“سِفر الفقراء” – قصة لـ “مصطفى يونس”

1

عدت من أورشليم إلى بلدتي لا شيء أحمله بين يدي سوى الخيبة. فشلت تماماً فيما كنت آمل فيه، وتوارى حلمي إلى الأبد.
فبالرغم من نسبي النقي إلى آل هارون الذين اختصوا بالكهانة وحفظي للتوراة وحسن سيرتي وعلمي بالدين الذي حصلته على مدى سنوات، غير أن كل هذا لم يشفع لي لأحقق حلمي. حتى نقاء الدم والسلالة لم يعن شيئاً البتة.

 لا شيء يمكن أن يجعل مني أنا – ابن الصياد الفقير- كاهناً أو حتى خادماً أو تلميذاً في أروقة الهيكل. وكل ما ادخرت قبل سنوات لتلك الرحلة نحو حلمي أيضاً كان قد تبدد..
كان لابد أن أعود لبلدتي، وأبدأ من جديد متناسياً كل شيء ..
استغرق ذلك وقتاً لا بأس به، لكنني في النهاية نجحت أن أدفع نفسي للمضي قُدماً بالرغم خيبة أملي.

 اشتغلت بالصيد، وساعدني في ذلك القارب الصغير الذي ورثته عن أبي، وما هي الا سنوات حتى كان لي دارا وزوجة طيبة وحياة مستقرة.
ولكن الأمر كان مسألة وقتٍ حتى يدق الألم والحزن بابي، ويمزق قلبي من جديد. لقد ولدت طفلتي الأولى بقدمين كسيحتين.
طفلتي..
صغيرتي الجميلة ذات ملامح الملائكة، التي لا تخطئ طهارتها وبراءتها عين. أي طعنةٍ تمزق كبدي كلما نظرت في عينيها الحزينتين وهي تتابع لهو من هم في سنها.
الحقيقة أنني لم أدخر جهداً وحاولت لسنوات وبشتى الطرق أن أستجلب لها الشفاء، ولكن كل ما انتهيت له بأن الأمر يحتاج لمعجزة.
وكانت المعجزة.. يوحنا!

2

في الليلة التي وصلت فيها إلى شاطئ طبرية حاملاً ابنتي بين يدي أملاً في شفائها. كان خبر مقتل المعمدان وقبلة “سالومي” لشفتيه الميتتين يملأ الدنيا ضجيجاً وحزناً وألماً.
والآن أي معجزةٍ تُرجى وقد قُتل المعمدان؟!
الزمن يضن على الفقراء بكل شيءٍ سوى الحزن والألم..
عدتُ إلى بلدتي مرةً أخرى وفي حلقي مرارةً أقسى من تلك التي كانت في عودتي الأولى. كنت هذه المرة حاملاً بين يديَّ فلذة كبدي التي توارى عنها أملي وأملها في الشفاء..

3

ولما بلغني خبره؛ طرتُ فرحاً. قلبي حدثني أنه الأمل الوحيد الباقي لطفلتي الحبيبة، وهرولت أنهب الطريق نهباً نحو “الناصرة” بحثاً عنه، ولكنني حين وصلتُ عرفت بأنه خرج منها.

لم أقطع الأمل. لقد كان من المستحيل أن أتصور العودة لبيتي خاوي الوفاض بعد كل تلك الأمنيات الدامعة التي ودعتني في عيون زوجتي وابنتي الصغيرة؛ لذا لم ينثن لي عزمٌ، وتبعت أثره من قريةٍ إلى قريةٍ أتصيد أخباره.

حظي لم يكن جيدا بما يكفي لألحق به، ولكن في كل مكان كانت تتوارد إلىَّ القصص. هنا أحيا ميتاً، وهنا شفا مفلوجاً، وهنا أخرج من أحدهم سبعين روحا شريرةً. كلما سمعت زاد جدي وحماستي في تتبعه، حتى أتيت أورشليم، و قيل لي أنه نزل بها، بل سمعت عن أنه دخل وطرد الباعة من الهيكل ووبخ الكهنة.

في الحقيقة لقد توجستُ من كل ذلك خيفة، الكهنة لن يصمتوا على انتهاك قداستهم ونفوذهم على هذا النحو. كدتُ شبح النهاية يحيط بالمعلم الصالح صاحب المعجزات.
أُشهد الرب أنني لم أجلس للحظةٍ منذ وطأتُ بقدمي أرض أورشليم حتى توصلت لمكان مكوثه. كان يجب أن أحذره، بل لعله إذا وافق أن يصاحبني عائدا ليبارك ابنتي، ويشفيها ويكون في ذلك نجاةً لكليهما.
وعلى بابه قابلني تلميذ له يدعى “يهوذا”، لم أسترح أبدا له، وعاملني بجفاءٍ واضح.

قال لي بأنه نائم، كان يصلي طوال الليل، بل إنه نهرني حين ألححت في طلب مقابلته.

أهكذا يعامل الفقراء من أمثالي ببابك أيها المعلم الصالح؟!
أيطردوننا هكذا كأننا ذباب؟!
طفقت عائداً، ودموعي تتحجر في عينيَّ. لا أمل في مقابلته. لقد كنت مستعداً لأسكب كل دموع عيني بين يديه حتى الدم، وأن أصير عبداً ذليلاً وتابعاً مطيعاً طوال عمري لو أنه فقط منح ابنتي الشفاء، ولكن ها هي رحلتي تنتهي دون فائدة، وأعود لابنتي الحبيبة منكسراً من جديد. انكسر أملي وأمل أهل بيتي. 
طوال الطريق خارجاً من أورشليم القاسية كنتُ أبكي بصوت عالٍ كالأطفال، وأستجدي العابرين، ولكن أحدا لم يبال بي، ويرحم مرض صغيرتي الحبيبة أو حتى يوافق أن يتوسط لي لأمثل بين يديه.
تركتني أورشليم لأعود لابنتي بلا شيء سوى الخيبة..
خرجت منها أسير مشتت العقل، مصدوماً، شارداً، والحزن يعتصر كل خلجةٍ في نفسي.
وما هي إلا أيام حتى وصلني الخبر، ولم أكن قد وصلت لبلدتي بعد.
صلب أهل أورشليم الرجل الصالح بوشاية من تلميذه الخبيث.أطرقت في حزنٍ، وتركت الدموع تتساقط تحت قدمي في صمت.

ها هي أورشليم مرة أخرى تجهز على كل أمل..
أما ابنتي، فمازالت مريضة، ومازالت تأمل في معجزة..

أضف تعليق