور السلطة على حساب آمال الحرافيش؟

لملحمة الحرافيش بنية قصصية متتابعة أو متوالية، وفضلًا عن ارتباط شخصياتها زمانيًا ومكانيًا هناك ارتباط المصائر الممتد منذ الحكاية الأولى وصولا للحكاية الأخيرة، مما يعنى الإفادة من بنية الملحمة التلقيدية التى أسهب وأطال أرسطو فى وصفها فى كتابه «الشعر»[3] ولعل من أبرز ملامحها أنها لا تنحصر فى زمان، كما أنها تبنى على الحكى، وهى أجود السبل لإثارة الدهشة. وفيها يظهر الحاكي العليم أو الرؤية من خلف أو البؤرة الصفر عالمًا مالكا زمام موضوعه، مراعيا موارد خياله مع كون حضوره قد يكون خفيفًا فى الحكاية [4] ، هذا الحضور الخفيف والمعرفة المتحققة من الرواى العليم الذى يوضحه نجيب محفوظ بدءًا فى بداية الحكاية الأولى (فى ظلمة الفجر العاشقة، فى الممر العابر بين الموت والحياة، على مرائى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا) [5].

يقال عن الملحمة إنها كانت فى أصلها حكاية منظومة فى عبارة شعرية أو نثرية فى مساحة زمانية ممتدة وشاسعة مع كثرة الشخصيات وحرية الحاكي فى الاستكثار من الدخائل، أو فى تضمين قصص لواحق، مع تنوع صور الأسلوب الناحى منحى التضخيم أو التبسيط. لكن الصور الملحمية الأكثر تمثلًا فى بناء ملحمة الحرافيش نجدها فى الاستعانة بالعجيب، كما فى حكاية جلال صاحب الجلالة، هذه الاستعانة التى يمكن توضيح عطائها فى «قدرتها على تغيير مجرى الأمور مع مطاوعة البطل أو مضايقته، ونفخ الروح فى عناصر خارجية (فى أشياء أو فى قوى طبيعية أو حيوانات).كذلك تعشق الملحمة إذاعة مفاخر الأبطال العظام لأن وظيفتهم أن يكونوا أدلاء قوم إلى طريق النور والتحرر وسعادة الجماعة، بين عظمة الزعيم واعتراف الحشود عروة وثقى. ثم وجهة التاريخ حيث تحكى الملحمة رحلة تشبه تمامًا حكاية «نشأة أمة» وجهر بمطامحها فى تأسيس قومية بعينها [6].

إن جملة الشروط السابقة يمكن قياسها على البناء الملحمى للحرافيش، ويمكن تتبع مسيرة سمة من السمات السابقة فى بناء الملحمة داخل الحرافيش. و القصد هنا لا يعنى إثبات البناء الملحمي للحرافيش التى كتبها نجيب محفوظ الذى آثر مع كل تجربة إبداعية جديدة أن يجرب لونًا جديدًا من البناء دون الوقوع تحت حدود النوع الأدبى الصارم. والظن أن الدرس النقدي قد تجاوز الطرح السابق عن البحث فى حركة النوع الأدبى، لكن السابق طرحه يؤكد على أن البناء الملحمى الأرسطى لا يخلو من حركة العنف والنزال والقتل وسلوك الفروسية، والغصب والفوز والهزيمة حيث تتحرك مصائر الشخصيات وتتشابك، قول يؤكد حركة سياق العنف داخل الحرافيش الذى نبغى الكشف عنه الذى يمكن توضيحه من خلال ما يلى:

شجرة الحكايات الحكاية الأولى:

يقصد بهذا العنوان، تقديم وصف لحركة التناسل داخل الحكايات العشرة، مع تقديم وصف لسمات الفتونة التى يقدمها نجيب محفوظ مع رحلة النشأة والموت لكل فتوة. ومن شأن هذا المدخل أن يقدم وصفًا موجزًا لنشأة منطقة ما فى زمان بجوار سيدنا الحسين، بما يعنى أنه تمثل حالة خاصة فى مدينة القاهرة بأحيائها العتيقة (السيدة زينب – بولاق أبو العلا – الجمالية – القلعة – الحسين – الدرب الأحمر .. وغيرها )وفى الإمكان تنسيب شجرة الحكاية الأولى مع ذكر دوائر الاتصال داخل كل حكاية، على اعتبار أن كل حكاية تمثل جيلًا كاملًا وصولًا للجيل العاشر. فى خاتمة الحكاية الأولى يكتب نجيب محفوظ «وجد عاشور الناجي نفسه فتوة للحارة دون منازع. وكما توقع الحرافيش أقام فتونته على أصول لم تعرف من قبل. رجع إلى عمله الأول، ولزم مسكنه تحت الأرض، كما ألزم كل تابع من أتباعه بعمل يرتزق منه، وبذلك محق البلطجة محقا، ولم يفرض إتاوة إلا على الأعيان والقادرين لينفقها على الفقراء والعاجزين .. وانتصر على فتوات الحارات المجاورة، فأضفى على حارتنا مهابة لم تحظ بها من قبل، فحف بها الإجلال خارج الميدان، كما سعدت فى داخلها بالعدل والكرامة والطمأنينة، وكان يسهر ليله فى الساحة أمام التكية، يطرب للألحان ثم يبسط راحتيه داعيا «اللهم صن لى قوتي، وزدنى منها، لأجعلها فى خدمة عبادك الطيبين» [7].

وقد مثلت هذه الشخصيات صور البناء الاجتماعى الذى قصده نجيب محفوظ، وقد بنيت فى صورة فعل ملحمى مستمر حتى الجيل العاشر يسقط بعضهم ويبقى البعض حتى يتم فعل التناسل والتشابك على امتداد عشرة أجيال:

عفرة زيدان: يسميه السارد بمولاي.سكينة: زوجة الشيخ عفرة زيدان. (تركت القاهرة وذهبت للدقهلية).درويش: شقيق الشيخ عفرة زيدان. (أكبر من عاشور بسنوات قليلة).عاشور: البداية الحقيقية لأسرة الناجى المستمرة (مجهول الأب والأم). زين الناطورى: (صاحب الحمير والحظيرة). عدلات: زوجة المعلم زين الناطورى. حسب الله  – رزق الله وهبة الله: (أولاد عاشور).قنصوه: (فتوة الحارة).زينب: زوجة عاشور الأولى. فلة: فتاة البوظة (مجهولة الأب والأم مثل عاشور).شمس الدين: (ابن عاشور الناجى). محمود قطايف: (شيخ الحارة الجديد بعد الوباء) [8]وفنى من شخصيات الحكاية الأولى: (عفرة زيدان – سكينة زوجة عفرة – زين الناطورى – عدلات –  زينب زوجة المعلم زين الناطورى – حسب الله – رزق الله – هبة الله – قنصوه) وبقى خمسة هم (درويش – عاشور – فلة – شمس الدين – محمود قطايف) وتنتهى الحياة بالفناء فلا حديث يذكر عن الشخصيات السابقة طيلة حكايات الملحمة ويبنى فعل التوالد من البقية فى كل حكاية.

شكلت الشخصيات السابقة عالم الحارة بكامل تفاصيله. وظهرت سير النوازع وخصام الرتب الاجتماعية، وأخلاق الطمع والأثرة وسلوك الرغبة، وظهر الخير واضحًا فى مقابل فعل الشر، مما يشى باحتدام الصراع واستمراره، فى علاقات الصلات الاجتماعية هناك علاقة الأخوة بين (عفرة زيدان – درويش)، (حسب الله – رزق الله – هبة الله) وهناك علاقة الأبوة والأمومة بين  (عاشور، حسب الله – رزق الله – هبة الله) (عاشور – شمس الدين)، (زين الناطورى – زينب) وهناك علاقة المصاهرة والنسب بين (عاشور – زينب) (عاشور – فلة) (زين الناطورى – عدلات) وهناك العلاقات على مستوى المهن الاجتماعية، المعلم وصبيانه، (زين الناطورى – عاشور)، (درويش – فلة) وهناك مستوى الوظائف والرتب الاجتماعية مثل شيخ الحارة (قنصوه – محمود فطايف)  (فلة) (عاشور) فى الأصل المجهول، فلا يعرف للاثنين (أب أو أم) ومنهما بدأت الملحمة، وعليهما تشكلت بنية الحكاية الأولى. إن مثل هذه العلاقات والأنماط تحاكى عالمًا واقعيًا مع جانبها التخييلى الواضح، ولعله القصد الذى بدأنا به رغبة نجيب محفوظ فى صناعة ملحمة لعاشور الناجى، ومن ثم يظهر البطل مجهول النسب وتساويه المرأة أيضًا مجهولة النسب، الظن أن لا أحد يعرف كيف بدأت الحكاية ، ولماذا كان هذا الأصل المجهول لكل من عاشور وفلة اللذين كانا الأساس في ملحمة عبرت عشرة أجيال ، هل يطعن هذا في بناء الملحمة ، هل هو اتساق مع البناء الملحمي اليوناني القديم في كون البطل قد يكون مجهولا  لا يملك مقومات إلا القوة وحب الخير ، وما حدودية تأويل طرح كالسابق ، لماذا جاء عاشور مجهول النسب ، ولماذا جاءت فلة كذلك ، إن عاشور محض اتفاق نزوي وقع بين اثنين تخليا عن معنى الإنسانية وحدودها الرائعة ، هذا الطفل الذي أصبح أسطورة في القوة والعدل ، هل يطمح نجيب محفوظ إلى تعزيز الجانب السلوكي المهم في التربية ، كيف تكون الحكاية تعبيرا عن حال البشرية عامة كما يذهب البعض في لون من التطرف المجحف مع قدرة البطل على مواجهة الصعاب والنوازل كما وقع مع نجاته من وباء الكوليرا، وصناعة أسطورة البطل المحبوب وتعاطف الحارة ثم تنصيبه فتوة الحارة. وسلوك البطولة الذى يحتوى الخيرية يرادفه العديد من الأنماط المساعدة التى تخدم سلوكه وأفعاله حيث ظهر محمود قطايف شيخ الحارة معاونًا لدرويش.  الظن أن ملحمة الحرافيش يجب أن تقرأ فى سياق أكثر اتساعًا وبخاصة سياق الملحمة التاريخية المصرية الحديثة، وهى ملحمة الظاهر بيبرس الذي لم يكن مصريا خالصا وإنما جاء مملوكا وخادما لا يعرف له أصل . االمعروف أن الأحداث الأساسية للملحمة تستوعب تفصيلًا العصر المملوكى فى أزهى عصوره، منذ عهد الملك الصالح نجم الدين  أيوب حتى نهاية حكم المماليك البحرية وذلك فى خمسة مجلدات ضخمة تشمل خمسين جزءًا، تحوى ألفين وستمائة صفحة ثم تواصل الملحمة سيرها وصولًا للجزأين الأخيرين، وتاريخ دولة المماليك الجراكسة حتى سقوط وانضواء العالم العربى كله تحت الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم تؤرخ الملحمة للدولة العلية ثم للثورة العرابية مع تجاهل تام للحملة الفرنسية، واحتلال الإنجليز لمصر، لتواصل تاريخ مصر حتى مطلع القرن العشرين أى حتى زمن الخديو عباس حلمى الثانى (1892 – 1914) [9]وإذا كنا نؤرخ احتمالًا لزمن وقوع الحكاية الأولى عام 1902 بالقاهرة، فهى تكمل إطارًا ملحميًّا موجودًا غير أنها شهدت تغيرًا مقصودًا من الكاتب لتصبح الملحمة عنده ملحمة الشعب أو ملحمة أبناء الحرافيش، ومنهم الفتوات، وإذا كانت ملحمة الظاهر بيبرس وهى حكى شعبى بامتياز لا يعرف من المؤسس ولا من السارد، أكثر  من التاريخ الشعبى والسياسى عبر تسليط الضوء على تاريخ الولاة والحكام، فإن نجيب محفوظ يتجاهل التاريخ السياسى، ويلتزم بتاريخ الحارة لا بتاريخ دولة بالكامل، إن البطل فى ملحمة الظاهر بيبرس يتبنى قضايا العدل الاجتماعى، ليغدو مثالًا فذا لحاكم مثالى، ورغبة حقيقة نحو مجتمع منشود. فى الحكاية المحفوظية الأولى يتبنى البطل قضايا العدل الاجتماعى أيضًا، ويسعى لتحقيق مجتمع منشود داخل الحارة حيث يتحول عاشور الناجى إلى بطل منشود لم ينقطع الناس عن التفكير فيه مدة سجنه، وانتظروا على لهف عودته، «كانت الأعلام ترفرف فى أعالى الدكاكين والأسطح، رأى الكلوبات تعلق، رأى الأرض تفرش بالرمل الفاقع، سمع موجات الأصوات وهى تهدر بتبادل التهانى [10]»وبهذا نعني أننا  نحكى عن إنسان يتكلم، ذات مشخصة بطريقة فنية، فرد اجتماعى ملموس ومحدد تاريخى، ذات منتج إيديولوجى، مقصود، وما القراءة إلا  فن اليقظة إلى الكلمات عندما يتسرب دون وعى للمتلقى، إن خطاب الشخصيات محمل بصور شتى من العنف فى إبان نشوب الصراع المحتدم بين شخصيات الروايات المنوط بها تفعيل الحدث وتحريكه. يقدم السارد الخطاب محتميًا بجوهر الإقناع ليبدو فعله الروائى مقبولًا مقنعًا، معبرًا أيضًا عن حركة نزاع الأضداد والمقابلات الثنائية المتضادة بين الحياة والموت أو الصحة والمرض أو الفوز والهزيمة أو الرضا والغضب أو العنف والرحمة، ولعل اللغة هى المعبر الأسمى أو الأداة القادرة على تسويغ هذه الثنائيات داخل العمل. إن تعريف العنف ينطلق من فعل التدمير أو التخريب أو إلحاق الأذى والأضرار ضد أهداف أو ضحايا مختارة، وهو تعريف لا يحتاج إلى استقصاء فى جوهر الخطابات المختلفة، لكن العنف الواجب إثباته هو حالة الضعف الجسدى أو المعنوى الذى ينزله الإنسان بالإنسان بالقدر الذى يتحمله على أنه مساس بممارسة حق أساسى، إنه فعل القوة أو القهر أو القصر أو الإكراه بوجه عام. أما عن أنواع العنف فهى متعددة؛ منها العنف الجسدى، والعنف الجنسى، والعنف اللفظى، حيث يظهر نسق العنف فى صور شتى حال الخطاب الروائى، ويمكن رصد العديد من تنوع هذا الفعل داخل الخطاب المحفوظى فى حكايته الأولى، اللبنة التاريخية أو الروائية الأولى فى ملحمة الحرافيش.

وإذا كنا اخترنا العنف بحثا، فلا شك من وجود جمالية الثنائيات الضدية التى تجمع بين ضدين فى بنية واحدة، حيث يؤدى هذا إلى تعميق البنية الفكرية للنص بالحركة الجدلية بين الثنائيات الضدية، مع توفير إمكانية الموازنة بين الطرفين، موازنة تؤدى إلى وضوح التصور المعرفى عن الأشياء لدى المتلقى [11] ولا تقف أهمية الثنائيات الضدية عند ذلك، فمنشأ هذه الثنائية يأتى من شعورين مختلفين يوقظان الإحساس، حيث يستثمر واحد نظام الإدراك فى الوعى والثانى يستثمر نظام الإدراك فى اللاوعى [12] مؤديا إلى المزيد من التوتر فيما يظهره النص وفيما يخفيه، وهو إجراء لغوى بامتياز باعتبار أن اللغة تحمل القدر الكامل من التنوع حيث النزعات التحليلية والقوة الطاردة التى تقابل قوة الجذب فى آن واحد، هى فعل ديمومي متحرر وجذاب داخل النسق المضمر الواحد يستوعب العديد من البنيات اللغوية على مستوى الإفراد والتركيب.لكنه وقوف لا يقاس على مستوى حكاية واحدة وإنما على مستوى الخطاب عامة وقوفا على التحرر والتعالق الدلالي المستمر .

حكاية «عاشور الناجى» موزعة على تسع وخمسين لوحة سردية، يظهر فيها عاشور شخصية رئيسة تمتلك سياق الفعل والحركة وصناعة الأحداث، وهو الذى يظهر بدءًا وصولًا إلى بدايات الحكاية الثانية شمس الدين الناجى، تقدم الحكاية الأولى «عاشور الناجى» تاريخ ستين عامًا من تاريخ الحارة المصرية، ولا تظهر سلطة الدولة إلا فى حدود حصر الممتلكات والوقوف على البنايات والمنازل التى مات عنها أصحابها بسبب وباء الكوليرا، وحكم على عاشور الناجى بعام واحد فى السجن بسبب استيلائه على دار البنان ولا وجود لسلطة الدولة بعد ذلك حتى عندما هاجم الوباء الناس، ويعنى ذلك أن السلطة السياسية كانت غائبة فى هذا التوقيت، حيث وقعت مصر تحت الحماية البريطانية بعد عزل الإنجليز للخديو عباس حلمى الثانى وتنصيب حسين كامل سلطانًا عام 1914، وهو قرار أنهى السيادة الاسمية للعثمانيين على مصر، كذلك فرضت الأحكام العرفية على البلاد، أما الأخطر فى ذلك فهو السياسة التعليمية الخبيثة للاحتلال ويكفى أن تعرف أن بعد مضى أربعين عامًا من الاحتلال البريطانى كانت نسبة الأميين فى مصر لا تقل عن 92٪ للذكور، 97٪ للإناث [13]. فأن تظفر بدور تثقيفى أو تنويرى حاضر فى مجتمع الحرافيش لن تجد إلا فى حدود بعض التعاليم الدينية التى تحض على الفضيلة وتجنب الحرام أو ما يمكن أن يسمى بعلوم الدين العامة، ومثل هذا الغياب قد يترجم بشيئين هشاشة الوجود الفاعل للمثقف، أو استعلائه عن سلوك العامة أو أثر السياسة التعليمية الإنجليزية فى مصر كما سبقت الإشارة.

إن استدعاء خطاب العنف وأشكاله فى القوالب الأدبية وبخاصة فى خطاب نجيب محفوظ سيجيب على كم هائل من التساؤلات، وبخاصة بعد تطور أدوات العنف تطورًا تقنيًا إلى درجة لم يعد من الممكن معها القول بأن ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية، أو تبرر استخدامها حاليًا فى الصراعات المسلحة، ومن هنا نجد أن الحروب التى كانت منذ غابر الأزمان- الحكم النهائى، والذى لا يرحم فى الصراعات الدولية، إنما فقدت الكثير من فعاليتها، كما فقدت مجدها الباهر كله تقريبًا. اليوم نجد أن ألعاب الشطرنج الكوارثية التى تقوم بين القوى العظمى الآن إنما تلعب على قاعدة «لئن كان الرابح هذا الطرف أو ذاك فإن الصراع سيسفر عن نهاية الاثنين» [14] غير أن هذا لم يقع في الحرافيش . من جملة التساؤلات التى نبحث وراءها هل كان العنف فى ملحمة الحرافيش، والذى قام به الفتوات فى مواجهة الحرافيش والخصوم الآخرين الممثلين فى فتوات الحارات الأخرى، هدفه الأساسى النصر أم الردع، وإذا كان العنف دائمًا بحاجة إلى أدوات لتمديد سلوكه الرادع، فما نوعية الأدوات التى سوغت خطاب العنف، وهل تجاوزت الوسيلة الغاية داخل خطاب الحرافيش، هل تجاوز حد الفعل العنف وغدت الأدوات المستخدمة أشد فتكًا وأكثر خروجًا عن الضبط. وإذا كان العنف يحمل فى ذاته عنصرًا إضافيًا تعسفيًا، هل ظهر ذلك فى كافة سلوك الفتوات، وهل المواثيق فى غياب السيف ليست أكثر من كلمات، وأن السلام الذى لا تحميه القوة يعد سلامًا زائفًا، وهل حقا السلطة تنبع من فوهة البندقية.

 سلوك العنف داخل الحكاية :

يقال إن السلطة تقوم على جعل الآخرين يتصرفون تبعًا لاختياراتها، أو فرض إرادتها رغم مقاومة الآخرين لها، ولعلنا نجد تجليا لذلك داخل الحكاية الأولى عبر جملة صور، ففي البوظة التى يمتلكها درويش:

(ملأ هيكله فراغ الباب. اتجهت نحوه أبصار السكارى المطروحين على الجانبين وثب نحوه درويش وهو يهتف:

– سيهدم أولادك المكان!

رأى هبة الله ملقى على الأرض بلا حيلة. رأى حسب الله ورزق الله مشتبكين فى صراع حقود، على حين انطرح السكارى غير مبالين. صاح (عاشور) بصوت فظيع:

– تأدب يا ولد.

انفصل الشابان وهما ينظران إلى نحو مصدر الصوت برعب، بظهر كفه لطم الأول، فالثانى فتهاويا فوق التربة العارية …

قذف درويش بنظرة متحجرة وصاح به:

– ملعون أنت ومعلون حجرك الموبوء ..) [15]

يُفترض فى عاشور أنه يملك السلطة التى تحتاج إلى العنف والقدرة، اللذين يحتاجان إلى الأدوات التى تمرر سلوك العنف، وتفرض واقع السلطة، فلديه رتبة الأبوة التى تسمح له أن يمتلك حق الرقابة على الأبناء، والسلطة الدينية التى منحها له الدين والمجتمع فى رفض سلوك البوظة وأهلها، ويمتلك أيضًا الأدوات التى عززت لديه سلوك العنف، وهى القوة التى عن طريق ظهر كفه، لطم الأول فالثانى فتهاويا فوق التربة العارية، قوة سمحت له بأن يتبنى خطابًا تهديديًا مباشرًا للبوظة وصاحبها: (فى قدرتى أن أهدم هذه البؤرة فوق رءوسكم) ولأن العنف يتولد عنه عناصر أكثر تعسفًا؛ فبالإضافة إلى التهديد ظهر السباب والقذف الصريح فى خطاب عاشور الذى يسب درويش بقوله: (اخرس يا قواد ) ويصف فلة التى ستكون زوجته القادمة (بل شيطانة صغيرة من صنع شيطان كبير).

ودع عاشور إذن الراحة والسكينة ليس بسبب البوظة التى كان يذهب إليها أبناؤه، ولكن بسبب ثورته على نفسه، وعنفه البادى فى صراع النفس التى حبسها مع زينب زوجته غير الجميلة، قال عاشور (إن البنت بهرتهم بجمالها. وقال أيضًا إن البنت بهرتهم بجمالها الفتان .. لماذا لا يتزوج الحمقى؛ أليس الزواج دينا ووقاية)[16]ويبدو المثال السابق شاهدًا على النزعة التسلطية التى عانى منها عاشور فى بداية حياته حتى اكتسب هو نفسه هذا السلوك دون أن يدرى، لقد كان درويش أكثر الذين أحدثوا تأثيرًا فى عاشور وإن بدا فى ظاهر الأمر رافضًا لسلوكه، ثمة فروق بين النوازع والتصرفات، وهى عين الأزمة التى لونت حياة عاشور، النزعة التسلطية وحب التملك وانفتاح الدنيا فى مقابل نمط التربية السلوكية الدينية الحقة التى عززها فى نفسه الشيخ عفرة زيدان الذى ظل يخدم القرآن وأهله حتى وفاته، لقد دفع خطاب درويش عاشور إلى التعصب المدفون وهو اتجاه سلبى يتولد عنه ما يسمى بالأفكار النمطية، التى يراها البعض جزءًا من الميراث الاجتماعى Social Heritage للمجتمع، ولا أحد يمكنه أن يهرب من تعلم هذه الاتجاهات والأفكار النمطية السائدة [17].يلح درويش مؤكدًا رفضه لعاشور الذى جاء مجهول النسب واستحوذ على قلب الشيخ الكبير (ليس عاشور بأخى .. وكان عاشور يتابع الحديث باهتمام فصدم صدمة متوقعة على أى حال )[18] كما أن درويش أيضًا كان لا يمل من السخرية من عاشور حتى فى تكوينه الجسدى الذى يعد من أفضل الهبات فى زمن اعتمد العنف أداة للعيش وتحقيق العدل دون الالتفات لسلطان العقل الذى يجمل به أن يكون حاضرًا محل العنف الذى لا ينتج فائزًا أبدًا (ألا ترى أن هيكله الضخم جدير بأن يلقى الرعب فى قلوب المستمعين) [19] وينقل السارد أيضًا وجهة نظر درويش فى عاشور .. (يا له من عملاق، له فكا حيوان مفترس، وشارب مثل قرن الكبش …) [20] ولا يمل درويش من لمز عاشور دائمًا، وبث روح الانتقاص فى نفسه وهزيمته روحيا (لا فائدة من قوتك إن لم تغسل مخك من الغباء) [21]وبالإضافة إلى خطاب السخرية والاستهزاء لجأ درويش إلى العنف استقلالًا بعاشور «لكزه درويش فى صدره وهمس بحنق: أخفض صوتك يا بغل» [22]

لقد وقع عاشور تحت تأثير خطابين متضادين خرجا من تحت سقف واحد أو من إناء واحد، خطاب عفرة زيدان الذى ظل يردد على مسمع عاشور (لتكن قوتك فى خدمة الناس لا فى خدمة الشيطان) ص12 وخطاب درويش (ستهلك جوعًا إذا لم تعتمد على قوتك – لا فائدة من قوتك إن لم تغسل مخك من الغباء) ص15. لقد شكلا الخطابان شخصية غير سوية تؤمن بالعدل وتطمع لتحقيقه بسيف القوة، تحب الحياة ولا ترى بأسًا أخذ الأموال من التجار والأغنياء ثم توزيعها على الحرافيش،  ليس غريبًا أن ينشأ عاشور حادًّا قاسيًا مفرطًا فى زوجته الأولى، متبنيا سلوك العنف رادعًا، والذى تعرض للعنف لا شك أنه سيتأثر بما لحق به « ومنذا الذى يا ترى شكك يومًا فى أن الذى تعرض للعنف يحلم بالعنف، وأن المضطهد إنما يحلم بأن يجلس ولو ليوم واحد مكان ذاك الذى اضطهده، وأن الفقير يحلم بتملك ما لدى الغنى، وأن المقموع يحلم بأن يلعب دور الصياد بدلًا من أن يلعب دور الطريدة، وأن أضأل أبناء المملكة شأنا يحلم بأن يصبح أول أبنائها وأن يصبح الأول أخيرها» [23]لقد اعتاد عاشور لعبة الغصب والعنف عندما استولى على دار البنان، ورأى أن الحق إذا مات عنه صاحبه، فهو لمن وجده حيث لا قانون، وعندما نصحه شيخ الحارة بأن يقدم كشفًا للتركة، وما تحتويه السرايا من فرش وما وجده من أموال لجأ عاشور إلى خطاب العنف أيضًا، والذى بدأ توافقيًا ثم تصالحيًا ثم تصادميًا أدى إلى حبس عاشور سنة واحدة. يرى عاشور أن عوالمه التى تسير بجانبه هى القبور، والممر المظلم، والليل والصحراء والجبل وأرواح الموتى والجوع، والخواطر التى تتجسد فى الظلمة، والتكية، القبو المظلم، الأشباح والأناشيد غير المفهومة، والحزن المسيطر، لن تكون روحه مشبعة بتقاطعات الجمال البكر فى هذا الكون الواسع، «يسيطر عليه وحش الجوع، يحبس قوة الجسد الهائلة وراء طود من الرفض والعنف، يدفعه غضبه فيتذكر مقولة عفرة له (لا تستسلم للغضب، لقد قال الشيخ المرحوم كلمته ..)

يخرج درويش أشد ما فى نفس عاشور، الغضب الموحش الأسود عندما «هوى بكفه على وجهه بجامع قوته، فبوغت عاشور بأول لطمة يتلقاها فى حياته، وصاح درويش بجنون: أيها الجبان الرعديد!

عصف الغضب بعاشور. اجتاحت عاصفته جدران معبد الليل. وجَّه من راحته الكبيرة ضربة إلى رأس معلمه، هوى على أثرها فاقد الوعى[24]لم يتعلم عاشور شيئًا إلا سلاح القوة البادية المخزنة تحت النفس العنيفة التى تحتاج إلى من يفك قيودها، ليخرجها من قمقمها السحيق، يظلم البعض عفرة الذى لم يعلمه شيئًا،لكن عاشور لم يتمكن من التعلم ، لم يكن مهاريا كان متلقيا سلبيا لا يحسن التفكير  ، واكتفى بأن يعيش فى كنف عفرة ، اكتفى  بالتعاليم الدينية  التي لم تكن يومًا مانعًا عن التحرك والنهضة، فمن اليسير أن نبنى ذراعًا قويًا، لكنه من الصعب أن نعثر على العقل الذى يحرك هذا الذراع، من يملك العقل هو من يملك الذراع، لأنه القوى الخفية الكامنة خلف كل الأشياء، لن يتمكن عاشور من بناء مجتمع، لأنه اتبع القوة والعنف سبيلًا، مبتعدًا عن العقل؛ متحديا السلطة بلا عقل (ألم تقنع اللجنة بما نهبت .. فارتعد الرجل من شدة الصوت وقال كالمعتذر، ما أنا إلا عبد الأمر ..

عندك معلومات فصرح بما فى نفسك ..

المسألة أن عضوًا من أعضاء اللجنة أعلن بعض التساؤلات

– عليه اللعنة! )[25]

لقد أشرب الخوف من الله والعرف دون وعى أو تفكر أو تدبر، علمه عفرة زيدان أن هذا حرام وهذا حلال، دون أن يشرح له أبعاد التناقض الظاهر فى بعض التصرفات، يمتلك عاشور خطابًا مباشرًا غير مرواغ يصلح مع رجل أوتى قدرًا من القوة التى لا يخشى بسببها أى شىء، لكنه فى وقت ما خشى الفقر بعد أن ذاق مرارة الحاجة:(يقول درويش: إنى أبذل ما فى وسعى لخدمتكم.

فقال له بجفاء «عاشور»: حسن أن يكون للإنسان بيت.

– بيت وضحك درويش ضحكة عالية ثم واصل:

سيكون بيت من لا بيت له!

يقصد البوظة التى انتوى درويش أن يبنيها:

وقال حسب الله لأبيه عاشور:

– وضح الأمر، الرجل يبنى بوظة!

فزهل عاشور متسائلًا:

– خمارة ! )[26]

لا يزال عاشور يمارس سلوكه السلطوى على أبنائه الثلاثة خوفًا عليهم، وبدافع من التربية الدينية التى جعلته موزعًا مضطربًا، لما رآهم سكارى، قال لهم .. كلاب: (وراح يعصر آذانهم وعضلات وجهه تموج بسحب حمراء. وتجمع غلمان يتفرجون فهتف حسب الله متوسلًا:

– فلندخل البيت. فصاح بصوته الأجش: تخجلون من الناس ولا تخجلون من الله .. )[27]هناك أشكال متعددة للعنف، عندما نقف على ساحة ميدان أو نشاهد فيلمًا سينمائيًا جديدًا أو عندما يلعب الطفل مع أخيه فى بيته، أو حتى عندما يطلب المدير من مستخدمه شيئًا. العنف يقع من شخص تجاه آخر، هذا الآخر يتسع ليمثل الأسرة، المؤسسة المجتمع، الدولة العالم. العنف يأتى فى حالة رد الفعل التي لا ننفك نطبقها فى كل شيء حتى فى التمثلات الثقافية والحفريات السردية، تعلم الأم ابنها ألا يترك حقه أبدًا، وتعلمه ألا يكون مغلوبًا، لا أن يكون عادلًا ويفترض آخرون أن يعيش الإنسان مهزومًا أفضل من أن يكون فائزًا، وتبنى الشخصية الطاووسية على حب الفوز والتملك، ثقافة الفوز مهمة من أجل قيام الحياة وتطورها، لكن ثقافة الغلبة والاستحواذ أبشع ما فى ثقافة الفوز. وعندما يقع شكل العنف يستجلب معه الأدوات التى تعنى القدرة، والعنف يقع  ضد الواحد ، وقد يقع مع الجميع بمساعدة الأدوات التى انفلتت حاليًا باكتشاف السلاح المدمر الذى يهزم ويقتل الألف فى دقيقة، وهناك عنف الجميع ضد الواحد، إن أقصى أنواع العنف هو عنف السلطة ضد الأفراد، ولا تكون خاصية فردية بل إنها تعود إلى مجموعة، وتظل موجودة طالما ظلت المجموعة بعضها مع البعض، وحين نقول عن شخص ما إنه فى السلطة فإننا فى الحقيقة نشير إلى أنه قد تسلط من قبل عدد معين من الناس لكى يفعل باسمهم [28]. لا ينفك درويش يمارس عنفه ضد المجتمع، وضد عاشور نفسه، وعنف درويش غير مدعوم بالسلطة، لقد احترف قطع الطريق: «وعند القرب وضح أن العجوز يمتطى حمارًا، وعندما حاذاهما تمامًا وشب عليه درويش .. ذهل عاشور وتحققت مخاوفه. لم ير شيئًا بوضوح، ولكنه سمع صوت درويش وهو يقول متوعدًا: هات الصرة وإلا ..

فتردد صوت مرتعشًا بالكبر والذعر: الرحمة .. خفف قبضتك ..» [29]

يمارس أيضًا درويش عنفه معتمدًا على سلطة أخيه السابقة على عاشور، وكذلك اعتمادًا على حاجة عاشور إلى العيش والحياة والمال، حيث لا يمل درويش من معانفة عاشور لفظيًا، ثم بدنيا «ثمة شبح يقف منه على بعد شبرين يعكر عليه صفوه، ويشده إلى عالم القلق، فرفع صوته الأجش متسائلًا:

– ماذا تنتظر يا معلم درويش؟

فلكزه درويش فى صدره وهمس بحنق:

– أخفض صوتك يا بغل» [30]و سلوك العنف هنا يعتمد على بنية توجيهية وتبريرية من طرف آخر، لكن ما التبرير الذى ينطق به درويش معللا سلوك العنف، لا يملك درويش تبريرًا إلا الحاجة، لكنه فى مواقف أخرى يبرر فتح البوظة أنها ستكون «بيت من لا بيت له». [31]ونستطيع أن ننظر لظاهرة العنف الذى أراه مرتبطًا بالشر فى حكاية عاشور الناجى من خلال درجات ثلاث يقدمها كانط، يشرح بها كيف ينزع الإنسان إلى الشر ، حيث يتخذ الشكل الأول شكل وهن وضعف للطبيعة الإنسانية فى اتباع المسلمات بوجه عام، وفيه تكون الإرادة تحت موقع أنا أريد وهو معنى يوضحه كانط بقوله «أما عن الإرادة فأنا أريد، وأما عن الإنجاز فغير موجود» [32] . يصف عفرة زيدان سلوك درويش بقوله: (أتقلد أهل العنف والشر؟

– أحيانًا يتحرش بى أهل الشر فأدافع عن نفسى ..

– يا درويش، لقد نشأت فى بيت خدمة القرآن شرفه وعزته. ألا ترى إلى سلوك أخيك الطيب عاشور) [33].أما النوع الثانى فيقصد به الشر من عدم الصفاء الحاصل فى القلب بفعل خلط الدوافع غير الأخلاقية بالدوافع الأخلاقية، وهذا الشر ينشأ عندما تكون المسلمة من جهة القانون خيرة وقوية على نحو كاف ولكنها ليست بصافية من الناحية الأخلاقية، ويظهر هذا فى مثل اعتراض عاشور على بناء البوظة (شد اللجام فتوقف الحمار عن السير، ووثب واقفًا أمام درويش وقال له بحزم: هذا العمل لا يليق بذكرى أخيك ..فابتسم درويش متهكمًا وقال: أليس خيرًا من قطع الطريق؟

– إنه سيئ مثله.

– معذرة فإنى أحب المغامرات ..

– بحارتنا من الشر ما يكفى وزيادة ..

– البوظة كما أنها تضاعف من شر الشرير، فإنها تضاعف من طيبة الطيب، شرف وجرب ..

عليها اللعنة). [34]وثالثًا يرتبط بتأخير الدوافع المنبثقة من النظام أو تعطيلها لمصلحة الدوافع اللا أخلاقية، حيث تنكر السلطة (محمود فطايف) على عاشور استيلاءه على دار البنان، ورغبة السلطة ورجالها فى الحصول على امتيازات وأموال. يبرر عاشور فعله بأنه يعطى المال لمن يستحق، ويرفض محمود قطايف ما يراه عاشور، وينكر عليه أن يعطى المال للفقراء: (أعنى الفقراء من أبناء حارتنا.

فابتسم محمود فطايف وقال: هذه نظرية ولكن للحكومة نظرية أخرى.

– وما نظرية الحكومة؟

– الدور تعتبر ملكا لبيت المال وسوف تعرض للبيع فى المزاد.

فحدجه عاشور بحدة وسأله: وماذا عن النهب؟ فهز منكبيه قائلًا: رأت اللجنة أن تتغاضى عنه منعًا لتعريض الأبرياء للتهم!) [35]عاش عاشور بلا عقل، مؤمنًا بفطرته السليمة فى رفض الشر والدعوة إلى الخير، واتبع سلوك القوة نشدانًا للخيرية، والتزم العيش وسط الحرافيش بعد أن تعلم من تجربة سجنه درسه المهم فى الحياة ألا يجب أن يأخذ ما ليس من حقه، حتى لو جهل صاحبه أو غاب. تعلم عاشور كيف تكون السلطة حاكمة ومسيطرة، وكيف أنها تملك من وسائل الردع والعنف الكثير. أحب أن يعيش حياة يضع هو شروطها فلم يستطع، فضيق على نفسه وأسرته نشدانًا للخيرية، عاش بجانب الشر وهو يرفضه، وتعلم أن الحياة لا تكون إلا بالنقيضين. لكن الشر كان لا يزال ضعيفًا، لم تنعقد عقده، ولم تتوسع مشاربه. فقط درويش الذى انتقل سويًا إلى الحكاية الثانية. حكاية الابن شمس الدين الناجى!

الحكاية الثانية: شمس الدين الناجى

الحب لا العنف هو ما يربط شمس الدين بأبيه ، لا يظهر خطاب الشر واضحًا فى هذه الحكاية مثل الحكاية السابقة، كانت قوة عاشور غالبة. وكانت قوة شمس الدين قاهرة. أركان العدل ثابتة ومخالبه كانت حادة. يضعف خطاب الشر فى ظل الدولة القوية، يختفى تحت الركام لكنه لا يموت، يكمن ثم ينتشر، وعامة لا يمكن للعدالة الحنون أن تنحدر أو تدوم أو تتقدم أو تركد أو تجدد نفسها أو أن تقفز نحو الأمام إلا عندما تؤمن وسائل الحياة المادية والروحية بشجاعة وإبداع ومسئولية. وبوعى من شخصيات مهمة: (درويش – عاشور – فلة – شمس الدين – محمود قطايف) تدشن الحارة حياة جديدة ممتدة، يعيش الخير بجانب الشر، يؤمن كل مساق موارده وأهله، تختلط بعض السلوكيات، وتنضج بعض الرغبات بالرفض والقبول، لكن الحارة كانت قطعة من الحياة الكبيرة التى تظهر كيف تتحرك الأمم إلى الأمام.

تذكر دراسات البحوث الاجتماعية أن أوربا فى عصورها الوسطى قد أدركت خطر القادة الدينيين الذين كانوا يحكمونهم بفساد، فانتفضوا ضدهم. وظهرت حركة الإصلاح الدينى الكبري، ولما أدركوا ازدياد عددهم توزعوا على كيانات منفصلة، وعندما لاحت الحاجة إلى نشر المعرفة فى المجتمع اخترعوا المطبعة. وعندما أدركوا الحاجة إلى تثبيت القوة السياسية دشنوا مغامرات اكتشاف العالم، وعندما أدركوا الحاجة إلى التعبير عن رؤيتهم لجمال الطبيعة والأعمال الإنسانية بحرية كأفراد ابتدعوا أجمل الأعمال الفنية فى العمارة والموسيقى والرسم والنحت والأدب، وعندما أدركوا أن مواردهم العقلية والثقافية التى أدت إلى رؤيتهم للعالم محدودة، وجهوا انتباهم إلى إنجازات اليونانيين والرومانيين القدماء، واستقوا إلهامًا ثريًا منها، وهكذا انبثق عصر النهضة. هذه التطورات وغيرها جعلت التحول إلى الحداثة ممكنًا .[36]

والسابق يكشف عن فن إدراك اللحظات الحرجة فى حياة الشعوب والأمم، والظن أن فن بناء الأمم هو الفن الذى يجب أن نتقنه جيدًا، أن نخطو للأمام يعنى اتساع الرؤية على اليسار واليمين، بالإضافة إلى خبرات السابقين.

لم يجد شمس الدين الناجى من عاشور الأب سلوك عنف وقوة مرغمة على الفعل، نشأ الفتوة الجديد محبا لأفعال أبيه، مقتديا به دون أن يمارس عليه الأب الفتوة ما مارسه على إخوته السابقين، لكنه كيف بدأ شمس الدين خطواته فى عالم الفتوة؟ والانتقال من الحركة ودفعها إلى البحث عن وجودها الأكبر مكانيًا؛ علاقاتها مع الحارات الأخرى وفتواتها. كيف تعامل مع أصحاب النفوذ والطبقات الكبرى، كيف خضع له الحرافيش. هل وجد العنف سبيلًا إلى الحرافيش؟! هذا هو الجيل الثانى بعوالمه المكانية وشخصياته الأساسية:

– شمس الدين الناجى – الفتوة (مات فى نهاية الحكاية بعد المعركة مع فتوة العطوف) فلة زوجة عاشور(ماتت فى حياة الفتوة).غسان (من رجال عاشور. ترك الحارة بعد تهديد شمس الدين) دهشان (من رجال عاشور)محمود قطايف(شيخ الحارة فى زمن عاشور. وشمس الدين الناجى).درويش الخمار (ترك الحارة بعد اختفاء عاشور)  حسين قفة (إمام الزاوية).عليوة أبو راسين (صاحب الحانة مكان درويش)شعلان الأعور (فتوة سابق). عجمية ( زوجة شمس الدين ابنة دهشان)قمر ( أرملة أحبها شمس الدين) عيوشة ( خاطبة) عنتر الخشاب (صاحب الوكالة) سليمان الناجى ( ابن شمس الدين) سماحة الناجى ( الابن الاكبر لعاشور الناجى)عتريس (فتوة) سعيد الفقى (شيخ الحارة الجديد).

فى نهاية الحكاية الأولى – كما سبق – تبقى (درويش – عاشور – فلة – شمس الدين – محمود قطايف) والتحق بسيرة الحرافيش فى الحكاية الثانية شخصيات أسهمت فى اتساع الأحداث، بالإضافة إلى الانزياح المكانى حيث الحارة وما جاورها (وهكذا حافظت الحارة على نظامها التالى فى الداخل وعلى سمعتها خارج نطاق الميدان» [37]

وتحيل الشخصيات المتبقية على لوحات اتصالية، متباينة، بالإضافة إلى تنوعها التراثى فى البنية الاجتماعية، علاقات ودرجات ومهن؛ حيث يمكن الوقوف داخل الحكاية على خطاب الفتوة شمس الدين الناجى وحركة خطابه ارتباطًا أو ابتعادًا بحسب علاقاته وتحركه.

ثمة بنيات حوارية متعددة وقائمة (عاشور – الأب) (فلة الأم) (غسان الغريم) (محمود قطايف شيخ الحارة) (عجمية زوجة الفتوة) (قمر العشيقة) (عيوشة الدلالة) (سليمان الدين) ، وهذه البنيات الحوارية تمثل علاقات متعددة (الأبوة – البنوة – الأمومة – النسب والمصاهرة – الصداقة – الحاكم والمحكوم – العداوة والعنف – الشك – الخيانة – الغواية – المنفعة والنفعية – الرغبة …) بدأ عاشور معتمدًا الإيمان سبيلًا لقيام الحارة، الإيمان البسيط الذى تسنده القوة الخالية من العنف فى بعض الأوقات. يجرب شمس الدين الناجى العقل لا الإيمان منطلقًا لسيادة الحارة وحكمها، ارتقت درجة الوعى قليلًا، ومثل الطموح الشخصى والعواطف الشديدة والتلهف للقوة وحب المجد ودافع الحياة وسائل للتغيير، وارتبط بقاء سليمان الناجى ببقاء قوته،  قول يؤكده دوام الحضارات والأمم بقدر ما بقى لها من انسجام مع الطبيعة وبقدر ما تبقى نشيطة ومستجيبة بفعالية إلى حاجات الشعب المادية والروحية.[38]بلغ شمس الدين من العمر أرذله، لكن هاجس القوة كان يتملكه .. يرى الناس أنه وصل لدرجة الخرف حتى وهن عظمة، لكن القوة كانت ملهمة:

(أما علمت يا معلم؟

فلما استوضحه ما يعنى قال سعيد الفقى؟

رجالك يتربصون لزفة فتوة العطوف الجديد؟

انتفض غاضبًا وهتف: كذب.

– هى الحقيقة وسينتصرون بإذن الله ..

أين؟

– عند بوابة المتولى يريدون أن يشكموا الفتوة الجديد ..

فتساءل شمس الدين محتدًا: من وراء ظهرى!

أيها العجوز المخرف الذى يبول على نفسه!

…………………………………………

اندفع شمس الدين بلهفة إلى قلب المعركة. وثب برشاقة أمام ابنه سليمان … تمثل بنشوة القتال فخلق المعجزات …[39]

لا يمكن أن تكون حكايات الحرافيش تمثيلًا لحالة حارة من الحارات المصرية والموجودة الآن بالقرب من حى القلعة وتسمى بالحرافيش، ليست ثمة خلق لهذا الاسم بقدر ما هو ابتعاث لحالة حارة مصرية عاصرت الاحتلال وصولًا إلى ما بعد ثورة يوليو بقليل، الظن أنها رؤية نابعة من الرغبة فى تقديم وصف لكيفية بناء الأمم ونشوء الحضارات من البدايات حتى التطور. لقد كانت مسيرة الجيل الأول متمثلة فى عاشور، والجيل الثانى يمثله شمس الدين. لم تكن الدنيا كما كانت، ولم يتملك الشر ويستحوذ مثلما تطور فى الحكاية الثانية، لقد اندفعت الرغبات وزادت مساحات التطلعات واحتدام صراع الرغبة والقناعة، الخير والشر، القوة والخوف، القلة والكثرة، وفى كشف ذلك ينبغى النظر إلى خطاب شمس الدين الناجى.

وهناك جملة من الفروض تستحق التعاطى مع هذا الخطاب  الذي  يبدو توجيهيا مدعما بالسلوك العملى الذي يملك بعدًا تراثيًا ،وباعتبار الزى إحدى العلامات التى كانت تدل على حجم الثراء والرفاهية، فقد كانت نصائح عاشور لابنه شمس الدين، كانت الحضارات فى بدتها تقيم لحالة الزى ونوعه إطارًا توجيهيًا مهما، ومن ثم الحكم على الجوهر من خلال المظهر، كانت حالة التسليم القلبى ماثله، وأن ما فى القلوب يظهر على الوجوه، لم يكن البشر بحجم هذا التعقيد السلوكى والنفسى الذى أوجدته المدنية الحديثة. يذهب نجيب محفوظ لينشد هذه الحالة، كما أنه يدعو ابنه إلى التمسك بتراث الأب الفتوة الباقى الذى اتخذ الحق سبيلًا بعد أن تطهر سنة كاملة من دافع الأثرة الذى وقع فيه بعد أن استولى على دار البنان. ينجح شمس الدين فى هذا التمسك التراثى المدعوم بالوعى بحركة مجتمعه الآخذ فى التكون والبناء.

شمس الدين: قال له مرة عند قدوم عيد:

– أريد يا أبى أن أرتدى عباءة ولاثة ..

فقال عاشور بحزم:

– ألا ترى أن أباك لا يرتدى إلا الجلباب.

لما رآه يرتدى عباءة ولاثة ومركوبًا .. وخطر مزهوا بها صباح يوم العيد. ومن إن رآه عاشور حتى أخذه من تلابيه إلى البدروم ثم لطمه لطمة دار بها رأسه وصاح به:

– يتسللون إلى من ثغرة ضعفك بعد أن أعيتهم إرادتى الصلبة.

كانت حركة المجتمع فى عهد عاشور بسيطة لم تتخط الحارة إلى غيرها، ولم تتجاوز العداوات الفردية إلى العداوات والثارات المركبة التى تتولد بفعل الانفتاح والاتساع. يسقط شمس أمام ضعف نفسه مع قمر، وهذا حظ النفس من شخصية الفتوة القوى، وكانت حياة الأبهة الأولى حظ النفس من عاشور الناجى، يبدو أن البشرية كلها قد كتب عليها

أن تسقط أمام حظوظ النفس. أما الفرض الأول فيكمن فى تعليل البعد الاقتصادى والاجتماعى للحارة فى زمن شمس الدين.

يستخدم ابن خلدون أسلوب المعيشة كمعيار أساسى فى التفرقة بين شكلى المجتمعين الأساسيين؛ مجتمع البداوة ومجتمع الحضارة. والأول مجتمع يستنفد أفراده طاقاتهم فى إشباع حاجات الحياة الضرورية من طعام ومأوى عن طريقة الصيد أو تربية الماشية أو الزراعة أو النقل والعمل الحرفى البسيط المرتبط بنمط الحياة، وبمجرد انتقال أفراد هذا المجتمع البدائى من حياتهم البدوية (أى البدائية) الصعبة إلى حياة المدينة السهلة وتغير أسلوب معيشتهم، فإن كل صفاتهم وطبائعهم تتغير [40] يقول ابن خلدون «اعلم أن اختلاف الأجيال فى أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش .. إن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعى من الفلح والقيام على الأنعام، وأنهم مقتصرون على الضرورى من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد، ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي .. وهؤلاء سكان المدن والقرى والجبال .. الحضر ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان» … ومن هؤلاء من ينتحل فى معاشه الصنائع، ومنهم من ينتحل التجارة. وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو، لأن أحوالهم زائدة على الضرورى، ومعاشهم على نسبة وجدهم .. فيتخذون القصور والمنازل، ويجرون فيها المياه .. فخشونة البداوة قبل رفة الحضارة. ولهذا نجد التمدن غاية للبدوى يجرى إليها، وينتهى بسعيه إلى مقترحه منها. ومتى حصل على الرياش الذى يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة. [41]

وربما لا تكون المقارنة دقيقة فى التعريف بشأن الحارة التى عاش فيها شمس الدين، وربما هى أقرب للحضارة من مجتمع البداوة، لكن الغالب أن سلوك البداوة كان أكثر ظهورًا فى حارة عاشور عنه فى حارة شمس الدين، وهذا يفسر حركة النمو، والتغير المجتمعى التوسعى الذى احترفه نجيب محفوظ، إنه الانزياح من فكرة النواة الأولى إلى تشابك الأنوية المتعددة، وإن اتسم سلوك الفتوة بالبداوة التى لا تناسب المحيط الاجتماعى المقدم للأحداث، ثمة تناقض واضح بين البنية الاجتماعية على اتساعها وسلوك الفتوة لدى نجيب محفوظ[42]

فى حارة شمس الدين الناجى تتجلى المظاهر الاجتماعية الحضرية الآتية لـ (سهرات التكية الليلية – الميدان الرئيسى فى الحارة – الأعيان والتجار – الخمارة والسكارى – مجلس السماع – سواق الكارو – الباعة المتجولون – الحانطور).

فى حكاية عاشور الناجى لم يسع التجار إلى مهادنة عاشور، كانوا فقط يدفعون الإتاوات، وانشغل الحرافيش بأعمالهم البسيطة فى ظل فتوة قوى يأخذ ويعطى، عند شمس الدين الناجى ارتفعت طبقة التجار وتنوعت المصالح والمنافع، ثمة مجتمع يتحرك للأمام يوزاى تمامًا انتقال مجتمع الحارة من البداوة المتأخرة إلى بدايات الحضر عبر مائة عام أو أقل. والحق أن سمات التغيير التى نستقبلها عبر مائة عام تبدو قليلة حال انعقاد المقارنة، لكن ثمة تحرر فى سلوك الناس، جاء محمود قطايف إلى فلة وعاشور فى صورة للسلطة بدافع من المساومة، وأتى إلى شمس الدين وقد انحرفت السلطة وهادنت التجار قليلًا، وستلمح فى الحكاية الثالثة أن المهادنة تحولت إلى تزاوج مع اتساع التشابك والانحرافات. ولا شك فى كون النصوص أو الحكايات المحفوظية فى الحرافيش خاصة مرتبطة بالحالة الدينامية أى كيفية صناعة الفاعلين الاجتماعيين للنصوص أو نسجها أو إقامة علاقات بين عناصرها [43]، وكون ذلك موجودًا فإن النظر للنصوص باعتبارها جزءًا من الأحداث الاجتماعية المحسوسة تتفاعل مع بنى اجتماعية وممارسات اجتماعية أكثر تجريدًا منها، فتتبلور بها وتقوم ببلورتها.

وإذا كان فكر البداوة لا يزال مسيطرًا على حارة شمس الدين الناجى، فإن جملة من هذه الأفكار لاتزال سائرة من عاشور إلى شمس، أى من المائة سنة الأولى وصولًا إلى المائة سنة الثانية، هذه الأفكار التى تتحرك لا بد أن تضمن قوة حضور وقوة تغيير فى البنية الاجتماعية، وهى ربما تختفى سنوات ثم تثور فتظهر بفعل الابتعاث، وبقاء الأفكار كامنة لا يعنى أنها غير موجودة. صمتت الحارة عمرًا وربما بطشًا وخوفًا من عاشور على حكاية قلة التى وجدها فى البوظة فتزوجها، ولم تظهر إلا بعد اختفاء الرجل الذى وجد لقيطا. إن القدح فى عاشور هو الأولى من القدح فى فلة، لكن طبقية المجتمع وفعله الذكورى ينتقى من الأفكار ما هى أشد إيلامًا وتأثيرًا فى حالات الهدم، وما هى أكثر فعلًا وإيجابية فى حالات البناء.

لما يئس التجار من عدم التعاون مع شمس الدين وظهور لعبة المنافع

ظهر الخطاب الجديد الذى أوهن عزم الفتوة، حكاية فتاة البوظة. فى أشد حالات التزال، قال له فتوة العطوف وهو يتوثب للالتحام مستدعيا هذا الخطاب الزلزل الهدام.

– أقدم يا بن الزانية .. أقدم يا بن عاهرة خمارة درويش وملأ

سبابه الأسماع .. هلل له رجاله وزمجر الآخرون ..[44]

ثم أتى له شيخ الحارة محمود قطايف فى الفقرة رقم (26) من الحكاية ليترجم حالة القطيعة بين الأعيان وشمس الدين (بكل أمانة يا معلم شمس الدين إنى مفوض من الأعيان للحديث معك ..

ماذا يريدون؟

– لهم رغبة شريفة صادقة فى الاحتفال بزفافك ..

– …………………………………………………

– إنك فتوة الجميع، فتوة الأعيان كما أنك فتوة الحرافيش، ومن حق كل فريق أن يحتفل بك بطريقته وفى نطاق قدرته ..»[45]

لم ينصت عاشور كثيرًا لما قيل عن فلة، ولم يتردد مطلقًا فى أن يتزوجها وينجب منها وهو الذى لا يعرف لها أصلًا مثله تمامًا. لم يكف شمس الدين ثقة عاشور فى أمة فلة، بل ركبه الشك وأوهنه، ووجد راحته فى قمر كيف يهرب من سؤال الشك إلى ممارسة الفعل نفسه؟ قالت له (فلة) «قمر فى مثل سن أمك وهم عقيم» هى أمه التى تعلق بها وحيدًا فى الصحراء المترامية، صحراء المماليك وهو أيضًا عالمها الوحيد فى هذه الصحراء. ذهب شمس الدين الناجى إلى قمر مرتين فى موقفين أحس فيها بحالة الرفض المتزايدة، وحجاب البعد والجفوة، المرة الأولى عندما رفضت زواجه من عجهية والثانية عندما توفيت فلة بعد أن رفض زواجها من عنتر الخشاب.

إنه لا شك بحبها، لكنها قوية مثل عاشور تمامًا، وأكثر تمردًا واستهتارًا، بيد أن أثر تربية عاشور لها لا يزال يحكم تصرفها، كما أنها تحتفظ له بذكرى قديمة، إنها زوجة عاشور الفتوة السر. لما صارحها بالزواج من قمر الفتاة التى تماثلها صارحته هى برغبتها فى عنتر الخشاب، لكنها تحتفظ بالسيرة الحسنة لعاشور .. يبدو أن هذا الرفض قد أقنع شمس الدين أنه فلة امرأة شريفة، وقال لنفسه إن قلبها طموح، إنها متمردة، ترى ما حقيقة تاريخك أيتها السيدة التى أحبها أكثر من أى شىء فى الوجود» [46]

لكن الضحية الكبرى فى الحكاية الأولى والثانية الحرافيش فقط، هم الذين يرجعون الفقر والمهانة والاستغلال حتى إن وجد من يدافع عنهم لاينفك الأغنياء والتجار ينحازون إليه أو يستملونه بالفعل والعطايا.

وبما أن سيرة الحرافيش مستمرة، فالكثير من الشخصيات الثانوية تظهر وتختفى، كما يولد الحرافيش ويموتون، إنها أمثولة رمزية عن بحث مصر عن الحاكم العادل، على ذلك. فإن منطق الشر والخير الذى يظهر ويختفى فى أفعال عاشور ومن بعده شمس الدين الناجى، وربما تمثل الخيرية عامة، واستواء الشر على النقيض يمتد إلى فتوات آخرين سردت الملحمة تاريخهم بحكم بمنطق عن الاحكام إلى الطابع الإنسانى الموروث فى مسألة الخير أو الشر. كان عاشور لقيطا لكنه كان عادلًا، وكانت أم شمس الدين من الحانة بلا أصل لكنه تمثل العدل وانحاز إلى الفقراء والحرافيش. يبدو أن نجيب محفوظ كان يرصد لحالة الشفافية الأولى وسلامة النفس ونقاء الروح ساعة البرء الأول، ومن يتعرف إلى الخير عن طريق ظهور الشر الذى يمتلك هو أيضًا اللون نفسه من البياض مثل الخير فى بدء التكوين، لم يكن الناس يعرفون أنهم يضعون الشر فى هذه الدنيا إلا بمقارنة الخير، ستتراكب فوق النفس البشرية العديد من النوازع والتناقصات الأخذة فى الظهور تدريجيًّا فى مجتمع الحارة، وحتى على الفتوة نفسه، وحدها فلة الراشدة التى أتقنت الفرق مبكرًا، إن هذا القول يؤكده حقيقة أن نجيب محفوظ قد وصل إلى القمة فى التعبير عن فلسفته والتى عبرت عن المدى القائم بين الحقيقة العامة والحقيقة الجوهرية بين الوجود والماهية، بين العالم المعاش وعالم الفكر المثالى [47] . وقد جاء ذلك عبر ثنائية مجمعية مقصودة فئة الصفوة وفئة الحرافيش، حيث تهلل الفئة الأولى لسلوك الأثرة والمال والسلطة وتبغى الثانية سلوك العدل والسماحة، والخيرية، والظن أن الأمور على جملتها لا تسير وفقًا لهذا التقسيمي المحفوظ للفئات فى الملحمة عامة.

لم يتسام عاشور على غيره بقوته، ولم يرفض أصله الذى أوجده لقيطا، ومن ثم لم يكن غريبا أن يتزوج فلة التى يعلم بسلوكها، لكنه يعلم أن للغواية ظروفًا مؤثرة على أصحابها، فالذى جعله لقيطا هو الشىء نفسه الذى جعل فلة فتاة فى البوظة، إن منطق الخيرية يتردد في هذا النموذج الرائع الذى أوجده نجيب محفوظ، لقد سكب الحب فى روحه من تعاليم عفرة ومن أناشيد التكية الكثير.

يعلم عاشور أن الرغبة فى السلام يجب أن تكون محفوظة بالعدل، وهكذا علم ابنه شمس الدين، كان عاشورعادلًا لأنه هزم وحش الخوف الراقد فى النفوس وعلى أبواب كل الأماكن، قرر أن يتزوج فلة ففعل، وقرر الخروج بسبب الكوليرا ففعل، يترجم عاشور نفسه فى هذه اللقطة الوجودية البديعة، تقول له (فلة)

– وهل الموت يعاند يا عاشور؟

فقال وهو يحنى رأسه فى حياء:

– الموت حق والمقاومة حق.

ولكنك تهرب؟!

– من الهرب ما هو مقاومة!

فتساءلت فى قلق:

– وكيف نعيش فى الخلاء؟

– الرزق فى الساعدين لا فى الأماكن.

فنتهدت قائلة:

– سيضحك الناس من جهلنا؟

فقال بوجوم:

– لقد جفت ينابيع الضحك [48]

ينطلق شمس الدين  من مقولة السابقة (الموت حق والمقاومة حق) ليقاوم وحش الخوف المتمثل فى الموت، لكن لاقيمة لتملك يعقبه موت، واتجاه شمس الدين لمحاربة تقدم السن وما يتتبعه من دلالات الموت يعنى أنه كان يمضى ناحية تعزيز الفردية المطلقة، وأن عاشور عندما خرج للصحراء لم يخف وإنما خرج متحديا.

لم نتحرك بعيدًا عن فرضية ابن خلدون السابقة فى اعتبار أسلوب المعيشة كمعيار للتفرقة بين شكلى المجتمعين الأساسيين حيث يعتبر هذا القرض مدخلًا اقتصاديًا واجتماعيًا فى التعليل.

يدرك نجيب محفوظ دور العمل فى بناء المجتمعات والعلاقات الاجتماعية، ويسوق عاشور هذه القيمة المهمة فى حديثه إلى الحرافيش بوجوب العمل والكسب من اليد، وهو اتجاه واقعى وهم نجد له صدى فى كتابات ابن خلدون فى المقدمة الذى يعزى أسباب الرفاهية إلى مجهود وعمل أبناء هذه البلد لبناء وازدهار عمرانهم، [49] أما القرض الثانى الذى يقدمه ابن خلدون نحو تأصيل تفسير مادى لبعض عناصر العمران، فهو إظهاره للتأثير القوى للدين، وهو المبدأ الذى أفادة نجيب محفوظ فى الحرافيش حتى الحكاية الثالثة، بيد أن ابن خلدون عن تعرضه لهذه المسألة كان برغبة إثبات ضعف الحروبات فى الكثير من المسائل الإسلامية مع الاحتكام لسلطة العقل، لكن نجيب محفوظ يؤكد هنا على أثر الدين وآثاره السلوكية الإيجابية فى بناء المجتمع. إننا نلمح بعضًا من التأثير فى صغو الفرضيات الروائية عند نجيب محفوظ من خلال ما يقدمه ابن خلدون فى كون أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصيبة تظهره وتدافع عنه من يدفعه، وأيضًا وعلى مستوى البناء الدورى للتاريخ فى كونه يبدأ بالنبوة ثم بالخلافة ثم الملك ثم يسوده الظلم، والظن أن الحكايات الأربعة الأولى من الحرافيش قد تتطابق مع الفرضية التاريخية السابقة مع ضعفها [50]

وبالرغم من قلة المعرفة التى شلكت سمة ثابتة فى شخصية عاشور، وتميزها فى شخصية شمس على قلتها، فإن نجيب محفوظ يؤكد على أن العقل البشرى يمكنه التمييز بين طبيعة ما هو ممكن وبين المستحيل، وبذلك يتقبل الأشياء والأحداث الى تقع فى حير الممكن والمعقول ويرفض ماعداها. يذكر ابن خلدون فى هذا الجانب ما نصه:

فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمنًا على نفسه، ومميزًا بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته. فما دخل فى نطاق الإمكان قبله، ما خرج عنه رفضه

وليس مرادنا الإمكان العقلى المطلق .. وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التى للشئ. فإنا إذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله، وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه [51].

إن كان تطور مادى يأتى معه برد فعل مماثل تطور فى العلاقات الاجتماعية، هذا التطور يؤدى فى النهاية إلى زيادة فى المهن والعمل ونوعية النوازع والمشكلات، وكل فرض من السابق يفتح نوافذ جديدة داخل العقل، فزيادة العمل وتطور نوعيته سيؤدى بالتأكيد إلى التطوير فى العملية الذهنية، وتفتح آفاق العقل [52]، ولعل هذا الرأى آخذ فى التطور والظهور داخل الفعل الروائى عند نجيب محفوظ على مستوى حكايات الحرافيش، إن خريطة العلاقات الاجتماعية فى الحكاية الثانية أوسع مما فى الحكاية الأولى، وهذا الوعى مقصودًا عند نجيب محفوظ حيث تتصارع الأجيال وتتعدد الأعمال وينمو العقل البشرى تطورًا بحسب هذا التنوع فى حجم العلاقات.

لقد كان مجتمع الحرافيش فى زمن عاشور وشمس أقرب إلى وضع العصبية فى كل من مجتمعى البداوة والحضارة كما يعرفها ابن خلدون، ففى مجتمع البداوة نلاحظ أن طبيعة الحياة الخشنة وظف العيش يطبع العصبية بعدة صفات أهمها أنها قوة موحدة كلها نشاط وحيوية قادرة على الدفاع عن الجماعة والسعى من أجل تحقيق أهدافها ضد العصبيات الأخرى والقضاء على الخلافات الداخلية بين أفرادها، والعمل كأداة من أجل دفع عجلة التطور نحو شكل أرقى من أشكال الحياة المادية (حارة عاشورة شمس الدين الناجى) وبينما تعتبر العصبية بهيكلها القوى وخصائصها التى تتسم بالحيوية ودورها الكبير فى إحداث التغييرات نتيجة مترتبة على هذا النوع من الحياة الصعبة فى ظل البداوة، إن العصبية نفسها وعندما تتهيأ الظروف المادية تلعب دور السبب، وتصبح أداة للتغير، وذلك بالقضاء على نفس هذه الظروف التى خلقتها [53] كما سنرى ذلك فى حكاية سليمان الناجى (الحب والقضبان)

أناقش فى هذه الفقرة أيضًا وجود شمس الدين الناجى فى مقابل عاشور تخطيا إلى الصورة الآن، لقد قرر شمس أن يكون مثالًا سائرًا لعاشور فى حالة ثبوت معرفى واجتماعى ممتد، لكن نجيب محفوظ نفسه عجز أن يقدم فى عمله الملحمى صورًا متعددة لصورة الواحد (عاشور) لقد فقد الأصل ومركزيته وتفرده، وضاع المثال والنموذج.

كان نجيب محفوظ يضع فى ذهنه فكرة أن المبدع العظيم هو ذلك القادر على تدبيج النص بالرموز والعلامات والقيم الموضوعية والأسلوبية بوضعها حاملة لشيفرات النص، وصولًا إلى سيطرة المؤلف وتقديس النص. لقد ضعت الملحمة ذلك قديمًا ولا تزال الملاحم الكبرى حقولًا لزيارات المسعفة حال التفسير أو عند الوقوف على تفسيرات لقضايا طارئة، نستطيع عبر قراءة كل الحكايات أن نضع تصورًا لحركة العالم من وجهة نظر نجيب محفوظ، لكن الظن أن هذا التصور الذى ظل مطروحًا لأعوام لم يعد موجودًا، ربما عاش الطقس الملحمى بنزاله وآلية الجذب الحاضرة حتى وقتنا هذا، وهى حالة أرى أنها تغيرت قطعا ومن سبيل للتغيير على نطاق أوسع. إن هذا العصر أشد مفاجأه فى أحواله وتصاريفه من كل الأزمان السالفة، كما أن متلقى اليوم لم يعد هو المتلقى الموهوم المتلهف لروعة القص وغريب الحدث.


[1]إديث هاميلتون: الميثولوجيا، ترجمة حنا عبود، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1990، ص151.

[2] أحمد زايد: سيكولوجية العلاقات بين الجماعات. قضايا فى الهوية الاجتماعية وتصنيف الذات. الكويت، عالم المعرفة، ع 326، 2006. ص7.

[3] أرسطو طاليس: فن الشعر. مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفاربي وابن سينا وابن رشد ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص96.

[4] إيف ستالوني: الأجناس الأدبية، ص104

[5]  نجيب محفوظ: الحرافيش، ص5

[6] السابق، ص104 – 105.

[7] الحرافيش، ص88.

[8] يذكر التاريخ أن مصر تعرضت لوباء الكوليرا فى عصرها الحديث عشر مرات، الأولى عام 1831م ثم أعوام 1834، 1850، 1855، 1865، 1883، 1895، 1902، 1947، ولعل نجيب محفوظ قصد الوباء الذى وقع في مصر سنة 1902 والذى أطلق عليه وباء موشا الذى ضرب أسيوط سنة 1902 حيث أدى الوباء لموت 34 ألفًا و 595 مواطنًا. انظر المحاضرة العاشرة للدكتور سيف أبوستيت محاضرة ألقيت عام 1948 ونشرتها وزارة المعارف المصرية. نشرت المحاضرة بموقع بوابة الأهرام بتاريخ 27 /11 / 2019.

[9] محمد رجب النجار: البطل فى الملاحم الشعبية العربية، قضاياه وملامحه الفنية. القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، سنة 2018، ج1 ، ص315

[10] الحرافيش، ص87.

[11] سمر الديوب: الثنائيات الضدية، بحث فى المصطلح ودلالاته. سلسلة مصطلحات معاصرة. المركز الإسلامى للدراسات الاستراتيجية، ص161. منشورات العتبة المقدسة . بغداد.

[12] جان كوهين: اللغة العليا – النظرية الشعرية، ترجمة وتقديم وتعليق أحمد درويش. القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومى للترجمة، 187.

[13] محاضرات تاريخ مصر. أحوال مصر تحت الاحتلال البريطانى (1882 – 1914).

[14] فى العنف ، ص5.

[15] الحرافيش، ص38 – 39

[16] الحرافيش، ص41.

[17] أحمد زايد: سيكولوجية العلاقات بين الأفراد. الكويت، عالم المعرفة، 2006. ص76.

[18] الحرافيش، ص11.

[19] السابق، ص12.

[20] السابق، ص13.

[21] السابق، ص15.

[22] السابق ، ص16

[23] هذا العنف، ص21.

[24]الرواية، ص19.

[25] الحرافيش، ص81.

[26] الحرافيش (32).

[27] السابق، 34.

[28] هذا العنف، ص35.

[29] الحرافيش، ص17.

[30] الحرافيش، ص16.

[31] السابق، ص30.

[32]  كانط: الدين فى حدود مجرد العقل، ترجمة فتحى المسكينى – لبنان، جداول للنشر، 2012، ص79، وانظر أيضًا إبراهيم مجيديلة: أنثروبولوجيا الإنسان الخطاء، الشر جذريا، والشر تافهًا والشر مؤولًا. يحث منشور. مجلة تبين للدراسات الفكرية والثقافية. ع19، ج5، 2017 ، ص27 – 54.

[33] الحرافيش، ص11.

[34] الحرافيش، ص36.

[35] الحرافيش، ص80.

[36] ميشيل حنا: الصداقة قيمة أخلاقية مركزية. الكويت، 2017، ع 444، ص165.

[37] الحرافيش، ص108.

[38] الصداقة، ص168 – 169.

[39] الحرافيش، ص143.

[40]          محمد محمود ربيع: النظرية السياسية لابن خلدون. القاهرة، دار الهنا، 1981، ص50.

[41]          ابن خلدون: المقدمة، ص407 – 414.

[42]          الحرافيش فئة من الشعب تمثل المطحونين، كما أن لهم تاريخًا فى مصر، فعلى سبيل المثال كان الحرافيش طائفة خطيرة فى القاهرة، وقد بلغ عددهم أربعة آلاف حرفوش، وكان لهم شيخ يطلق عليه اسم «شيخ الحرافيش» وكان لهم سطوة حتى إنهم كانوا يجتمعون ومعهم شيخهم ويذهبون إلى القلعة فى المواسم والأعياد والمناسبات وهى كثيرة جدًا، ويقفون تحت السور بطلب العادة، وهي بعض أرغفة الخبز ورطلان من اللحم لكل حرفوش مع دينار ذهبى على الأقل، ولا ينصرفون إلا إذا أخذوا العادة. وكان بعض السلاطين ينزل إليهم من القلعة ليفرقوا عليهم الأموال، حتى يعودوا إلى أماكنهم على أبواب المساجد الكثيرة. انظر عبد المنعم شمس: حرافيش القاهرة. دار المعارف.

[43]          نورمان فاركلوف: تحليل الخطاب، التحليل النصى فى البحث الاجتماعى، ص40 – 41.

[44]          الحرافيش، ص109.

[45]          الحرافيش، ص118.

[46]          السابق، 115.

[47]          محمد حسن غائم: التحليل النفسى للأدب، دراسة نفسية لملحمة الحرافيش. ص11.

[48]          الحرافيش، ص58 – 59.

[49]          المقدمة، ص896، 860، 862.

[50]          النظرية السياسية لابن خلدون، ص55.

[51]          المقدمة، 506.

[52]          النظرية السياسية لابن خلدون، ص62

[53]          السابق، بتصرف، 63

الدين و الثقافة و الهوية فى أعمال نجيب محفوظ

أنطونيو كوزار سانتييجو. ترجمة: حلود الجرايحي

     عندما يتحد الاهتمام بالمعاصرة مع الإسلام و فلسفة الدين, يكون أدب الكاتب المصرى الحاصل على جائزة نوبل نجيب محفوظ .أعماله الغزيرة هى نموذج عن كيفية تغلغل الدين فى الحياة داخل العالم العربى . و بشكل مختصر، سنحاول عرض المفهوم الشخصي لنجيب محفوظ عن الإسلام: و هو ذو واقعية تامة تذهب, بشكل تلقائى, بعيدا عن أى تعصب أيدولوجى أو دينى .

     فكرة المجتمع الغربى عن الإسلام هى خليط من الخوف و عدم الثقة والفضول و الإحترام الغامض.هى فكرة قد تكونت – فى العقود الأخيرة – فى عيون الرجال و النساء الأوروبيين بسبب العديد من الأحداث, باعثة على نوع من الافتتان لا يخلو فى بعض الأحيان من الفضول السقيم. كما تعود أيضا تلك الفكرة  إلى انغماس الإعلام الغربى في العالم العربي  وإلى هجرة المسلمين الهائلة لأوروبا و الولايات المتحدة.

    حاول جاك ايلول(1) أن يشير – فى مقالة قصيرة نشرت له بعد وفاته – إلى ما أعتبره: الأسباب الثلاثة المسؤولة عن تغير نظرة المسيحية تجاه الإسلام – بخلاف اقتراب و انجذاب المسيحيين للإسلام و هى مجرد محاولات فارغة لإنشاء نقاط إلتقاء فى حوار الأديان-  فالأسباب هى : الإنتساب إلى نفس الأب حيث أننا جميعا أبناء إبراهيم و اعتبار أن الإسلام هو أيضا ديانة توحيدية و إعتماد كلا الديانتين على كتاب.

    من البديهى فى نفس الوقت أن يفكر مسيحيوعصرنا هذا, فى تاريخ العبودية الذى قدره الله للإنسانية جمعاء , و أن يضعوا فى الاعتبار مايتعلق بالمقاصد الإلهية و الأفعال الدينية للإسلام، وإذا ما كان ظاهرة متعددة التكافؤ قد غيرت بمقدار ما مجرى التاريخ الإنسانى  و زودته بخبرات دينية قيمة و أمدت هوية روحية لملايين الرجال و النساء فى القارات الخمسة.(2)

المجتمع الذى كتبه نجيب محفوظ

     عند إلتقاء هذين الغرضين:( معرفة الإسلام(3),التفكير فى الإله و الدين(4) و(الأدب), يحضرنجيب محفوظ، الذى نشأ بحى الجمالية بالقاهرة, هذا الرجل النحيف ذو النظارات السميكة و السترة المهذبة, كان كاتبا يعبر عن العزيمة و الهموم العامة,وبلا شك قلقه الكلي. إلتزم محفوظ بما أسماه كونديرا بالسياق الصغير: فقد سجل  الأحياء الشعبية فى القاهرة, بحاراتها الضيقة وما فيها من تنوع هائل للشخصيات التي تعيش أو تحيا بشكل مدقع فيها. كما أنه أرخ للفترة العصيبة لمصر فى نهاية الاستعمار و التوجه التصاعدى في السلطة.

بدأ نجيب محفوظ دراسته فى الكتَاب (المدرسة القرآنية بالحى ) و أنتهى فى 1934بالحصول على ليسانس الفلسفة من جامعة القاهرة. عمل فى وزارتى الأوقاف و الثقافة و كان مديرا للمؤسسة العامة للسينما. تزوج فى 1945 و أنجب بنتين , ثم تقاعد فى 1972, و منذ ذلك الحين عاش مكرسا نفسه كليا للكتابة.

    هو أول كتاب العربية الذين حصلوا على جائزة نوبل فى الأدب, فى 1988, “حيث أنه صاغ فنا روائيا عربيا ذا صلاحية عالمية”. فى إنتاجه الغزير:قصص و روايات و مقالات و أعمال تليفزيونية و كتابات سينمائية.

    أشار المؤلف المصرى إلى أن الإسلام ” ليس دينا جامدا “. تكلم بلسان ملايين الرجال و النساء , عن الكثيرين الذين يخافون الله ولديهم الرغبة فى سلوك محترم.

    إن الإسلام يؤكد و يحتوى على قوة موجهة إلى الخير. حياة تتوافق مع تعاليمه وقد تتطلع إلى ماهو غير معيب أخلاقيا.(5)

    يقول محفوظ فى خطاب تسلمه لجائزة نوبل المقروء بالعربية و الإنجليزية ” لا أقول مع الفيلسوف كانط أن الخير سينتصر فى العالم الآخر. فإنه يحرز نصرا كل يوم . “

     المجتمع الذى ولد فيه نجيب محفوظ كان مجتمعا برجوازيا صغيرا. فالنادل و الحلاق و الخمار و الموظف الصغير و كبير الشحاذيين, هم مكونات لعالم حواري القاهرة التي قضى فيها محفوظ شبابه, كان العالم الذي أحبه و كرس له تقريبا كل إنتاجه الأدبي.

 تتمثل عظمة نجيب محفوظ في قدرته على بث دم و حرارة و إنسانية في الأبطال الصغار. روى من خلالهم آمال و اضطرابات و إحباطات الناس خلال قرن من التاريخ المصري الذي أحبط آمالهم و ألقى بهم في معيشة فوضوية و مليئة بالصراع.(6)

     كان محفوظ  منغمسا طيلة حياته في هذا المجتمع, رسم القاهرة من داخل أرواح ساكنيها بفرشاة كلماته العريقة, لم يتطلع إلى التأثير في النسيج و لكن في رسم محيط الشكل بوضوح, لم يرغب في تجميل الواقع و لكن في وضع مخطط للمستقبل و لم يدعي امتلاكه للوعي ولكنه رسم مساراته.(7)

    نجيب محفوظ المولود في 1911,عاش و في جسده جروح ناتجة عن دين مفهوم بشكل خاطىء , ففى أكتوبر من عام 1994طعن من قبل بعض المتشددين الذين ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين, و أنقطع عن قهوة عرابى حيث ظل لعقود يذهب إليها و يتصفح بها الجريدة المحلية قبل أن يسلم عموده في جريدة الأهرام. و منذ ذلك الحين ,انتهى عمله وإرثه الأدبى. و أستنفذ وجوده بين القصص القصيرة و العادية, و ذلك حتى موته فى أغسطس من العام 2006على أعتاب عيد ميلاده الخامس و التسعين.

   يبرز من بين  إنتاجه الأدبى(8): الثلاثية (بين القصرين و قصر الشوق و السكرية) و هى تمثيل تاريخى كبير لمصر بين عامي 1917و 1944- أولاد حارتنا- و هى مجاز عن ولادة الأديان التوحيدية – زقاق المدق- و هى رواية واقعية قد أمسكت كالصورة بالوضع الاجتماعي أثناء الإحتلال البريطانى.

 هناك أيضا روايات أخرى هامة كالمرايا واللص و الكلاب والحب تحت المطر و ثرثرة فوق النيل. كما صدرت له ـ أيضا ـ بعض الروايات التاريخية. إنتاجه الغزيرغني بمجموعة كبيرة من القصص – خاصة في السبعينيات- والتي لا يمكن تمييزها عن باقي إنتاجه إلا من بعض الإستثناءات. ويعد إنتاجه الإبداعي الضخم المحافظ هيكلا خشبيا متعدد الأوجه.

     يتميز أدب محفوظ بقدرته الفريدة على كشف غموض العلاقات الإنسانية و معرفة المجتمع كعنصر غنى و إيجابى كما يتميز بتنوع القيم. أيضا يعتبر محفوظ الأدب, دائما و قبل كل شىء, طريقة فعالة للإدانة و النقد الإجتماعى.

قصة جنة الأطفال

    هذا العمل هو عرض مختصر للإسلام, الإسلام الذى يعيش داخل شخصيات نجيب محفوظ والذي لم يأمل محفوظ أن يكون في مصر اليوم. لقد إخترنا إحدى القصص كموضوع للنقد و هى قصة قصيرة باسم جنة الأطفال, وفى ترجمات أخرى تسمى جنة الطفولة, نشر هذا النص داخل مجموعة قصصية تحمل اسم: خمارة القط الأسود.

 فيما يتعلق بأعماله الغزيرة, يمكن القول إن شخصيته الرئيسية هى الله, و إنها جميعا منغمسة بشكل مطلق فى الإسلام.

 لم يكن إختيار تلك القصة سهلا , و ذلك لثلاثة أسباب: أولا لقصر حجمها, ثانيا سمتها الكلية , و ثالثا لأن القصة يمكن إعتبارها نموذجا لشكل الدين الإسلامى فى المجتمع البرجوازي التجاري المصري في النصف الثايى من القرن العشرين.

    جنة الأطفال هى حوارية بين طفلة في العاشرة من عمرها و أبيها, مع وجود مستتر للأم, المشغولة في تطريز مفرش. القصة هى حوار واحد و مستمر عن الديانتين: المسيحية و الإسلامية ، حوار بين الأديان(9), حوار يدور كلاعبي بوكس في حلبة المصارعة, حوار بمثابة أداة لتوصيل فكرة الإله و الدين, منطلقة من ريشة و وعي الكاتب المصرى.

 حوار يبدأ ب”بابا” و “ماذا” و منذ البداية يضعنا فى سياق علاقة الأبوة و البنوة و لكن بشكل غير معتاد عن الذى قد نعتقده فى أول وهلة.(10)

     في الثلاثية, و هو العمل الأكثر بروزا لمحفوظ , و قد سبق جنة الطفولة بعقدين فقط, هناك لا يمكن تصور حوار بين الأب و أحد أبنائه أو زوجته بتلك الدرجة من الثقة العالية الموجودة هنا, و بدون شعور بالسيطرة و السلطة المفرطة من قبل الرجل/ الأب. و لكن في جنة الأطفال كان المجتمع قد تغير على الأقل في شكله الخارجي , كان قد ( تغربن) . بالرغم من أن المشكلات الأكثر تعقيدا و فطرة لم تتغير.

      يتعلق الحوار بمجموعة من الأسئلة حول الابنة الموجودة دائما مع صديقتها نادية/ المسيحية, و لكنها تريد أيضا أن تبقى معها فى حصة الدين, فتدخل بفيضان من الأسئلة و الإستفهامات الهامة مثل: ” و لكن فى درس الدين أدخل أنا في حجرة و تدخل هى في حجرة أخرى” .ثم يشير محفوظ إلى دور المرأة في جملة واحدة  فيقول” لحظ الأم فرآها تبتسم رغم انشغالها بتطريز مفرش ” دور بالرغم من أنه قد يبدو في الوهلة الأولى ثانويا إلا أنه ليس كذلك . فالمرأة حاضرة , و إشاراتها – الإبتسامة هنا – تسجل نموذجا لتصرفات الزوج و في نهاية القصة سترقى من جديد بجملة واحدة للمستوى الذي يناسبها.

    يستحق الأمر في تلك اللحظة أن أنقل حكاية طريفة متعلقة بنادين جودمير الكاتبة الحاصلة على جائزة نوبل 1991 . ففي إحدى الندوات عن محفوظ في هارفارد , إنتقد بعض أنصار الحركة النسائية دور المرأة في الثلاثية. علقت جودمير قائلة ” كانوا غاضبين من نموذج أمينة زوجة أحمد عبد الجواد التي كانت ممنوعة من الخروج من المنزل إذا لم تكن بصحبة زوجها, و مصير فتيات العائلة المتزوجات من رجال اختارهم عبد الجواد دون الاعتبار لمشاعرهم أو أن يحيوا حياة مستقلة ” كان الطلبة المحتجون في هارفارد على وشك إنكار نبوغ العمل على هذا الأساس. ثم أكملت الكاتبة جنوب الأفريقية الحاصلة على نوبل قائلة

” كيف نقتل الرسول ؟ وصف محفوظ الظلم الذى خضعت له أمينة و بناتها كما لو كان واقعا لذا لم يرغب فى الدفاع عنه , كما أن إستياعبه العميق لعادات التمييز الجنسي المعقدة (الحبس) تلك التي حرمت نساء عبد الجواد حقهم الطبيعى في الحياة كانت صرخة إحتجاج أقوى بكثير من تلك التى يطلقها ذوو النعرة القومية الأدبية .

المنطق و التقليد

حينئذ يحاول الأب أن يحل المشكلة التي طرحتها عليه الطفلة, و الدخول في تفسيرات و تعليلات بأقل ما يمكن. ” لأنك لك دين وهي لها دين آخر……” أنت مسلمة وهي مسيحية ” و لكن الطفلة, و التي تعتبر كبيرة الآن تصر و تطرح السؤال الأساسي للقصة, السؤال الذى منه يتدفق كل شىء ” لم أنا مسلمة ؟”

    فى أغسطس من عام 1993 أوضح نجيب محفوظ لصحيفة ( لو فيجارو ) قائلا ” عندما أنظر لحياتي في مجملها, أشعر بالسعادة ” معنى الحياة ليس منفصلا عن الحياة نفسها. أن نحيا تعنى أن نأكل و نشرب و ننام و نحب و نعمل و نفكر هذا هو معنى الحياة. بالنسبة لمحفوظ الإسلام هو نمط  من الحياة , من مواجهة الأحداث اليومية , نمط من التفاعل يأتى أساسه من بعيد. لم تكن بلا طائل, تلك الديانات النامية  على شاطىء النيل والتي  كانت ولا تزال طرقا مطروقة جيدا , وطأت أراضيها جموع من الخطى المختلفة . من توت عنخ آمون لأوزوريس و من موسى إلى الإله الواحد و من الأسكندر الأكبر إلى زيوس و من يوليوس قيصر لجوبيتر و من يوسف النجار إلى المسيح و من محمد إلى الله. طرق غير متناهية ضيقة و مليئة بالحصى و غبار رمال الصحراء و سديم الرياح, طرق تقاطعت عند المساواة بين الدين و التقاليد.أو لنقل إنهم ذهبوا إلى اعتبار الدين إضافة للعديد من الأعراف, كتراث خاص لإحدى الشعوب. يقول الفرعون إخناتون , الملك الكافر ” لا يهمنى الدين إلا كإضافة على التقاليد الراسخة فى مصر….. “

     فمع التقاليد ينهزم الزمن. و مع التقاليد يجاوب الأب على ابنته ” بابا مسلم، وماما مسلمة ، ولذلك فأنت مسلمة .” وقرر أن يتابع سلسلة الأجداد إلى ما لا نهاية حتى تضجر ” الإسلام ليس دينا ذا رتبة مركزية . كما أنه  لايمارس سلطة تعليمية ، هناك  فقط ، العملية الطويلة المتباينة فى تكوين إجماع العلماء حول تفسير آية محددة فى القرآن هى التي تؤدي إلى الرأي القويم. إن التقاليد لها دور هام جدا في الإسلام, كان محفوظ واعيا به. و لكن هذه التقاليد لها سمات خاصة:يؤثر فيها المنطق وتتطور مع الزمن.

    من السهل التفكير في أنه من الطبيعى ألا تتغير التقاليد , و أن تبقى جامدة و تسكن و تكون راسخة. و هكذا تصلح فكرة أن التقاليد ـ جوهريا ـ مستمرة. و أنها لا يتم إملاؤها فى مكان و نمط مؤقتين. و لكن ما هو فاصل في التقاليد ليس ثباتها و لكن أنها تستقر على أساس كينونتها. التقليد هو الحالة ما قبل الفكرية لإدراكنا للواقع إدراك ديناميكى.

فيما يتعلق بالتقاليد الحقيقية فإنها تبنى و تردع الإدراك. و قد تعارض التقاليد تعريفها، ذاته عندما تنشئ دينا مرتكزا على حالة, غير كلية, و تحكم على الإرتداد بأنه إنكار تاريخى جدير بالعقاب.(11)

    فى هذا الجزء، تظهر القصة جملتين هامتين تعكسان تفكير محفوظ تجاه العلم و بالتحديد العلم التربوي.هما إتجاهان من التفكير في عقل الأسرة , و هما ” عليه أن يكون واسع الصدر وأن يكون حذراً , ولا يكفر بالتربية الحديثة عند أول تجربة ” في الحقيقة، إن التربية الحديثة طاغية”. إن العلم ـ عامة ـ و علم التربية الحديث خاصة هو علم طيع, يعطى إجابات ويتأمل و يبرر.  أراد الأب أن يطبق ذلك, أراد أن يكون حداثيا و لكنه واجه العقبات و الصعاب . فقد وجد أن الخضوع للعلم جائر و أن الأكثر يسرا هو ألا يجاوب على أسئلة الطفلة ,أن يرفض مجموعة القضايا التي قد تخل بتوازن أساس مبادئه الضعيف الذى يدير حياته: الدين والسلوك مع الأخرين.

 يجب أن يوضع في الإعتبار أن القانون و الشريعة بالإضافة إلى علم اللاهوت( الفقه، المترجم) و بالطبع علم التربية هى العلوم الإسلامية الأولى.

    وفقا لمحفوظ: الدين هو” حب للناس و للحياة “, “علاقة حميمية بين الإنسان و ربه ” , ” يجب أن يتحدث دائما عن الحب و الإنسانية و ليس الكره ” , مشيرا إلى الثلاثية قائلا:” يبدو الدين كعادة منغمسة فى مسام المجتمع و من ناحية أخرى فإن الشخصيات متدينة بشكل عميق” يحترمونه كقاعدة و لكن كقاعدة غير جامدة, كشىء يوجد هناك ليخترق, ثم يغفر الله الرحيم لعباده. و هذا برهان وجودى بأن المسلمين يعتبرون الإسلام دينا للإنسان, الدين الفطري الذى ينتمي بطبيعته لكل إنسان.

    ” يعلق محفوظ في حوار له “كنت متدينا فى شبابى ,أبى لم يجبرنى قط لأصلى الجمعة, بالرغم من أنه كان يذهب كل أسبوع. بعد فترة بدأت أشعر بقوة , إن الدين لابد أن يكون منفتحا و إن الدين ذا العقلية المنغلقة هو لعنة …,أؤمن أنه هام جدا و لكنه أيضا خطير بشدة . فإذا أردت أن تحرك الناس ابحث عن وتر حساس , و في مصر لا شىء يحرك الناس أكثر من الدين.

    تواصل الطفلة دون هدنة تحقيقها بينما يدافع الأب بكل ما أوتى من قوة . مثل القتال بين داود و جلعاد”:

ـ من أحسن ؟

 “و تفكر قليلا ثم قال”.. “المسلمة حسنة و المسيحية حسنة “..” هذه حسنة ، وتلك حسنة”  كل دين حسن، المسلمة تعبد الله، والمسيحية تعبد الله”.

 لم يكشف محفوظ عن إختلافات خطيرة ولا حتى تناقضات بين الإسلام و المسيحية . فقد تصور الدين كتكافل بين التقاليد و الثقافة. كمخدر لآلام القدر وكتليسكوب لبانوراما الإدراك.

 و يدور الطرح حول محوره عدة مرات و حول عدة أفكار تبدو في ظاهرها مختلطة جدا و لا يمكن التفرقة بينها. الإسلام و المسيحية هم أبناء لنفس الأب, أخوان غاضبان من بعضهما بشكل مؤقت و لكن المستقبل سيجمعهما من جديد.

    بالنسبة لمحفوظ كلا الدينين, بطبيعتهما لا يدعوان إلى الصراع أو العنف بأية طريقة, و لكن على العكس تماما.و ليس حوار الأديان سوى دعوة للتعايش. و بالرغم من أن كلاهما يختلف ثقافيا منذ النشأة, فإن تعايشهما ومشاركتهما الوجود بشكل سلمى  يقوده التسامح وإحترام عقيدة الآخر هو واحد من أكبر مكاسب الإنسانية.

     في الطريق يردد أحد الشحاذين ” طه زينة مديحي / صاحب الوجه المليحي / النصارى و اليهود أسلموا على يديه ” بالرغم من أن محفوظ صارع كل حياته من أجل قضية التعايش السلمى للأديان التوحيدية,  لم يتخل فى أعماله عن تصوير المشاعر العامة للأشخاص ذوى التكوين الدينى الضعيف, و يمثل ذلك هنا أحد المتسولين .

 إنه لمفهوم شائع فى الإسلام إعتبار أن جميع الأديان خاضعة له – خضوع من أجله أحيانا قد يتم اللجوء للعنف.

    فعليا كلاهما يعبدان إلها. و لكن هل يعبدان نفس الإله ؟ أوضح البابا يوحنا بولس الثانى بمناسبة اليوم العالمى للصلاة من أجل السلام المنعقد فى أكتوبر  1986 قائلا:” لا يمكن بالتأكيد أن نصلى معا , أى أن نقوم بصلاة مشتركة , و لكن يمكن أن نكون موجودين أثناء صلاة الآخرين , و بهذه الطريقة نظهر احترامنا لصلاواتهم و مقامهم أمام الإله و بذلك نقدم لهم شهادة متواضعة وصادقة على إيماننا بالسيد المسيح , سيد العالم”. ثم أكد فى الخطبة التى ألقاها فى المسجد الأموى فى 6 من مايو عام  2001قائلا: ” إن الإنسان كائن روحانى , مدعو بإعتراف و إحترام ألوهيةالرب المطلقة لجميع الأشياء. يتفق المسيحيون و المسلمون على حد سواء على أن لقاء الرب فى الصلاوات هو غذاء ضرورى لأرواحنا, و بدونها تجف قلوبنا ولا تبحث إرادتنا عن الخير وإنما تستسلم للشر”.

 كما علق الأستاذ مورالس من جانبه فى أحد أعماله قائلا ” هناك سؤال طرح من قبل الكثيرين و هو: هل المسلمون و المسيحيون يعبدون نفس الإله؟

 من المحتمل أن يكون السؤال غير مصاغ بشكل جيد أو غير مطروح بشكل مناسب . و بالرغم من ذلك تعزز الإتجاه الذى يميل إلى إجابة مثبتة تؤكد بأن كل من المسيحيين و المسلمين يعبدون إلها واحدا . و كنتيجة منطقية لذلك يتبدى على الصعيد الرسمى و اللاهوتى عدم يقين محقق , يتعلق بمن يتلفظ بهذا الموضوع غير المثبت بشكل كامل.

    أكدت كلتا الأستاذتين( ميلاجروس نوين و ماريا بريتو) فى مقدمة “المرايا” أن الدين، وفقا لمحفوظ , كان موضوعا يهمه على وجه الخصوص, و خاصة مفهوم الإله . فبعد دراسته لإيميل دوركايم، ظلت رغبته فى معرفة الإله غير مشبعة , فبحث عن الإجابة فى العالم الروحاني و حاول أن يتعرف عليه بمشاعره بدلا من عقله . و مع ذلك أخذ موقفا متشككا في كثير من رواياته اللاحقة، إنعكس من خلال شخصياته.

    و ها هو السؤال التالي للطفلة :”ومن هو الله يا بابا ؟”

 للسؤال وقع منطقى على الذين يعبدون الله,( ماذا أو من يعبدون ؟) و يتصرف الأب للمرة الأولى أمام ذلك السؤال بريبة. يحاول أن يعطي إجابة حاسمة لا تحيله لمشكلات جديدة . ولكي يؤكد ذلك يسأل الطفلة ماذا شرحوا لها فى المدرسة . فلا تعرف الطفلة ولا تجيب و تصر بشكل طفولي على سؤالها . فيجيب الأب ” هو خالق الدنيا كلها” ” و أين يعيش؟” “فى الدنيا كلها “.

    هو الإله الوحيد للأديان التوحيدية. الإله الذى يهيمن على الواقع و يحرك خيوط عرائس الماريونيت وفقا لرغبته دون سيناريو مسبق . يحرك تلك الدمى السياسية و الإجتماعية و الدينية, الرجال و النساء .

 يمكننا القول: إن في روايات محفوظ ـ فقط ـ الإله هو من يلعب دور البطل. فقط هو القادر على الإنقاذ. و يمكن أن يلبي ذلك- بالرغم من الخطوب الوجودية للإنسان- ببساطة عندما يستمع إلى توسلاته النادمة. يقول محفوظ فى رواية خان الخليلى:” يعتمد كل شىء على إرادته , يحدث لنا ما هو مقدر أن يكون”. ثم يقول (صديق) إحدى الشخصيات الأربعة فى رواية قشتمر : ” فيما يتعلق بالمستقبل فهو فقط بيد الله”. الشخصيات هى ـ فقط ـ نماذج  و ليس عبثا أن الإسلام يعنى الخضوع للإله.

    يسوقنا هذا المسمي إلى  تضاؤل الإنسان أمام الوجود الإلهي. لأن الله رؤوف و رحيم . و لكنه لا يساوى بين البشر أثناء حجهم. و يعلق أحد الشخصيات فى زقاق المدق قائلا: ” نحن جميعا أبناء آدم , و عند الحاجة , لا تتردد فى طلب المساعدة من أخيك . فإن على الله رزقنا و هو من يمنحنا من فضله”.

يظهر محفوظ الصداقة كعلاقة بين الأشخاص وأداة للإنسان  لتحقيق إرادة الإله .يرزق الله الفقير بيد الغنى . إرادة الله هى الإختيار المطلق و تختفى الأسباب الأخرى أمامه , فكل شىء يخضع إلى الله . و لكن الله لا يحب , و بالتالى لا يرتكب خطايا البشر . إله المسلمين لا يتأثر مطلقا  . فبدلا من الحب يدعو لطاعة مطلقة، و حسن تدبير جيد أمامه.

    تستمر قصة جنة الأطفال بسلسلة من الأسئلة الموجهة من قبل الطفلة و التى تتعلق بالمكان الذى يعيش فيه الإله . أثار إهتمامى اثنان من تلك الأسئلة بإجاباتها . السؤال الأول هو :

ـ ولا في التلفزيون ؟

ـ “لا”.

 هذا السؤال مثير للإنتباه لأنه يضع التلفزيون فى البيوت المصرية .أى أنه يشير إلى تقدم ثقافى و تحديد للطبقة الإجتماعية لشخصيات القصة . فى زقاق المدق سجل ظهور الراديو- الذى كان يطن طوال اليوم فى حانة الحى – صورة محددة للزمن الذى تطورت فيه أحداث الرواية . و هنا نجد أنفسنا بعد عدة عقود و فى حى ذى مستوى إجتماعى أرقى.

    أما السؤال الثانى الذى أثار إنتباهى هو ” ألم يره أحد ؟ ” ” كلا “.

 أيضا الإشارة هنا إلى الله. لم يره أحد هى إجابة كاشفة قطعا. تؤمن شخصيات محفوظ بالله  بشكل غامض , و لكن خذلانها أمام المرض أو الموت يكشف عن عدم ثبات إيمانها وعن لعبة القدر المفروضة . فى زقاق المدق يقول , هو الذى يعطي و هو من يأخذ, كل شىء يحدث بأمره وإنه لتجديف أن نحزن . و مع ذلك نرى أن محفوظ أضفى فى رواياته تلك  أهمية كلية للإله و من ثم يمكن  أن يلتزم الإنسان بمعاملة وثيقة معه, ولأن هناك معاملة لابد أن يكون هناك منطق, منطق منهجى , منطق يعطى الأسباب لكى نتوصل لحوار , حوار ذاتى مع الله يسوقنا بالضرورة إلى حوار عالمى بين الثقافات .

العلاقة بالإله                                                         

    فى  الإسلام,  لا يؤسس الإيمان علاقة ذاتية للعبد مع إله ذاتى ، تبدو له بداية لعملية تغير  داخلى. بل يظهر عند تلاوة النصوص . وفى الواقع إن الحدث الدينى الأكثر شيوعا فى حياة المسلمين الأخيار هو ترديد الشهادة  و هى “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ” الشهادة هى أولى دعائم الإسلام الخمسة . هى الإعتراف بأن لا إله إلا الله. أما الدعائم الأربعة الباقية فهى الصوم و الزكاة و الصلاة و الحج لمن إستطاع إليه سبيلا.

    يستمر فى القصة شلال من التساؤلات. و يشير إلى المسيح تجسده و موته . و نجد إشارة إلى الجد و الأخت المريضة , يقول الأب:  ” ستشفى إن شاء الله”

نجد الموت يخيم على المحادثة, مما يثير الأم: ” وهو يلحظ حركة احتجاج آتية من ناحية الأم، و تتابع الطفلة:

ـ لِمَ مات جدي؟

 يجيب محاولا ألا يفقد صبره

ـ نموت إذا أراد الله لنا أن نموت.

 ـ ولم يريد الله أن نموت ؟

ـ هو حر يفعل ما يشاء

ـ هو حلو ما دام الله يريده لنا.

   كانت حميدة  ـ مثلا ـ فى الثلاثية تردد كثيرا الفاتحة عندما تذهب للمسجد أو حتى عندما تقوم بالأعمال المنزلية. تمثل الفاتحة إحدى أشكال العبادة الخاصة ويتم ترديدها كثيرا فى الطقوس الدينية و حتى الإجتماعية. و تقول ” بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين , مالك يوم الدين ,إياك نعبد و إياك نستعين , إهدنا الصراط المستقيم , صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ” فهى سورة تعبر جيدا عن تلك الثقة الخاصة و تفويض المسلمين بكل شىء لمشيئة الله القدير . ليس هناك عصيان لطاعته و لكن يبدو أن هناك أيضا درجة كبيرة من المرونة عند المسلمين  خاصة عندما يقوم أحدهم بأفعال غير مسؤولة إلى حد كبير, كما هو حال بعض شخصيات محفوظ .

   كان كمال الابن الأصغر لبطل الثلاثية يردد كثيرا آية الكرسى كدعاء و كانت مكتوبة و معلقة على صدره كالحجاب . أيضا حميدة كانت تردد كثيرا سورة الإخلاص. و هناك مواضع أخرى كثيرة للقرآن فى الثلاثية مثل: ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، ” قل أعوذ برب الفلق.. ” و من شر حاسد إذا حسد ” ” من شر الوسواس الخناس “.

 أيضا فى اللص و الكلاب يستمر ترديد السور القرآنية بين الإمام وسعيد مهران . و أرى أن قائمة المواضع التى ترددت فيها آيات أو سور من القرآن فى رواياته غير متناهية, كما أن الإشارات التاريخية و الشواهد إلى الأماكن المقدسة و ما هو دينى كان في المقام الأول في أعمال محفوظ. الآن أستطيع أن أصرح أن الدين كان منغمسا فى نصوص محفوظ و قد  قدمه بطريقة صادقة كإنعكاس حقيقى للحياة اليومية لشخصياته.

   تتعين الحرية الإنسانية فى الحدود الضيقة المؤكدة فى الفاتحة . ورد فى أصداء السيرة الذاتية أن الحالة التى يقترب فيها الإنسان أكثر من الله هى عندما يمارس حريته بشكل مناسب. الحرية بشكل مناسب تعنى  فحسب حرية التصرف و الفعل و الإرادة و الخير . حرية لا تسمح بتجاوز المحيط الدينى ولا تسمح أيضا بتعميقه أو الارتفاع عليه.

تعيق العناية و البصيرة الإلهية الذكاء الإنسانى من خلال المادة الدينية . و تتأسس الإنسانية فى الإسلام على مفهوم من البراءة الفطرية لدى الإنسان . فهو برىء فى جوهره و فقط يتلوث بالخطيئة عندما يستخدم المنطق و الوعى.

    الكل يموت ، فمن يفعل أشياء جميلة يذهب إلى الله، ومن يفعل أشياء قبيحة يذهب إلى النار، يبدو الإيمان بالآخرة واضحا و بسيطا , و لكنه يعطى إحساسا أنه ليس دائما بهذا الشكل الآلى . فهو ليس كذلك أمام المعصية و البحث عن عذر و الاستعانة بالله و الحفاظ باستمرار على ثقته فيه, أما عند االمصائب  فيتطلب الأمر الأسف و الإصلاح الذاتى. فالزكاة  تعنى فعليا التطهر و النضوج و تقصد كلا الهدفين.

    يأتى الدافع للتطهر من خلال الإيمان بالله – دون رؤيته أو معرفة الحياة الإلهية- و الخوف من الجحيم. بين الثواب و العقاب بعد الموت يأتى هذا الدافع . تطهر لا يقلل  من أى متعة دنيوية . حتى إنه يشبه الفندق على الطريق حيث يجب أن نتوقف, و يظل مفهومه مجهولا حتى إذا حضر الموت و إستمع الله إلى توسلات الإنسان و دعائه.

 و كما ورد فى أصداء السيرة الذاتية ” أتذكر ـ الآن ـ كلمات صديق حكيم :الحب الأول ليس سوى تدريب يستفيد منه الأغنياء الذين يحصلون على حب الله” .

الخلاصة

     تصل القصة إلى نهايتها , مشيرا للأب قائلا “وحرك تيار الأسئلة علامات استفهام راسبة في أعماقه ” من المحير أن محفوظ لم يوظف القرآن فى أى من أرجاء القصة. وفقا للإسلام : يحتوى القرآن على كلمات الله التى أًنزلت على محمد الناقل الأمين و النزيه للرسالة الإلهية و ذلك من خلال جبريل عليه السلام. فمحمد ليس مؤلفا للقرآن. فالقرآن هو خطاب إلهى حرفا بحرف . أعتقد أن  قدسية هذا الكتاب ربما تعود إلى أن الله لم يرد تفسير الآيات بشكل مباشر . و بهذا المنطق يتم إنكار قطاعات واسعة من الإسلام لخضوع القرآن لدراسات قد تجرده أو تسىء تفسير ألوهيته.

    فى بداية رواية ثرثرة فوق النيل كان أنيس ذكى الشخصية الأساسية فى الرواية برفقة ليلى زيدان يدخنون الجوزه و قد رأى أنه ليس غريبا تبجيل المصريين للفرعون , و مع ذلك كان غير عادى أن يعتقد الفرعون  أنه إله .

      يمكن إعتبار الدين الإسلامى فى مظاهره الأساسية و الجوهرية , دينا ذا طبيعة إنسانية , دين من الإنسان و إليه .

يتبنى الفيلسوف السياسى أليان بسنكون عضو أكاديمية النقوش و الآداب نظرية لاهوتية ترى أن الإسلام هو دين فطرى من عند الله , و يدافع عارضا ثلاثة خصائص أساسية للإسلام : دليل وجود الله فى كل شىء و هو كاف لعمل الخير و تجنب الشر و طرد  فكرة الإلحاد.

 وفقا له , إنه لمن الغريب بالنسبة للعقلية العربية و على وجه الخصوص المصرية اعتبار إنسان كإله , حيث أن الأغلبية يشعرون كثيرا بإنسانيتهم و أنهم قادرين على إنكار الله أو مخالفة أوامره و ويقرون بأنهم لا يستحقون الأشياء الجيدة التى تحدث لهم و أنهم يحتاجون لرحمة كبيرة ليصلوا إلى السماء. فى نفس الرواية فى إحدى أحلام البطل يسأل زوجته الميتة عن ابنته التى توفيت أيضا و تجيبه قائلة , وصلت الجنة قبلنا و مشيت بين الأموات تعطيهم ماءً طيبا ليشربوه . و هكذا تتبدى البراءة الفطرية للأطفال الذين يذهبون دائما إلى السماء.

    فى آخر جمل قصة جنة الطفولة  يقول ” فقالت المرأة ستكبر البنت يوما , فتستطيع أن تدلى لها بما عندك من حقائق. و إلتفت نحوها بحدة ليرى ما ينطوى عليه قولها من صدق أو سخرية , فوجد أنها قد انهمكت مرة أخرى فى التطريز ” و من جديد تظهر الأم فى المشهد كالتى تعيش الدين على وجه أفضل, فى واجباتها الخاصة بما فيها العقل , و لكنها مستسلمة للمسار الطبيعى للأشياء , منعزلة فى البيت و لكن على دراية كاملة بالواقع . و عند الملاحظة بدقة لتطور الخطاب فى القصة , نجد أن كل شىء يشير إلا أن محفوظ قد إستخدم استعارة للدين, فقد شبهه بالطفلة . على الدين أن ينمو و يتطور فى إتجاه العقل لكى يتضح للعالم و للبشر و لكى يتأمل الحقائق و يجعلها ممكنة و لا نعيش فى الأوهام . فى هذه الإستعارة يتعامل الأب كعنصر مهيمن و مشكل لنمط وجود الطفلة أى للدين نفسه .

إن  مفهوم الإسلام عند الأصوليين فى مصر هو مفهوم ثابت و غير منطقى و يفتقد للحس المشترك و عنيف. مفهوم للدين بعيد كل البعد عن نجيب محفوظ , الذى بدا تأثير برجسون عليه  خاصة فى أعماله الأولى حاسما, و على وجه الخصوص نظرية النشوء و التطور و عالمه الروحى, فلا يجب أن ننسى أن محفوظ كان قد اعتنق الإتجاه الراديكالى الصوفى خلال فترة  كبيرة من حياته .

    و من خلال خالد بيك فى الكرنك, وصف محفوظ وضع العقل و الحوار الدينى في مصر فى أواسط القرن العشرين قائلا: ” يوجد فى وطننا دينيون, و هؤلاء يهمهم قبل كل شىء أن يسيطر الدين على الحياة, فلسفة و سياسة و أخلاقا و اقتصادا, و هم يرفضون التسليم للعدو و يأبون المفاوضة معه ولا يرضون عن الحل السلمى إلا أن يحقق لهم ما يحققه النصر نفسه,أو فإنهم ينادون بالجهاد “

     إعتبر المستشرق العربى (جليو ألبانيس) فى إحدى مقالاته التى نشرت بعد وفاة محفوظ , أنه ممثلا لدين متسامح و تقدمى بل و منفتح على الإتجاهات التى تعلى من البغض للغرب و يؤكد أنه إذا كان قد إستمع لرسالة  بنديكتو السادس فى راتسبونة كان بالتأكيد سيتفق مع فكر البابا و فى النهاية يصرح ألبانيس، و أشاركه الرأى فى ذلك , أن هناك مسلمين عقلانيين ومن الضرورى تحفيزهم و إمدادهم بالقوة . و قد تكون إحدى هذه الطرق هى  قراءة و متابعة أعمال نجيب محفوظ .

الهوامش

  1. جاك ايلول , الإسلام و المسيحية و اليهودية , باريس  2004
  2. مورالس, الإسلام , مدريد 2001, ص15
  3. بعض نماذج من كتب إسبانية تبدى رغبة فى معرفة الإسلام فى السنوات الأخيرة مثل كتاب الإسلام لبى.بالتا , برشلونة 1996و كتاب الإسلام لجيه الياس , مدريد 2002 و كتاب اسبانيا الإسلامية , لفليتشر , سان سبستيان 2000و قاموس الحضارة الإسلامية , برشلونة و بعض الكتب الأدبية لكتاب مثل عبد الرحمن منيف و طه حسين و نوال السعداوى و نجيب محفوظ نفسه .
  4. كثير من الكتب مثل  وهم الإله , برشلونة 2007 و عودتى إلى الله, مدريد و عن التجربة الدينية و غيرها .
  5. جيه مورالس , الإسلام , ص17
  6. نفس المرجع ص 65
  7. لوبيز إنامورادو , مصر نجيب محفوظ المعاصرة , التاريخ فى الثلاثية , اشبيلية 1999
  8. إحدى المظاهر المدروسة فى أدب نجيب محفوظ هى تقسيمها لمراحل و ننصح الرجوع لمقال نجيب محفوظ من الواقعية إلى الرمزية
  9. نجيب محفوظ من الواقعية إلى الرمزية لمرسيديس دى آمو , ص17 و التى تتناول مجموعات من القصص التى قد تفتقد بشكل كامل للعنصر القصصى و ترتكز كلية على الحوار و تسمى بالحواريات .

10 – جيه بالوكسى , مئة سؤال عن الإسلام .

11- نفس المرجع , ص97

المراجع

Alessi, A., Filosofia della religione, Roma, Las-Roma, 1994.

Amo, M. del, “Naguib Mahfuz: del realismo al simbolismo”, Miscelánea de Estudios Árabes y Hebraicos. Sección Árabe-Islam, 45 (1996), pp. 15-24.

“Mujeres de papel (1): Hamida, la tradición se resquebraja”, Miscelánea de Estudios Árabes
y Hebraicos, Sección Árabe-Islam, 46 (1997), pp. 17-28.

Camus, A., La peste, Barcelona, Edhasa, 1981.

Cocco, U., “Pochi famosi, troppi ignoranti”, La rivista del manifesto, núm. 5 (abril 2000).

Ellul, J., Islam et judéo-christianisme, Paris, puf, 2004.

al- Guitany, G., Mahfouz par Mahfouz, Paris, Sindbad, 1991.

Larola, P. “Entrevista a dos literatos egipcios (Yusuf Idris y Naguib Mahfuz): el teatro”, Miscelánea de Estudios Árabes y Hebraicos, Sección Árabe-Islam, 18 (1989-1990).

López Enamorado, M. D., El Egipto contemporáneo de Naguib Mahfuz, Sevilla, Alfar, 1999.

Mahfuz, N., Dialogadas 1967-1971, Madrid, Alianza, 1989.

Veladas del Nilo, Madrid, Libertarias, 1989.

La ausencia, Madrid, Península, 1990.

La azucarera, Madrid, Martínez Roca, 1990.

El ladrón y los perros, Barcelona, Plaza Janés, 1991.

Rhadopis, una cortesana del Antiguo Egipto, Barcelona, Edhasa, 1994.

La batalla de Tebas, Barcelona, Edhasa, 1995. ll Akhenatón, el rey hereje, Barcelona, Edhasa, 1996.

La maldición de Ra. Keops y la gran pirámide, Barcelona, Edhasa, 1996.

Ecos de Egipto. Pasajes de una vida, Madrid, Martínez Roca, 1997.

El café de Qushtumar, Barcelona, Destino, 1998.

Amor bajo la lluvia, Barcelona, Destino, 1999.

El palacio del deseo, Madrid, Martínez Roca, 1999. Entre dos palacios, Madrid, Martínez Roca, 1999.

Espejos, Madrid, Cátedra, 1999.

Tras la celosía, Madrid, Martínez Roca, 1999.

Hijos de nuestro barrio, Madrid, Martínez Roca, 2000

El callejón de los milagros, Madrid, Martínez Roca, 2001.

La taberna del gato negro, Madrid, Martínez Roca, 2003.

Morales, J., El Islam, 2a ed., Madrid, Rialp, 2001.

Paolucci, G. y Eid, C., Cien preguntas sobre el Islam. Una entrevista a Samir Khalil Samir, Madrid, Encuentro, 2003.

Cristianos venidos del Islam, Madrid, Libroslibres,
2007.

Peña, S., “Sueños de Mahfuz: lo onírico en la construcción de la novela”, Anaquel de EstudiosÁrabes IV, 1993, pp. 129-148.

el-Sayed Aly, M., “Simbolismo de lugar y etimología de los nombres en Hijos de nuestro barrio de Naguib Mahfuz”, Anaquel de EstudiosÁrabes IX, 1998, pp. 179-193.

Sagrado Corán, Cortés, J. (trad.), Centro Cultural Islámico Fátimah Az-Zahra, El Salvador, 2005.

Schmitt, E. E., El señor Ibrahim y las flores del Corán, Barcelona, Obelisco, 2005.

Varios autores, El mundo de Naguib Mahfuz, Madrid, Instituto Egipcio de Estudios Islámicos, 1989.

All’ombra di piramidi e moschee. Scritti e interviste, Roma, Datanews, 2006.

Villegas, M., La narrativa de Naguib Mahfuz: Ensayo de síntesis, Alicante, Universidad de Alicante, 1991.

المصدر

نشرت المقالة فى موقع la, universidad de la sabana, RedalycPublindex (C), EBSCO-Fuente Académica, Ulrich’s,  DialnetLatindex (catálogo)HELA DOAJGoogle Académico

                                                    ترجمـــــــــــــــة

                                                        خلود محمود

نجيب 6

المعنى الوجودي للخروج من قلب الليل

سيد الوكيل

سواء كان، في فكر (سارتر) الإلحادي، أو في عقيدة (كيركجارد) المؤمنة، هناك اتفاق على معان جوهرية في الوجودية:

 *الذات، ويقصد بها الذات الفاعلة لا الذات المفكرة.

 *الواقع، أو ما يسميه (جبريل مارسيل) عضة الواقع الذي يحرك القلق الوجودي. ويقصد بها التجربة الإنسانية، ومتحصلات الخبرة من الواقع المعيش، وليس من المعارف، والنظريات، والأفكار الفلسفية. الوجودية بهذا المعنى فلسفة واقعية. وقد رأينا، أن للواقعية عند محفوظ، معنىً إنسانيًا.

أما الثالث فهو، القلق الوجودي، من حيث الشعور باليأس والعدمية وفقدان المعنى. وهو الدافع إلى رحلة البحث عن الطريق، عبر طرح الأسئلة الوجودية على الذات. فالوجودية تُظهر تمركزها حول الذات، فكل شيء ينطلق منها وينتهي إليها. ورحلة البحث الوجودي، هي مسيرة إنسانية كبرى، لكن الإنسان، لا يدركها إلا  متفردًا بذاته. لهذا، تمد الوجودية جذورها لمقولة سقراط الشهيرة: (اعرف نفسك بنفسك). 

 إنها فلسفة عن الذات أكثر منها عن الموضوع، ويعني هذا التأكيد على الذاتية، ضرورة تحديد موقع الذات من الوجود، بمعنى أنه: إذا كان الوجود سابقًا على الماهية، فإن الذات تكون أولاً وقبل أي شيء. ثم تسلمنا الذاتية، إلى نوع من الفردية، وهى بهذا المعنى، مبدأ أخلاقي وجمالي في نفس الوقت. بحيث يتحمل فيه الإنسان مسؤولية وجوده.

 فأخلاقية الوجودية هي التي تضمن المسؤولية والالتزام عند سارتر، كما تفسر المعنى الجمالي للوجود، بوصفه معرفة أدبية وجدانية وليست فلسفة أو نظرية.

ولعل التعبير الشعري: كن جميلاً تر الوجود جميلاً، على بساطته، يسبر غورًا عميقًا في فهم الوجود. غير أن الجمال هنا ينسلخ عن  المنطق الرياضي، والقياس الأرسطي. إنه  واقعي وحسي، أو على نحو ما يذهب كيركيجار: ” فيما يجتهد الفكر المجرد ليفهم المحسوس فهمًا مجردًا، نجد الفكر الذاتي أو الوجودي، على العكس، يجتهد ليفهم المجرد محسوسًا”[xxxiv]

    يقول تيري إيجلتون في ( معنى الحياة): ” اليقين العقلي مهلك للروح، لأنه إذا حدث تحول أو انحدار أو كسوف للمعنى، تتحول الحياة إلى تراجيديا عنيفة”[xxxiv]

غير أن هذا الموقف المناهض للعقلانية المجردة، ليس موقفًا وجوديًا من العقل، بقدر ما هو موقف من الحداثة، التي أغرقت العالم في ضلالات العقل وروافده الفلسفية، حتى نصبت نفسها بديلاً للميتافيزيقا، ومن ثم أنتجت أوهامًا وضلالات جديدة.

 إن الواقعية تدعو إلى نبذ كل الأوهام بأي دعوى، حتى وإن كانت بدعوى الدين أو العقل. لقد كانت رحلة الإنسان مع العقل، موضوعًا أثيرًا عند فلاسفة وأدباء الحداثة، لكن هذا الاستغراق العقلاني لم يفض إلى يقين ما، على نحو ما يقول تيري إيجلتون:” إنهم، كانوا يملكون تصورًا منطقيًا منظمًا ومنضبطًا عن العالم، فوقعوا في التشاؤم والبؤس، حيث أنهم أدركوا أن هذا الانضباط والتنظيم والوضوح المنطقي، سرعان ما يتلاشى مع الحركة الزمنية، فالحياة ـ هكذا ـ لا منطقية ولا عقلانية وعلى قدر كبير من الغموض”[xxxiv]

وهكذا، يمكن فهم الوجودية، ليس على أنها موقف مضاد للحداثة فحسب، بل هي موقف طليعي، يستشرف آفاقًا جديدة لإنسان ما بعد الحداثة، من حيث إدراكه لذاته وماهيته. بما يستلزم الرحلة في الذات للوصول إلى ماهيتها، ومن ثم إدراك موقفها الوجودي. 

يقول عبد الرزاق الجبران في الموقف الوجودي للدين: ” الوجودية ليست أيديولوجيا، بل هي تجربة، ورحلة تعكس الفشل، وتنتهي إلى التوقف عند نقطة، هي بالضبط ما أنت عليه، هي وجودك هنا والآن” [xxxiv] وهذا بالضبط، ما تعكسه لنا رحلة جعفر الراوي في رواية ( قلب الليل). كما سوف نتتبعها.

 إن طريق الرحلة، ليس مُعبدًا، ولا متاحًا بالمرة. بل مغمورًا بالأشباه والضلالات، يؤدي للتيه أكثر من أي شيء آخر. ولذلك، سنعول، على طبيعة الرحلة نفسها. ونحن نقرأ هاتين الروايتين: قلب الليل، والشحاذ. في الواقع، نحن نستهدف القراءة، بمعنى أننا نتتبع خطوات الرحلة، ولا نستهدف الخروج بموقف نهائي، يعمل كحكمة، أو مقولة حاسمة.

 إن الرحلة رديف الوعي والمعرفة لصاحبها، وهذا يؤكد معنى الذاتية فيها. فرحلة جعفر الراوي هي تجربته الشخصية، وإن تشابهت مع رحلة الإنسان على الأرض منذ خلقه الأول، وتقلبه بين الخيالات، والمشاعر والعواطف، والرغبات الحسية، والمدركات العقلية. هذا التشابه، باعث على التيه، ولذلك فالرحلة ذات طبيعة دائرية،  تذكرنا، بصور العذاب في جحيم دانتي اليجيري. إنهم مصفدون بالأغلال، ويدورون في كهف مظلم، بلا نهاية، حول نصب لا يعرفون كنهه. هكذا تكون معضلة جعفر الراوي، في أن يميز ذاته المفردة بين هذا التشابه والتكرار القدري للوجود الإنساني. ليعرف في أي نقطة هو بالضبط. كما يقول عبد الرزاق الجبران.

أما رحلة عمر الحمزاوي في رواية الشحاذ، فهي سقوط في الداخل يصيب الإنسان بغتة وبلا سبب واضح. هي أقرب إلى المرض النفسي، ولكنها أيضا رحلة في الظلام، عندما تنهار دعائم الوجود، ويتبدى الوجه العبثي للحياة.

وكما كان جعفر الراوي، بعد أن هجر بيت الجد، يتسول مقومات الحياة الحقة في رحلته. كان عمر الحمزاوي، يتسول وجوده، بعد أن هجره المعنى مرددًا: “إن كنت تريدني فلماذا هجرتني”[xxxiv]

 وإذا كان ثم اتفاق، على أن الوجودية بنوعيها: الملحد والمؤمن، تجربة فردية؛ إلا أن بعض باحثي الأنثربولجيا، يرون أن المجتمعات يصيبها ما يصيب الأفراد من سأم وقلق، وتقطع رحلتها الجغرافية بحثًا عن مكان. وفي هذا السياق يتساءل ميشيل مافيزولي: “أوليس القلق والتوتر الداخلي، هما بنهاية الأمر، الخصيصتان الأساسيتان لكل دفعة حيوية، بما فيها الانطلاق نحو التيه وشد الترحال للضرب في مناكب الأرض؟”[xxxiv]

يرى ميشيل مافيزولي أن تجربة التيه الاجتماعي لا تقل خصوبة في معناها عن التيه الفردي، بوصفهما انفعالًا وجوديًا. ولو مددنا الأمر على استقامته، يمكننا أن نرى، ما يعيشه المجتمع المصري الآن من قلق وتوتر بعد ثورتين، تحركت كل منهما في اتجاه معاكس للآخر، وما نتج عنه من تشظي وتوزع القيم، ورغبة عميقة في الترحال، والهجرة الخارجية، والداخلية، ونزعات متطرفة في إلحادها أو تدينها، وثالثة تعاني حيرتها وتبحث على نحو فردي عن خلاص وحل. وظني أن العالم يعيش أزمة وجود الآن. بعد أن تخلى عن اليقينيات القديمة، وتبدى له الواقع -في عصر السموات المفتوحة- كونًا شاسعًا ومعجزًا. فتفاقم داخله شعور التيه.

قلب الليل

( النص، والنص المصاحب).

” يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ”

 (قرآن كريم)

تبدأ رواية (قلب الليل)[xxxiv] لنجيب محفوظ، من نقطة محددة، وتنتهي عند نفس النقطة التي بدأت منها، وهى اللحظة التي يقف فيها جعفر الراوي أمام موظف الأوقاف، مطالبًا بحقه في ميراث جده. ومعني هذا أن رحلة جعفر الراوي، التي قطعها، انتهت إلى ما بدأت منه. لا يقين، ولا خلاص.

 لكن ما المعنى المرجو من كل ذلك؟

هو أن تدرك بذاتك (المفردة) كنه ذاتك.

ربما ببعض التأمل سنرى أن ( قلب الليل) هي رحلة الإنسان في الوجود، وقدرها في أن تتحمل مسؤلية وجودها الذي لم تختره. هكذا سيكون جهد بطلها جعفر الراوي هو الخروج من قلب الليل الذي سكنه دون أن يعرف لماذا. وعندما نفكر في رحلة الإنسان على هذا النحو، فلن نكون بعيدأ عن أولاد حارتنا. فهل كانت ( قلب الليل) على وجازتها وكثافتها، إعادة إنتاج لهاا؟

***

منذ اللحظة الأولى، تعلن رواية قلب الليل عن بنيتها البسيطة، بوصفها حوارية طويلة تقع في (149) صفحة، وتدور بين شخصين: موظف الأوقاف، وجعفر الراوي، الذي جاء مطالبًا بحقه في إرث جده.

 غير أن هذه البنية، لا تسلم لبساطتها الأولية. ففي الوقت الذي نعتقد فيه، أن موظف الأوقاف هو الراوي العليم للحكاية كلها، يتحول هو نفسه إلى مروي عليه، فيما يتحول (جعفر الراوي) من موقع المروي عنه، إلى موقع الراوي، بوصفه ساردًا لسيرته الذاتية، وصانعًا لأسطورته الخاصة، محاولًا انتزاعها من أسطورة الوجود. ونتيجة لتبادل المواقع بين الراوي والمروي عليه، يتراجع دور (موظف الأوقاف) إلى مجرد محفز للسرد، وموجٍه له، ومفسر لما هو غامض أو مهمل فيه، عبر أسئلة يوجهها بشغف، إلى جعفر الراوي، بما يعطي انطباعًا بأن الوظيفة الفنية، لتبادل مواقع الرواة، هي دعم النسيج المتشابك للحوارية، حتى لا نكاد نشعر بوطأة الحوار في النص. ومن ثم، يبدو الحوار مجرد حيلة فنية لمساءلة التاريخ الشخصي لجعفر الراوي.  ثم نكتشف -عبر بنية سردية أكثر عمقًا- أن هذه المساءلة تتجاوز تاريخ جعفر الراوي الشخصي، إلى تاريخ الإنسان عمومًا. وذلك عبر مجموعة من الرموز والدلالات، تومئ، أو تحيل إلى نص مصاحب (مسكوت عنه) يمور بقوة بين سطور النص المكتوب. وهو نص، يتوازى في خطه الزمني مع مراحل ثلاثة لحياة جعفر الراوي: من الطفولة إلى الشباب، إلى الكهولة. ليسقط بدلالته على حياة الإنسان كما نعرفها في (لغز أوديب) عن الكائن الذي يمشي في الصباح على أربع، وفي الظهيرة على اثنين، وفي المساء على ثلاثة.

إن تاريخ جعفر الراوي معادل لتاريخ الإنسان، وأزمته هي أزمة الوجود الإنساني المشتبكة بمسيرة المعرفة. التي بدأت من الأسطورة، حيث الخيال وسيلته للإجابة عن أسئلة الوجود الغامضة، فتبدو طفولة جعفر الراوي، تمثيلاً لطفولة الفكر الإنساني بكل ما فيه من أساطير وخيال لعوب. لكنه سرعان ما ينتقل إلى تجربة دينية –في بيت الجد- تفرض شروطًا وضوابط جديدة. ثم كان الفن وسيلته لفهم ذاته، واختبار طاقاته الكامنة وغرائزه المتفجرة، حتى جاءت محطته الأخيرة  في أحضان الفلسفة، اكتشاف العقل وإمكاناته المدهشة في الإجابة على كل غوامض الوجود.

هكذا تبدو  رحلة جعفر الراوي في الحياة، معادلاً لرحلة الإنسان على الأرض، وهو في سبيله للبحث عن يقين. ومسار يحقق له العدل والحرية في آن واحد. إن لحظة البداية في الرواية، تجسد عمق المأساة الإنسانية، حيث يقف جعفر أمام موظف الأوقاف، موزعا بين الكبرياء والهزيمة، يطالب بعدالة حقه في ميراث جده،  فيما  هو يردد بفخر، كيف أنه يسعي لانتزاع حريته من سلطة جده، صاحب البيت العتيق، والحديقة الغناء.

  لقد بدأت أزمة (جعفر) بالثورة على جده الذي اعترض على زواجه بــ(مروانة) راعية الغنم. يعتبر هذا نوعًا من الانفصال عن المعنى الروحي الذي يرمز إليه الجد. كان جعفر في سن الشباب، فاعتقد أنه قادر على مواجهة الحياة بدون رعاية الجد. وقد كان أبوه قد خرج من نفس البيت، بسبب عشقه لامرأة أيضًا (أم جعفر). الولد مثل أبيه،  كلاهما حرم من الرعاية المتكاملة في جنة الراوي الكبير. ألا يذكرنا هذا بالخروج الأول لآدم وحواء، بداية التيه الوجودي للإنسان؟ تجربة الانفصال الكبرى عن الرعاية الإلهية. وتحمل الإنسان لمسئولية نفسه. إنه القانون الطبيعي للوجود، الفطام الذي مازال يعمل في الوجود الإنساني بانفصال الطفل عن والديه، يعمل كخطوة أولى في رحلة الكفاح، والكدح، ليعرف الإنسان كنه ذاته عبر التجربة الحية، ويعرف معنى وجوده. فهذا الانفصال هو الذي يحقق معنى الفردية (الذاتية) في التجربة الوجودية. وتجعلنا نرى أن رحلة جعفر الراوي التي يمكن أن تكون تمثيلاً لرحلة الإنسان على الأرض، هي تجربة فردية في نفس الوقت.   

 يمكننا ملاحظة أن: مغزى الرواية يتجه إلى الموضوع الملح عند نجيب محفوظ، عن الإنسان وأسئلته التي لا تنتهي عن ماهيته، ووجوده، ومصير ومعنى هذا الوجود، المبني على حكمة غامضة، وقدر لا قبل للإنسان به. عن رحلته عبر التاريخ وصراعاته التي لا تنتهي، هذه الأسئلة التي ظهرت تجلياتها في (أولاد حارتنا) عبر بنية مستعارة لرواية التاريخ الإنساني، ومحتشدة بالكثير من التفاصيل.

 أما (قلب الليل) فتنطلق بوضوح شديد من الواقع لتثور عليه، مختزلة الكثير من التفاصيل، عبر لغة شديدة التكثيف والإيحاء، لتومئ إلى نفس الموضوع، غير أنها لا تعتمد الاستعارة كوسيط لحكاية الإنسان، ولا تُسقط المعنى من أسطورة الخلق بشكل مباشر. بقدر ما تعمل على إنتاجها من صيغة الواقع الحي. عبر تجربة الحياة الشخصية لجعفر الراوي. وتقلباتها من الطفولة إلى الشباب إلى النضج العقلي، لتصل إلى المأساة.

وظني، أن هذه البنية، أنقذت (قلب الليل) من مأزق التفسيرات المجحفة، الذي دخلته (أولاد حارتنا). في حين، أنها (قلب الليل) وسعت أفق القراءة لأقصى مدى زمني ودلالي على وجازتها؛ فلم تتوقف عند كونها محاكاة لتاريخ الإنسان وتقلبه بين العقائد المختلفة. فنحن -في هذه الرواية- إزاء مساءلات حيوية تمس الواقع الإنساني، وتتمركز-في النهاية- حول قيم إنسانية مؤرِقة، مثل الغريزة والعقل والعدل والحرية..

***

يبدأ جعفر الراوي سرد حكايته لموظف الأوقاف بعدما انتهت. إنه الآن، عجوز محطم الوجدان، خرج من السجن لتوه، بعد ارتكابه لجريمة قتل صديقه سعد كبير. لكنه اختبر الحياة بكل تناقضاتها، وعركها بما يكفى ليراها رؤية محيطة وواسعة، وبما يسمح له بفهمها، بعد رحلة طويلة، قطعها ليعرف.

 زمن الرواية استرجاعي، يسمح بالقفز فوق تراتبية الزمن، من الآني والماضي، والرجوع مرة أخرى.. وإذا أضفنا إلى ذلك، البنية الحوارية للرواية، تلك التي تسمح باستنطاق الشخصيات بما يدور في دواخلها، نكون أمام تصميم مسبق، يسمح لنجيب محفوظ بتمرير رؤاه وتحليل نظراته الفلسفية على لسان جعفر الراوي، وعبر أسئلة يوجهها له موظف الأوقاف. هذا لا يعني أن شخصية (جعفر) مجرد قناع للمؤلف. إنها ثرية بالتفاصيل الحية، ومؤهلة بتاريخها النفسي والثقافي، لتنطق بمعان فكرية عميقة، وشغف للمعرفة.

 يقول جعفر لموظف الأوقاف:”لم يبق من عمري إلا أيام، ومازالت البشرية تعني العذاب والقلق، مازلنا نموت مخلفين وراءنا أملًا قد تحقق ونسى.. وأنت تريدني أن أروي قصتي بالطريقة التي تعجبك أنت” [xxxiv]

 لهذا تبدو مهمة (موظف الأوقاف) ليس فقط أن يستنطق جعفر الراوي لسرد حكايته، بل موجِهًا للسرد، ومنسِقًا لترتيبه فنيًا ومنطقيًا، إنه قاض، يدير المحاكمة بطريقته، لاستجلاء المعنى. في موقف الدفاع، يقول جعفر الراوي:

“لست تافهًا كما تتصور، إني صاحب حق، وذو ثقافة، بوسعي أن أحدثك عن عيوب الديمقراطية، وعيوب الشيوعية.

ـ ستحدثني عن ذلك في سياق حكايتك، ولكن لنرجع الآن إلى حياتك الجديدة” [xxxiv]

عهد الأسطورة:

يقول جعفر الراوي لموظف الأوقاف:

“ـ دعني أحدثك عن عهد الأسطورة.

ـ لعلك تقصد الطفولة.

على نحو أولي، يسمح قناع القاضي بفض ملابسات القضية، واستبيان الحقيقة المغلقة، كما يسمح الاسترجاع، بأن يحدثنا جعفر الراوي عن طفولته، لكننا عبر الإحالات الدلالية والرمزية، نسمح لأنفسنا، بالرجوع لأبعد من طفولة جعفر الراوي، إلى طفولة الوعي الإنساني (الأسطورة). سينشأ عبر هذا نوع من التزامن الخصب الذي يثري الرؤية ويعمقها على الرغم من ضيق العبارة وإيجازها، بحيث يمكننا مراقبة النص المصاحب، مراقبة لصيقة ومتزامنة مع النص المكتوب. ويمكن اعتبار النص المكتوب هو التجربة الواقعية والفردية لجعفر الراوي، بما يضمن المعنى الوجودي لها. أما النص المصاحب فهو الذي يسقط من الواقع المعيش والفردي، إلى الواقع الرمزي والجمعي للوجود الإنساني.

فعلى مستوى النص المكتوب، سيمنى جعفر الراوي بطفولة مأساوية، حيث تغيب صورة الأب والأم تمامًا، سوى من إحالات حسية عابرة ومجتزأة. كان الأب قد مات مبكرًا، وما لبثت الأم أن لحقت به، فعرف جعفر الراوي يتمًا مبكرًا، انتقل على إثره إلى رعاية الجد. وهناك يدرك أن عهد الطفولة قد انتهى؛ فبدأ عهدًا جديدًا، يقوم على التكليف بمهام روحية يمليها الجد.

الحياة في البيت العتيق:

التعريف الأول بالحياة الجديدة التي انتقل إليها الطفل (جعفر) إثر موت أمه. كان وصفًا مسهبًا للقصر وحديقته الغناء، أشجارها الباسقة وقطوفها الدانية، وبسطها الممدودة، ومياهها الجارية. أي مكان هذا غير الجنة التي طرد منها الإنسان ليعيش تيهه الأول على الأرض. إنه تعريف يسمح بتقديم الجد، بوصفه أزهريًا يمتلك قدرًا واسعًا من العلم والدين. لا عمل له غير إدارة أملاكه.

بدأ لقاء الجد بمراجعة الثوابت الدينية عند الطفل: من الذي خلقك؟ من نبيك؟ ماذا تحفظ من القرآن؟

يقول جعفر عن جده:” هو يطالب الإنسان بالسمو والتطهر والكمال وباعتناق ُرؤاه في الوجود، ويحتقر الضعف وما يراه انحلالًا وتدهورًا في التكامل البشري، هكذا اقتنعت بأن الطريق إلى حنانه واضح ومستقيم، ولكنه حافل بالجهد والصبر والعرق، والقوة والتقدم والسمو”[xxxiv] فهل يقدر جعفر الراوي على الطريق؟

هنا، معضلة أخرى من معضلات الوجود الإنساني المرتعش على الأرض. إذ عليه أن يتسم بالسمو والتطهر والكمال، أن يعتنق رؤى الله الذي في السماء فيما هو على الأرض. الله الكامل المنزه فيما هو ابن الخطيئة الأولى، ناقص ومدنس. عندئذ يدرك جعفر أن عهد الطفولة انتهى، ولّت حياة الأساطير والأحلام اللعوب. إن حياةً جديدةً قد بدأت للتو، يجب أن تكون وفق مطالب الجد، وتصوراته عن الإنسان الكامل، فيمتثل لها، ويخطو خطوات مباركة، حتى بلغ سن الشباب، ثم.. بدأت اللعنة التي طاردت الأب، تتبدى للابن.

 تمثلت الغواية الأولى في رغبته في السفر إلى أوروبا.  نداهة الترحال والتيه، بداية الطريق لإدراك الذات. فبعد الإنصات لأوامر الجد ونواهيه، يقول له جعفر.

“ـ يسرني يا جدي.. وأود بعد ذلك أن أسافر إلى أوروبا .

فتجلى الاهتمام في عينيه وسألني.

ما الذي جعلك تود ذلك؟

أسوة بما فعل أبي!

فمسح على لحيته البيضاء وتمتم

عليك أن تتحلى بوحي الله وافعل ما تشاء.”[xxxiv]

هل رغبة جعفر الراوي في السفر كأبيه لعنه متوارثة؟ هو ابن أبيه حقًا. الرغبة في السفر هو فضول أن نعرف. المرور بشجرة المعرفة هو الإدراك الأول لآدم ببشريته، لكنه بداية التيه أيضًا.

في الأوديسا، كان التيه عقابًا من إله البحر لأوديسيوس. لكن ابنه (تلِماخوس) خرج للبحث عن أبيه متحديًا إله البحر. إن البحث عن الأب قدر، لأنه بحث عن الذات، وهو كدح الإنسان، منذ مولده. يولد الإنسان بلا هوية، ولا ذات، وتبدو رحلة الحياة، هي نفسها الطريق  لمعرفة الذات وتحققها. في رواية الطريق، خرج (صابر) للبحث عن أبيه. كان تائهًا بلا جذور بعد أن ماتت أمه، فقرر أن يخوض رحلة البحث ليعرف من هو، وابن من؟

يقول جعفر الراوي لموظف الأوقاف عن سفر أبيه:” كان يريد أن يحقق ذاته بطريقة أخرى، ولا أخفي عنك أنني أعجبت به”[xxxiv]

على أية حال، كانت رغبة جعفر في الخروج من بيت الجد مبكرة، كان شابًا شغوفًا باختبار الحياة، مقبلاً عليها، لكن الرغبات تنمو معنا، وتصبح أكثر إلحاحًا مع الوقت، وتعيد إنتاج نفسها في صور لا تنتهي.. الرغبة هي طاقة الحياة. 

 فى هذه المرحلة يرتبط جعفر الراوي بصديقه (محمد شكرون). كان شكرون يتمتع بصوت عذب أعجب الجد فقربه إليه في مجالس الذكر والإنشاد. مما أثار غيرة حفيده الشاب، فتمنى لو ينافس صديقه ملكة الصوت الجميل التي يرعاها الجد ويغدق بسببها على محمد شكرون. ولأن الجد عليم بما في الصدور، نصح الحفيد أن يقدّر ذاته بما وهبه الله:” وهبك الله عقلًا راجحًا كما وهب صديقك صوتًا عذبًا، فانعم بما وهبك ولا تنغص صفوك بما تفتقد، ولو كنت ذا استعداد للغناء ما ساءني أن تصير مطربًا، فالمطرب ـ أيضًا ـ يستطيع أن يكون إنسانًا إلهيًا”[xxxiv]

 المغزى في كلام الجد، أنه لا يرفض الغناء، بل يرفض أن يتوه الإنسان عن ذاته.  

يقول جعفر الراوي:” وثبت عندي من ذلك حب جدي العميق للغناء والموسيقى، وإنها عاطفة مستقلة بذاتها عنده وليست تابعة لتدينه “[xxxiv] 

غير أن التوفيق بين المتع الحسية، والرغبات الإنسانية، وبين أن يكون إنسانًا إلهيًا، هو مطلب لم يتمكن جعفر الراوي من تحقيقه طوال الوقت. وستكون فتنة الغناء، وعشق الحياة الصاخبة لأهل الفن والطرب، بداية لطريق طويل من المعاناة، يجسد الإخفاق في اكتشاف جعفر لذاته. ذات مرة، قاده محمد شكرون إلى بيوت العوالم (الراقصات). وفي هذا المناخ الصاخب، تستيقظ حواس جعفر، ويشعر بطغيان الجسد، ورغباته  الغريزية التي لا تكف عن العواء، والدفع به إلى مصير مماثل لمصير أبيه.

 كانت الخادمة المسنة في بيت الجد قد لاحظت نظراته الشبقة لإحدى جواري القصر؛ فجزعت، وتوسلت إليه ألا يقدم على التفكير فيما يغضب الجد، كما فعل أبوه. لكن جعفر كان قد بدأ رحلة اكتشاف حواسه ورغباته. اكتشاف الحواس هو بداية اكتشاف الإنسان لذاته بعد رحلة الطفولة الأسطورية، لكنه في نفس الوقت، رهن باختبار قاس في مواجهة سوأته، إذ عليه أن يمضى بقيه عمره، وهو يخصف عليها من ورق الجنة.   

مأزق الجسد :

يقول جعفر الراوي عن تلك المرحلة:

  “أما أزمة تلك الفترة الحقيقية فكانت أزمة جنس، أزمة المراهق المتشوف إلى القداسة ونزاعه الدائم مع غرائزه القوية “[xxxiv]  

توقفنا عبارة (المتشوف إلى القداسة) على حيرة جعفر الراوي، بين إلحاح الجسد، وتشوف الروح. هذه الحيرة التي تشطر الذات الإنسانية بين خيارين. إنه تعبير غاية في الدقة، مدرك لطبيعة تلك المرحلة المتقلبة بعنف وتطرف، بين المقدس والمدنس، وهي في عرف علماء النفس، لحظة التحول التراجيدي في حياة الإنسان.

. كانت الخواطر الجنسية تلح علي جعفر الراوي في مراهقته، وكثيرًا ما حاول فهم الغريزة الجنسية وطبيعتها، وسطوتها المستبدة بجسده في مواجهة الحضور الروحاني للحياة في بيت الجد. وكثيرًا ما كان يفكر، هل يمكن أن يكون لجده حياة جنسية خاصة؟ لكنه كان يرتعد لمجرد التفكير في هذا، منزهًا إياه عن أي تناقض أو نقص أو دنس.

غير أن علاقة جعفر الراوي بجسده، واكتشافه لرغباته الحسية، وتناقضها مع القيم الروحية، كانت قد بدأت بالفعل منذ عهد الطفولة، إلا أنه كان عهد ما قبل التكليف والمسؤولية، أو كما يسميه جعفر الراوي: (عصر الجن الماجن والجماد اللعوب والحقائق الطيفية والأحلام الحقيقية). ذات مرة ضبطته أمه في سحارة الخبز، يحتضن ابنة الجيران فعاقبته بعلقة ساخنة، كان ذلك في ليالي رمضان، وكان يحب الغوص بين أجساد البنات على نحو فطري، يفعل هذا منذ طفولته (في سن السادسة) مختلطًا باللعب والأطياف الحسية، كما لو أن هذا البعد الزمني للتجربة الحسية هو تأكيد على جذرها الغريزي العميق، وكأن حدود المأساة قد رسمت بالفعل منذ عهد الأسطورة، وربما قبل الميلاد، وأنها سوف تلاحقه في شبابه بدفق عاصف لا قبل له به. عندما وقعت عيناه على راعية الغنم (مروانة).

ما أن نظر الشاب جعفر إلى عيني مروانة، حتى انتابه الجنون الكامل. فسار وراءها مدفوعًا بهجس شيطاني:” سرتُ بقوة الجنون والسكر وتفجرت في قلبي ينابيع المغامرة بلا حدود”[xxxiv] 

يرمز نجيب محفوظ للهاجس الشيطاني، بصورة غاية في البراعة، وفيما يشبه طقسًا للتناول والتعميد، عندما ناولته (مروانة) كوبًا من لبن الماعز: ” وربط كوب اللبن بيننا برباط حريري قاتل”[xxxiv] فتبدل حال الشاب الأزهري المستقيم ـ ربيب البيت العتيق ـ إلى النقيض فيما يشبه الطفرة. عندئذ، يطل وجه النص المصاحب بنظراته وتحليلاته للأمور. فتكتسب أزمة الشاب، بعدًا قدريًا، يحيل إلى المتناقضات التي يحملها الإنسان في طبيعته، منذ وجوده. ورغم مسيرة تطوره لم يجد لها حلاً، لأن الطبيعة تنهض على الطفرات، التي لا سبيل إلى إخضاعها لقانون، غير قانون الطبيعة:” الإنسان يخلق المنطق ولكنه يتجاوزه، والطبيعة يا عزيزي تستعمل الطفرة كما تستعمل التطور”[xxxiv] 

سنعرف أن مروانة، تمثل الجانب الغامض في الوجود، وعلى وجه الدقة: الغريزة. الدوافع الجنسية، التي لا قبل لنا بتجنبها. إنها موجودة، وفاعلة في حياتنا كالقدر أو كالشيطان. أو كطاقة طاغية ابتلعت الشاب، ومنذ تلك اللحظة، انقطعت علاقته بالجد وبيته العتيق.  

مروانة تنتمي إلى مجتمع الغجر، مجتمع مخيف وغامض، إنه معسكر الشياطين كما يرد في النص.تعيش مروانة وسط جماعات هامشية بعشش الترجمان، موصومة بالانحراف والعصيان، وغير مسموح لها بالاقتراب من قصر الراوي الكبير، الذي يقف مهيبًا وشامخًا كأنه (طابو) القبيلة. لكن هذه الوضعية الهامشية لجماعة الغجر، حررت ذواتهم من الخوف، فاجترءوا على الحياة، بل وعلى ساكن القصر المهيب، فراحت تتحداه وتتعالى على أيقوناته ورموزه. إنهم هامش، يسعى إلى خلق سرديته الخاصة على نحو ميتافيزيقي غامض، فعلى الرغم من قدرة الإنسان على خلق المنطق، يظل يتجاوزه، ويخلق الأساطير. يحدث هذا في مفارقة محفوظية طريفة، كتلك التي يمررها في بعض رواياته.

 كان الأزهري الشاب (جعفر) قد ذهب إلى معسكر الشياطين يطلب الزواج من مروانة. وكان أبوها يجلس بين عصابة من المتشردين وقطاع الطرق. وبدا للشاب أنه قد يحظى بالقبول بين هذه الجماعة إذا تحدث عن أصله ونسبه إلى جده الراوي رجل الله، فيرد أبو مروانة ساخرًا:

 “نحن رجال الله حقا، الله المنتقم الجبار خالق الجحيم والزلازل، أنظر إلى هؤلاء (مشيرًا إلى معسكر المتشردين) إنهم رجال الله، صورة منه في جبروته وانتقامه”[xxxiv] هكذا..لا تكتمل سردية الهامش، إلا بالرغبة في تقويض المتن، كمحاولة لامتلاك الحقيقة. كل خطاب، يخلق معانيه ليتمركز في الحقيقة المطلقة. يقول كبير معسكر الشياطين:” أنا جدك الحقيقي، وأهبك هذه المرأة التي تمتص قذائف غرائزك الشريرة”[xxxiv] هذا الصراع بين المتن والهامش، هو حافز لأسطورة التمرد الأزلي، تمرد إبليس الذي عصى ربه. فاستحق الطرد من الجنة. هكذا طرد جعفر الراوي، كما طُرد أبوه من قبل، وكما طُرد آدم أبو البشر. هذا المشهد المتكرر، التمرد ثم الطرد من المتن إلى الهامش، يمثل مأزقا في طلب الإرادة الحرة للإنسان. ويفضي به إلى الإحساس بعجزه وحيرته.

الانتقال المفاجئ لجعفر من الحياة في بيت الجد الإلهي، إلى معسكر الشياطين. مثل صدمة، أثارت فيه رغبة البحث عن معنى جديد لذاته، وعبر وعي مختلف، يعتمد هذه المرة على الإرادة الحرة، ولا سيما بعد أن منيت تجربته في معسكر الشياطين بخيبة أمل، أفضى إلى فتور تعلقه بمروانه، فأدرك أن الشهوة عابرة الأثر،  فانتهى إلى السأم منها أيضًا. إن رحلة الوعي لدى الإنسان تبدأ بإدراك طبيعته، والاعتراف بها، وقبولها على ما فيها من نوازع وتناقضات. 

مأزق الوعي:

يمثل الوجود الإنساني على الأرض مأزقًا في هذه الرواية، يعبر عنه جعفر الراوي: ” إني أتمرغ في التراب، ولكنني في الأصل هابط من السماء “[xxxiv]

تعكس هذه العبارة، الموقف التراجيدي للإنسان بين طبيعتين لا حيلة له فيهما. الحاجة إلى الدين والسمو الإلهي، والحاجة إلى تحقيق رغباته وإشباع غرائزه.  بين أصالة سماوية للإنسان، جديرة بامتلاك العالم والسيطرة عليه، وبين واقع مزري وبائس. نحن أمام موقفين يعكسان قدرًا كبيرًا من التناقض في وعي جعفر الراوي بفكرة الوجود (الخلق) الإنساني. لكن، آلية التجادل بين النص والنص المصاحب، كانت تمضي إلى النهاية، فيما يشرح كل منهما الآخر، أو يكمله، أو يناقضه. ولعل هذه الطبيعة المتناقضة في العلاقة بين النص والنص المصاحب تحتاج وقفة. فجعفر الراوي كان واعيًا بمأساة وجوده وواقعه، بما يشير إلى أنه يمتلك موقفًا وجوديًا مميزًا؛ ولكن، لا ننسى، أن مأساة جعفر هي نفسها مأساة كل البشر، وأن وجوده أصلاً، وكما يفصح عنه النص المصاحب، مجرد تمثيل رمزي للوجود البشري، بما يعني انتفاء الفردية (الذاتية) كشرط في التجربة الوجودية. ومع ذلك، هو يقدم على خوض الرحلة بإرادته المفردة. لو نحينا فكرة النص المصاحب جانبًا، لوجدنا أن تجربة جعفر الراوي، تجربة وجودية بامتياز، لكن النص المصاحب، يخفق بقوة في الرواية بحيث لا يمكن تجاهله.

 إنها نفس الآلية تأسست عليها ( أولاد حارتنا) وأدخلتها في أزمة التأويل المفرط. لكن نجيب محفوظ، كان مدركًا لهذا التناقض، الذي لا ينشأ عن عدم تكيف ذاته المفردة بإمكاناتها الثرية مع الواقع فحسب، بل جزء من طبيعة الوجود الذي جبل عليه الإنسان:” إني حزمة من التناقضات”[xxxiv]

 وتنشأ المأساة من هذا الوعي أصلاً. ففيما هو واع بواقعه، إلا أن هذا الوعي لم يعصمه من ارتكاب حماقات عديدة، تمليها دوافع بدائية لازمت الإنسان عبر تاريخه الطويل. إن درجة الوعي بتناقض العلاقة بين الذات والوجود هي أزمة (جعفر الراوي) المستمرة حتى بعد أن خبر الحياة وصار كهلًا معدمًا. وهي دافعه إلى سيل من الأسئلة الوجودية:” إني أتقدم في العمر ولم تكف الأسئلة عن مطاردتي، صدقني، فأنا شخص غير عادي”[xxxiv]

نحن في الواقع، أمام معالجة، أكثر عمقًا واتساعًا لمعنى الوجودية، وسوف نرى، أنها تختلف كثيرًا عن معنى الوجودية في رواية (الشحاذ)، حيث انبثق السؤال الوجودي في وعي(عمر الحمزاوي) بغتة، وهو على مشارف نهاية العمر. الأمر الذي دعا (يحي الرخاوي) إلى تفسيره بوصفه نوعًا من الاكتئاب الوجودي، أي أن أزمته الوجودية، ليست موقفًا يعبر عن إرادة حرة.

العقل الضليل:

“المغامرة الحقة في رأس الإنسان”[xxxiv]

هذا هو القانون الجديد الذي اكتشفه جعفر الراوي بعد مغامرة الجسد مع مروانة، وهمس به في نفسه، بعدما التقى بــ (هدى صديق).

هدى صديق، على المستوى الرمزي، لا تمثل نموذجًا مضادًا لروحانية الجد كما كانت مروانة، ولا نموذجًا مضادًا لغريزية مروانة البدائية. نحن الآن في مرحلة الأنا العليا. كانت هدى صديق، مفعمة بالعواطف النبيلة، كريمة الأصل، تتمتع بقدر من الثراء وإن ظل لا يماثل ثراء الجد.عصرية، مثقفة، ترتاد المسارح والصالونات، تقدر الفنون والآداب وترى في الفلسفة حلًا لأزمة الإنسان. تبدو على هذا النحو تمثيلاً، لإنسان الحداثة، وقناعاته العقلانية، فتقف على النقيض من التفكير الغيبي. 

 وعلى مستوى الحضور الفاعل في حياة جعفر الراوي، آمنت بإنسانيته، فاحترمت ضعفه وكبرياءه، وقبلت مواهبه المحدودة، لكنها عزمت على تنمية وعيه بذاته، ليخرج من مأزقه. تزوجته، وأغدقت علية بالرعاية والحنان، ثم قادته إلى التعليم النظامي بدلًا من التعليم الأزهري الذي اختاره له الجد. إنها بداية لرحلة جديدة من الوعي بالذات.

مع هدى صديق، دخل جعفر الراوي مرحلة جديدة في حياته. يظنها المغامرة الحقة، وينسبها إلى العقل، لا الغريزة كما كانت مغامرته مع مروانة.

 اتسمت هذه المرحلة بالنضج، والشغف بالمعرفة، والأخذ بأسباب العلم والمنطق. بما يذكي فيه القدرة على مغالبة هواجسه الحسية التي ميزت مرحلته السابقة مع مروانة. إن مغامرة العقل في كنف هدى صديق، هي مغامرته الأخيرة، بعد مغامرات بدأت منذ الطفولة، مع الأساطير والخيال اللعوب، ثم مع الجد وعاطفته الدينية، ثم مع مروانة وغرائزها الشيطانية. ها هو يختبر آخر ما تبقى له من محطات رحلته الإنسانية بحثًا عن وجوده التائه.

كان (جعفر) قد أبدى جدارة في طلب الحياة الجديدة بشروطها، بدأ الحياة الجديدة بإخلاص يدهش صديقه محمد شكرون وهو يرقب تحوله من حال إلى حال، فقال له: “إنك شيطان في تكيفك مع العربدة، ملاك في تكيفك مع الاستقامة”[xxxiv] عبارة شكرون، تتضمن التعريف الاجتماعي للإنسان، إنه ابن بيئته الطبيعية، كأي كائن على الأرض، يمكنه أن يتكيف معها وفق ضرورات النشوء والارتقاء، غير أن مصيره مازال عالقًا بالسماء، ومن ثم، فمازال جعفر الراوي عالقًا في مأزقه الوجودي، بين الأرض والسماء. 

 وكالعادة، ففي كل مرحلة جديدة تسمح البنية الحوارية باستنطاق الشخصيات بوجهات النظر، والتحليلات الفكرية والمعرفية، تأتي على لسان جعفر الراوي شارحًا لموظف الأوقاف:” وهذا العقل يعتبر مخلوقًا حديثًا نسبيًا إذا قيس بالغرائز والعواطف، فالذي يربط الإنسان بالحياة غريزة، والذي يربطه بالبقاء غريزة، والذي يربطه بالتكاثر غريزة، ودور العقل في كل أولئك هو دور الخادم الذكي”[xxxiv]

ولعل هذه المداخلات التفسيرية عبر الحوار، جزء من وسائل دعم القارئ لينتبه إلى النص المصاحب. الذي يفسر تطور الوجود الإنساني وفق (فرويد) من الهو البدائي، إلى الأنا، إلى الأنا العليا. وهو تصور لا يمثل تطور الحضارة البشرية فحسب، بل تطور وعي الإنسان بذاته، وبسلم القيم الإنسانية أيضًا، وقدرته على تجاوز منعطفات بيئية على الأرض، عبر رحلة النشوء والارتقاء. نحن بالفعل، أمام تفسيرين متضادين: تفسير بيئي يدفع الإنسان نحو طبيعته البدائية، وآخر عقلاني حديث، يدفع الإنسان إلى السمو الروحي والعقلي، لهذا ينبه (محمد شكرون) صديقه جعفر الراوي، إلى أن هدى صديق  تريده “مقطوع السبب بالراوي”[xxxiv]

 في الواقع، لا نجد في الرواية شواهد عداء أو خصومة بين هدى صديق والجد، ولا تحريضًا على التنكر له، بل نراها تدعو جعفر لزيارته عندما علمت بمرضه. وكانت تقدّر حبه للفن، بنفس قدر حبها للفكر. صحيح أنها نموذج لعقلانية الحداثة، لكنها لم تبد خصومة مع الدين. وفي المقابل، نحن لا نرى في الرواية مواقف رافضة من الجد للفن أو الفكر، بل على العكس، كان يطري على فن محمد شكرون ويدعمه، وكان يغبط حفيده على رجاحة عقله. فليس من أهداف الرواية، مقارعة الدين بالعقل، بقدر ما هو تصوير المعضلة الإنسانية، وتمثيلاتها في رحلة التيه عند جعفر الراوي، هكذا، فالرواية لا تمضي في مسار مؤدلج منحاز، ولا تفرض وجهة نظر، بقدر ما تختبر وجهات النظر الواحدة تلو الأخرى. لتبدو تعبيرًا جماليًا عن المأزق الوجودي لجعفر الراوي، عندما تضعه في سلسلة من الاختبارات، قد لا تتوفر لإنسان واحد في الواقع المعيش.

ومن ناحية أخرى، فإن جعفر الراوي، وعلى الرغم من نضاله الشرس في مواجهة الجد، لم يتنصل من نسبه، حتى وهو في معسكر الشياطين، كان يباهي بنسبه إليه، وظل بحثه عن ميراث الجد، إقرارًا مضمرًا بالنسب إليه. بما يعني، أن تمرده على الجد، لم يكن إنكارًا لوجوده، ولا تغييبًا له.

والحقيقة، أن هذه المرحلة من حياة جعفر الراوي، سمحت لنجيب محفوظ بمناقشة موضوعة العقل الخالص، سواء عبر حوارات مطولة، أو عبر مفارقات سردية، وهي مناقشات مثيرة ومدهشة. لا تتوقف عند اختبار العقل، بوصفه جهازًا معرفيًا للإنسان الفرد، بل بوصفه تمثيلًا للحداثة وطموحاتها التي جددت حلم الإنسان باليوتوبيا الأرضية. لكن المفارقة، ستكشف لنا -فيما بعد- أن فردوس الجد (الميتافيزيقي) مازال مطمحًا لجعفر الراوي.

ولعل هذه المناقشات قد اختبرت مقولات ومفاهيم عديدة، وأبدت معارضات لبعضها البعض، على نحو ما نراه يعارض ـ عبر صوت جعفر الراوي، مقولة (فرويد) عن جبل الجليد المطمور تحت الماء إلا قمته، فيعلق: “المسألة ليست مسألة حجم ولكنها مسألة قيمة أولًا وأخيرًا”[xxxiv]  فضلًا عن معارضاته لمفاهيم مثل: الحرية وارتباطها بالالتزام. فالحرية في تقديره، هي حرية الإرادة الإنسانية: “الحرية الحقيقية وعي بالعقل ورسالته وأهدافه وتحديد الوسائل بحرية الإرادة”[xxxiv]

 ثم، هاهو يرفض الوطنية التي تخضع لتصورات تتسم بالأنانية، مطالبًا أن نقيم أوطاننا بلا تأثر بما ندعوه الوطنية. وهذه -كما نظن- نظرات تتماس بقوة مع مفاهيم أنتجت مفهوم الدولة الحديثة عن التعددية، والمواطنة، وبشرت بها عبر رؤى كلية وإنسانية للعالم تجعل العقل مركزًا ومبررًا للوجود كما تفصح المقولة الشهيرة لكانط (أنا أفكر إذاً أنا موجود).

ينتهى جعفر الراوي إلى تأليف نظرية توفيقية بين الشيوعية والديموقراطية، ترفضها هدى صديق بنزعتها الليبرالية، وتراها خطرة، ومستحيلة التنفيذ، كما يرفضها سعد كبير المحامي الشيوعي، ويعتبرها “سمك لبن تمر هندي”[xxxiv] ونرى في هذا الجزء من الرواية، محاججات فكرية تدور بين سعد كبير وجعفر الراوي على نحو محتدم ومتناقض. فيجد جعفر الراوي نفسه، تائها بين المذاهب، والنظريات بلا يقين، كما تاه بين رغباته وتصوراته الذهنية بلا معنى حقيقي. وفي غمار هذا الانهماك العقلي، يشعر جعفر الراوي أنه مخول لحمل رسالة إلى البشرية، تبشر بدين جديد قوامه العقل والعدل والحرية. وكان قد وجد في منعطفات حياته تشابهًا مع حياة النبي[xxxiv].

 من المهم النظر باعتبار إلى أن جعفر، بعد رحلته الطويلة، لم يتوصل إلى نظرية أو فكرة جديدة، بل دين جديد!!. لقد تقلب منذ طفولته، بين الأساطير، والروحانيات، والغرائز، والفنون، والفلسفة، لكن المشكلة، أنه طوال الوقت، كان يبحث عن شيء خارجه، يبحث عن معنى للحياة، بدلًا من أن يبحث عن معنى لوجوده، وهكذا فإن الرحلة تنحرف عن معناها الوجودي. لكونها تستهدف الموضوع لا الذات. أي أن مأساة جعفر الراوي العميقة تكمن في تهافت وعيه بذاته، فهو يحمل تناقضاته داخله كأي إنسان” نشأتُ من الصراع بين عقلي وبين إيماني الراسخ”[xxxiv] ولكنه يرغب أن يجمع بينهما في معنى يبررهما، بدلًا من البحث عن معنى لذاته.

هنا تتجلى النظرة الواسعة عند نجيب محفوظ للمأزق الوجودي عند جعفر الراوي، فهو ليس ضحية لطبيعته المتأرجحة بين المتناقضات فحسب، بل في عجزه عن تحمل مسؤولية هذه الطبيعة الإنسانية. فالإنسان الذي تفرد بين الكائنات بالعقل، واختاره وحمله على كاهله، مازال ابن الغرائز والرغبات والأحلام والهواجس الداخلية، حتى بعد أن قطع كل هذه الرحلة، إذ: “ما يزال النصر مقررًا حتى اليوم للغرائز، على الأقل في الحياة العامة، لم يظفر العقل بالسيادة إلا في العلم، فيما عدا ذلك فهو يخضع للغرائز”[xxxiv] 

لهذا، فإن دين جعفر الراوي الجديد ينبني على مصالحة بين العقل والغريزة. غير أن هذه المصالحة تنهار تمامًا عند أول اختبار يسمح للغريزة أن تنفلت من سلطة العقل لتلتهمه، ولتبقى مأساة الإنسان هي الدال الوحيد على وجوده.” ثم اجتاحتني المأساة كأنها زلزال، غير مسبوقة بأسباب واضحة”[xxxiv].  كان جعفر قد اختار العقل، لكن العقل انهار تمامًا، في مواجهة هواجس غامضة كانت تلح عليه، وتتضخم داخله،عن علاقة ما نشأت بين صديقه (سعد كبير) وزوجته، ولطالما حاول وأد هذا الهاجس الذي لم يجد عليه دليلًا. لكن شيئًا غريزيًا كان ينمو مغالبًا عقله، يغذيه إعجاب هدى صديق بآراء وأفكار سعد كبير، على الرغم من موقفها المضاد للشيوعية. لقد أصبح (سعد كبير) مصدر تهديد لوجود جعفر الراوي. هذا الشعور الذي حذر منه الجد، عندما رأي علامات الغيرة تتبدى على الحفيد، جراء إعجاب الجد بصوت محمد شكرون. كانت نصيحة الجد لجعفر:إن الله قد وهبك عقلًا راجحًا، فانعم به.    

هذا العقل الذي سعى إليه جعفر لقمع فوران الغريزة، انهار فجأة إثر حوار محتدم مع سعد كبير. كان سعد قد سخر من نظرية جعفر، واعتبرها سمك لبن تمر هندي. وفي غفلة من أي منطق، أمسك جعفر بقطّاعة الورق، وغرسها في قلب سعد كبير. يقول جعفر الراوي واصفًا تلك اللحظة:” وقفت أتأمل جثته الملقاة بين المكتب والكنبة الجلدية في ذهول بارد سرمدي وأنا اشعر بأنني تخففت دفعة واحدة من كافة أعباء الحياة وانفعالاتها، ثم غصت فجأة إلى أعماق دنيا الحلم فرأيت من كوة في جدارها المتهافت شبح المأساة وهو يجري بعيدًا عني في كون آخر مضاد، لا تربطني به صلة بشرية، وسمعت صوتًا، لعله صوتي أو صوت آخر يهتف مذبوحًا: يا عقلي المقدس، لماذا تخليت عني؟”[xxxiv]ـ 

عند هذه النقطة، تنتهي رحلة جعفر الراوي في البحث عن معنى لوجوده. إثر ارتداد مفاجئ إلى دنيا الحلم والخيالات اللعوب، إلى طفولة الإنسانية، والوعي البدائي، الذي تغالبه الغرائز والانفعالات. وكأنه سيبدأ الرحلة من جديد.

وفي نهاية الرواية، سنراه يقف أمام موظف الأوقاف، بعد أن أنهى عقوبة السجن، باحثًا عن ميراث جده. لكن موظف الأوقاف يستدرجه ليحكي لنا، رحلة الآلام المقدسة، التي تبدأ من الجد وتنتهي إليه. عندئذ نتذكر مقولة تيري إيجلتون السابقة:” اليقين العقلي مهلك للروح، لأنه إذا حدث تحول أو انحدار أو كسوف للمعنى، تتحول الحياة إلى تراجيديا عنيفة” [xxxiv]

********************

نجيب محفظوظ 2

الجدل مع التاريخ في روايات نجيب محفوظ

د. محمود الضبع

الرواية والتاريخ وإن كان بينهما تشابه يصل إلى حد التماهي أحيانا (في الرواية التاريخية على سبيل المثال) ولكنه -أيضا- لكل منهما خصوصيته التي تفرقه عن الآخر، فإن كان التاريخ يسعى إلى تحري الدقة والتطابق مع الواقع، فإن الرواية تسعى إلى تمثل الخيال وتقديم رؤية عن الواقع، هي رؤية السارد المبدع بما له من أيديولوجيات فكرية وتوجهات ثقافية واجتماعية تبعا لفلسفته في الكتابة والغاية التي يكتب من أجلها، وفي هذا الصدد يطرأ موقف الواقعية ذاتها التي كان من بين تشكيلاتها الجمالية ما ينتمي إلى الواقعية السحرية بكل إبداعاتها الروائية، والتي كانت تسعى لتقديم عالم واقعي يجسد لكل ما هو عجائبي يمكنه صناعة واقع.

وسواء كانت الرواية سردا لتاريخ ما، أو كانت سرد سيرة اجتماعية في تاريخ ما، أو كانت سرد حياة يصنع هو تاريخه المتخيل (وهو ما تجسده كثير من أعمال نجيب محفوظ)، سواء أكانت الرواية بعضا من ذلك فإن أشكال حضور التاريخ ومراوغات هذا الحضور فيها متنوعة.

ولأن الإبداع محاولة دائمة لتأكيد حضور الخيال، ومحاولة لفهم هذا العالم (كما ترى فلسفات ما بعد الحداثة)، لذا تسعى الرواية – في بعض فلسفات واتجاهات كتابتها المتعددة – لأن تنظر إلى التاريخ ليس بوصفه حقائق غير قابلة للتغيير، وليس بوصفه مسلمات يجب قبولها لأنها انتهت ولا يمكن تغييرها، وإنما بوصفه مادة قابلة لأن يعاد تشكيلها، مثلها مثل كثير من الظواهر الاجتماعية والتيارات الفلسفية والاتجاهات الأدبية التي لا تستقر على حال، وإنما تتطور بتطور الإنسان وتقدم مسيرته في الحياة.

وتتجه بعض الروايات لإعادة تهشيم التاريخ، وتغيير مسارات أحداثه في بعض الوقت، وإعادة صياغته، وتصحيح مساراته، وذلك بالتقاط تفصيلة دالة وقارة تكون منطلقا للحكي، أو مركزا ونواة لانطلاق السرد[xxxiv]، ثم الاعتماد على المنسي من تاريخ هذه المرحلة وتعاقبها على مر السنين.

وغالبا ما ينحو أصحاب هذا الاتجاه من كتاب الرواية إلى بنية سردية تعتمد على تضافر أو توازي خطين سرديين أحدهما يضرب بجذوره في عمق التاريخ، وثانيهما يسرد حكاية معاصرة تنتمي إلى الآني، ومنه روايات عديدة لنجيب محفوظ، تأتي على رأسها رواية “أمام العرش”[xxxiv]، التي يختزل فيها تاريخ مصر منذ عصر الفراعنة وحتى عصر الربع الأخير من القرن العشرين، من خلال محاكمة كل من حكموا مصر أو تولوا مسؤولية كبيرة فيها أدت إلى تغيير مسارها إن سلبا أو إيجابا.

تفتتح الرواية بمشهد مسرحي مرسوم بدقة، يصور انعقاد محكمة إلهية في قاعة العدل برئاسة أوزوريس، وأعضائها إيزيس وحورس، ويقف تحوت كاتب الآلهة ومعه كتاب القانون، وعلى الجانبين اصطفت الكراسي المذهبة في صفين بطول قاعة المحكمة.

ويبدأ تحوت في دعوة الحكام بالترتيب التاريخي بدءا من “مينا موحد القطرين” ليقفوا موضع المحاكمة، بأن يبدأ تحوت تلاوة أفعاله عليه (خيرا وشرا)، ثم يدافع الحاكم عن نفسه، وبعدها تصدر المحكمة الحكم: إما الجلوس في مجلس الخالدين، أو الذهاب للجحيم.

ويطرح هذا العمل أسئلته في سياق الواقعي والمتخيل السردي:

فما الذي ينتمي من الرواية إلى التاريخ؟

وما الذي ينتمي فيه إلى خيال المبدع وقراءته الثقافية لهذا التاريخ؟

وما الذي يستدعي السارد إلى استحضار التاريخ في عمل إبداعي؟

هل لمجرد الاتكاء على حكائيته؟

أم هي القداسة التي يكسبها التاريخ للنص؟

أم هو التحدي لمشاكلة التاريخ للإيهام به وليس حكيه؟

تنتهي رواية “أمام العرش” حكائيا وتاريخيا مع محاكمة السادات، ولكن محفوظ يلخص تاريخ مصر عبر مشهد تتجاور وتتداخل فيه أصوات ينتمي بعضها إلى أقدم حقب التاريخ، مع أصوات تنتمي إلى الحاضر المعاصر، ويتداخل ذلك جميعه مع الرؤية المستقبلية لهذه البقعة من الأرض التي تستقر على طرفي النيل في قلب العالم (لا شرقا ولا غربا، ولا شمالا ولا جنوبا).

يرسم مشهد النهاية “محاكمة السادات”، والكل حاضر من الذين حكمت لهم المحكمة بالجلوس في مجلس الخالدين منذ أوزوريس وحتى جمال عبدالناصر، ويتداخل صوت السادات مع الملك إخناتون فيحيي السادات بوصفه رجل سلام ويربط تاريخهما معا (اتهامهما بالخيانة نتيجة سياسات السلام لكليهما)، ويتدخل صوت تحتمس الثالث ليربط بين انتصار السادات ورمسيس الثاني، ويتدخل صوت رمسيس الثاني ليعضد موقف السادات في الاتجاه نحو السلام، ثم يستكمل الملك أمنحتب الثالث ليثني على رغبة السادات في أبهة ورفعة وعظمة شعبه، ويتدخل صوت الملك حور محب ليدين الفساد في عهد السادات وكيف كان الفساد عدو النصر الحربي، ويدينه جمال عبدالناصر على تقصيره في ذكراه، ويبرر السادات بتوجهه نحو النصر ثم ميله إلى السلام بقوة، ويحاسبه عبدالناصر على الحرب والفساد والانفتاح الاقتصادي والغلاء، ويتدخل مصطفى النحاس؛ ليتهم السادات بمحاولة اغتياله فيرد أنور السادات: “نحتاج إلى أضعاف عمرنا لكي نتعلم الحكمة”، فيدينه  النحاس وسعد زغلول على زعمه تطبيق الديمقراطية وسجنه للجميع، وهنا تتدخل إيزيس لتفصل في الحوار وتصدر حكمها النهائي قائلة:

بفضل هذا الابن ردت الروح إلى الوطن، واستردت مصر استقلالها الكامل كما كان قبل الغزو الفارسي، وقد أخطأ كما أخطأ سواه، وأصاب أفضل مما أصاب كثيرون. ص 206.

ويختتم أوزوريس صاحب المحكمة بقوله:

أرحب بك بين الخالدين من أبناء مصر، وسوف تمضي بعد ذلك إلى محكمتك الأخرى مؤيدا بتزكية مشرفة منا. ص 206.

وهنا تبدأ حركة سردية أخرى، هي حكي ليست له مرجعية في التاريخ على الرغم من انتماء شخوصه إلى هذا التاريخ وصناعتهم له، وإنما مرجعيته إلى الحاضر والمستقبل الواقعي لمصر، حيث يختتم محفوظ الرواية بنصائح عشر يسوقها على لسان نخبة مختارة من الحكام والزعماء ترسم الطريق لمصر وتضع لها دستورها، وهي: عبادة الإله الواحد – وحدة الأرض والشعب – العمل – العلم – الحكمة والأدب – الشعب والثورة – القوة – حكم الشعب من الشعب – العدالة الاجتماعية المطلقة– الحضارة والسلام، وهي النصائح التي مثلت كل فكرة منها توجه وفلسفة وفكر كل زعيم من هؤلاء الزعماء عبر مسيرته، وعمل مخلصا من أجلها، سواء أصاب أم أخطأ، أجاد، أم قصر.

إن هذا التلخيص التاريخي والحكم الإيجابي لصالح السادات ليست الإحالة المرجعية فيه إلى السادات في شخصه، وإنما في تمثيله لشخصية مصر وحاضرها الذي سيستمر بعد أن تنفض المحاكمة، وبعد أن يموت الحكام والمحكومين وتتعاقب أجيال، سيستمر بدعوة الآلهة إيزيس – التي تمثل صورة الأم المثالية والزوجة الوفية- طالبة من الجميع رفع أكفهم، قائلة:

“ليضرع كل منكم إلى إلهه أن يهب أهل مصر الحكمة والقوة لتبقى على الزمان منارة للهدى والجمال.

فبسط الجميع أكفهم واستغرقوا في الدعاء”. ص 208.

إن أعمال نجيب محفوظ التي تتشابك مع التاريخ، لم تكن تهدف للعودة إلى التاريخ بهدف تعضيد السرد الروائي بقدر ما كانت تسعى لإعادة قراءة التاريخ، والجدل معه لصالح الحاضر، كما أنها تشترك جميعا في كونها تسرد تاريخا منسيا لم يتم تناوله على النحو الكافي في الوثائق والكتب التاريخية، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام أفق التأويل والتلقي التي لا تنتهي، مما يمنح النص الروائي جمالياته الدالة والمتعددة.

كما أنها تتجادل مع التاريخ، ربما لترى من منظور آخر أنها يمكن أن تقدم هي أيضا روايتها التاريخية البديلة عما تم سرده في التاريخ المعتمد.

********************

118582338_658315061447292_5074579156862627963_n

سردية الأشياء عند نجيب محفوظ

(الصورة نموذجا )

د. مصطفى الضبع

توظيفا للأشياء ولغيرها من عناصر السرد يعد نجيب محفوظ بمثابة النموذج الأعلى للسردية العربية عبر عصورها المختلفة ، فالسردية المحفوظية تشكلت وفق منظومة سردية فريدة خارج التنافس على مستويات فنية متعددة تمتد من اللغة إلى التصوير ومن المضامين إلى طرائق التعبير ، ومن التشكيل الجمالي إلى توظيف العناصر المتعددة للسرد والقدرة على تشكيل العالم المسرود .

لأن السارد يشكل عالم سرديته وفق نظام يجمع بين ما هو إنساني وما هو شيئي وليس لعالم مسرود أن يقف فقط عند الشخصيات الإنسانية بمعزل عن أشيائها فإن الأشياء عندها تكون نوعا من الأحلام التي تفرض نفسها على ذهن المتلقي وهو يتخيل الشخوص تقيم عالمها وتقيم حياتها ، وهو (المتلقي) عندما يتخيل شخصية ما تكتب سطورا فإن قلما يمثل عنصرا شيئيا يكون له حضوره في اللحظة مشاركا الكاتب بطولة اللحظة وإنجاز الفعل .

وعندما أقام نجيب محفوظ حياة شخوصه فإنه قد شكل جغرافية أمكنتهم تشكيلا يجمع بين البشر والأشياء وأقام جغرافية متلقيه الذهنية على عالم يجمع بين الاثنين أيضا ، وهو ما يجعل من نصوصه شاهدا على حركة الأشياء وجعل الأشياء شاهدا على أشخاصها وعلى الأشخاص شاهدا على عالم من الأدلة التاريخية على ثقافة اللحظة ، فالسيف في يد شخصية ما علامة كاشفة عن عصره ، والطربوش (على رأس بطل روايته “قلب الليل” وعلى رأس كثير من شخصياته علامة على مساحة زمنية لا يدرك المتلقي تفاصيلها في عالم غير عالم نجيب محفوظ .

لأن التفرقة بين القصة والرواية تقوم على الحجم فقط ، والفرصة للعناصر السردية أن تتعدد وتتعمق وتتشعب في الرواية لذا قد لا نجد كبير فرق بين أشياء الرواية وأشياء القصة وهو ما يبرر لهذه الدراسة أن تجمع بين أشياء الرواية وأشياء القصة استكشافا وفحصا .

الشيئ بوصفه جمادا هو نص صامت له لغته الهامسة التي لا يسمعها السطحيون الذين لا يقفون إلا عند حدود السطح ولا يجتهدون في استكشاف صمت النص ، يظل الشيئ شأنه شأن النص ، يظل صامتا حتى يتوفر له متلق قادر على مكاشفته ومحاورته بلغته ، واستنطاقه بما يتلاءم ولغة النص الحاضن له .

وفق مبدأين تتحرك الأشياء في النصوص  معلنة عن حضورها الجمالي المنتج عبر هذين المبدأين :

  • الشيئ لغة : الأشياء بوصفها علامات لغوية داخلة في نسيج النص وشريك أساسي من مكونات نحو النص وصرفه .
  • لغة الشيئ : وهي اللغة التي تتحاور بها الأشياء منتجة دلالاتها ، والطريقة التي تعتمد فيها لغة قادرة على التعبير عن نفسها جماليا .

تنظيميا من أين يبدأ ظهور الشيئ في النص السردي ، وهل هناك مواضع محددة يمكن للمتلقي أن يرصدها للوقوف على الأشياء ومتابعة طبيعتها وكيفية إنتاجها دلالتها ، وهو ما يمنح المتلقي مساحة غير محدودة باللغة المكتوبة وإنما تتجاوزها إلى الصورة البصرية التي تعد واحدة من خصائص نصوص نجيب محفوظ في طبعتها التقليدية الأكثر تداولا ( [xxxiv]) وهو ما يتشكل بداية من خلال المكون الشيئ للعنوان :

الروايات :

يكاد عنوان الروايات المحفوظية يخلو من المكون الشيئي باستثناء “المرايا” اعتمادا على ما تطرحه للوهلة الأولى من دلالة حقيقية لا مجازية ، وهو ما لا يمكن القياس عليه في تجربة محفوظ الذي  شحن عالم رواياته بمئات من الأشياء نافست أحيانا شخصيات رواياته ونصوصه القصصية ، وشكلت جغرافيا العالم السردي له.

القصص :

على خلاف الرواية تأتي عناوين كثير من القصص تحمل مكونا شيئيا سواء كان الشيئ مكونا كليا أو جزئيا في عنوان النص القصصي ، ويمكن لقارئ القصص القصيرة أن يقف على عدد من العناوين ، منها :

  • تحت المظلة .
  • المسطول والقنبلة (خمارة القط الأسود )
  • صورة (خمارة القط الأسود )
  • تحت المظلة (تحت المظلة ).
  • الحاوي خطف الطبق (تحت المظلة ).
  • وراء العامود (تحت المظلة ).
  • حملة القماقم والمباخر (تحت المظلة ).
  • مسافر بحقيبة يد (تحت المظلة ).
  • العود والنارجيلة (تحت المظلة ).
  • صاحب الصورة (الحب فوق هضبة الهرم ) .
  • العين والساعة (رأيت فيما يرى النائم).
  • بذلة الأسير(همس الجنون).
  • الورقة المهلكة (همس الجنون).
  • الحب والقناع (الشيطان يعظ )
  • الرسالة (الشيطان يعظ )
  • فنجان شاي (شهر العسل ).
  • نافذة في الدور الخامس والثلاثين (شهر العسل).

2- عتبة الغلاف

  • وهي مجموعة من التفاصيل الشيئية المطروحة قصدا على المتلقي عبر لوحة الغلاف التي تحتضن هذه التفاصيل ، وإذا كان من البديهي أن نظر المتلقي رغم مبادرته النظر إلى اللوحة في مجملها فإنه يبادر بقراءة العنوان قبل قراءة لوحة الغلاف وهو ما يمنح اللوحة قدرة على إقامة هذه العلاقة ويجعل منها تمهيدا مؤهلا للعتبة التشكيلية أن تؤدي دورها بطريقة أكثر عمقا . ومنها على سبيل المثال :
  • غلاف “خمارة القط الأسود ” يمثل الكأس والزجاجة علامتين أساسيتين من علامات الغلاف ، والعلامتان تعملان على تقريب رؤية المتلقي للعنوان ، حيث يقوم الغلاف بإيجاد علاقة دلالية بين عنوان المجموعة والنص .
  • في ” الشيطان يعظ ” تتدرج الأشياء من صدر الغلاف إلى عمقه ، كاشفة عن عنصرين شيئيين : أولاهما غطاء الرأس على وجه المرأة التي تتصدر الصورة بوصفه علامة طبقية (تكشف عن مستوى طبقي محدد يستقر في جغرافية محددة ) وثانيتهما الساطور في يد إحدى الشخصيات بوصفه علامة تساند غطاء الرأس في تشكيل العلامة الطبقية والاجتماعية ، محتفظا بقدرته على العزف المنفرد على دلالات متعددة تقوم على وضعيته المشرعة في الصورة والدماء التي تلونه مما يكشف عن كونه في حالة عمل (وهو ما يشكل مع علامة الذعر على وجه المرأة دلالة ما لا تغيب عن ذهن المتلقي الذي يكمل الصورة بخياله منتجا الآخر الذي لم يكشف عنه الغلاف وإنما يمكن للمتلقي مكاشفته عبر النص مما يجعل من لوحة الغلاف بأشيائها شريكا قائما بدورين متجددين : قبل القراءة عبر دوره التحفيزي ، وبعد القراءة عبر دوره التخييلي ) ، ثم تأتي بقية الأشياء لصيقة ببقية الشخصيات التي يضمها الغلاف وتتمثل في أدوات قتال وطاقية على رأس كل شخصية ، وكلها أشياء تتضام مع العنصرين الأساسيين : الطاقية وأشباهها مع غطاء رأس المرأة ، وأدوات القتال مع الساطور المشرع في يد الرجل .
  • في “القاهرة الجديدة”  يجمع الغلاف بين ثلاثة عناصر شيئية أساسية : ملابس المرأة في تصدرها اللوحة ، والكأس أمام الرجل ثم السيجارة في يده ، فإذا ما كانت هذه العناصر تجمع بين أشياء تحدد لحظة زمنية هي لحظة الأنس أو السعي للمتعة فإنها تعضد من دور الوجود الجامع بين الرجل والمرأة في لحظة مقتطعة من زمن الاثنين وكاشفة عن طابع العلاقة بينهما مما يوحي أن العلاقة ليست في نطاق اجتماعي يقوم على نظام أسري مثلا ، وإنما هي علاقة تبدو عابرة تميل للعمومية أكثر منها للخصوصية .

3- أنماط من الأشياء :

في مجموعها تكتنز عوالم نجيب محفوظ بكم هائل من الأشياء فلا يخلو عمل واحد (قصة قصيرة أو رواية ) من أشياء تكون بمثابة الشخصيات الاعتبارية التي تساهم في تشكيل عالم النص مع الشخصيات الإنسانية ، وهو ما يجعل من الأشياء في مجملها – في مستوى من مستوياتها – عوامل مساعدة للشخصيات ، كما يجعل منها عوامل كاشفة للشخصية في علاقتها بأشيائها وفي علاقتها بعالمها عبر هذه الأشياء ، كما يجعل منها علامات كاشفة للمجتمع في مستوياته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية .

إن الوقوف على منظومة الأشياء في عالم نجيب محفوظ يتطلب مساحة من الاستقصاء للوفاء بدراسة جوانبها المختلفة واستكشاف دلالاتها ومساحات عملها ومادة رموزها ويكاد عالم السرد المحفوظي يقوم على الأشياء في علاقاتها ببعضها البعض أو علاقاتها بالأشخاص ، منها : .القهوة / المقهى : بوصفه مكانا تتشكل جغرافيته من مجموعة من العناصر الشيئية يقوم المقهى بعدد من الأدوار في اعمال الكاتب ويكاد يكون المكان الأكثر تكرارا في صيغتيه ( [xxxiv])، ومنها : الكتاب  بوصفه علامة لها دلالتها المستمدة من قيمتها متعددة التجليات . ، ومنها : الصورة .

و تقوم “أحلام فترة النقاهة “على مئات من العناصر الشيئية ، ويكاد عالم الأحلام يتأسس على مجموعات الأشياء

  • الحلم (1) : الدراجة – ساعة الميدان – الستارة المسدلة .
  • الحلم (2): الحقيبة – النار – بقجة الملابس – البيجامة .
  • الحلم (3): العامود – الحبل .
  • حلم (4): الجلباب – رباط العنق .
  • حلم (5): القبة- المقاعد – الحبال – الأقفاص .
  • حلم (6) : التليفون – الجبة – القفطان – العمة – اللفافة .

الصورة

 داخل الصورة السردية المحفوظية ، وما ينتجه السارد من صورة كلية تتخللها صور جزئية تكون بمثابة الرابط التفاعلي في النص ، فالصورة تفتح بابا لما هو وراءها ، الصورة تشبه الرابط الذي ما إن تضغط عليه حتى تنتقل إلى فضاء آخر ، الصورة تبدو مصمتة ولكنها – كالرابط الذي يبدو كذلك – قادرة على ترجمة عالم آخر أو مساحات أخرى من الوعي الإنساني ، والترجمة هنا ترجمة حركية عبر الانتقال في الزمن لاكتشاف ما وراء الرابط ، ويظل الرابط التفاعلي غامضا مالم يقدم المتلقي على حركة مناسبة ، وتظل الصورة رابطا مغلقا مالم يتحرك المتلقي حركة ذهنية قد تتعدد اتجاهاتها .

تمثل الصورة علامة زمنية ففي اللحظة التي تعلن فيها عن حضورها في زمن راهن هو زمن المتابعة والمعاينة ، ويضعها السارد داخل منظور إحدى الشخصيات فإنها تشير في الوقت نفسه  إلى زمن ماض هو زمن إنتاجها وزمن تبوئها مكانها الذي يمثل مكان استقرارها المؤهل لأدائها وظيفتها بطريقة لها دلالتها الفنية ولها مساحات حركتها الدالة .

إن تاريخا إنسانيا طويلا تكتنزه الصور يظل حبيسا بين خطوطها حتى يقيض له من يكشفه ومن يضعه أمام المتلقي ليجتهد في فهم المساحات الغامضة أو الخطوط العميقة فيه ، وهي تلك المساحات التي لا تغيب عن متلقيها فور وقوفه على التفاصيل والأشخاص ، وفور تعامله مع صورة يمتلك جانبا من شفرتها عبر المعرفة بالأشخاص وينطلق إلى قراءة الصورة بالقدر الذي يحقق دلالاتها ، فهناك ثلاث مستويات لقراءة الصورة الفوتوغرافية ووضعها في سياق قراءة العالم :

  • مستوى يقوم على معرفة كلية بالأشخاص : وتكون المعرفة مرحلة سابقة تدعم مرحلة الفهم وتسهل عمل المتلقي إذ ينطلق من معرفة سابقة تؤهله إلى الوقوف على جوانب أخرى تتمثل في محاولة إدراك طبيعة اللحظة ومتضمنات التفاصيل ، وهنا تكون قراءة الصورة أقرب إلى التحقق اعتمادا على مؤهلات التلقي المعرفية المتحققة في المتلقي .
  • مستوى يقوم على معرفة جزئية بالأشخاص: وفيها يسعى المتلقى إلى محاولة استكمال معرفته بالأشخاص قبل محاولة التعمق في التفاصيل وما تتضمنه من دلالات وهو ما يدخل في عمق القراءة للصورة  .
  • مستوى يقوم على الجهل التام بالأشخاص :  وهو ما يعني بالبدء من منطقة الصفر بالتساؤل عمن تتضمنهم الصورة ، وهو ما يعني تأخر مسألة البحث عن التفاصيل الدالة ومن ثم تأخر قراءة الصورة ، فالأسئلة عن الأشخاص ليست داخلة في قراءة الصورة وإنما هي تمهيد لها .

مستويات تلقي الصورة

بحلولها في السرد فإن الصورة ( اللوحة – الصورة الفوتوغرافية ) تتكشف عن ثلاث مستويات للتلقي  :

  • مستوى الكاتب حين يشكلها ، وهو مستوى أحادي قائم على ذات واحدة هي ذات المؤلف ، وهو المستوى الذي يكشف عن مرجعية الصورة فقد تكون قائمة بالفعل في الواقع مستمدة منه ، وقد تكون متخيلة بالأساس ، ولكن المؤلف يتدخل بتنظيم الملامح التي يراها الأشخاص داخل النص ومن ثم تؤثر في عملية التلقي لمن هم خارج النص .
  • مستوى الشخصية داخل النص وهو المتلقي الأول الذي يقوم  بدور الوسيط الذي يقدم الصورة عبر منظوره الخاص ، وهو مستوى قابل للتعدد حيث الأشخاص داخل النص قد يتعددون في تلقيهم للصورة، وهو المستوى المتفرد بالرؤية البصرية فالشخصية داخل النص تنفرد ببصريتها وإدراكها للصورة بصريا .
  • مستوى المتلقي الثاني خارج النص ، ذلك الذي تكون رؤيته محكومة بالمتلقي الأول فهو يرى بعيونه ، ولا يقرأ سوى ما منحه له من تفاصيل ، وما قدمه من إشارات ، وهو مستوى يتسم بالتعدد ، تعتمد رؤيته على الخيال وقراءة الكلمات أولا قبل قراءة الصورة عبر التفاصيل التي يمنحها له المتلقي السابق لذا فإن منظوره خيالي محكوم برؤية بصرية  ، ومن ثم فإنه قد يتشابه مع المؤلف في الرؤية القائمة على التخيل .

وهي مستويات متراتبة لا يسبق فيها المتأخر المتقدم وفي تداخلها يظل كل مستوى محافظا على موقعه ومؤديا وظيفته لمن هم في المستوى التالي .

الصورة الملجأ

في رواية “السراب ” يتوق البطل إلى بعث جديد وإلى محاولة للخروج من مأزقه النفسي بالأساس :” فزعت يداي إلى خزانة الذكريات فاستخرجت كل مابقى منها ، ألا وهي صورة !” ( [xxxiv]) ، والسارد حين يحدد واحديتها يسعى لترسيخ فكرة أساسية تتمثل في التركيز على عنصر واحد دون الانشغال بغيرها أو دون التشتت بين أكثر من صورة ، وهو ما يفعله المتلقي داخل النص حين يتولى عملية السرد وتقديم الصورة بكامل تفاصيلها :” هي صورة كبيرة يظهر فيها جدي جالسا على مقعد كبير ، بجسمه الضخم وكرشه الكبير، وشاربه الأبيض كأنه هلال فوق فيه ، في بذلته العسكرية المحلاة بالنياشين ، وأقف أنا عند ركبتيه لا أكاد أجاوزهما إلا قليلا ، أتطلع إلى عدسة المصور بعينين باسمتين وقد التصقت شفتاي في توتر من يغالب ضحكة تغالبه ، ووقفت أمي إلى يمين جدي معتمدة بساعدها الأيسر مسند الكرسي الكبير في فستان طويل يشتمل عليها من العنق إلى القدمين ، ولا ينحسر من ساعديها إلا عن اليدين ، بقامة طويلة وجسم نحيل ووجه مستطيل وعينين واسعتين خضراوين وأنف دقيق مستقيم ونظرة حالمة تقطر حنانا وتخلو من بريق ينم عن الحيوية وحدة المزاج ، ياله من وجه شاء الرحمن أن يكرره في وجهي حتى لقد قيل إنه لا يفرق بيننا إلا الثياب ” ( [xxxiv]).

وفي هذا السياق تكشف الصورة عددا من ملامح التي يسهل الوقوف عليها عبر متابعة منظور السارد وهو يطرح تفاصيل الصورة ومجموعة الإشارات التي يمكن اعتمادها في التأويل ، و تتمثل في :

  • المقعد الكبير الذي يمثل مكانة الجد المستمدة من ذكوريته وتاريخه ونياشينه ووظيفته وموقعه بين أفراد العائلة ، وحجمه الدال على رفاهية العيش .
  • العناصر البشرية الثلاثة تشير إلى  ثلاثة أجيال (الجد- الأم – الحفيد ) ويغلب عليها العنصر الذكوري (الجد – الحفيد ) .
  • العلامات المحددة وضعا اجتماعيا وثقافة سائدة ، فالمرأة (الأم ) تعتمد على مكانة الرجل (والدها ) وقفتها وجلوسه واعتمادها بساعدها على مسند الكرسي الكبير (كرسي الأب ) .
  • لغة وصف الجسم ، وقد أسهب السارد في وصف الجسم الأنثوي وملامح جماله أو تلك العناصر التي تمنحه سمات الجمال ومنها الملابس التي يمكن قراءتها بوصفها علامة تكشف عن بعدين أساسيين : أولهما يدل على ثقافة العصر وأزيائه وثانيهما يخص المستوى الاجتماعي للمرأة وذوقها في اختيار ملابسها ذلك الذوق الذي يتماشى مع ذائقة العصر ومستواه الثقافي .
  • الجينات الوراثية التي تمثل امتدادا تاريخيا للسارد وهو يكشف عن درجة التشابه بين الأم والابن ، وهو ما يمثل إرهاصا بطبيعة العلاقة النفسية التي يؤسس لها وتلعب دورها الواضح في سياق أحداث الرواية بكاملها بوصفها رحلة في النفس تنبني على علاقة الشخصية (كامل رؤبة لاظ ) بالمجتمع عبر الصورة .

الصورة العاكسة

تعكس اللوحة مافي نفس علي أفندي بطل قصة ” الزيف ” من مجموعة ” همس الجنون ” حين يتابع اللوحات المعروضة في القاعة :” وبعد يومين ذهب على أفندي جبر إلى زيارة المعرض الرابع عشر للفنون الجميلة ، لم يكن من الهواة ولكنه كان من محبي الظهور والادعاء وكان حبه للنساء يدفعه إلى ارتياد الأماكن التي يحتمل وجودهن بها ، فمضى يسير في الحجرات الأنيقة وينظر بعينين فاترتين إلى اللوحات ، حتى استرعت انتباهه من بينها صورة فلاحة عارية تستحم في النيل ، وقد أجادت الريشة تصوير قدها النحيف وثدييها الناهدين وأضفت على سمرة بشرتها سحرا شهويا عجيبا ، فوقف أمامها طويلا لغير وجه الفن ، وذكر – لرؤيتها – ذلك الجسد البض المكتنز والردفين المكورين كأنهما اسفنجة هائلة مشبعة بالماء والساقين الممكورين والبشرة العجيبة ذات الرائحة الزكية ..” ( [xxxiv])

لقد عكست اللوحة دواخل نفس علي أفندي ، وطرحت عناصرها ما من شأنه إشباع بعض حواسه  : اللمس (الأرداف الاسفنجية – الجسد البض ) ،  الشم (الرائحة الزكية ) – البصر (البشرة – الجسد – الأرداف الساقين ) ، وهي تفاصيل قد يمتد تأثيرها إلى المتلقي الثاني (المتلقي خارج النص ) ، ذلك التأثير المتنوع بين الإيجابي (التطابق بين الرؤيتين بموافقة رؤية الخارج مع رؤية الداخل بتأثير من السحر الشهوي العجيب على حد تعبير السارد ) ، والسلبي (بأن يرفض بعض المتلقين التفاصيل المطروحة من منظور الشخصية اعتمادا على أنها صورة لها جمالها الفني ولها جلالها الإنساني مستبعدها من نطاق التأثير الشهواني ) .

ههنا يطرح السارد قصة داخل القصة أو هي حكاية تعد حلقة من الحلقات الأساسية في النص تلك الحلقة التي تمهد للنهاية ، وتمنح المتلقي القدرة على مكاشفة البعد النفسي للشخصية التي ترى اللوحة ، كما أنها تضع تمثل إضافة لنسيج النص على مستوى اللغة الواصفة وعلى مستوى ما ينضاف من دلالات إلى النص في جانبه الأسلوبي .

الصورة متعددة الأدوار

في قصة “صورة ” من مجموعة “خمارة القط الأسود ” تلعب صورة القتيلة ” شلبية” أدوارا متعددة في سياق النص ، وهي مجموعة من الأدوار التي تتبلور في:

  • كونها مثيرا عمل على تحريك السرد حيث القصة بكامل أحداثها تأتي نتيجة لحركة الصورة فور ظهورها في الجريدة :”يسري عبد المطلب يتناول فطوره المكون من قطعة من الجبن القريش والخبز المحمص وفنجال قهوة ، وفي قبالته جلست زوجته منهمكة في مطالعة الجريدة ، وتنفس جو الشقة هدوءا كهدوء الشيخوخة ، هو طابعها دائما أبدا . عدا أيام الزيارات التي يحييها الأبناء . وقربت المرأة الجريدة من عينيها في اهتمام طارئ ولكن الرجل رمقها في غير اكتراث ، ونادرا ما يثير اهتمامه  شيء مذ أحيل إلى المعاش وتمتمت المرأة في رثاء :

مسكينة ” ([xxxiv] )

إن مستوى من التوازن كان سائدا قبيل ظهور الصورة ،توازن يتمثل في ممارسة الناس حياتهم بصورة طبيعية وبشكل اعتيادي حتى أن الصورة لم تثر انتباه الجميع ، فإذا اعتبرنا أن العجوزين يمثلان شريحة كبرى من المجتمع (السارد يمنحهما صفات عامة يمكنها أن تنطبق على قطاع كبير من الناس ) فإنهما قد انقسما إلى فريقين : الزوجة تمثل القسم الأكثر اهتماما ، والزوج يمثل القسم  الأقل اهتماما :” قتيلة ؟- في الصحراء وراء الهرم ، مؤخر الرأس مهشم، لم يسرق منها شيئ ، مجهولة ، فقضم لقمة وهو يقول :- قصة قديمة معادة ” ([xxxiv] )، وبعدها تتوالى ردود الأفعال التي أثارها ظهور الصورة ، والسارد يورد ستة نماذج كاشفة تمثل فئات مختلفة تأتي وسائل إعلامية كاشفة لشخصية القتيلة وملابسات مقتلها ، بادئا من دائرة عمومية ومنتهيا بدائرة الإدانة بالاعتراف :

  • العجوز يسري عبد المطلب وزوجته وهما لا علاقة لهما بالقتيلة ، ويمثلان شريحة تتعامل مع الصورة بوصفها حدثا متكررا حد الاعتياد ومن ثم تأتي تفسيراتهما بمثابة المقولات العامة التي تقترب من الإشاعات المتداولة في مثل هذه الحالة .
  • –       الأم والابنة وتقدمات أولى الإشارات على شخصية القتيلة التي عملت في خدمتهما من قبل ويقدمان اسمها للمتلقي (شلبية ) .
  • السيد أنور حامد الموظف بإدارة التفتيش ” شلبية العاملة بالمشغل ، الجميلة العذراء التي أضطر آخر الأمر إلى أن يتزوج منها زواجا عرفيا ، وبسوء نية اشترط عليها ألا تنقطع عن العمل . ولما حملت اغتصب منها موافقة على الإجهاض ” ([xxxiv] ).
  • –      ” ولم يطلع حسونة المغربي على الصورة إلا حوالي العصر وهو موعد استيقاظه من النوم عادة كل يوم . وفرك عينيه كأنما لا يصدق ، وقال :

  درية ! .. يالشيطان ” ( [xxxiv]) .

  • ” واستيقظت فتحية السلطاني حوالي المغرب في الحجرة التي تقيم فيها مع دولت ونعمات وأنيسة وعلية ، وكانت درية (شلبية ) أول ما خطر ببالها وانفجر رأسها بركان من الغضب لم يفارقها طيلة الوقت الذي قضته في الحمام وهي تغير ريقها ، ثم وهي واقفة أمام المرآة تتبرج : – الخنزيرة .. الكلبة .. ماذا تظن بنفسها !” ( [xxxiv]).
  • –      ” وأمضى عادل اليوم متسكعا بين الحدائق على شاطئ النيل .. لم يذهب إلى الكلية ولم ينم ليلة أمس ساعة واحدة . وتأبط الجريدة وكلما وجد نفسه في خلاء فتح صفحة الحوادث وأدام إلى الصورة النظر، وقال إنه سيسقط من آخر الأمر من شدة الإعياء ” ( [xxxiv]) ، وهو ما يكشف عن القاتل ذلك الذي أنهى حياة شلبية الذي كان لصورتها دوره في الكشف عن طبيعة الشخصيات التي قدمت القتيلة من منظورها أو تبادلت مع القتيلة المنظور ليقدم كل منهما الآخر ، فإذا كانت كل شخصية من الشخصيات قد أسهمت في تقديم جانب من جوانب شخصية القتيلة أو استعرض طرفا من خبرها ، فإن  الصورة قد كشفت بدورها عما في دواخل الجميع ، سواء من تجاهل الأمر (يسري عبد المطلب ) أو من اهتم بالعلاقة السابقة (الابنة وأمها في المنزل رقم 50 بشبرا ) أو من تذكر موقفه معها ، أو المرأة المنافسة وانتهاء بعادل الشاب الذي بدا أنه القاتل مع الأخذ في الاعتبار أن هناك من كانت له مصلحة في التخلص من القتيلة (فتحية السلطاني ) مثلا ، لذا فإن عادل كان ينفذ إرادة غيره بالإضافة إلى إرادته ، وهو ما يكشف عن أن الصورة لم تكشف شخصية القتيلة بقدر ما كانت تكشف الآخرين بوصفهم مجتمعا كانوا نموذجا له وتمثيلا لشريحة اجتماعية طرحها السارد للكشف عن شكل العلاقات بينهم

وهو ما يتجلى بوصفه هدفا استراتيجيا للسرد حيث السارد لم يكن معنيا بالكشف عن القاتل أو تقديم الصراع التقليدي القائم في مثل هذه الحالات بين المجرم والعدالة كما هو الحال في القصص البوليسية وماعلى شاكلتها من نصوص سردية تهتم بهذا الجانب .

  • الصورة المؤطرة بالسرد : وهي الصورة المتخيلة من قبل السارد ، محددة الموضع (معلقة على جدران فضاء محدد يكون غالبا مكانا خاصا ، تسهم في بناء جغرافيا الفضاء الروائي ، يضيفها السارد إلى الشخصية ، ويمنحها مساحة من فضاء المساحة التي يتحرك فيها ، يدركها في يقظته وبالقدر الذي يسمح له وعيه بالحركة خلال مكانه أو أمكنة حركته ومجال نشاطه اليومي، بمكن أن تتشابه وأن يتيح السرد منها نسخا متعددة ، وأشكالا متشابهة ، لا تنفرد الشخصية بإدراكها ، ورغم ان السارد يرسمها من منظور شخصية محددة ولكن هذا لا يعني أنها تكون حصرية على شخصية محددة ، مستواها يكشف عن البعد الاجتماعي للشخصية ، ومكوناتها تكشف عن البعد النفسي للشخصية ، وفي كل الأحوال فإنها لا تقف عند دور شغل مساحة من الفراغ الجغرافي في سياق النص .
  • الصورة المؤطرة بالحلم: وهي صورة يستخرجها السارد من وعي الشخصية ، وتتمثل في الأحلام التي تتواتر على الشخصية فالحلم ليس سردا ورغم أنه يحمل قدرا من جينات الحكاية التي بدخولها تتحول الرواية إلى حكاية إطار فإنه يعد مجموعة من الرموز التي تشكل صورة يراها بعقله الباطن دون أن تكون مجسدة في الواقع ، وتكون شديدة الخصوصية  لأنها لا تتشابه مع مكونات حلم آخر لشخص آخر كما أنها لا تتكرر تماما بالقدر نفسه من التشابه في خيال أية شخصية ، الصورة هنا صورة يراها الحالم بوصفه شخصية إنسانية تدرك مساحات من الحلم ، تراها الشخصية في لحظات النوم ، تكشف عن العقل الباطن للشخصية أو تكشف عن مساحات الحلم أو مساحات الحرمان لديه ، وهو ما يجعلها شديدة الخصوصية ، حصرية التأويل .

في ” أفراح القبة ” يجمع السارد بين الصورة في بصريتها والصورة في تخيلها جاعلا من متلقيه يتحرك في مساحة واسعة من التأويل يجريها على المفردات التي تشكل الصورة : “الصور تتماوج أمام مخيلتي مخضبة بالدماء والوحشية . أريد أن أتنفس بكلمة أتبادلها مع أحد . سحابة الدخان المنعقدة في الحجرة تزيد من غربتي ، أغوص في الرعب . وأحيانا ألتصق بنظرة بلهاء بالمكتب الفخم وراءنا أو بصورة من الصور المعلقة . صورة درية وهي تنتحر بالأفعى . صورة إسماعيل وهو يخطب فوق جثة قيصر. هاهي المشنقة تتخايل لعيني . هاهي الشياطين تتبادل الأنخاب ” ( [xxxiv])

وفي رواية ” الشحاذ ” يستهل السارد عمله بوصف لوحة تشكيلية تتصدر الحائط في عيادة الطبيب :

“سحائب ناصعة البياض في محيط أزرق ، تظلل خضرة تغطي سطح الأرض في استواء وامتداد ، وأبقار ترعى تعكس أعينها طمأنينة راسخة ، ولا علامة تدل على وطن من الأوطان وفي الأسفل طفل يمتطي جوادا خشبيا ويتطلع إلى الأفق عارضا وجهه الأيسر وفي عينيه شبه بسمة غامضة . لمن اللوحة الكبيرة ياترى ؟ ولم يكن بحجرة الانتظار أحد سواه . وعما قريب يأزف ميعاد الطبيب الذي ارتبط به منذ عشرة أيام . وفوق المنضدة في وسط الحجرة جرائد ومجلات مبعثرة ، وتدلت من الحافة صورة المرأة المتهمة بسرقة الأطفال . رجع يتسلى بلوحة المرعي الطفل والأبقار والأفق . رغم أنها صورة زينة رخيصة القيمة ولا وزن إلا لإطارها ” ( [xxxiv])

بين صورتين يتحرك منظور السارد : صورة اللوحة التي تمثل نوعا من طموح الرسام للأمان الظاهر في عيون الأبقار في مقابل صورة طبيعية للمرأة التي تسرق الأطفال في دلالتها على افتقاد البراءة (الممثلة في الأطفال ) للأمان الذي تعيشه الأبقار في اللوحة المصنوعة او في الواقع المصنوع ، وهو ما يضعنا بين واقعين متوازيين : واقع مصنوع آمن ، وواقع متعين غير آمن .

الحلم صورة سردية ، والحلم مجموعة من العلامات الواقعية ، فالحلم لا يقوم على علامات من خارج خبرة الإنسان ، أنت ترى قلما أو مرآة أو قطارا أو قمرا أو بحرا وكلها أشياء مررت بها أو مرت بك من قبل ، وأشياء تصورتها في واقعك ، وجميعها لا تخرج عن نطاق خبرة الإنسان والصور التي يعاينها أو يعانيها ويعايشها في حياته ، ومن ثم فإنها تقدم منظورا له طبيعته الواقعية الخاصة ، إنها تكاد تكون واقعا موازيا تماما كالصور حين تقدم واقعا موازيا لواقع يعيشه الإنسان ، فالصور المعلقة التي يتأملها الأشخاص (ونتأملها معهم ويقدمها السارد من منظورهم ) فإنها بالأساس تشير إلى قصتها التي لو تركت لتحكيها لقدمت نصها الموازي ، قصة التقاطها أو حكاية رسمها ،وتاريخ الرسم،  كيف احتفظت بموقعها على الحائط مع رحيل الأشخاص حولها أو فيها ، واكتنازها مساحات من الزمن وملامح من وجوه البشر ولحظات فرحهم أو حزنهم وتآلفهم للدرجة التي قد تكشف عن مساحات من سرائرهم وتمنح المتلقي (داخل النص أو خارجه ) القدرة على فهم الزمن وإدراك طبيعة الأشخاص والثقافات السائدة والعادات والتقاليد المتداولة ([xxxiv] )، وقد طرحت رواية “السراب ” نموذجا لهذا في الصورة التي كانت الأم تطالعها أمام البطل حين كان صغيرا :” فرأيتها ممسكة بصورة عرسها !، وبادرت تحاول إرجاعها إلى مخبئها ، ولكني أمسكت بها في عناد ، وحملقت فيها بدهشة ، فرأيت شابا جالسا وأمي واقفة مستندة إلى كرسيه كالوردة الناضرة . وتعلقت عيناي بصورة الرجل فأدركت إنه أبي ، وإن كنت أراه أول مرة ” ([xxxiv] )، وهو ما يؤكد العادة المستقرة وقتها (جلوس الرجل ووقوف المرأة ) وقد جاءت الصورة شاهدا على المرحلة أولا ومانحة المتلقي إشارات للتنبه إلى مراجعة طبيعة اللحظة الزمنية ، ومكاشفة مساحات النشاط الإنساني والاجتماعي للمجتمع المصري .

لقد رسم نجيب محفوظ الكثير من المظاهر والرموز والثقافات في صور جعل منها نصوصا موازية أو واقعا موازيا ادخرته  الصور ، فالصورة التي كانت أساسا لسردية رواية ” الطريق ” جاءت الصورة بمثابة بطاقة الهوية التاريخية لشخصية “صابر سيد سيد الرحيمي ” :

” هاهو الآن يتفحص بعناية ودهشة صورة الزفاف ، الصورة التي جمعت بين والديه منذ ثلاثين عاما ، وهاهو يركز بصره على صورة أبيه ، وعلى وجهه بالأخص ، شاب جميل حقا ، مفعم بالشباب  والحيوية ، ونظرته تفيض بالاعتداد بالنفس ، ووجهه المائل للبياض ، المستطيل الممتلئ ، ذو الجبهة العالية ، والطربوش المائل إلى اليمين لا يمكن أن ينسى ، ولم تكذب أمه حين قالت إنه صورة منه ولكنه كما يكون القمر على الورق صورة من القمر في كبد السماء ” ( [xxxiv])

بعناية يجتهد صابر الرحيمي في اكتشاف ماضيه طلبا لمستقبله ، ذلك الماضي الممثل في الأب الذي لم يعايشه يوما وتكون الصورة وسيلته الوحيدة للوصول إليه ، إلى تعويض حالة الفقد السابق واللاحق ، وإلى استعادة هويته المفقودة التي وجد نفسه ملزما بالحفاظ عليها للدرجة التي جعلته يعيش حالة من الخوف على فقدان الصورة بوصفها وسيلته للوصول إلى ما يبحث عنه ، وهو ما تكشف من خلال ما اختزنه عقله الباطن متجسدا في حلمه بأنه يعثر على والده ولكن الوالد يسخر منه  ويمزق الصورة ناعتا إياه بالدجل :” جلس صابر في حال من الانحلال التام ، وبحركة آلية قدم له الصورة الجامعة بينه وبين أمه التي رأى نصفها في الإعلان ، ووثيقة زواجه بأمه ، وشهادة تحقيق الشخصية ، نظر الرجل فيها واحدة بعد الأخرى وهو هادئ كتمثال وبكل برود وضع كلا منها فوق الأخرى ، وبحركة سريعة حاسمة راح يمزقها إربا ، صرخ صابر وانقض عليه يريد أن يمنعه ولكن بعد فوات الأوان ، أمسك بثنية الجاكتة وصاح به :

  • أنت تمحو وجودي محوا فالويل لك ” ( [xxxiv] )

ماضي صابر هنا ليس مقصودا لذاته (وإلا لأمكنه الاستغناء عنه والبحث عن بداية جديدة مغايرة بعد موت والدته التي كانت رابطه الوحيد بهذا الماضي) بقدر ماهو مقصود لمستقبله ، فإذا كان الماضي يعتمد على جناحين : الأب (المفقود ) والأم (الراحلة ) فإن الأم الراحلة حاضنة السر وكاشفته أيضا أودعت سرها في الصورة ، وتركت له خيوط صناعته مستقبلا توقفت هي (بموتها ) عن صناعته .

البحث في الصورة

الصور دائما تخص الماضي ، تكتنز زمنا مضى يفرض وجوده بقوة ملامحه وتفرض الملامح والصورة نفسها على الصحفي الشاب الذي يعاني حيرة البحث عن موضوع جديد مما يجعله يفكر في البحث في الصورة ، في ملامح الأشخاص فيها :” وكانت الصورة معلقة بمكانها من حجرة الجلوس منذ أكثر من ثلاثين عاما ، لا تنطق ولا توحي بشيئ ولا تكاد ترى ، ولكن بدا أنه آن لها أن تتكلم ، ركز انتباهه بحماس في الصورة التي كاد يمحوها طول البقاء ، صورة السنة النهائية بالقسم الأدبي من الجيزة الثانوية عام 1928 ما الرأي في دراسة صحفية عن أصحاب هذه الوجوه الفتية ؟ المدرسة والحياة ،1928و 1960؟ ” ( [xxxiv]).

ويكون انطلاق الصحفي / الباحث من الصورة ذات الزمن الثابت بادئا بالتخلص من مستلزمات الزمن :” كم من أعوام مضت دون أن يلقي نظرة على الصورة ؟ ، وكم من معالم فيها انطوت إلى غير رجعة ، كهذه الطرابيش ، وهؤلاء المدرسين الإنجليز والفرنسيين ” ([xxxiv] )

في قصة ” صورة قديمة ” من مجموعة ” دنيا الله ” يبحث الصحفي الشاب عن موضوع جديد لصحيفته فيهتدي إلى الصورة القديمة له مع زملاء الدراسة ، وهو ما يجعل من الصورة مجالا للحركة عبر الزمن بالتذكر للماضي والانطلاق منه إلى الحاضر كاشفا عن كيف يكون مستقبل مجتمع هذا حاضره ، وهو ما يجعل المتلقي قادرا على استجلاء صورة المستقبل ، يتحرك الصحفي مدفوعا بالبحث عن المصير الذي آل إليه زملاء الدراسة الذين لم تعد تربطه بأحد منهم أية رابطة لذا فإنه يتحرك معتمدا على العلاقة السابقة التي تجعله يحاول توقع رد فعل الزملاء : عباس الماوردي صاحب العزبة – إبراهيم الأورفلي المستشار بالجنايات – حامد زهران مدير شركة الهرم المدرج – محمد عبد السلام كاتب النيابة – حامد زهران جاره القديم ، ويكون في لقائه بهم القدر الأكبر من رؤية المجتمع المصري في لحظة دالة كاشفا عن حال الموظف ورجل القضاء والتاجر الذي يمثل مركز اهتمام الجميع كما يمثل نموذجا اجتماعيا يطرح سطوة المال وقدرة الفساد على تصدر المشهد الاجتماعي والاستئثار باهتمام الجميع ، يضاف إلى ذلك أن السارد نفسه يتوقع معاني أخرى ستطرحها الصورة مستقبلا وهو ما عبرت عنه جملة الختام التي يضع بها نهاية القصة :

” وغادر عطفة الكرماني ضيق الصدر بعكارة الجو ، ومضى يفكر فيما جمع من مواد لدراسته ويحللها تحليلا أوليا وهو يتساءل :

  • ترى أي معنى ستتمخض عنه هذه الصورة القديمة ؟!” ( [xxxiv])

وإذا كانت القصة تطرح رحلة مع أشخاص تضمهم الصورة ، أشخاص يبحث فيهم بهم ، فإن قصة أخرى تطرح صورة تبحث عن شخص مفقود ولكن رحلة البحث عنه من خلال الصورة وفيه من خلال الأشخاص الذين يتماسون معه ، وهو ما يتبلور عبر قصة ” صاحب الصورة ” من مجموعة ” الحب فوق هضبة الهرم ” حيث تأتي الصورة دالا على شيخون الذي خرج ولم يعد وبعد أن استنفذت الأسرة كل وسائل البحث والتحري لجأت زوجته إلى طريقتها للبحث عنه :” تلاشى إيمانها بالجريمة ، فتبخر اليأس وزال ، وإذا بها تخرج من عذابها إلى الناس ، تمضي في وقار ظاهري وبيدها صورة شيخون .. وكلما صادفها شخص عرضتها عليه متسائلة وهي تنتظر أن يجيبها الجواب الشافي في يوم من الأيام .. لم تسام من تكرار السؤال ، ولم يثبط همتها النفي ” ([xxxiv] ) وتظل على طريقتها العتيدة حتى إذا ماكان شيخون يوما بصورة مباغتة :” وقامت الأم كأنما ضاقت بالجلوس ، اقتربت من الفراش حتى لامسته ثم بسطت الصورة أمام عيني العجوز وطرحت سؤالها الخالد :

  • هل تستطيع أن تدلني على صاحب هذه الصورة؟ ” ([xxxiv])

الصورة الرمز

تلك الصورة التي تأخذ طابعا رمزيا يكشف عن نفسه من البداية  مستمدة رمزيتها من كونها حلما يقوم على الرموز بالأساس ، في الحلم (11) من ” أحلام فترة النقاهة ” :

” أخيرا عثرت على الصورة القديمة بين الأشياء القديمة ، ولكن فرحتي لم تتم إذ سرعان ما تبين لي أن الصورة تهرأت بمرور الزمن عليها وطمست ملامح الأعزاء فلم يبق منها بقية تذكر ” ( [xxxiv])، وهو ما يفتح الباب لتأويلات متعددة :

  • لك أن ترى الصورة القديمة هنا بمثابة التورية ، معناها القريب يعيدنا إلى قصة ” صورة قديمة ” من مجموعة ” دنيا الله ” ، والمعنى البعيد يخرجنا من هذه الدائرة للرمز إلى مساحات مغايرة تتمثل في الزمن أو في الذكريات القديمة واثر الزمن فيها أو في التراث الخاص بالإنسان .
  • لك أن تراها مجموعة من السمات البائدة للحياة الماضية وكان لابد أن تنتهي بانتهاء زمنها وهو ما يعني انها لم تعد صالحة للزمن الراهن .
  • ربط المشهد المتضمن الصورة مع المشهد التالي في القصة والذي يبدو بعيدا بعض الشيئ ولكنه يرتبط معه بروابط خفية :” وبقدرة قادر وجدت نفسي في بهو مصلحة حكومية وبيدي ملف خدمة موظف يتتبع خطاي ويطالب بالإنصاف ، وأدركت بخبرتي أن الموضوع يخص إدارة المستخدمين ، وبحثت فلم أجد لها أثرا وفيما أمر أمام حجرة المخازن فتح الباب وخرج منه زميل توفاه الله منذ شهر . خطف الملف من يدي ورجع إلى المخازن وهو يؤكد أن الموضوع من اختصاصه ، وأنساني مظهره المهمة التي كانت تشغلني ” ([xxxiv] ).

الصورة غالبا وسيلة بحث ، طريقة للكشف عن الماضي ، والربط بين زمنين بينهما فاصل ليس بإمكان الإنسان أن يرأب الصدع الزمني دونما رحلة البحث في التفاصيل التي قد لا تبدو تماما في الصورة .

تمثل الأحلام نظاما من الصور التي يراها صاحبها وينقلها سردا منتجا سردية الصور التي يطرحها في صورة سردية تناسب المتلقي الذي يكون مهيأ لتقبل الصور المسرودة متسائلا عن كنهها وما يرتبط بها من أحداث وهو ما يجعل السارد لا يقم الصور مجردة وإنما يقدمها فاعلة عبر سرديتها (لا يقدم السارد حلمه شعرا مثلا وإنما يعتمد طرائق السرد في توصيل الحلم بوصفه حدثا قدتكون للغته طبيعة شعرية ولكنها لا تنحو إلى الشعر قدر نحوها إلى النثر أولا وإلى السرد ثانيا ) وعلى الرغم من أن السارد يقدم سردية الصور التي يراها فإن  المؤول لا يقف عند الأحداث بقدر ما يعتمد الصور بوصفها رموزا دالة معتمدة في التأويل إذ هو في الغالب (المؤول) يقيم تأويله على الرموز لا على الأحداث (راجع  كتب تأويل الأحلام ومدونات التفسير تجد أنها تقوم على تقديم قوائم من الصور والرموز التي تساعد الحالم على تأويل أحلامه أو الاطمئنان على مضامينها ) ، مما يجعل الأشياء التي تطرح نفسها على الحالم بمثابة الرموز الأساسية في تأويل الأحلام حيث تغدو هي بذاتها مدار للعمل بل هي العمل نفسه .

ويتضمن نتاج نجيب محفوظ نوعين من الأحلام حاملة الأشياء ومنطلقات تأويلها :

  • أحلام السرد : تلك الأحلام التي تتخلل النصوص السردية (رواية – قصة قصيرة ) وهي تعبر عن شخصية من الشخصيات ، السرد هنايقوم عملية الحلم مختارا لها مواضعها في النص ، ومحتضنها بعد أن حولته ( النص ) إلى حكاية إطارية فكل حلم داخل نص سردي يجعل النص في وضعية الحكاية الإطار ، وتعد تقنية تساهم فى إنتاج الدلالة تتكشف فاعليتها عبر تكراراتها المحسوبة أولا على المستوى التاريخى ( يتجلى ذلك فى رصد مساحات الأحلام بداية من المرحلة التاريخية  الأولى المتضمنة للروايات الأولى :” عبث الأقدار” 1939 ، ” رادوبيس “1943 ، ” كفاح طيبة “1944 ، وحتى ” أحلام فترة النقاهة” مرورا بـ ” خان الخليلى ” 1946، و” الثلاثية ” 1956-1957 ، و” ليالى ألف ليلة ” 1982) .

وفي تجل آخر يعمل الحلم على خلق ما يمكن أن يسمى بالواقع الموازى فالحلم لا يشير إلى الماضى بقدر إشارته للمستقبل ومحاولته بناء صيغة مستقبلية لحياة أفضل ، وهنا تتدخل أحلام اليقظة لتلعب دورا مكملا وموازيا وبديلا فى الوقت نفسه .

  • سرد الأحلام : تلك الأحلام التي يقوم عليها النص بالأساس وتبدو كأنها جاءت تلبية لحلم سابق رآه السارد وكانت الرؤية إلى جانب مضمونه دافعين للسارد أن يعمد للكتابة مما يجعل الحلم هنا يقود عملية السرد كما أن الحلم ينتمي للسارد معبرا عن رؤاه بوصفه نموذجا إنسانيا قريب الصلة بالواقع (بوصف السارد شخصية محسوبة على الواقع المتعين وخاصة أنه يلتبس مع الكاتب أو يتماهى معه وفق رؤية البعض كما أنه يكون محسوبا بالأساس على المحرك الأساسي له ( الكاتب ) وهو ما يجعل من مجموعة الأحلام المتضمنة في “أحلام فترة النقاهة ” نماذج لرؤى شخصيتين : الكاتب والسارد  ،ومنها : أحلام فترة النقاهة ” بوصفها عملا قائما على تقنية الحلم سردا ولغة وترميزا ويمثل الحلم قطاعا قائما بذاته في تجربة نجيب محفوظ ،

إلى أبعد مدى يمكن للأشياء أن تؤسس فيه لنتائج واضحة تجلت دلالتها في إنتاج نجيب محفوظ ، منتجة سياقا سرديا كان للأشياء فيه سرديتها الخاصة وعالمها الخاص غير أنه لم يكن عالما مستقلا بقدر ماكان عالما داخلا في نسيج النصوص مؤسسا لعلاقة بين الأشياء والإنسان تلك العلاقة التي عضدت فعل الاثنين في سياق التجربة .

********************

الخطاب الثقافي في أعمال نجيب محفوظ

هويدا صالح ـ القاهرة

إن دراسة الصورة الروائية التي يرسمها الروائيون لفئة ما من فئات المجتمتع إنما تكشف الفضاء الإيديولوجي و الثقافي الذين يتموضع الكاتب و جمهوره بداخلهما و تعمل على ترجمته، فالصورة الروائية  في بعديها الجمالي و الاجتماعي تحتاج إلى قراءة عميقة ومتأنية  لأنها تنتمي إلى متخيل مجتمع ما، لأنها مجموعة من الأفكار المتعلقة بالفئة أو النمط الذي يسعى الروائي إلى تشكيله في الفضاء السردي عبر آليات التشكيل وفي إطار سيرورة ما هو أدبي و اجتماعي،فكل صورة تنبثق عن وعي الكاتب الذي هو بمثابة المحرك الحقيقي للأنماط التي يرسمها عبر تشكلاته السردية . كذلك تُعدُّ الصورة الروائية يمكن أن تشكل أيضا تعبيرا أدبيا النظام الثقافي في مجتمع ما ، من هنا يمكن اعتبارها تمثلا لواقع ثقافي من خلاله يترجم الفرد أو الجماعة التي تنتجها فضاءهما الاجتماعي، الثقافي، الإيديولوجي و التخييلي. لذا تُعتبر دراسة الصورة الروائية وسيلة لكشف الخطاب الثقافي للمجتمع الذي يمثله الروائي ، كما تعبر عن العادات والتقاليد والثقافة التي تحكم وعي الفرد في هذا المجتمع. وقد عالجت الدراسات النقدية تلك الصورة من خلال دراسة صورة المرأة في السرد أو صورة الفلاح أو المثقف وغيرها من تلك الصور الروائية .

والبحث في صورة المرأة الرواية التي يصورها الكتاب الرجال تكشف لنا عن رؤية المجتمع الذكوري للمرأة ، ويعتبر نجيب محفوظ من الكتاب الذين  عالجوا الصورة الروائية للمرأة ، لاتساع المساحة السردية ، فهو أكثر الروائيين العرب كتابة سردا روائيا وقصصيا .

ولقد اتهم الكثير من النقاد نجيب محفوظ أنه حصر صورة المرأة في صورتين اثنتين : إما عاهرة تتكسب بجسدها ، وإما فاضلة رغم أنفها مقهورة من قبل المجتمع الذكوري ، واستدلوا على صورة العاهرة بروايات مثل : القاهرة الجديدة ، واللص والكلاب ، و  وبداية ونهاية  و زقاق المدق، أما صورة  المرأة الفاضلة رغم أنفها المقهورة من المجتمع الذكوري  في روايات مثل : السكرية وقصر الشوق وبين القصرين ، حديث الصبح والمساء و المرايا ، وأنا هنا لست بصدد الدفاع عن نجيب محفوظ لأنه بتقديري لا يحتاج لدفاع ، فما تركه من تراث روائي متسع وممتد ومتنوع كفيل بأن يدافع عنه ،رغم أن النقاد ظلموه ظلما بينا حين اختصروا أعماله في مقولات نمطية سار عليها جميع النقاد دون أن نجد من يعيد قراءة كل هذا التراث الروائي الممتد ويقدم رؤية مغايرة لتلك المقولات النمطية .

والباحثة ترى أن نجيب محفوظ عمد إلى كشف المجتمع الذكوري الذي يقصي المرأة ويقلل من شأنها ، ويحقرها ، فهو إما يشيؤها ويسلع جسدها ، ويجعل منها عاهرة رغم أنفها ، ويدفعها لأن تتعيش من جسدها نتيجة للأوضاع الاجتماعية القاهرة ، وإما يقهرها تحت وطأة الوصاية الذكورية التي تجعل من المرأة فاقدة للأهلية تحتاج طوال الوقت إلى حماية ووصاية المجتمع الذكوري .

ركز نجيب محفوظ على صورة العاهرة في رواياته لسببين : الأول لأن الدعارة كانت منتشرة وموجودة ، ومعترف بها من قبل الحكومة فيما قبل ثورة يوليو ، والسبب الثاني رغبته في كشف المسكوت عنه في المجتمع الذكوري الذي يشيؤ المرأة ، ويسلعها ، فحين يقهرها تضطر إلى أن تسغل جسدها من أجل أن تعيش، وقد احتلت صورة العاهرة مساحات كبيرة من رواياته ، فنجدها في القاهرة الجديدة ، إحسان شحاتة طالبة معهد التربية، شديدة الفقر، تعيش في أسرة مثقلة بأعباء الحياة، يستغلها المجتمع الذي  لا يعترف إلا بالثروة والنفوذ، تسوده المحسوبية والانتهازية وتحكمه البراجماتية القاسية، مجتمع ينتشر فيه الفساد السياسي والظلم الاجتماعي، يستغلها كأثنى ضعيفة ، فيدفعها لأن تبيع جسدها لذات المجتمع كي توفر لأخوتها الصغار حياة كريمة. كذلك نرى حميدة في زقاق المدق ، حيث غياب الوعي والفقر ، وحيث أن المرأة هي الحلقة الأضعف في المجتمع ، تسقط أيضا حميدة بنت أم حميدة ، ويجبرها المجتمع على استغلال جسدها كي تعيش ، ثم تأتي العاهرة أيضا في ” السمان والخريف ” حيث يستغل عيسى الدباغ المرأة العاهرة ، ثم يتركها وهي تحمل طفله ، ويتخلى عنها نهائيا ، كذلك تقع بطلة ” بداية ونهاية ” في شرك الرذيلة ، واستغلال جسد الأنثى نتيجة للظروف الاجتماعية القاهرة ، فلا تجد الأنثى الضعيفة إلا أن تلقي بجسدها في مياه النيل لتعفي أسرتها من هم عارها ، كذلك يصور المومس الفاضلة التي تقف بجانب بطل ” اللص والكلاب ” سعيد مهران ، حيث يتخلى عنه المجتمع ، ولا يجد من ينقذه إلا ” نور ” العاهرة التي أجبرها المجتمع لأن تبيع جسدها من أجل أن تعيش ، وقد حاول أن  يفسر لنا سبب نـزوح نـور إلى القاهـرة ، وإلقـاء الـضوء عـلى حـياتـها الفـقيـرة المليئة بالمـشاكـل الاجتماعـية من خلال رصـد صـورة بيئتـها ، فالمياه الراكدة والهـرب .مما يعطي إشارة لحيـاة نـور قبل نزوحها للعاصمة بحـثا عـن الـرزق و التمتع بحياة كريمة شريفة :” وأفـرطـت فـي الشراب حتى دار رأسها واعترفت له بأن اسمها الحقيقي هو شلبية وقصت عليه نوادر من عهد البلينا ، الطفولة و المياه الراكدة والشباب و الهرب … كان أبي عمدة كان خادم العمدة “( 1 )
ورغم مهنة ” نور ” التي من المفترض أن تجعلها تقيم علاقات مع المجتمع إلا أنها تنأى بنفسها عن كل اتصال بالمجتمع المحيط ، ربما لأنها تخجل من مهنتها ، فهي لا تفعلها متعة ولا رغبة ، بل تفعلها من أجل سد حاجتها الضرورية من المال :”البيت الوحيد في الشارع ، تحته وكالة خشب ، ووراءه القرافة . لا يعرفني هناك أحد ، ولم يزرني فيه أحد ، ستكون أول رجل يدخله ، وشقتي في أعلى دور ” (2)

أحبت ” نور ” سعيد مهران ، وحاولت أن تبعده عن دائرة الانتقام الرهيبة التي تجعله يقتل الأبرياء ، لكنها لم تستطع ، فقد سيطر عليه الانتقام ممن كان السبب فيما هو فيه ، وقد أحبها مهران ، ووثق فيها تماما ، ولم يخطر بباله أبدا أن تسلمه للشرطة طمعا في المكافأة، فإنـه كان يعـلم مدى حبها وإخلاصها له رغـم أنـها تبـيع جسدها وأعز ما تملك للرجال كل لحظة إلا أنـها لـم تفـكر فـي خـيانة سعيد مهران:هل يمكن أن تلعب المكافأة الموعودة بقلب نور ؟ حقا تلوث دمه بسوء الظن لآخر قطرة ، و الخيانة في عينيه أضحت كرائحة الغبار في اليوم الخماسيني ولكن رغـم ذلـك كـله فـنور لـن تخـونه ، ولن تسلمه غلى البوليس طمعا في مكافأة ، فقد ضجـرت مـن المعاملات وتقدم العمر وباتت تحن إلى عاطفة إنسانية خالصة ” (3)
لن يرى نور مرة أخرى ، وخنقه اليأس خنقا ،ودهمه حزن شديد الضراوة لا لأنه سيفقد عما قرييب مخبأه الأمن ولكن لأنه فقد قلبا وعطفا وأنسا ، وتمثلت لعينيه في الظـلمة بابتـسامتـها ودعـابتـها وتعـاستها فانعصر قلبه ، ودلت حاله على أنها كانت أشـد تـغلـغلا فـي نـفسه مـما تـصـور ، إنـها كانت جزءا لا يصح أن يتجزأ من حياته الممزقة المترنحة فوق الهاوية ، وأغمض عينيه في الظلام وأعترف اعترافا صامتا بأنه يحبها ، وأنه لايتردد في بذل النفس ليستردها سالمة”(4)
يصف د. طه وادي صورة العاهرة عند نجيب محفوظ بأنها مغلفة بإطار إنساني مما يقترب بها من صورة المومس الفاضلة :”هكذا تلقانا صورة (البغي) في روايات نجيب محفوظ دائما مغلفة بإطار إنساني نبيل ، ليؤكد أن الظروف الاجتماعية مهما تعقدت ، لا تجتث كل ما هو إنسان في الإنسان ، وإنه لضرورات العيش الصعبة يأثم الجسد ،ولكن تظل الروح محتفظة بجوهرها ” (5)
وقد أوردت فوزية العشماوي حديثا لنجيب محفوظ نشر في مجلة الهلال عام 1970 ، تحدث فيه عن رؤيته لهذه الفئة من النساء قائلا :”  هناك منحرفات فاضلات ومنحرفات غير فاضلات و الواقع أن كثيرا من المنحرفات في رواياتي ، يرجع انحرافهن إلى أسباب اجتماعية ، المتهم وراءهن لـيس سلـوكهـن بـقدر ما هو المجتمع الذي يعشن فيه ، إن الغالبية العظمى منهن يرتكبن الإثم بسبب الفقر .. بسبب المجتمع ” (6).

الصورة الثانية التي رسمها نجيب محفوظ للمرأة هي صورة إيحابية ، حيث صور نجيب محفوظ المرأة في صورة إيجابية ، فهي تناضل من أجل أن تحيا حياة كريمة مثل زهرة في “ميرامار ” التي ترفض أن يستغلها الرجال ، وتسعى لأن تغير مسار حياتها من فتاة ريفية بسيطة جاءت لتعمل خادمة في بنسيون وتتعرض للتحرض والاستغلال الذكوري ، لكنها تحافظ على نفسها ومن خلال التعليم تحاول تغيير حياتها ، كذلك صورة المرأة الإيجابية في نفس تلك الرواية تتجسد في المعلمة التي تدرس لزهرة ، فهي فتاة من الطبقة المتوسطة ، تعمل بالتدريس ، ولا تجد بأسا من أن تذهب للبنسيون لتعطي دروسا خصوصية لزهرة ، كذلك نجد في الثلاثية أكثر من نموذج يمثل صورة ‘إيجابية للمرأة ، فنجد عايدة شديد المتعلمة التي تعرف الكثير من اللغات ، والتي يقع في عشقها كمال عبد الجواد ، كما نجد وسوسن حمادة الصحفية التي ترصد الحراك الاجتماعي في المجتمع والتغيرات في البنية المجتمعية .

كذلك من النماذج النسائية المحفوظية شخصية الست ” عين ” في رواية ” عصر الحب” الأرملة الغنية التي توجه مالها لفعل الخير ، والتي كان لها عظيم الأثر في محيطها الاجتماعي والتي تبرعت بمنزل كبير لبناء مستشفى يحمل اسمها حتى اليوم ( القصر العيني ) .

وفي رواية ” السراب ” نجد رباب جبر الموظفة ظلت متمسكة بوظيفتها رغم كل الظروف وهذا تطور ملحوظ على واقع المرأة الاجتماعي . كما تقدم رواية  ” الشحاذ ” صورة إيجابية للمرأة في شخصية زينب زوجة بطل الرواية الحمزاوي ، وهي فتاة مسيحية ، أحبت البطل فتزوجته و أسلمت وكانت وفية مخلصة لزوجها المحامي إخلاصا شديدا ، لكن البطل يتيه في طريق حياته حين يلتقي المومس وردة ويقيم معها علاقة ، فيضيع الرجل بين المرأتين مع أن الأولى بقيت على إخلاصها الأمر الذي زاد في تمزق البطل وتشتته. كذلك نجد إلهام في رواية ” الطريق ”  تمثل صورة إيجابية للمرأة، فهي  سكرتيرة الجريدة التي نشر فيها الإعلان الذي تضمن معلومات عن والده. ولا ينكر أحد تلك الصورة الإيجابية التي رسمها لسمارة بهجت  بطلة “ثرثرة فوق النيل ” وهي  صحفية شابة مهتمة بالمسرح ، لا تتعاطى الحشيش لذلك يقع عليها دور مهم في مراقبة ما يجري داخل العوامة لسببين هما الأول : أنها صحفية ، والثاني أنها بكامل يقظتها كونها غير واقعة تحت تأثير المخدرات .

وسوف أركز على شخصية زهرة في رواية “ميرامار ” حيث رسم الشخصـية الريفية بكل صفاتها الـجسـدية و الأخلاقـيــة والشجـاعة و الجـرأة و الاعتـداد بالنفـس ،وقد استطاعت أن تـؤثـر فـي المتـواجدين حولها إما بالسلب أو الإيجاب،فنجده  مـن خـلال الأحـداث يوضح لنا مدى قوة شـخصية زهـرة وشـجاعـتها وجـرأتـها ،فـهي لم يـغلبها أحـد مـهما كـانت منزلته ومهما كانت قـوته ، وهي  تؤمـن بـأن الـشـرف هــو الـعـرض و الأرض والحرص علـيهما هو الحفاظ على حياة كريمة وسط المجتمع ، ومن خلال الفلاش باك يرصد لنا حادثة تؤكد ما يصرعليه طول الرواية بأن زهرة لاتخاف أحدا ولا تخشى أي إنسان يحاول أن يغتصب حقها فتحدث صديقها  عامر وجدي:”  أراد زوج أختي أن يأكلني فزرعت أرضي بنفسي !
الم يشق عليكي ذلك يا زهرة ؟
كلا ، إني قوية بحمد الله ، لم يغلبني احد في المعاملة لا في الحقل و لا في السوق “(7 ) 
وحين هربت من القرية لـكي لا تـتزوج مـن الـرجـل الـعجـوز وعـلى الـرغم من توسلات أختها وإقـناع زوج أختها لها بالرجوع وموقف أهل القرية من هروبها إلا أنها ظـلت قـوية وشـجاعـة تقابل هذه المواقف بقوة وشجاعة ، وتصر على عدم الرجع  :”  لن أرجع و لو رجع الأموات .
وهم زوج أختها بالكلام ولكنها بادرته : لا شأن لك بي ! (8 )

كما رأينا أن نجيب محفوظ قدم صورة تفضح واقع المرأة المصرية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة ، حيث القهر الذكوري لها وتسليعها واستغلال جسدها . 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع :

1   نجيب محفوظ ،  اللص و الكلاب، دار القلم، 1973 ،ص 100.
2 نفس المصدر،ص 58.
 نفس المصدر،ص 116.

4 ـ  المصدر السابق ، ص 126
5 ـ طه وادي، صورة المرأة العربية في الرواية المعاصرة، مركز كتب الشرق الأوسط ،ص 302
6 ـ فوزية العشماوي ، المرأة في أدب نجيب محفوظ ، مكتبة الأسرة 2005 ص 116 .
  
7 –  رواية ميرامار – نجيب محفوظ / دار الشروق 2005 ، ص 42 .
8 –  نفس المصدر ، ص 68.



عروض لكتب عن نجيب محفوظ

قراءة نصية في ” مقامات حضرة المحترم “
بقلم أ د . أحمد عفيفي الأستاذ بجامعتي القاهرة والإمارات  

عندما نكون أمام عمل نقدي يغرد خارج السرب، فلابد أن تنتحني أمامه الأحكام النقدية والقراءات الانطباعية، ومن هنا كام الحكم على كتاب ( مقامات في حضرة المحترم) للمبدع والناقد سيد الوكيل بأنه كتاب استثنائي، وأنه عمل نقدي إبداعي له قيمته المتميزة، والحكم على هذا الكتاب قبل دخول المتلقي معي إلى جوهره وثناياه لا يعد من قبيل الإيمان بتلك الأحكام الجاهزة، التي تشيع في عالمنا النقدي، أو تلك الأحكام التي تعد من قبيل المصادرة على الآخرين في أحكامهم، فللمتلقي أن يختلف مع الرأي أو يوافقه،  فبعد كفاح ومجاهدة النفس للسيطرة على مفاتيح الكتاب ومقاماته وجدته –حقا – على قدر كبير من الأهمية، لأنه كشفَ عن عوالم خبيئة لنجيب محفوظ، قدم فيها سيد الوكيل خلاصة فكره من خلال رؤية شاملة، حيث استطاع أن يرصد كثيرا من المظاهر النصية : الدلالية والبنائية والهندسية والثقافية والأيديولوجية ….. إلخ عند نجيب محفوظ من خلال الاتكاء على خبراته الناتجة عن معايشة أعمال محفوظ، ومجاهدة النفس معها ومعايشتها معايشة واضحة، وكأنني أشعر أن الوكيل عاش مع أعمال محفوظ أكثر مما عاش مع إبداعاته وأدبه هو، فظهرت خبراته العميقة في رصد ملامح نقدية متفردة استقاها الوكيل من قراءات شاملة وعميقة  لأعمال محفوظ.

     كشف الوكيل حقيقة النموذج القصصي وأشكال السرد عند نجيب محفوظ، بعيدا عن التصورات الشائعة، فقد أثبت أن القصة عند نجيب محفوظ ليست شكلا أو بناء أو تقنية، بقدر ماهي رؤية أو زاوية للنظر تمكن الكاتب من الالتحام مع الجوانب الأكثر دقة في عالمه  السردي، بغض النظر عن الحجم، ولهذا أشار الوكيل إلى أن ( قلب الليل ) لمحفوظ تختزن طاقة دلالية أكبر بكثير من التي نجدها في ( أولاد حارتنا ) بضخامتها وحجمها الكبير . إنه يشير إلى أن محفوظ وجد زاوية جديدة للرؤية مكنته من الوصول إلى الأعماق السحيقة لموضوعه، و من هنا وجدنا مقارنة دقيقة بين مقامات التراجيديا في قصص محفوظ، أقصد هنا تراجيديا العلاقة بين الإنسان والسلطة في قراءة واعية مقارنة بمجموعة من قصص أخرى لمحفوظ في صور أخرى للسلطة، منها سلطة القوة، وسلطة الجمال، وسلطة الشباب، وسلطة القانون، فلم يقف الأمر عند السلطة السياسية فحسب، ومن هنا استمر الوكيل في تحليل أنواع السلطة والمقارنة الواعية ، حيث وجد أن الفكرة قد اتضح مفهومها في حضرة المحترم، باعتبارها مفهوما فلسفيا وجوديا، ولم يتوقف الأمر عند الوكيل على تناول أشكالها وأدواتها المختلفة، ومن هنا رأى الوكيل أن رواية حضرة المحترم قد أضاءت هذا المفهوم الوجودي الفلسفي للسلطة، وإن كانت بذور هذا المفهوم  قد بدأت في  قصص أخرى لمحفوظ ، ولهذا ظهرت سلطة المرض  اللعين عند عثمان بيومي تلك السلطة التي أكدت أن أحلامه كلها هباء.

       المتتبع لسيد الوكيل في كتابه يدرك عمق القضايا المطروحة عنده وجدتها وطرافتها، وفيما يلي نرصد سريعا ما لفت النظر من قضايا نصية عالجها الوكيل:

1- كشف الوكيل – من خلال رؤيته العميقة – تلك الأبعاد الطبقية للشخصيات، الأبعاد التي تأخذ عند محفوظ بعدا نفسيا أكثر من كونه  مجرد  بعد اقتصادي ، فقد أبرز الوكيل أن النزعة الإنسانية عند محفوظ في واقعيته غالبة على النزعة الأيديولوجية التي وسمت الرواية الواقعية،  وقد ظهر كل ذلك من خلال تلك المقارنة الواعية التي عقدها  بين داود باشا وعطا المراكبي، وغيرهما من شخصيات نجيب محفوظ الواردة في المقامات ، وهى كثيرة.  

2-كشف عن بنية المفارقة وآلياتها وقارن بين عدة مفارقات عند نجيب محفوظ، وأكد أن المفارقة لا يمكن أن تمنعه من التساؤلات ، وهنا تتحول المفارقة إلى تساؤلات. 

3-الإفصاح عن الواقع الخارجي والواقع النفسي الذي هو مرآة الجينات البشرية. 

4-  أظهر الوكيل مجموعة العلاقات والترابطات السردية التي تدعم التحرر من سلطة النوع.

5- رصد الوكيل محاور الوجود الإنساني وسماته عند نجيب محفوظ، وأكد أنه مرتبط بالقيم الإنسانية.

5- تناول الوكيل  مفهوم الواقع وقيمته عند نجيب محفوظ.

6-استطاع الوكيل بحسه اللغوي التجديدي الكشف عن قضايا الثنائيات النصية في صنع ترابط نصي وما ترتب عليه من تطوير دلالي ، كما في (أولاد حارتنا) و( قلب الليل) وفي غيرهما من روايات نجيب محفوظ. 

منهجية جديدة في التناص

      يركز علم اللغة النصي على ظاهرة التناص باعتبارها  إطارا مهما من أطر  الحكم بالنصية  على النص الإبداعي ، و التناص  في إطاره العام هو البحث عن تداخل النصوص على مستوى العمل الإبداعي  مع القرآن  الكريم، أو الحديث النبوي الشريف، أو الشعر، أو أمثال العرب ، أو كتب التراث القديمة … إلخ  ،  حيث نجد ربطا بين بعض الرؤى والأفكار من خلال عمل إبداعي واحد مع هذه المصادر المتنوعة ، لكن الجديد عن سيد الوكيل أنه طرح فكرة أكثر تطورا  ورحابة وعمقا وقام بتنفيذها، وهي دراسة التناص على مستوى معظم الأعمال الإبداعية المختلفة لنجيب محفوظ، والملاحظ أن الوكيل كان واعيا لتوظيف هذا المنهج، ولم يكن هذا الطرح من قبيل المصادفة ،  ففي صفحة 55 – 56  من كتابه  يقول :” يمكن ملاحظة أن كثيرا من المعاني والرموز التي تناولها محفوظ نجد امتدادها وتفسيرها  في  أعمال أخرى أو على نحو ما يقول محمود أمين العالم في وصفه لقصة خمارة القط الأسود [ أحداثا ذات قسمات قديمة  تفريعات وتنويعات على ألحان سمعناها من قبل في رواياته وقصصه، ولكننا نحس كذلك بدبيب الرحلة الجديدة يشتد ] ”  ، وهذا أيضا ما وجدناه في الحلم رقم 104 حين  ظهرت تناصات وإحالات لشخصيات موزعة على مجمل أعمال نجيب محفوظ، فالست عين هي الشخصية الرئيسية في رواية عصر الحب 1980 م ماتت في ليلة القدر بعد أن غنت أغنية ( يمامة حلوة ومنين أجيبها ) ثم قالت : ” إني أرى الذين ذهبوا ينادونني … سمعا وطاعة … عين قادمة ” وكانت تلك الجملة هي آخر ما نطقت به الست عين قبل أن يعقب الراوي قائلا: “إن الست عين لم تمت ” ومن هنا ظهرت في أعمال أخرى لمحفوظ كتبت تلك الأعمال بفارق زمني كبير، وهكذا أيضا نجد شخصية عاشور في الحرافيش، تلك الشخصية التي استمرت في وعي نجيب محفوظ، وتكررت في أعمال أخرى، ولعل هذا ما جعل سيد الوكيل يتساءل قائلا :” فهل ذهبت الست عين للحياة في مكان آخر وما هو؟ هل هو عالم الأحلام؟   ثم قال الوكيل في موقع آخر من الكتاب  تفسيرا لامتداد حياة الست عين بعد موتها وظهورها في روايات أخرى :” حصلت الست عين على إكسير الحياة ” مشيرا إلى وجود هذه الجينات التي تتحور ولكنها لا تموت.

     لم تقف ظاهرة توظيف التناص على النصوص المختلفة لمحفوظ،  فقد وسع دائرة التناص  ليكون أكثر شمولية، فنجد أنه تناص مع الفكر الإنساني والديني، فقد ظهر هذا التناص الديني عند محفوظ، حين ربط بين تلك المغامرة لجعفر الراوي عندما خرج من قصر جده، كما خرج أبوه من قبل، وكما خرج أبو البشر آدم من الجنة، وكأنهم دفعوا فاتورة هذه المغامرة الإنسانية الباحثة عن الذات، وهذا تناص ديني أبرزه سيد الوكيل مع قصة آدم وحواء.  

     ولم يقف توظيف التناص عند هذا الأمر ، لكن الوكيل صنع تناصا بين حياتين : حياة نجيب محفوظ بعد محاولة اغتياله –  وهذا الطرح الذى طرحه عالم النفس الدكتور يحي الرخاوي – وحياة الوكيل بعد إصابته واستسلامه للرقاد فترة طويلة، كما وضع إطارا جديدا للتناص بين كتابين : عندما تناول طبيعة الكتابة عند نجيب محفوظ – كما وصفها الرخاوي و طبيعة الكتابة في كتاب (مقامات في حضرة المحترم)  .

    وهنا تكمن أهمية دراسة النصوص المختلفة لمبدع واحد، إذ يمكن ملاحظة ملامح النصوص من حيث  الثوابت والمتغيرات  – التفسيرات والتأويلات – الإسهاب و الإيجاز  – التناقض  و التناسق – الشك واليقين – النور والظلام  – ما يؤمن به المؤلف ومالا يؤمن به – تحديث الفكر – امتداد الشخصيات أو تفرعها – تقمص شخصيات سابقة . إن توظيف التناص بكل مظاهره المتنوعة يعد كشفا لدلالات كثيرة لم تكن تظهر إلا من خلال هذا التوظيف.    

الترابط النصي  عند الوكيل

       إذا كان الوكيل قد وظف التناص  بمنهجيته الشمولية، فإننا نلمح عنده أيضا توظيف الترابط النصي ودلالاته المصاحبة، حيث قدم ذلك في دراسة نصية لنص واحد، وكذلك لأكثر من نص لنجيب محفوظ، ففي (  مقام الكمال ) وتحت عنوان : قلب الليل – النص والنص المصاحب” نرى الوكيل يعي جيدا مظاهر الترابط النصي الذى يدعو إليه علم اللغة الحديث، فيقول الوكيل :” تبدأ رواية قلب الليل لنجيب محفوظ من نقطة محددة وتنتهي عند نفس النقطة التي بدأت منها، وهي اللحظة التي يقف فيها جعفر الراوي أمام موظف الأوقاف مطالبا بحقه في ميراث جده، ومعنى هذا أن رحلة جعفر الراوي التي قطعها انتهت إلى ما بدأت منه . لا يقين  ولا خلاص “ إنه يوظف مظاهر الترابط النصي بوعي، ويعمل على كشف الربط النصي بين أول الرواية وآخرها ، لم يقف الوكيل عند هذا الربط النصي في الرواية الواحدة ، بل انتقل من رواية قلب الليل إلى رواية أولاد حارتنا، تلك التي يتجه مغزاها الملِحّ عند محفوظ إلى المغزى  المتصل بوجود الإنسان وكينونته وأسئلته التي لا تنتهي عن ماهيته وكينونته ووجوده ومصيره، كذلك الأسئلة المتصلة بمعنى هذا الوجود المبنى على حكمة غامضة وقدر لا قبل للإنسان به في رحلته عبر التاريخ الإنساني وصراعاته التي لا تنتهي، وهذه الأسئلة الواردة في قلب الليل، ظهرت تجلياتها في أولاد حارتنا عبر بنية مستعارة لرواية التاريخ الإنساني ومحتشدة بالكثير من التفاصيل.

    إن سيد الوكيل قد بدأ دراسة (قلب الليل) من داخل النص، وراعى تلك البنية النصية والرؤية الدلالية عند محفوظ داخل النص الواحد، ثم انطلق في مقارنة نصية واعية مع نص (أولاد حارتنا) في مزج دلالي نصي وصل من خلال هذه المقارنات النصية إلى أعماق العمل والكشف عن دلالته بوعي وحصافة وبراعة ، حيث حدد الهدف ، واستطاع الوصول إليه في إطار فكري منظم.

   وهنا أدركت لماذا استعار سيد الوكيل مقولة شاكر النابلسي وجاء بها في عتبة مهمة من عتبات الكتاب، وضمنها صفحة مستقلة، حين نقل مقولة النابلسي التي تقول :

” الكتابة عن أي رواية من روايات نجيب محفوظ لا يمكن أن تتم بتكوينها الأمين إلا من خلال أعمال نجيب محفوظ ككل، كذلك الحال مع جميع الروائيين العظام، والشعراء العظام، والفلاسفة العظام ” ( شاكر النابلسي : مذهب للسيف ومذهب للحب) ، وهنا ندرك جيدا لماذا نجح هذا المنهج النقدي الذى اختطه سيد الوكيل لنفسه؟  .

      أماعن لغة الكتاب فقد اتسمت بالشاعرية التي تجاوزت مقام الصواب والخطأ ، لتحتضن مقام الجمال والأناقة والرشاقة اللغوية، فعبرت لغة الكاتب عن شخصيته التي تنم عن بهاء وجمال وإشراق يماثل إشراق روحه الوثابة المغامرة وشموخ قامته الإبداعية والنقدية .

تحية لصاحب كتاب : مقامات في حضرة المحترم على هذا الوعي النقدي والفكر المتجدد والمصاحبات التي كشفت عن ملامح الرقي الإبداعي عند نجيب محفوظ .

ليالي محفوظ. في شبرد

.قراءة:أحمد فضل شبلول

وفي الليلة الثانية والعشرين بعد المائة، كشف نجيب محفوظ عن العرض الذي قدمه المخرج حسن الإمام لعبدالحليم حافظ بأن يقوم بدور “عباس الحلو” (المزين) في فيلم “زقاق المدق”، لكن العندليب رفض طبعا، لأن الدور لا يليق به وبنجوميته، فكيف سيستقبله محبوه وهو يؤدي دور الحلاق؟ وقد قام بدلا منه الفنان صلاح قابيل

.
هكذا تمضي “ليالي نجيب محفوظ في شبرد”، وهو عنوان الكتاب الذي أعده الكاتب الصحفي إبراهيم عبدالعزيز، وصدر عن منشورات بتانة في جزئين وقعا في ألفوأربعمائة وأربع وستين صفحة
ومن يقرأ ليالي نجيب محفوظ، يكتشف أنه يقرأ قِطعا أو فصولا من تاريخ مصر، وخاصة في عصورها الحديثة. فلم تخل ليلة من جلسات نجيب محفوظ مع أصدقائه وزواره وبعض حرافيشه، إلا ويتحدثون فيها عن السياسة والأدب والفن والرياضة والتاريخ والعلوم وكل ما يخطر على بال تلك المجموعة من البشر بمشاربها المختلفة، فهناك اليساري واليميني والوسطي، وهناك الناصري والساداتي والوفدي، وكان نجيب محفوظ بطبيعة الحال هو الوفدي القديم وقطب الجلسات الذي يسعى إليه الجميع من داخل مصر وخارجها، حتى بعض الإسرائيليين الذين لا يستطيع أن يرفض وجودهم في جلسات فندق شبرد وفندق سوفيتيل المعادي، اعتبارا من 5 يناير/كانون الثاني 2003 (الليلة الأولى) وحتى الليلة الأخيرة (الليلة الثانية والعشرون بعد المائة في 23 يوليو 2006) أي قبل أن تتوقف الجلسات لمرض القطب الأدبي نجيب محفوظ ودخوله المستشفى ثم وفاته في الأربعاء 30 أغسطس/آب 2006.
إن “الليالي” كانت بمثابة الصالون الأدبي الذي تنبع قيمته من قيمة صاحب الصالون الذي يمثل الشخصية المحورية فيه. وكان أشهر صالون أدبي هو صالون الأديبة مي زيادة، فقد كان يحضره كل الأدباء الكبار في مصر، لكن نجيب محفوظ يعترف في مقدمة “الليالي” أنه لم يحضره لأنه كان في الجيل السابق عليه. وكذلك لم يحضر صالون عباس العقاد نهائيا، لأنه كان يعيش في هذا الوقت منكمشا ومستغرقا في أعماله، ولم يكن يزور أحدا.

ويوضح نجيب محفوظ في مقدمة “الليالي” أن صالوناته كلها مقاه عامة، وكل شخص من الحاضرين يقول ما يريد بغض النظر عن مركزه. وهو يحب هذا الشكل من الصالونات والمناقشات الأدبية.
وقد عني إبراهيم عبدالعزيز بتسجيل كل ما يدور من أحداث وكلمات وإشارات وهمسات تدور بين رواد الصالون وبين نجيب محفوظ، أو بينهم وبين بعضهم البعض. ففي كثير من الأحيان يعمد إلى تقديم تقرير واف بكل ما يحدث في الجلسات، وفي قليل من الأحيان كان يمر مرورا سريعا على وقائع الصالون. وكان نجيب محفوظ يعتمد عليه في نقل أخبار مصر والعالم، فالرجل ضعف نظره، وقلّ سمعه، فكان يعتمد على سماعة الأذن التي تلتقط له بعض المفردات التي تجلي المعنى وتنقل العبارة.
كتب إبراهيم عبدالعزيز مقدمة وقعت في 55 صفحة، كان لا بد منها لتهيئة الجو للدخول إلى “ليالي نجيب محفوظ” وعالمه الذي يوازي عالم الصحافة والإذاعة والتلفزيون والسينما، وتتعدد شخوص هذا الصالون فيحضره أعضاء مستديمون من أمثال د. فتحي هاشم، والمخرج السينمائي توفيق صالح، والمهندس محمد الكفراوي، ود. محمود الشنواني، والكاتب زكي سالم، والكاتب المسرحي علي سالم، والمترجم الأمريكي ريموند استوك، وحسين عبدالجواد، وفؤاد نعمان، وعزيزة اليازجي، وغيرهم، فضلا عن العابرين من أمثال الكاتبة صافيناز كاظم، والناقد الإسرائيلي سان سوميخ ود. ماجد الحاج، ومحمد سلماوي، وجمال الغيطاني، ويوسف القعيد، وكمال بولس، ود. سعدالدين إبراهيم، وغيرهم، بالإضافة إلى بعض الصحفيين ومندوبين من محطات إذاعية وتلفزيونية مختلفة.
وفي الكثير من الأحيان كان إبراهيم عبدالعزيز هو من يبدأ ضربة البداية فيسأل الأستاذ مثلا عن أم كلثوم .. من الذي كان سببا في شهرة الآخر أم كلثوم أم الشعراء الذين غنت لهم، فيجيب الأستاذ: أم كلثوم هي التي شهرت الشعراء ما عدا أحمد شوقي. فيسأله: هل لو لم يوجد القصبجي والسنباطي وأحمد رامي وأحمد شوقي ما استمتعنا بأغاني أم كلثوم؟ فيجيب: كان سيوجد شعراء وملحنون آخرون يستلموها لأنها صوت جميل من غير شك.
ويتذكر الأستاذ حفل عيد ميلاده الخمسين في الأهرام، قائلا: كانت إحدى المفاجآت السعيدة في حياتي التي أهدانيها الأستاذ محمد حسنين هيكل.
أراد صلاح جاهين الاحتفال بعيد ميلادي الخمسين، فقال لهيكل: خصصْ لنا ركنا في الأهرام نحتفل فيه بعيد ميلاد الأستاذ نجيب .. كازينو قصر النيل ضاق علينا. فقال هيكل لصلاح: نحن – أي الأهرام – سنحتفل بالأستاذ.
لم أصدق نفسي عندما أحضر لي هيكل مخصوص كوكب الشرق أم كلثوم والموسيقار محمد عبدالوهاب والفنانة فاتن حمامة، وحضر عيد ميلادي توفيق الحكيم، فضلا عن الحرافيش وكثير من أهل الأدب والفن، كان احتفالا هائلا ومبهجا حقا، ولم يتكرر
وأذكر أن الحكيم أهداني “طقطوقة” من فضة، وقال لي: هذه من حر مالي، لكن أجمل ما في تلك الليلة هو حضور أم كلثوم. جاءت إلي – أنا مخصوص – لتغني في يوم مولدي. وكانت المرة  الأولى التي أصافحها وألمس يدها.
زمان .. في السنوات الخوالي، كنت أذهب إلى حفلاتها (كسمّيع) قديم مفتون بفنها، وأشتري تذاكر الحضور، وأجلس وسط المستمعين. ولم أغير مقعدي في حفلاتها طوال حياتي.

قالت أم كلثوم في تلك الليلة كلمة قصيرة: لقد أسعدني نجيب محفوظ برواياته وقصصه، وأرجوأن يسعد في خمسين عاما قادمة.

اهتززت وانتقضت أرد على أم كلثوم بصوت هادئ مرتجف: إذا كانت كتاباتي قد أسعدتك أم كلثوم، فماذا يستطيع إنسان أن يفعل إزاء إحساسه بأنه أسعد مصدر سعادته
ويسأله إبراهيم عبدالعزيز: لماذا كان صلاح جاهين بالذات مهتما بالاحتفال بعيد ميلادك دون بقية الحرافيش؟ فيوضح الأستاذ: كان عندنا نظام في الحرافيش كلما أتى عيد ميلاد أحدنا نحتفل به، فلما جاء دوري قال لنا صلاح جاهين: سآتي لكم بمكان جيد، فراح كلم هيكل، وقال له: نريد أن نحتفل بعيد ميلاد نجيب محفوظ في الأهرام، فقال له: “أنا الذي

سأقوم بهذا الاحتفال يا صلاح”.
ولما استفسر إبراهيم عبدالعزيز عن القيمة الأدبية لصلاح جاهين؟ أخبره محفوظ بأنه عبقري، متعدد المواهب، وأهم ما فيه شاعريته كشاعر شعبي، وكرسام كاريكاتير ممتاز. أما تقييم محفوظ لعبدالرحمن الأبنودي، فقال عنه: شاعر لغة دارجة جيد جدا مثل صلاح جاهين، وقد عاد للشعر وفرحنا بعودته بعد أن كان قد توقف لانشغاله بالنثر الذي برع فيه. فسأله إبراهيم عبدالعزيز عن فؤاد حداد؟ فقال: سمعت عنه وقرأت له، وإن لم أدرسة دراسة كافية، وإن كان الذين تكلموا عنه يقولون إنه من ملوك الشعر. أما بيرم التونسي فيرى نجيب محفوظ أنه عبقرية لا تتكرر.
ويتذكر نجيب محفوظ لقاءه ببيرم التونسي قائلا: تعرفت على بيرم التونسي، هو فنان عبقري، وكنت متصورا أنه مثل زكريا أحمد في الضحك والفرفشة، طلع صامتا ومكتئبا، لا تخرج منه كلمة حلوة، وهو ما أكده يحيى حقي في كتابه “كناسة الدكان”.
وتتعدد اللقاءات والحوارات ما بين نجيب محفوظ وضيوف صالونه ولياليه، فيتحدثون عن أزمة نادي القصة، ومولد النبي، وغضب صفية زعلول، ونهاية أميركا، وغياب الإصلاح، وعجائب الأحزاب، والغلاء، وكيف نقضي على الإرهاب؟ ومحاولات تشويه الإسلام، ولماذا لم يكتب نجيب محفوظ عملا عن فلسطين؟ ومكرم عبيد يقرأ الفاتحة للسيدة زينب، وحلم لم ينشره نجيب محفوظ، وأمريكا أجهضت الديمقراطية المصرية، وديمقراطية الإغريق، والعلاقة بين نجيب محفوظ ويوسف شاهين، وشخصيات المرايا، وترجمة الأحلام، وسعد زغلول والأخوان، وأم كلثوم والسادات، واسكندرية نجيب محفوظ، وحكايات خاصة مع أحمد زكي، وفي هذا يقول محفوظ:
أحمد زكي كان لطيفا جدا، جلس معي كثيرا ، ولاحظت أنه كان مضطربا. عندما كان يحدثني، كنت أرد عليه، فيمضي في حديثه كأنه لم يسمعني، وهو مستمر في رسم صورة الشخصية التي سيظهر بها في الفيلم الذي سيقوم بتمثيله.
كان يريد أن يعمل فيلما عني، ولكني اعتذرت، لأنني أعتقد أن شخصيتي لا تصنع فيلما. ثم أمسك أحمد زكي في الكبار؛ ناصر 56 وأيام السادات، وهما من أفلامه الخالدة.
إن “ليالي نجيب محفوظ” كانت ليالي ديمقراطية، فيها الرأي والرأي الآخر، وكان هناك دائما صوت المعارضة متمثلا في عضو حزب الوفد البارز محمد الكفراوي، مع أن نجيب محفوظ كان وفديا قديما، إلا أنه لم يوافق على آراء كثيرة للكفراوي، وفي الوقت نفسه لم تكن “الليلة” تحلو إلا باستعادة نجيب محفوظ قصيدة بيرم التونسي “مرمر زماني يا زماني مرمر” التي كتبهها في الملك فؤاد وكانت سببا في نفيه من مصر.
وكم تمنى نجيب محفوظ أن يفوز أديب عربي آخر بجائزة نوبل، ليريحه من كثرة اللقاءات

صفحات من مذكرات نجيب محفوظ

بيتر ماهر الصغيران

في البداية لم تكن مذكرات نجيب محفوظ للكاتب رجاء النقاش سيرة ذاتية على غرار رواية الأيام بل كانت أشبه باعترافات يحكيها أديب و يحاول أن يحلل فيها حياته السابقة

النشأة  و الميلاد حتى الشباب :

الطفولة لدى نجيب محفوظ كانت مصدرا من مصادر الإلهام البداية كانت مع والداته التي لم تتعلم في مدارس إلا إنها بحسب كلامه عنها لديها من الفطرة الحسية السليمة التي بولد بها الإنسان فيقول عنها :

السيدة الأمية التي كانت مخزنا للثقافة الشعبية عشقها لسيدنا الحسين و زياراتها الدائمة للأديرة و المتاحف .

كان يستغرب دائما من هذا الخليط العجيب الذي عاشت امه بين زيارة مسجد الحسين و دير ماجرجس و بين زيارة المتحف المصري و خصوصا حجرة المواميات .

 بينما رأى أن والده تمتع بالحس الفني أيضا و على حد تعبيره كان (سميع) للأغاني و أشهر مطربين تلك الفترة من أمثلة :

صالح عبد الحي و سيد درويش

إلى جانب هذا الاستمتاع بالغناء أحب والده المسرح بالأخص مسرح نجيب الريحاني و انتقل هذا الحب إلى الابن الصغير لم تكن علاقته بوالده بها أى عنف ولا يذكر أنه ضربه سوى مرة واحدة فقط .

اهتم والده بتعليم الأولاد إلى الهاية حتى جعل محفوظ يختار بنفسه الكلية التي كان يرغب في الالتحاق بها رغم ميول الوالد الشخصية نحو كليات مثل الحقوق أو الطب .

لكن ظهور ميول محفوظ في محبة الأدب و الفلسفة جعلته يصمم على الالتحاق بكلية الاَداب قسم الفلسفة .

رفض محفوظ أن يشبه والده بشخصية (سي سيد) الشخصية الرئيسة في الثلاثية بل رأى أن والده كان على قدر من التفتح و الديمقراطية .

عن بدايات تكوين صورة عن شخصية الفتوة التي ظهرت في رواياته و قصصه حيث كان أشهرهم رواية الحرافيش فقد كان أحد أهم الفتوات فتوة الحسنية الذي فيما بعد أصبح صاحب مقهى عرابي الشهير .

عند الحديث عن النشأة لم يغفل محفوظ أول حب في حياته الذي كان في عمر الثالثة عشر حيث كان يقيم في حي العباسية .

بعد هذا الحب الذي ظل عالقا في ذاكرته رفض الزاوج لفترة طويلة و يستكمل ما يشبه الاعترافات السرية أن الفترة التي سبقت زواجه من السيدة (عطية الله) عشها في عربدة كاملة حيث كان من رواد دور البغاء و مع التقدم في السن قرر الزواج مع اختيار زوجة تعينه على إتمام مشاريعه الأدبية و توفر له المناخ المناسب لهذا .

إذا كان نمط التربية أثر فيمحفوظ على نحو كبير و الأماكن كان لها تأثيرا كبيرا إلا أن من أكثر الأشياء التي أثرت في نشأة محفوظ هى ثورة 1919 حيث وجدها ثورة شعبية شاملة ضمت إلى صفوفها جميع طوائف الشعب المصري .

قد شهد حي الجمالية بداية إنطلاق الثورة حيث خرجت الجموع تهتف بالاستقلال و قد تأثر محفوظ بتلك المشاهدات و استخدمها في روايات عديدة مثل الثلاثية .

يستمر سرد محفوظ حول ثورة 1919 و عن شخصية الزعيم المصري سعد زغلول حيث أشاد بنزاهته و قال عنه : مثقف و أديب و محام كبير و قانوني و سياسي و خبير

بينما شخصية النحاس باشا على الرغم من تمتعها بعدد من الصفات الهامة و أنه كان سياسيا محنكا إلا أنه لم يكن على مستوى سعد زغلول .

الأماكن التي أثرت في أدب نجيب محفوظ :

كان لدى المكان و خصوصا حي الحسين في نفس محفوظ حالة من نشوة العشاق حتى ما بعد الانتقال إلى العباسية فلم تنقطع زيارته إلى حي الحسين بل نقل تلك المحبة إلى أصدقائه .

بل كان يرى أن منزلهم الكائن في نطاق قسم الجمالية له سحره الخاص و قد ترك أثرا عميقا في نفسه

حتى المقارنة بين الجمالية و حي العباسية العصري اّنذاك كانت في صالح الحي الأول .

تطورت علاقته بالنيل من مجرد زيارات عابرة حتى أصبح النيل صديقه الذي يفضي إليه بأسراره و تجلى النيل في كتاباته في أكثر من رواية كان أشهرهم رواية كفاح طيبة و ثرثارة فوق النيل و بداية و نهاية .

المدينة الثانية التي أثرت في نجيب محفوظ بعد القاهرة كانت الإسكندرية و خصوصا مشهد البحر الغاضب بدأت زيارات نجيب محفوظ الأولى إلى الاسكندرية في عام 1920 بصحبة والده و منذ ذلك الحين لم تنقطع زيارته إلى الاسكندرية بينما رواية ميرامار جاءت بمثابة تتويج لهذا الحب لتلك المدينة التي وقع في هواها مخفوظ .

الوظيفة و الأدب :

يعترف محفوظ أن الوظيفة أمدته بنماذج بشرية كانت غائبة عن حياته و قد استعان بالكثير من تلك الشخصيات في رواياته و أمثلة على ذلك :

في رواية مثل المرايا التي أفسدوها و تم تحويلها إلى فيلم أميرة حبي أنا فهو لم يكن راضيا عنه و أيضا رواية حضرة المحترم التي دارت معظم أحداثها داخل أروقة المصالح الحكومية

بينما نجيب محفوظ الموظف لم يكن يحب فكرة السعي إلى المناصب بل نصحه الأديب الكبير كامل الكيلاني بألا يعلن عن هويته الأدبية حتى لا يكون مصدرا للسخرية بين الزملاء داخل العمل حيث عمل في وزارة الأوقاف في البداية ,

ثم انتقل محفوظ فيما بعد للعمل كرئيس للجنة الرقابة على الأفلام لمدة عام ونصف بتكليف من الأديب ثروت عكاشة.

من المفارقات التي يذكرها محفوظ عندما تولى هذا المنصب أنه رفض دعم السينما لفلمي :

قصر الشوق و السكرية .

يحكي محفوظ ما كان يدور قبله في أروقة جهاز الرقابة حيث كان يعج بالفساد و الفوضى و كان المخرجين و المنتجين يدفعون في أحيان كثيرة الرشوة لتمرير بعض الأعمال السينمائية في حين انه في عهده قضى على هذا الأمر تماما .

عن فكرة الرقابة عبر محفوظ الموظف الرقيب :

أن الرقابة وظيفتها ببساطة هى أن تحمي سياسة الدولة العليا و تمنع الدخول في مشاكل دينية قد تؤدي لفتن طائفية و المحافظة على الاّداب العامة .

 بينما تسببت أزمة رواية أولالاد حارتنا في إنهاء عمله كرقيب على الأفلام ثم تدرج في المناصب حتى خرج على المعاش على درجة نائب وزير .

الأدباء و الفنانون في حياة محفوظ  :

بداية طريق الأدب في حياة نجيب محفوظ بدأ من العام 1936 حيث قرر اختيار طريق الأدب بعد تفضيله عن الفلسفة كان المنفلوطي هو أول من تأثر به في بدايته و خصوصا كتابه العبرات .

يضع محفوظ إلى جانب المنفلوطي عدد اَخر من الأدباء الذين تأثر بهم من أهمهم :

العقاد و المازني و توفيق الحكيم و سلامة موسى و طه حسين

رأى في العقاد المثقف الموسوعي الذي علم نفسه بنفسه  لكنه كان يتصف بالعنف و التعصب بل انتقد محفوظ العقاد في هجومه على أحمد شوقي .

أم المازني الذي كان رفيقا للعقاد كان محبا للنكتة لم يسغل موهبته الكبيرة النادرة التي كان يملكها و استغرقه العمل في مجال الصحافة أكثر من الأدب .

بينما سلامة موسى هو مكتشف نجيب محفوظ و قد تحمس كثيرا لموهبة محفوظ في بداياته و قد نشر له أولى مقالاته و قصصه و رواياته .

لم يكن يرفض أى مقالة يرسلها إليه عبر البريد على الرغم من صغر سن محفوظ حيث بدأ كتابة المقالات في الصف الثالث الثانوي .

 بعيدا عن مجال الأدب كان لدى محفوظ عددا من الصدقات التي جمعته مع ملحنين و شعراء و كتاب سيناريو كان من أهمهم :

زكريا أحمد و بيرم التونسي

زكريا أحمد على حد تعبير محفوظ كان ابن بلد و حبوب و ابن نكتة لديه طريقة ساخرة في سرد الأحداث التي وقعت له في حياته و قد قرأ إليه رواية ذقاق المدق التي نالت إعجابه كثيرا .

بينما اشترك مع بيرم التونسي في كتابة سيناريو فيلم ريا و سكينة و قد تعجب كثيرا من شخصية بيرم حيث أنه ظن أن هذا الزجال الساخر سيكون شخصية تحب الضحك و الهزار لكنه على عكس المتوقع تماما وجده شخصية حزينة طول الوقت و متجهم .

بينما أهم الفنانين الذين استمروا في معرفة محفوظ حتى ماتوا هم أعضاء شلة الحرافيش من أهمهم :       

أحمد مظهر الذي كان سببا في تسمية الشلة بهذا الاسم ثم صلاح جاهين و الكاتب الساخر محمد عفيفي و

 و على أحمد باكثير و يوسف جوهر و المخرج توفيق صالح .

 فن الرواية و نجيب محفوظ  :

كانت الروايات أشبه بالسيرالذاتية مثل الأيام أو يوميات نائب في الأرياف لذلك ودت نفسي في فن الرواية .

على الرغم من حبه الشديد للأدب إلا أنه توقف عن الكتابة لدمة خمس سنوات من العام 1952 حتى العام 1957 عقب قيام ثورة يوليو .

حيث أنه اعتقد أن كل ما كان يحلم به قد تحقق بعد الثورة لكن سرعان ما ظهرت بعض السلبيات التي جعلته يعود للكاتبة من جديد مع رواية أولالاد حارتنا .

يقول محفوظ عن تلك الرواية و أراد قوله داخلها :

هى عن الدين و التصوف و الفلسفة و نظرة شمولية عن الإنسانية

وجد محفوظ أن الرواية تحمل العديد من التأويلات يمكن أن تفسر كما فسرها البعض أنها عن الأنبياء بينما رأى البعض تحتمل هى بعض التأويل السياسي عن فترة حكم عبد الناصر .

بسبب تلك الرواية و هذا الهجوم الكاسح و الإتهام بالكفر بشكل صريح و بعض المشايخ أعلنوا إهدار دمه قررت الدولة تعين حراسة له لكنه كان يرفض تلك الحراسة التي أعتبرها إحدى القيود على تحركاته لكنه مع تجاهل التأمين الشخصي تعرض لمحاولة اغتيال كادت أن تقضي على حياته إلا أنها تركت اَثارها عليه .

أدعى الكثيرين من الأدباء أن محفوظ حصل على نوبل فقط بسبب كتابة رواية أولاد حارتنا بينما الرواية تجىء من ضمن عدد من الاسماء الأخرى و من أهمها الثلاثية .

طريق الجوائز الأدبية لدى محفوظ بدأ مع رواية رادوبيس حيث كانت قيمة الجائزة عشرين جنيها

لم يتطلع محفوظ للحصول على جائزة نوبل بل يعترف أنه من الجيل الذي نشأ على عقدة الخواجة و هى العقدة التي أحدثت في نفوس الجيل بالكامل عدم الثقة في النفس او في الامكانيات حيث أن العصر الأدبي الذين عاشوا فيه كان يعج بالعمالقة من أمثلة :

سارتر و كامو

أن الشعر الذي كانوا يطلقون عليه ديوان العرب يستحق أن ينال عنه أحد الشعراء العرب جائزة نوبل في الاَداب  و قد ذكر اسم أدونيس كواحد من أهم الشعراء العرب .

حتى أن اليوم الذي حصل فيه على الجائزة اعتبر أن زوجته تهلوس أو مجرد دعابة إلى أن جاء إليه سفير دولة السويد بنفسه يعلن اختياره لنيل الجائزة لهذا العام .

رغم حصول محفوظ على جائزة نوبل إلا أنه وجه إلى الجائزة عدد من الانتقادات أهمها :

أهمالها للأدب العربي و المنجز الثقافي الذي تم في القرن العشرين و كان يرى أن بعض الأدباء العرب استحقوا نوبل عن بعض الأدباء الغربين و قد وضع اسم توفيق الحكيم كواحد من هؤلاء .  

السينما في حياة نجيب محفوظ :

في سينما الكلوب المصري بدأت علاقة محفوظ بالسينما في سن الخمس سنوات ثم استمرت حتى أصبح هو واحد من كتاب السيناريوهات للسينما عندما بدأ العمل عام 1947 مع صلاح ابو سيف بفيلم عنتر و عبلة

يحكس عن صلاح ابوسيف أنه كان السبب في تعلمه كتابة السيناريو بل أمده بكتب عن هذا الفن السينمائي

لكن محفوظ وجد أن السينما كعمل يتسم بالجماعية بينما الأدب هو عمل فردي يقدر الكاتب أن يغير و يحذف فيه كما يحلو له .

بداية الأعمال التي تحولت لمحفوظ إلى السينما عن طريق أحمد عباس صالح الذي نجح في تحويل رواية بداية و نهاية إلى مسلسل إذاعي بصوت العرب عام 1959 .

ثم فكر مدير التصوير الكبير عبد الحليم نصر في عرض الأمر على صلاح أبو سيف لتحويلها إلى فيلم و قد كان في العام التالي لم يشارك محفوظ في كتابة أى سيناريو من سيناريوهات أى عمل تم تحويله من أعماله الأدبية .

 أول من أسند إليه صلاح أبوسيف عندما عمل كرئيس جهاز السينما إخراج الثلاثية كان المخرج الكبير توفيق صالح لكنه دخل في خلافات معه و أعتذر عن الاستمرار حتى تم إسناد المهمة إلى حسن الإمام .

متاعب محفوظ مع السلطة :

لم يكن محفوظ يهتم بالسعى خلف السلطة رغم أن هذا لا يقلل من شأن الاديب كما أن د.طه حسين شغل منصب وزير المعارف .

عن موقفه من ثورة يوليو كان يؤيد الكثير من القرارات الهامة وقتها بل لم يكن في موقف عدائي مع المقربين من السلطة .

يقول عن ثورة يوليو :

لم يكن يخطر في ذهني مطلقا أن يقوم الجيش المصري بما يشبه الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالملك .

دار في عقل محفوظ و كان هذا لسان حال العديد من أفراد الشعب أنها مجرد حركة تمرد مثلها مثل الثورة العرابية لكنهم شكوا أن أمريكا تقف وراء الثورة !

الفترة الأولى انتابته مشاعر منقسمة ما بين الخوف من عدم استقلال مصر بعدما قطع النحاس باشا شوطا كبيرا في المفاوضات ثم شك محفوظ أيضا في الذين قاموا بها .

لم يتعاطف محفوظ مع عبد الناصر في أزمة مارس 1954 حيث تم الإطاحة بمحمد نجيب حيث رأى أنه تم الإنفراد بالسلطة .

أكبر نقد تم توجيه للثورة هو إهمال قيام حياة ديمقراطية سليمة و أهمال الجانب العلمي و الرداسي و اعتمدوا على الأسلوب الحماسي فالوطنية وحدها لا تكفي .

رغم ذلك لم يتصور أن يأتي اليوم الذي يموت فيه عبد الناصر فقد قال :

كان عبد الناصر يعطيني شعورا خرافيا بالخلود فلم أتصور أن يأتي اليوم يموت فيه كما يموت البشر .

بداية المتاعب عن عندما نشر قصة بعنوان سائق القطار حيث تم تأويل القصة أنها تحمل سخرية من الرئيس جمال عبد الناصر أخبره بهذا صديقه الأديب محمد فريد أبو حديد أن القيادة السياسية وصل إليها أن القصة تحمل رمز مباشر ضد الرئيس .

بينما الأزمة الأشهر كانت بخصوص ثرثارة فوق النيل التي فسروها على أنها انتهاء أحلام ثورة يوليو و ضياع الهدف و قد صدر أمر باعتقاله بالفعل إلا أنه تم إلغاء الأمر في اَخر وقت .

وقف إلى جواها وقتها ثروت عكاشة الذي دافاع عن الرواية و استبعد أن تكون الرواية تحمل كل تلك الرموز المضادة للثورة .

أزمة رواية الكرنك التي تكلم عنها محفوظ ببالغ الأسى عندما شوه مقص الرقيب الرواية و خرجت بصور لم يكن راضيا عنها على الإطلاق مع ضياع النسخة الأصيلة .

لم تكن المتاعب التي تعرض لها محفوظ بسبب أعماله الأدبية فقط بل امتد الأمر إلى مواقفه السياسية أيضا

حيث البيان الذي وقع عليه مع عدد من الأدباء على رأسهم توفيق الحكيم الذي رفض حالة اللا سلم و اللا حرب

في أوائل العام 1973 .

تم منعه من الكتابة في الأهرام و منع إذاعة أفلامه في التليفزيون إلى أن صدر قرر بالعفو عن الموقعين على البيان.

 إلا أن رغم كل هذا يقول محفوظ :

استطيع أن أقول و أنا مرتاح الضمير أنني قلت كل ما أريد قوله في أعمالي الروائية و عبرت عن كل الاَراء خلال فترة حكم عبد الناصر حتى عن طريق الرمز .

                                

فن السرد وفضاءات الفنون

عاطف محمد عبد المجيد

في بداية مقدمته لكتابه ” نجيب محفوظ..السارد والتشكيلي ” الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، يؤكد الكاتب أشرف أبو اليزيد الدور الاستثنائي الذي أدّاه الروائي الكبير نجيب محفوظ، وأثر به في الثقافة العربية المعاصرة، وهو دور تخطّى حدود فن السرد الأدبي إلى فضاءات الفنون التي تماست معه.

                              هنا يخص أبو اليزيد بكتابته فن التشكيل والذي يعتقد أنه لم يكن أقل تأثيرًا بأدب هذا السارد الفذ، ولا يقصر الحديث على التشكيل بحدود التصوير الكلاسيكي، بل ينطلق إلى الفنون الأخرى المرتبطة به والدائرة في فلكه، كالحفر والرسم والكاريكاتير والشرائط المصورة والنحت وصولاً إلى صناعة الكتب وتصميم أغلفتها وملصقات الأعمال الفنية والفعاليات الثقافية، بل والرسوم الجدارية.أبو اليزيد يذكر هنا أن فكرة هذا الكتاب قد بدأت مع نشر مقالة في العام 2006 رأى فيها أن يبحث عن مساحة لم يتطرق إليها النقد في دراسة أعمال هذا الأديب الكبير، وقد بدت له باحة الفن هي الأرحب والأجدر بالتفاتة عميقة شكلت منذ وقتها تحوّلاً كبيرًا في رؤيته لعالم نجيب محفوظ الروائي.بداية يقول أبو اليزيد إن الحديث عن الفن في أعمال السارد التشكيلي نجيب محفوظ يمكن أن يمتد فتكون له بداية لا نهاية، ولكن ذلك سيكون انصياعًا للرصد والإحصاء والتدليل والتمثيل، أكثر من كونه داعيًا لإعادة القراءة ولذة الاكتشاف، التي يتمناها لكل من ينتهي من قراءة هذا الكتاب ومشاهدة لوحات هذا الألبوم.  وعن رسوم الفنان حسين فوزي لرواية أولاد حارتنا التي كانت تُنشر مسلسلة في جريدة الأهرام، يقول أبواليزيد إنه قد أفلح في بناء شخصيات لا تحتاج لمراجعة صورها لنرى التطابق أو نكتشف عدم التطابق بين تلك الشخوص، فلعل فوزي عامل كل لوحة كمشهد مستقل، استلّه من قلب النص لينشيء به نصًّا له قوامه المنفصل والمتصل، على حد سواء، بباقي النصوص.كما يذكر أن فوزي التزم بالتفاصيل التزامًا أمينًا وبالغًا في دقته حتى كأنه يصور المشهد سينمائيًّا ولا يرسمه فحسب.أيضًا يقول الكاتب إنه لا يأتي أحد على ذكر روايات نجيب محفوظ إلا ويذكر الرسام الأشهر لأغلفتها والأكثر انتشارًا وهو الفنان جمال قطب.

رسام محفوظ

لقد كانت علاقة قطب، كما يحكيها في حوار له بعد وفاة نجيب محفوظ مع الصحفية مروة مجدي، قد بدأت منذ كان يعمل في دار الهلال وعرض عليه عبد الحميد جودة السحار أن يتعاون معه في ” دار مصر للطباعة والنشر ” وهكذا تعرّف قطب على نجيب محفوظ وهو الذي رسم أغلفة كل رواياته ومجموعاته القصصية.الكاتب يقول كذلك إن قطب لم يحب لقب ” رسام محفوظ ” رغم أن محفوظ هو أديبه المفضل لديه، لأنه يرى أن هذا الوصف مخالف للواقع، كما أن محفوظ لا تعجبه مثل هذه التعبيرات، كما يؤكد على لسان قطب أن محفوظ لم يتدخل في رسومه ولا لمرة واحدة، وكان يقول له إن لكل مبدع مؤلفاته ورؤاه الخاصة به، ومن حقه أن يبرزها، غير أن قطب لم يُظهر أبدًا رؤيته الخاصة في رسوم أعمال محفوظ الأدبية بصورة تتعارض أو تختلف كثيرًا عن عالمه.كذلك ينقل أبو اليزيد عن قطب قوله إن الكتاب رسالة إنسانية وثقافية، لكنه أيضًا سلعة تجارية، وإذا لم تتوافر فيها شروط الجاذبية يصعب أن تحقق النجاح، ويركد توزيع الكتاب، وبالتالي تفشل المهمة الثقافية والرسالة التي يحملها.قطب كان يرى أنه يرسم للناس البسطاء ولذلك يجب أن يكون أسلوبه مفهومًا لديهم خاصة وهو يختلف عن فنان المعرض.          الكاتب يقول كذلك إن أدب نجيب محفوظ مكّن الفنانين من أن يلجوا أبواب الفن التشكيلي من أوسعها ليغترفوا من فحوى الصور الأدبية المنتمية إلى تربة الوطن وبيئته الشعبية التي رسمها حروفًا فكر محفوظ، الأمر الذي أحدث توازنًا ثقافيًّا بين الأدب والفن.هنا أيضًا يقول إن محفوظ قد اعترف لمترجمه ذات اتصال بينهما أنه في أزمنة اللا يقين انتكس إلى أقصى درجات الرمزية، وسيلة لوضع الحقائق المؤلمة في قالب أدبي، ولكن حين كان يجد صعوبة في هذا النهج التحويلي، فإنه كان ينزع لابتكار نماذج أدبية في اتجاهات ذات شكل ومسعى جديدين.كذلك يذكر الكاتب أن الفنان سيف وانلي لخص شعر نجيب محفوظ الروائي بالخطوط البسيطة الصريحة وبالمساحات اللونية الكريمة التي تبوح بغزارة المعنى، غير أنه اختار في الوقت نفسه ألوانًا تعبر عن جوانيات الشخصية، بتقلبها حينًا وتناقضها حينًا آخر، وانفتاحها على التجدد أحيانًا أخرى.لقد قرأ وانلي، على حد قول الكاتب، شخصيات محفوظ، وكأنه يستمد الإلهام من نبعين، أحدهما مزدحم جارف كحارة في قاهرة محفوظ، وثانيهما صاف وخلاب كبحر في اسكندرية وانلي.

التقنية الحديثة

في حوار له مع الكاتب يقول الفنان الكبير حلمي التوني إن التقنية الحديثة صارت وبالاً، والأداة سيطرت على المضمون، لأن ضعف الموهبة يتم تغطيته بالتقنية، فالبهارات التقنية حيلة العجزة، وملجأ الفقراء، لكنه يؤكد على أن الإنسان أهم من الآلة التي لن تقدم جديدًا بصريًّا بدون رشاد وموهبة الإنسان.التوني قال ذلك ثم ابتسم وهو ينظر إلى نساء لوحته مضيفًا: مثل امرأة لا تتقن الطهو وتضيف كثيرًا من السمن، أو كمًّا هائلاً من السكر لتخفي به عيوب الوجبة التي تقدمها لك!

وبعد أن يتحدث أبو اليزيد عن علاقة رسومات حلمي التوني بروايات نجيب محفوظ يصل إلى أن يقول إن مصرية التوني التشكيلية قد أعادت تفسير مصرية محفوظ السردية بصريًّا، حتى أن نكهة أحدهما لم تتفوق على الآخر، ولم تغالب مكانة الفنان الأديب، وإنما هناك نهل متبادل، لأن المعين واحد.أبو اليزيد متحدثًا عن محفوظ يقول إن محفوظ أعاد مرات كثيرة تشكيل سرده، لنجده يثور على الصيغ التي آنسها وآلفها، ليقدم ثورة ذاتية، تنهض بشكل أدبي جديد، وهكذا فعل في عملين مهمين معاصرين وهما أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة.كذلك يورد الكاتب، على لسان التوني، ما قاله في تقديمه لمعرض الفنان محمد حجي منذ سنوات بالكويت إذ قال إنه في العصر الحديث كانت العلاقة الحميمة بين الأدب والفن سببًا أساسيًّا في ظهور المدارس الحديثة في كليهما، وأبرز مثال على ذلك العلاقة التبادلية بين شعر أندريه بريتون مؤسس الحركة السريالية ومُنظّرها ولوحات الفنانين السريالين، ومن أبرزهم سلفادور دالي.

المعادلة الصعبة

ومتحدثًا عن مشروع الفنان صلاح عناني، يقول الكاتب إن الناقد والفنان صلاح بيصار يرى أن التشكيلي صلاح عناني قد حقق المعادلة الصعبة التي أسقطت الحاجز بين الإبداع والمتذوق العادي، وذلك من خلال أسلوبه الخاص الذي امتزجت فيه صور الحياة اليومية بالجانب التعبيري الأسطوري.هذا وتمثل أعمال عناني مساحة من النبض الحقيقي لروح الشعب المصري، تتجاوز التعبيرية النقدية إلى التعبيرية الهزلية والتي تتعانق فيها الملهاة مع المأساة، أو يمتزج فيها الجد بالهزل وتتوحد الدراما مع الكوميديا.وعن رؤية الناشر الجديد لأعمال محفوظ المترجمة  قائلاً بأن رسوم جمال قطب تقليدية وقد تسيء إلى الروايات حيث إنها تشبه أغلفة الروايات الشعبية في الغرب، يقول الكاتب إن التأويل الأجنبي لعالم محفوظ كان يستمد جذوره من تلقي القاريء البصري للسرديات في العصر الحديث، فكثيرًا من الروايات اليوم لا تفسر الرواية بصريًّا، تاركة الخيال جامحًا بخيله إلى آخر المضمار، يقوده القاريء أو الناقد حيث يشاء، لكن ذلك لم يكن مناسبًا حين قُدم عالم محفوظ إلى القاريء العربي قبل عقود. هذا وإلى جانب غوصه في عالم نجيب محفوظ ساردًا وتشكيليًّا، يضم أبو اليزيد في كتابه هذا إلى جانب مقالاته عددًا من اللوحات التي صاحبت أعمال نجيب محفوظ، وكذلك صورًا لبعض أفيشات أفلامه، وعددًا من الأعمال التشكيلية الملونة.  

     

أنا نجيب محفوظ

سيرة ذاتية لم يكتبها نجيب محفوظ

 مرفت يس

الصدق والاعتراف يحتاجان لشجاعة كبيرة لا تتناسب مع مجتمعاتنا، فحياتنا الاجتماعية لا تتحمل الصراحة، بل تفضل دائما الأمور المحسنة أو المعدلة، بينما تكمن ميزة السيرة الذاتية في صراحتها، وأن يكون كاتبها صادقًا وهو يقدم نفسه للناس  حتى لو كانت هناك أشياء مؤلمة أوقاسية فلابد أن يعترف بها بكل الصدق والصراحة، ونحن لا نعترف بأدب الاعتراف لأننا بالفعل نطلب في مثل هذه الأعمال مراعاة العادات والتقاليد والأخلاق، وغيرذلك بدعوى أنها أمور مطلوبة في العمل الأدبي، حتى يكون صالحًا للنشر، ويقرأه الصغير والكبيرفي آن واحد.      أما السيرة الذاتية عند أدباء الغرب فكثيرًا ما تكون اعترافات يميطون فيها اللثام عن مساوئهم التي تصل إلى حد الخطايا لا الأخطاء، لأن الثقافة الغربية لا تجد غضاضة في مثل هذه الصراحة، أما في أدبنا العربي فلا نجد كاتبًا سجل ما ارتكبه من آثام، باستثناء محمد شكرى في ” الخبز الحافي” لأنهم محكومون بالتقاليد والأعراف الاجتماعية والدينية، خشية نبذهم من المجتمع والتعرض للكثير من المشاكل.السيرة الذاتية تحتاج إلى الصدق والصراحة وإذا لم يستطع الكاتب ذلك فالحل  الذى يتجه إليه أغلب الكتاب في عالمنا العربي هو أن تتحول السيرة الذاتية لعمل فني تتوه فيه الأسماء والشخصيات لتبقى سرًّا مدفونًا، وربما هذا هو السبب الحقيقي الذي من أجله لم يكتب نجيب محفوظ سيرته الذاتية.

في مقدمته لكتابه  أنا نجيب محفوظ:  يقول الكاتب الصحفي إبراهيم عبدالعزيز” وقد شغلتنى كما شغلت الكثيرين من محبي الأستاذ نجيب محفوظ وعارفي فضله على الأدب العربي قضية: كيف لا يكون لمن حصل لهذا الأدب على الاعتراف بعالميته، سيرة ذاتية؟ إنها خسارة وأية خسارة؟ ولكن ماذا نفعل وللأستاذ أسبابه الخاصة والعامة، فإذا كان المجتمع لم يحتمل نشر رواية له هي ( أولاد حارتنا ) والممنوع طباعتها في مصر، وكاد أن يغتال بسببها، مع أن الأجانب الذين منحوه جائزة نوبل قد قرأوا موضوعها على أنه البحث الأزلي للإنسان عن القيم الروحية، فما بالك بقصة حياة كاتبها، وكيف يستطيع بصدقه وأمانته مع نفسه أن يواجه المجتمع بظروفه وقيوده “.

يمتاز هذا الكتاب  بخصوصية عن بقية الكتب التي تم تأليفها عن نجيب محفوظ، وذلك لاعتماد الكاتب في جمع مادته على عشرات الحوارات التي أجريت مع نجيب محفوظ على مدى سنوات عمره، والكثيرمن الكتب والمقالات أيضًا التي استطاع أن يستخلص لنا منها سيرة ذاتية مياشرة لمحفوظ، بلورها في سياق متصاعد منذ الطفولة حتى أواخر أيامه.

لذا فهو ينضم إلى قائمة المراجع المهمة التي تؤرخ لهذا العملاق بتتبع سيرته الذاتية التي بثها في أقواله وأحاديثه وتصريحاته على مدى سنوات عمره واصفًا إياها بصورة ممزقة إلى قطع صغيرة وفتافيت مبعثرة، عمل على جمعها  ليرسم صورة لأديبنا العالمي تراعي قدر الإمكان تسلسل مراحل حياته من الطفولة إلى الكهولة وما حفلت به من كفاح أدبي وتشابك مع قضايا المجتمع وهمومه وآحداث الوطن بآماله وانتصاراته وانتكاساته، حريصًا على أن يكون المتحدث الوحيد فيه هو نجيب محفوظ نفسه.

لذا يفتتح الكاتب كتابه بمقدمة لنجيب محفوظ تعقبها شهادة لتوفيق الحكيم عن نجيب محفوظ واصفًا إياه بـ  ” أبو ” الرواية.

ثم مقدمة للكاتب نفسه يسرد فيها  كيف أن نجيب محفوظ كتب سيرته الذاتية وقام بتمزيقها واصلاً بنا إلى مرحلة من اليأس والإحباط على حد قوله، لأننا فقدنا هذه السيرة المخطوطة بخط نجيب محفوظ نفسه،  لهذا  عزم على كتابة سيرة نجيب محفوظ ما دام لم يسجلها هو بنفسه.

الأغاني

 لم يحرمنا محفوظ من  ملمح مهم في حياته،  حين أرخ لها  بأشهر الأغاني التي سمعها منذ الطفولة إلى الشيخوخة مرورًا بالمراهقة، فالأغاني من وجهة نظره تدون السيرة الذاتية في ملحمتها المتفردة، وذلك كما قدمت لها الأدبية سناء البيسي على صفحات مجلة نصف الدنيا، وتنبع أهميتها من اعتراف نجيب محفوظ بها، وهى المرة الأولى والأخيرة التي أكد فيها بقلمه وخطه أنها سيرة ذاتية لحرفوش من الحرافيش كما دونتها الأغاني، ودونها الكاتب في كتابه خوفًا عليه من الضياع الذي يصيب غالبًا أي نص ينشر في الصحف.

طفولتي وصباي وأحلامي

في هذا القسم من الكتاب يورد الكاتب أحاديث محفوظ  عن ميلاده وذكريات الطفولة بالحسين والعباسية وألعاب الشارع وذكريات شهر رمضان وعشقه للسينما ومرحلة بدايات القراءة، ومرحلة الدراسة بمدرسة فؤاد الأول وبدايات تذوقه للسياسة في الفترة مابين 1925:1930 واشتراكه في حزب الوفد وفضل معلم اللغة العربية الذى وجهه لقراءة الأدب والتراث ولم يكن يتقيد بالمنهج في حثه على القراءة ثم النشر في الصحف وكتابة المقالات وشغفه بالموسيقى  وأحاديث عن حب الفن التشكيلي.

نقاط مهمة في حياة نجيب

تحدث نجيب عن ثلاثة نقاط فارقة أو توقفات في حياته:

* التوقف الأول

 كان عن استكمال دراستة الفلسفة واختياره للأدب يقول: ” كان لابد أن أختار بشكل نهائي وحاسم ،وكان أن اخترت الأدب”

 وعن أثر الفلسفة يقول: ” علمتنا ألا نتسرع في الحكم، ونتأمل الأشياء، وكيف نتسامح لدرجة غير مخلة، لأن لكل شيء أكثر من وجه، وكل موقف له وما عليه، علمتنا الفلسفة النظرة الكلية للأشياء، ننظر للشجرة وننظر معها للحديقة، وفي أشد الأزمات تعقيدًا كانت الفلسفة تعطينا قدرًا كبيرًا من العزاء العقلي ثم لماذا أغفل فضل الفلسفة على كتاباتي؟

*مرحلة التوقف الثانية:

 حيث تحدث عن ميله  لكتابة التاريخ وكان قد هيأ نفسه لكتابة تاريخ مصر القديمة كله في شكل روائي على نحو ما صنع ” وولتر سكوت في تاريخ بلاده، وأعد بالفعل أربعين موضوعًا لروايات تاريخية، كتب منها ثلاثة بالفعل هي ” عبث الأقدار” و”رادوبيس” و” كفاح طيبة”.وفجأة إذا بالرغبة في الكتابة تموت في نفسه 

*مرحلة  التوقف الثالث

 وبعد التوقف عن الكتابة التاريخية وجد نفسه يتحول إلى الواقعية في القاهرة الجديدة وظل غارقًا في هذه المرحلة حتى الانتهاء من الثلاثية في إبريل عام 1952وبقيام ثورة يوليو توقف عن الكتابة في هذا الاتجاه الواقعي النقدي بموت  الدافع عنده للاستمرارية وتصور وقتها أنه أنهى مهمته كأديب، فكان التوقف الثالث.

الأساتذة

أما عن أساتذته فيذكر  فضل توفيق الحكيم واصفًا إياه بالمعلم الحقيقي للأشكال الأدبية الحديثة، يقول: أنا تعلمت في الجامعة الفلسفة، ولكن تعلمت الأدب الحقيقي في أدب توفيق الحكيم “ومن كثرة اعتزاره بفضل الحكيم أورد الكاتب حديثًا في فصل كامل عن جائزة نوبل قائلا:

” واعتقد أنه لو كان الحكيم حيًا – عندما اتجهت الجائزة نحو العرب أخيرًا- لكانت قد أعطيت له… ولو كان الله قد شاء أن يمد في عمره لكانت جاءته قبل أن تأتيني…”

أما عن العقاد يقول: إنه خلق عنده غريزة، أولها قيمة الأدب كفن سام لا وسيلة تكسب، وكيف كان يرتفع بالفن إلى مستوى الرسالة المقدسة، وثانيها أهمية الحرية في الفكر وفي حياة الإنسان عمومًا، وتحدث عن نبوءته التي تحققت بأن نجيب محفوظ يستحق نوبل.

ولا ينسى مرحلة التأسي الأولى بلغة طه حسين والمنفلوطي في كتاباته التي لم ينشرها.

أنا والثورة

القسم الثاني من الكتاب يذكر فيه الكاتب على لسان محفوظ علاقته بالثورة وبعبدالناصر والسادات من بعده:

“ولقد تصديت لنقد الزعيم الراحل، من موقع الانتماء إلى ثورته، مقرا في الوقت ذاته بتراثه الثوري العظيم. وما تصورت فيه من نقص فهو النقص الذي يلحق لسوء الحظ بكبار الرجال لا النقص الذي يقع فيه ضعاف النفوس ممن تغريهم الدنيا “

في هذه المرحلة من عام 1952: 1957 توقف عن الكتابة بعد أن فقد رغبته في فيها بشكل مفزع، وتحول فيها إلى كتابة السيناريو.

أما بخصوص مرحلة العودة للكتابة اعتبرها البعض معارضة للثورة، بينما اعتبرها هو بمثابة دعوة للديمقراطية التي لم تحققها ثورة 52على الرغم من أنها في نداءاتها ومبادئها كان أهم مابشرت به.فكانت “ميرامار” تعرية للتسيب ولذلك اعتبرت نذيرًا للهزيمة:

” ثرثرة فوق النيل” تحدثت عن عزلة المثقفين والشعب عن المسئولية.

” الحب تحت المطر” صورت التناقض الحاد بين حارة ومدينة غارقة في اليأس.

“الكرنك” جهاز الرعب الذي اقتلع روح أبناء الثورة.

“شهر العسل “: ووجوب التغييرالجذري.

وقصة “الخوف “التي يقول عنها إنها واقعية عن ضابط أدّب فتوات الحسينية، والرمز هنا للثائرالذي ما إن يجلس على الكرسي حتى يتحول إلى تقمص الاستبداد الذي ثار عليه، إنها تتحدث عن طبيعة إنسانية، وتكشف نوعًا من الثوار هم في أعماقهم مستبدون كالذين يحاربونهم.

وعن علاقته بالسادات يقول:

” ليس هناك تأييد مطلق ولا معارضة مطلقة، أنا كنت مع السادات قلبًا وقالبًا في السادس من أكتوبر وطذلك في محاولته من أجل السلام، لم أكن ناصريًّا ولم أصبح ساداتيًا، أنا وطني مصري ولم أتغير.”

 وتحت عنوان كيف أكتب، يتطرق نجيب محفوظ عن رحلته مع الكتابة وتجريبه لكل أنواع الكتابة واستفادته من كتابة السيناريو كثيرًا من حيث الوعى بالإيجاز والتكثيف والاقتصاد في القول وما له من مردود حيوي على العمل الفني.

أصدقاء محفوظ

هذا الفصل بمثابة رحلة ممتعة عن الصداقة ، وهي من أكثر السعادات التي يحظى بها الإنسان في حياته …هى نوع من الحب النقي، بل أكثر نقاء من الحب المألوف وأكثر دوامًا…وتنوعت مراحل الصداقة في حياة محفوظ  فهو يجمع بين ثلاثة أجيال من الصداقة: الجيل القديم أصدقاء العباسية، وجيل الحرافيش، وجيل قهوة ريش.

هنا يحدثنا عن دور المقهى في حياته وتنقله بين الكثير من المقاهي، منذ سنوات الدراسة الأولى حيث كان يجلس مع والده على قهوة ” الكلوب المصري” ثم مرحلة الثانوي وارتياده المقاهي مع أصدقائه من قشتمر لمقهى إيزيس،  ومقهى عرابي الذى كان يرتاده أكابر العصر، مرورًا بسيدنا الحسين، ومقهى الفيشاوي وسهراتهم فيها التي لا تدانيها أية متعة أخرى.

ويحكى عن مجلس الحكيم وجلسة بترو الصباحية، وعن أصدقائه الذين كان لقاؤهم نزهة روحية سنوية بالنسبة له، وهنا يحكي لنا عن أول يوم ذهب فيه إليها وكيف استقبله الحكيم وقتها:

” استقبلني الأستاذ بلطفه المعهود، ورأى بثاقب نظره أن يضيء لي السبيل فقال لي: ممكن أطلب لك فنجان قهوة على حسابي وستضطر أن تطلب لي غدًا فنجانًا على حسابك، بدلا من ذلك التعب فليدفع كل حسابه بنفسه. فقلت له: إذا كان ما يمنعك هو خوفك من أن أضطر أن أطلب لك فنجان قهوة غدًا فإني أعدك ألا أطلبه، وممكن تطلب لي الفنجان وأنت مرتاح. ولكنه ضحك وقال: وهل يعقل هذا وأنت باين عليك طيب وابن حلال، اطلب القهوة على حسابك، وقد حصل ومن يومها وأنا أدفع ثمن قهوتي وطلبات ضيوفي طبعًا، بل كذلك طلبات ضيوف الحكيم العموميين أي المعجبين، وارتاح الأستاذ لذلك وقربني إليه وغمرني بعطفه”. 

نجيب والمرأة

المرأة : الحب والزواج

يعترف محفوظ بأن شخصية كمال عبد الجواد في الثلاثية هي شخصيته وتتشابه إلى حد كبير مع قصة حبه الأول.أما عن المرأة في عالمه فهى مفتاح التطور الفني والأدبي بالذات، وعلاقتها بالرجل عنصر جوهري في كل عمل فني، ولذلك فإن الزاوية التي يُنظر منها إلى المرأة في العمل الأدبي تصبح مقياس الكشف عن موقف الكاتب من التطور، وعن زواجه من زوجته  عطية الله يقول:

” كانت زوجتى خير معين لي على رحلتي مع الكتابة، إذا كانت تقوم بالوجبات الاجتماعية بدلاً منى وبذلك تعفيني من الحرج، وتتيح لي أن أكتب، فأنا أكتب، وعندما أكتب أقوم بذلك في وقت معين، وقد يحدث أن يجيء زوار من الأهل مثل أخي أو أختى وأنا أكتب، فكانت زوجتي تجلس معهم، حتى لا أنشغل عن الكتابة”.

أما المرأة المومس فقد تناولها ليضرب بها نماذج في المجتمع تتسم بالعهر الفكري أو الدعارة السياسية، ومعنى هذا أنه حاول القول بأن المومس مضطرة غالبًا، أما الأشكال الأخرى للبغاء الفكري والسياسي فما هي حاجة أصحابه إليه؟           المقارنة ستتولد تلقائيًّا عند القارىء في مجرى الأحداث حتى أنه قد يفاجأ بأن المومس في طبيعتها مثلا في ” السمان والخريف ” هي أقرب إلى الرمز السياسي، وأحيانًا تصبح في حالة عشق حقيقي كما هو في حالة  نور في اللص والكلاب.

جائزة نوبل

ولأهمية حصول محفوظ على جائزة نوبل، يكون من الصعوبة بمكان عدم ذكرها في أي كتاب يتعلق بسيرته أو بحياته أو حتى بما يخص كتاباته:

” إننى سعيد لأننى كسرت القاعدة…التي تقضي بأن الحصول على أي شىءالآن _ دع عنك هذه الجائزة_ إنما يقتضي مسلكًا خاصًا يقوم على قاعدة انتهازية وعلاقات عامة واتصالات دائمة بهنا وهناك، أنا لا أقول إنني وضعت جديدا، أقول فقط إننى كسرت القاعدة السائدة وقدمت درسًا لكل المجتهدين والجادين”

ويختتم الكاتب كتابه هذا بحديث للسيدة عطية الله تتحدث فيه عن زوجها  نجيب محفوظ وعن رحلتها معه منذ عام1954 وأهم المحطات في حياتهما، وتنقلاتهما إلى جانب طقوسه في الكتابة والقراءة ومقابلة الأصدقاء.

أضف تعليق