رقعة مهملة. قصة: مختار أمين

  رأيتهم مثلي؛ فقلَّ حزني..

  أنا وفصيلتي نحيا في الشوارع، ونتجول في الحواري، ونتسكع بين الأزقة.

نحن الضالون..

   في زمن بعيد أستعيد ذكرياته من أسلافي . كنا فقط الفئة الضالة في شوارع الناس، وفصيلة أخرى، ولكن أحيانا هذه الفصيلة تحظى برعايتهم وعطائهم ودلالهم، ومنها فئة مدللة تحيا في منازلهم منعّمة مكرّمة، دائما نغار منها، ونحمل لها في صدورنا العداء، حتى الضالين منهم المتسكعين مثلنا المقيمين معنا حيث نقيم، عندما نرزق من خيرات الله من البشر المحسنين الهبات والعطايا والخير الوفير، ينزل من كل بيت مباحا لنا جميعا في الشوارع، كنا نحرمهم من أن ينالوا أي حق منه، عند هذه اللحظة يظهر عداؤنا واضحا جليا، وندخل مع بعضهم معارك شرسة للاستحواذ على التركة بأكملها، ونفوز عليهم دوما، ويلوذ الفرسان الأشاوس منهم بالهرب والتخفي، ونتناول الغنيمة بأكملها وسط نباح من بعضنا للضرورة وإرساء الرعب على من يفكر بمشاركتنا، وأنا منهمك في التهام الطعام بلذة ونشوة، أرقبهم بعيون منتشية منتصرة، ملؤها الفخر والعزة للمكلومين المتحسرين، وهم ينظرون ألينا من بعيد بنظرات انكسار تتحلى بهدوء ووداعة، مادين أيديهم أمامهم متكئين بأجسامهم على الأرض، يكتمون غيظهم، يبثون في كذب ترفعا وسموا، شعور يمر في خلاياي كالأثير، وعندما يتخلل جسدي امتلئ بغيظهم، أفقد لذتي ونشوتي . أرتعش . أهزّ جسدي وأنفضه في حركة معتادة، أترك بقايا الطعام، أعدو دون هدى لأتخلص من سمّ غيظهم، ولكني سرعان ما أستكين عندما أتوغل بداخلهم بنظرات خاطفة أتشمم رعبهم وخوفهم مني ومن فصيلتي.

من عشرات السنين النعيم يملأ الشوارع والبيوت، نأكل، ونشبع، ونفرط، كل هذا يحفزنا على القيام بواجبنا بكل جسارة وتحدٍّ . جنود لا نغفل ولا نكسل، نحمي البيوت والحواري والأزقة من كل غاصب، وكل غريب.

في الصباح الباكر ونحن مكوّمون في الأركان نستحضر نعاسا هادئا يجلبه أمان النهار، وصخب الناس وزحام الشوارع وأصوات الباعة الجائلين، قد تخطّى جفوننا، وهاجس القلق يطرده عنا في الليل بحرصنا الدائم على نوبة الحراسة، تمر الناس من أمامنا في جد ونشاط ووداعة، الابتسامة تنير وجوههم على الدوام، والأناقة والنظافة باديتان، تشكلان حاجزا بيننا وبينهم، أسرنا ألا نتخطاه في تأدب مصطنع، الحقيقة كنا نخشاهم ونشعر بالفارق في الخلقة والطبيعة.

دونهم كنت أترقب غروب هذا النعيم، وأنا أتسمّع لحكم الأفواه الشَّبِعة من البشر، يتشدقون: “لو كستك الدنيا بنعيم وافر، تذكر أياما فيها ستجوع”.

صغيرا تدبّ فيَّ روح الحياة، وأول مراحل الشباب تخصّبني وتقويني، أنتظر الشمس تملأ الدنيا من حولي ضياءً، أعدو في جد ونشاط ومرح، ألهث دلالا، أتنعّم ببخار أنفاسي من بطن ممتلئة، أنظر للأرض تجري مثلي في عكس اتجاهي من تحت أقدامي وأنا أعدو مسرعا، أتفقد حيّنا والأحياء الأخرى المجاورة، أرى بنفسي فارق جنسنا مطلّا مرفرفا على معالم البيوت المتلاصقة المتجاورة في ذوقها الرفيع وترتيبها وأناقتها . ضحكت علىَّ سعادتي ذات مرة واقترفت ذنبا لُمت نفسي عليه كثيرا، لو نهرني أحدهم وركلني، أو قذفني من أعلى السور ويهبط جسدي مهشما على الأرض، كنت أستحق جزائي…

من بعيد نظرت لأعلى وأنا أتمطى ترفا، وأليّن فكيّ فمي في تشدق، لمحت على أحد الأسطح العالية حبال الغسيل الأبيض الزاهي، والملابس ترفرف وتتأرجح وتطير في الهواء، فرحت لفرحها -صدقا هذا أول الشعور- أخذت القرار وعدوت، كان الوقت يسمح بذلك. مشارف المساء، وقد خفّت الأرجل والنباح من الشوارع، وأهل المنزل المعني يغطّون في نوم القيلولة، بأقصى سرعتي أحاول اقتناص اللحظة دخلت المنزل، وصعدت الدرج حتى السطوح وأنا أكتم لهاثي . في منتهى النشوة أقفز لأكبش كبد البياض الزاهي من على الحبال العالية، أفشل، ثم أعاود، ثم أفشل، والهواء خصمي كلما دنوت لاختطف من يد نسيمه قطعة ملابس ألهو بها ومعها وأمرح، يصعّدها ويطيّرها عاليا، في تحدّ وإصرار أفوز، قفزت، وصعدت، وهبطت، وحظيت، ومنيت به . قميص نوم حريمي وردي اللون أملس ناعم، ما قصدت شيئا غير المداعبة، فقط المداعبة والمرح، أدعو جسده يرتمي بين أحضاني الساخنة الملتهبة بعد عناء، ألتحف بنعومته وبرودة النسيم الذي علق به ونفخ جسده، أتمرّغ به على بلاط السطح، أمسك بفكيّ حمالته الرفيعة، ينزّ لعابي على قماشها، تكمشه ساقيّ في رفق حذر من غلظتي . سكت الهواء، وزاد نهمي، وعاودت القفز، بسهولة أصطاد من على الحبال قطعة بعد أخرى، نثرتهم على البلاط، تمرّغت عليهم جميعا، ثم كوّمتهم في كومة واحدة، غفوت في دفء حضنهم بعد مداعبة شهيّة سرّبت إلى أجسادهم صهد جسدي، ونمت هادئا في برودة تخللتني.

مرت السنوات غفلة دون حيطة من البشر ومنا، وشحّ العطاء، وتقلصت المعالم والوجوه والبطون جوعا، والجدب ملأ الكون من حولي، ورغم أكوام الزبالة الهائلة المفترشة الشوارع والميادين والحواري والأزقة وفي مداخل المنازل، إلا أننا جميعا لم نعثر فيها على لقمة ترطب أمعاءً تفرز عصارتها وهجا وصهدا، تصيب أجسادنا بنار ملتهبة؛ فتتسارع أيدينا وأرجلنا يحركها الغيظ، فنحك أجسادنا في جنون، وتسرح القطط المرفّهة من المنازل، تبحث معنا ومواء الجوع يصيبها بالجنون فتتحرر من خوفها القديم منا..

أجلس متأملا في هرم وإعياء ومرض، أرصد من حولي الأرصفة المكتظة، فصيلتي تقبلت الغريب، وأمست غير قادرة على القيام بواجبها الفطري . فقط ينبحون نباح الموت.

القطط تتعارك متهالكة دون مواء، الزحام يزداد يوما بعد يوم من أطفال في سحن العفن تتكور بجواري، ورجال ونساء افترسهم الشقاء فأقعدهم مشلولين على أرصفة الانتظار..

ما عاد الصباح المشرق يأتي، والشوارع تضج بأناس لا يروحون ولا يجيئون . في صياح هائج مستمر . ينصبون حروب مفتعلة للخلاص . والسواد غيّم دون ليل .

“نحن الكلاب عندما نكتئب ونحزن نصاب بالجرب والصرع”.

أضف تعليق