مختار أمين.. “الخيال والتخيّل في القصص الحديث في مجموعة “قهوة بوتيرو” للكاتب حسام المقدم”.

الخيال والتخيّل في القصص الحديث في مجموعة “قهوة بوتيرو” للكاتب حسام المقدم

مدخل إلى المدخل:

  لفت نظري المدخل قبل قصص المجموعة المعنونة بـ “نقطة الثلج” وكأن حسام المقدم يحدث نفسه ككاتب.. يخاطبها خطاب صادق بأسلوب أدبي بليغ، يوجه لها رسالة يحفزها على الكتابة مهما كان مصير المكتوب، ومهما كان النهار في الظهيرة الصيفية بجفافه.. النهار الجحيمي حيث الغبار، والغباء، والغمّ، والغثيان، يحثها أن تدقق النظر في السراب الدخاني، حيث واحات النخيل والماء، والصحراء، والكثبان العظيمة المتموّجة، ويمنّيها رغم جفافها أن هناك بشائر الغيث، عندما يطلعها أن من عدة ساعات كان هناك فجر شاهد على لحظات فاتنة ساحرة بنسمة باردة رقيقة على مسام جلده، يتمنى من هذه المسام أن تمتصها وتختزنها ليستقوي بها على عريه الداخلي والخارجي من جحيم النهار.

  وكأنه في هذا المدخل اللازم من وجهة نظري قبل الدخول إلى عالمه القصصي لابد ليكشف لنا جين ودات الكاتب، وكأنه يقول للقارئ.. أنظر لدنيا قصصي كما نظرت أنا.. يرسل رسالة لنا جميعا أن الكاتب العصري الحديث في واقعنا المصري أو العربي جُبل على الانشطار إلى شطرين، يعيش حياتين، الحياة المفروضة أثناء النهار بجحيمها، وحياة تتمناها نفسه الداخلية مع إشراقات نسائم الفجر، لأننا ككتاب لم نعد منعزلين مثل كتاب ومفكرين وفلاسفة العصور السالفة من تاريخ الإنسانية، نكتب ونفكر ونفلسف ونحن في أبراج عالية منفصلين عن الناس والواقع من حولنا، لأن السالفين كانت حياتهم بسيطة ميسرة موفورة لهم بأدواتها البسيطة ومتطلباتهم المحدودة، أما الكُتّاب اليوم هم جزء عضوي أصيل لا ينفصل عن الحياة التي تدور وتلف عليهم بعجلاتها اليومية الصدئة التي تدهسهم دهسا في سبيل أن يحصلوا على أبسط أدوات المعيشة، لإن الإنسان الطبيعي لا يستطيع أن ينفصل عن ذاته الداخلية بتركيباتتها المعقدة، والواقع من حوله يمر عليه ويدهسه كل لحظة، لذا أرى أن كاتب اليوم المعاصر إنتاجه الأدبي أوقع وأفيد لأنه يسجل اللحظة ويطلق فيها خياله عابر الحدود، ولو كتب مجرّد شذرة أدبية عابرة..

  أننا أمام مجموعة قصصية هي تسجيل لمئات اللحظات الحيّة، وصراعها مع الخيال الجامح المأمول في الحلم، لتزرع داخل القارئ رؤية جديدة لإعادة ترتيب حياته، فلنستقرأ لحظات حسام المقدم التي هي مثل الدم الحيّ الذي يسري في جسد قصصه ليبث فيها الروح والحياة..

  فلننظر إلى الخيال والتخيّل في الأدب القصصي الحديث عبر مجموعة “قهوة بوتيرو” لنقف أول ما نقف على مدخل آخر لعالم هذه المجموعة من خلال العنوان  الفانتزي المتخيّل، قهوة بوتيرو هي قهوة تخيلية على قارعة الحياة، وهي تحاكي الواقع على طريقة الفنان الكولمبي العظيم: “فرناردو بوتيرو” ذلك الرسام والنحّات الذي جسّدت أعماله الفنية سخريته على الواقع من حوله، ورسم بورتيريهات لأشخاص الملوك، والأمراء، والكهنة، والجنود بأحجام كبيرة خيالية، وكانت إسقاطا يقارن بين الإنسان العادي الذي ملك أمره هؤلاء السادة لترسيم حياته، وهو محكوم بواقع محدد داخل إطار لا يبرحه حتى بأحلامه وخياله، ليعيش حياة مفروضة عليه، لم يملك فيها الرأي والحلم، ويقتصر خياله على جلسات اللهو بين الأسرة والأصدقاء، وفي الطرقات، وخلف جدران الحانات للسخرية والمرح والمزاح، كما صوّر لنا حيام المقدم في قصصه إسقاط على واقع اللحظة، والموقف، والحالة، ليحقنها حقنا بدم خياله ليسري فيها، يكبرها ويضخمها كي يرى القارئ الواقع المعاش حالم بالخيال هروبا من صدمته، وعمل موازنة نفسية بين الواقع الذي يدهسه ويهرسه، وبين نفسه الداخلية الحالمة التي تتوق إلى تغيير الواقع المؤلم، كي يعيش حياة تتوافق وتركيبته النفسية الداخلية، وكأنه في مجموعته القصصية يصدر تصريحا للقارئ “أن احلم كي لا تترك اللحظة، والموقف، والحالة تضيع منك هباء، أملا أن تغيّر حياتك لتستمتع بها”.

  نقل لنا الكاتب في قصصه تجسيد اللحظة الواقعية حبلى متضخمة، ساخرا ساخطا، بدون صوت عال هاربا من التقريرية المقززة، فقط صوّر لنا الشخصيات وهي تفعل، وترك الصورة تأوّل نفسها بنفسها بلا تدخل، حتى لا نشعر بسخريته على الواقع بجمله التقريرية، ولكننا نستقيها عند نهايات قصصه، وفي قصص أخرى نقل لنا الواقع كما هو وعند حدوث الصدمة حقنها بخياله لتتجلى بسخريته، ويحلم معها ليعيش واقع يتمناه وفقا لشخصيته الداخلية، وتركيبتها النفسية أملا في الانتصار على الواقع بمزجه بروحه.

  فنجد في قصة : الثلاثاء بالأبيض والأسود” غائمة عائمة في الخيال.. ساخرة من أحوال واقع الناس بتعظيم الخوف وتضخيمه القابع في النفوس المحملة المعتقة بالأساطير.. الشتاء ببرده ومطره يلوّن حياتهم بالسواد، وكأن أهوال هطول المطر، وفعل الشياطين يسمحان بإسقاط الخوف القابع في النفوس على حياتهم، آملين بلون أبيض يلوّن حياتهم بسطوع الشمس على أجسادهم وحياتهم.. جسّد لنا فيها لحظات حقيقية وواقعية، كانت الصورة فيها تلعب دورا مهما.. فاعلة صارخة  بلا صوت.. تقذفك قذفا نحو خياله المأمول لتتضخّم وتكبر وتتفتح في خيال القارئ كما الزهرة، مثل قصة “أزمنة الجميل” أحلام صبية ، وخيلاتهم ليتخيّروا الطريق، يتعلموا من المستفز والغامض حتى ينضجوا، ومثل قصة “نجوم صغيرة فوق نافذة فايزة أحمد” صوّر لنا نقاء الطفولة والولد يتعلّم فن الحياة بطريقة جميلة حالمة على يد صديقة أمه على أغاني فايزة أحمد بصوتها الساحر، تعلّم منها طريقة حياة بشكل رومانسي حالم، حتى أصبح الكِتاب لا يفارقه طوال حياته، كما في حلم الطفل أمير في قصة “رقصة القيامة” حين صبغ الواقع بالحلم والخيال، والمفارقة بين جاذبية الأرض والطيران في السماء، كان يخاطب فيها الخيال المحلّق.. كما ضرب أساطير الخيال وحكايات أمنا الغولة، وتسلية الخوف القابع في النفوس بحواديت العفاريت في قصة “أقوال جديدة عن أمنا الغولة” وقصة “الشبح الآخر” وفي قصة ” عبور استوائي” صورة لإدماج الواقع بالخيال من خلال علاقة إستثنائية عير مراسلات الفيس بوك.. والحلم الجميل المبهر المبطن بالخيال في قصة “عباءة تسع طيور العالم” وفي قصة “الأقفال” ترك لنا صورة العاشقين يمارسان حبهما بانفعالات صادقة خضراء، والحبيبة تتوق بخيالها الحالم تبحث عن فارس يخرجها من حياتها المقفولة من خلال قصص حبيبها التي يرويها لها كل لقاء، لكنها اكتشفت أن حبيبها مجرّد حاك لا يجيد غير رواية القصص والأساطير؛ فتركته وتزوّجت غيره، وبقى هو وحده مقفولة حياته على قصة الحب بقفل كبير  صنعه وكتب عليه شعيرة حبهما وربطه في سياج الكبري، حتى أصبحت عادة لكل المحبين السائرين على الكبري، يغلقون قصص حبهم بأقفال عديدة مربوطة في سياج على طول الكبري، إسقاط منه على قصص الحب والغرام في بداية الشباب الحالم لا يشعرون بعجلات الواقع من حولهم بمشاعرهم الحالمة حتى اغتالهم الواقع، وابتلعهم الزمن الدائر.

  أما في آخر قصة في المجموعة ” قهوة بوتيرو” كشف لنا سر اللعبة في قصصه التي نوّهت عنها في مقدمة القراءة، إن هذه القصص خدعة من خياله، إستطاع فيها أن يضاجع واقعها بخياله ليتورّم أكثر فأكثر لينجب لنا حقيقة ملموسة..

  نرى أن حسام المقدم قدم لنا مجموعة قصصه في تاريخ سابق.. بانوراما سريعة على الأشخاص، والأماكن، والزمان، ركز في أغلبها على مرحلة الطفولة غير متناس أفاعيل الكبار، وتصرفاتهم، ومنطقهم الخاص،حكى عن أحداث مرت أمام عينيه غير راض عن أكثرها، وإن أحبَّ مواقف فيها، وتمنى غيرها أن تبقى، وغرس في بعضها بذرة روحه وخياله، وطوّرها وضخمها، نراه استعرض تارخ طويل حتى انتهى منه لحظة سكبه وصبغه على الورق، ليتأمل معنا شعوره بعد لحظة الإسقاط، ليسألنا جميعا.. هل أنضجتنا تجاربنا السابقة؟ هل خرجنا منها بالانتصار على الواقع من حولنا، ودمجناه مع ذواتنا الداخلية لنعيش أنفسنا؟. أسئلة كثيرة تركتها مجموعة “قهوة بوتيرو” لتدور في خيالنا، لتقدم لنا وجبة أدبية سهيّة، تعمّد لنا أدب قصصي حديث، أفادت المتلقي ليبصر الواقع من حوله ليملك ذاته فيه، ويندمج معه.

 

د/ مختـار أمـين

أضف تعليق