مقاربات نقدية لحضرة المحترم                        د.محمد السيد إسماعيل

    

فى قراءة لى حول شعر محمد عفيفى مطر ذكرت أنه من المهم التعامل مع دواوينه الكثيرة باعتبارها نصا شعريا واحدا تتضح دلالاته أحيانا حتى تصل إلى حدود المباشرة كما فى ديوان ” شهادة البكاء فى زمن الضحك ” أو تجنح إلى الغموض الذى يحتاج جهدا نقديا واعيا لفك شفراته ومجازاته وصوره المركبة .

كان هذا – ولا يزال – طموحا نقديا لم أستطع الوفاء به إلى الآن لهذا كانت سعادتى بالغة حين رأيت المبدع المتميز والناقد المختلف سيد الوكيل يقوم به مع سردية نجيب محفوظ بتنويعاتها الروائية والقصصية فيما يمكن أن نطلق عليه آلية التجاوب الممثلة فى انتقالات بعض الرؤى – أو الشخصيات – من عمل إلى آخر بزوايا مختلفة وأكثر عمقا مستهديا بمقولة شاكر النابلسى التى صدر بها كتابه ” مقامات فى حضرة المحترم ” الصادر حديثا عن مؤسسة بتانة حين يقول النابلسى :” الكتابة عن أى رواية من روايات نجيب محفوظ لا يمكن أن تتم بتكوينها الأمين إلا من خلال أعمال نجيب محفوظ ككل ، كذلك الحال مع جميع الروائيين العظام والشعراء العظام والفلاسفة العظام ” وتفسير ذلك – فى تصورى – أن أعمال نجيب محفوظ ليست مجرد رد فعل لأحداث واقعية بل تنطلق من قضايا وجودية تتعلق بمصير الإنسان ووضعيته وانشطاره مابين نوازعه المتعارضة : الجسدية والروحية والعقلية وتوزعه مابين أصله السماوى وحياته الأرضية وفى هذه الحالة تصبح الأحداث الواقعية المباشرة – التى لم يتخل عنها نجيب محفوظ فى كل أعماله – مجرد مثيرات أولية تدفعه إلى تأمل ذلك الكائن العجيب المسمى بالإنسان الذى لايستريح لشىء ويظل فى رحلة دائبة بحثا عن معنى لوجوده من هنا يرفض سيد الوكيل التفسيرات التبسيطية التى قدمها نقاد الواقعية الاشتراكية التى حاولت تأطير هذه العوالم المتسعة والمركبة فى مجموعة من المقولات النهائية الحاسمة التى تبدو فى قراءة عبد المحسن طه بدر لمقالات محفوظ ” احتضار معتقدات وتولد معتقدات ” وخلص منها إلى أربع أفكار مركزية قال إنها لم تغب عن كتابات محفوظ بعد ذلك وهى ” حياة البشر محكوم عليها بالتطور والتغير والتطور شر لا بد منه – الإنسان بطبيعته مؤمن – التوسط بالاشتراكية بين الرأسمالية والشيوعية – مستقبل الإنسان مظلم ” والحقيقة أن الأفكار الجامعة المانعة – أو المركزية بتعبيرات عبد المحسن بدر – هى آخر ما ينبغى أن يبحث عنه الناقد فالكاتب – أى كاتب – لا ينطلق من أفكار مسبقة جاهزة ناجزة باحثا عن تشكيل جمالى لها فغالبا ما يأخذ العمل الغبداعى مسارات لم يقصدها الكاتب ابتداء ونصبح أمام انتقال من أيديولوجية إلى مايسمى أيديولوجية الكتابة وينقسم الكتاب – بعد مقدمة المؤلف – إلى ثلاثة مقامات هى : مقام الأسرار ويتحدث فيه عن رحابة السرد ومعنى النوع فى سرد نجيب محفوظ والعنف النقدى فى قراءته ومقام الكمال ويتناول المعنى الوجودى للواقع وتجليات الوجود الإنسانى فى روايتين هما ” قلب الليل ” و” الشحاذ وأخيرا مقام الوصل الذى يتناول فيه سرد الأحلام من خلال ” أحلام فترة النقاهة “ولأننا أمام ناقد ومبدع فى الأساس يمكن وصف قراءته بنقد المعايشة الذى يلتمس التحولات القلقة والمتوترة فى سردية محفوظ كما أنها قراءة مكاشفة وتأمل لرحلة الذات ومقاربة لإبداعاتها حين يقول ” أعترف أن الخطوات الأولى التى قطعتها لم تكن سوى اقتفاء لخطوات الآخرين …لهذا أعتقد أن رحلة قلقى بدأت مع روايتى ” فوق الحياة قليلا ” ..هذه الرواية كان موضوعها ذاتى المبدعة فى حضرة ذوات عديدة لمبدعين آخرين ” إن العلاقة هنا علاقة ذوات مبدعة أكثر من كونها علاقة ناقد بنصوص روائية وقصصية و فى مقام الأسراريؤكد كاتبنا رحابة السرد المحفوظى وعدم التمايز الحدى بين القصة والرواية ويرى أن وجود الشكلين راجع – فحسب – إلى اختلافات وجهات النظر وأن كثيرا من القصص – فى بدايات نشأة السرد الحديث – كانت تنشر تحت مسمى رواية بل ” كان من المعتاد أن تطلق كلمة رواية على كل حكاية تحكى حتى لو كانت فيلما سينمائيا أو عرضا مسرحيا ” وطبقا  لأرسطو الذى كان يفرق بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل يقول سيد الوكيل إن كثيا من ” قصص محفوظ القصيرة فى امتدادها الزمنى وأثرها القرائى بقوة الرواية سواء فى عالمها المركب أو فضائها الدلالى ” وهى بهذا – أى القصة المحفوظية – خارجة عن النموذج التشيكوفى الذى تبناه يوسف إدريس فى كثير من قصصه .ما يرمى إليه كاتبنا هو أنه لا توجد سمات نهائية للقصة فبجانب النموذج التشيكوفى كان هناك نموذج مفارق للواقعية الاجتماعية قدمه حافظ رجب كما انبثقت مقولة الكتابة عبر النوعية برعاية ادوار الخراط وأن عددا كبيرا من روايات محفوظ قد استفادت من بناء القصة القصيرة ولغتها المركزة كما لاحظ أن حكاية الفتوة بيومى الفوال البذرة الأولى لعالم الفتوات الذى أورق ملحمة الحرافيش .إن أهم مايميز هذا الكتاب هو تحرره من تنظيرات الواقعية الاشتراكية التى تراوحت بين رفض محفوظ باعتباره كاتبا برجوازيا وحصره فى مقولات تسقط أيديولوجية الناقد على النص وفى تحرره من هذا يستفيد من المذهب الوجودى ومنجزات علم النفس فى قراءة بعض الشخصيات كعمر الحمزاوى بطل ” الشحاذ ” الذى ظن أن ثورة يوليو قد حققت أهدافه باعتباره ماركسيا قديما فاتجه إلى طموحه الشخصى وأصبح محاميا مشهورا واسع الثراء حتى يسمع جملة من أحد عملائه فتنقلب حياته رأسا على عقب وهى ” ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله يأخذها ؟ ” فتشكل له أزمة تتجلى فيما يسمى بالاكتئاب الوجودى .وأخيرا ينتهى الكتاب بالحديث عن سرد الأحلام الذى يسعى الى تصوير الواقع الداخلى للإنسان وهو ماتجلى فى ” أحلام فترة النقاهة ” لنجيب محفوظ وتبعه محمود عبد الوهاب فى ” أحلام الفترة الانتقالية ” وسيد الوكيل فى ” لمح البصر ” ومصطفى يونس فى ” ماوراء الجدار ” وشريف صالح فى “دفتر النائم ” بل وسبقه مصطفى بيومى بخمسة أعوام فى ” أحلام سرية ” .هذه سياحة نقدية واعية فى عوالم نجيب محفوظ التى تستحق الاحتفاء بها دائما   

أضف تعليق