د.عزة بدر

قصص عزة بدر ( ملف خاص) إعداد مرفت يس

عزة بدر كاتبة مصرية متميزة، احترفت الصحافة في مدرسة صباح الخير منذ عقدين من الزمان، فحصلت على جوائز التفوق في المقال والحوار، لكنها منذ صباها الباكر مسكونة بشيطان الشعر الذي نشرت منه مجموعتين، ثم جربت موهبتها السردية في أدب الرحلة والقصة القصيرة، وتوّجت كل ذلك بطموح أكاديمي عنيد فحصلت على الماجستير والدكتوراة في الإعلام عن المجلات الأدبية والثقافية، قبل أن تقفز إلى منطقة الرواية لتعثر في فضائها على الإهاب العريض، الذي يتسع -مثل جوف الفرا- لكل أنواع الصيد من شعر وبحث وتحقيق صحفي وحوار، وتجد فيه -كما يتجلى ذلك في روايتها الشيّقة ”في ثوب غزالة” مجمع الفنون ومطهر الكتابة· 

                                         (د. صـلاح فضـل)

**********************************

 

دنيــا وآخــرة

قصة: عزة بدر

 

انبسطت تحت قدمى بشكلها المستطيل, بحوافها القديمة البالية , تمددت على الأرض , وكان أجدر بها أن تُرفع على الجدار لوحة تُزين الفراغ الأبيض الذى يتمدد بلا ذاكرة , كانت مشكلتى فى تلك الساعة هى مقاتلة كل فراغ ! , وكان كل جدار فراغ , مشكلة جمالية لم تكن أبدا بسيطة , وأنا أستند إلى الفراغ , ظهرى للحائط , خالية الوفاض إلا من هذه السجادة القديمة التى بقيت تحت قدمى منذ ولدت وحتى الآن .

أرقب فيها خطوط طفولتى , بوسعى أن ألمح أقمطة حمراء وبيضاء , وقد ثبتت بقاياها ببراعة فى نسيج السجادة المتعددة الألوان , فى موضع ما تراكمت ياقات من النايلون تنبىء بأن أمى قد احتفت بمولدى كثيرا لأن بقايا القماش التى انطوت إلى جانب بعضها كأهرامات صغيرة متجاورة قد امتدت فيما بينها شبكة من الخيوط المتواصلة بغير انقطاع , توحى بهذا الحنان الذى به تدفأت , وتلك المحبة التى أحاطتنى بأكثر من ذراع , تتماس أهرامات القماش المثبتة على نسيج السجادة برؤسها الملونة , مريول المدرسة الأزرق , قطعة سليمة من نسيج الجيب من قماش ماركة ” تيل نادية ” , ثم هرم صغير من الكاروهات يؤكد تغير زى المدرسة من مرحلة إلى مرحلة , تبدأ بالكاروهات الزرقاء التى تتقاطع مع مربعات أخرى من اللون الأبيض , ثم مربعات من الكاروهات الحمراء تتشاجر أيضا مع مساحات من اللون الأبيض , دق جرس المدرسة , تعالى صوت النفير , أحيى العلم بصوت عال

يتدفق بالحماس , أعدِّل شارة عباد الشمس التى ثبتّها على ذراعى , تلمس يدى البيريه ذا اللون البُنى , أهتف أقسم بالله وبالوطن أن أقوم بخدمة الوطن والشعب كما كنا نهتف فى جماعة المرشدات فى فناء المدرسة , لا يوجد بأهرامات القماش ما يُنبىء عن شىء , فدونت السؤال فى مفكرتى , تتابعت الأهرامات لعلها من قمصان أخى أو أبى ثم سطور من أقمشة متعددة , هرم من صوف ” العسكرى ” , وهرم من ” الداكرون ” , ثم مساحات من ” البفتة ” البيضاء , والزرقاء فعرفتها , كانت جلابيب أمى التى أفنت عمرها فى رتقها وتوسيعها بإضافة سمكات صغيرة لكل من منطقتى الإبط والذراعين , وبينما كان الترزى يفقد سيطرته تماما على قماش بنطلونات أخى الذى كان ينمو بشدة مخترقا السقف حتى أنه كان ينحنى ليدخل من الباب , وفى ليلة حالكة لم نر فيها البدر ولا الهلال .. غاب عنق أخى فى الفضاء

انفلت العنق من السقف , وسُمع لصوت اختراقه دوى هائل , تطاول العنق إلى عنان السماء , صعد أخى , ولم نره بعد ذلك أبدا , وبقيت أمى معلقة الأبصار شاخصة إلى السماء , نتطلع جميعا إلى الثغرة التى تركها فى سقف الحجرة , تلك الفرجة التى تتطلع إليها أمى كل صباح , وصعد منها أخى فى صمت كأنه ضاق بالحجرة التى تضمنا جميعا , منا من يصعد ومنا من ينتظر , ولذا تحتفظ أمى بصورة لمريم العذراء تضم بين يديها يسوع , إنها الصورة المجسدة للأمومة الحقة كما ترى أمى , مريم خير النساء كما يقول لنا أبى , تتابعت أهرامات القماش فى السجادة , برق السندس الأخضر , إنها القطعة الوحيدة الفخمة فى منظومة حياتنا المنسوجة من قماش وذكريات , برق السندس الأخضر قطعة مختارة من حِمْل القماش الذى نذرته أمى للشهيد مار جرجس , وذهبت به لتفرقه على الفقراء , ولذا أصبحت زيارتها للكنيسة المعلقة زيارات متكررة , لقد تحدثت إلى مار جرجس , وسمعها لأن القرش االذى ثبتته على زجاج المقام هناك قد ثبت , وظلت شمعتها

مضاءة , لقد أكدت لها ذلك جارتنا ” انجيل ” , وطلبت منها أن تضع شيئا من دبابيس شعرها ومشابكها فى إكليل الشوك , آلاف المشابك فى الإكليل تنطق بآلاف الأمنيات اللواتى تهدجت بها النساء , تاريخ من الأمنيات , تتقاطع المربعات والمستطيلات فى السجادة , تتواصل الخيوط فألمح قطعة هرمية صغيرة فاحمة السواد , تصرخ أمى فى باحة الدار , ماتت ” انجيل ” , وبعدها ارتدت السواد ,

عاما كاملا لم نر عليها فستانا ملونا , حملتنى على كتفها للعزاء فى الكنيسة , كانت أمى حزينة تبكى طوال الوقت , تصطف مع المصطفين فى صفوف , ترتل كما يرتلون , عندما عادت سألها أبى ” ماذا يرتلون ؟ ” , قالت بغموض : لا أدرى , يقسمون بالأب والابن والروح القُدس , بكت .. لقد ذهبت ” انجيل ” إلى الأبد , امتد

عنقها عبر السقف , تركت ثغرة فى حجرتها التى تكدست بالأنفس بالأطفال وبالأقارب وبالأحباب , أولئك الذين عاشوا معا ولم يتفرقوا أبدا , لم يَشك أحد منهم

وقوف الآخر على قدميه , ولا وقوف أحدهم على رأسه فى انتظار البحث عن قدميه فى الزحام , ألفة شاملة وكيان يشد بعضه بعضا , كتلة لحم واحدة تتزاحم فيها الأيدى والأرجل , تمشى وتتحرك ككيان خرافى هائل ببطء ومحبة , تواصلت أهرامات القماش التى ثبتتها أمى بعناية , لمحت نذور أمى المختلفة , حِمْل قماش

للسيدة زينب , وحِمْل قماش لسيدنا الحُسين , ثوب مقصب للسيدة نفيسة , لما تزوجت أختى , بدت أحمال القماش تبرق فى نسيج السجادة , ثم بدت بقعة دم كبيرة على هرم من الشاش الأبيض , طوته أمى بعناية فائقة ليلة زفاف أختى , وزغردت طويلا عندما تعالى صوت الرجال فى المندرة: قولوا لأبوها إن كان جعان يتعشى! لم يأكل أبى يومها شيئا , لم يذق حتى الماء , فقد أنفق كل ما معه لزفاف أختى , وكان علينا أن نعيش أعواما من القحط , بدت بعدها أصناف الفول على اختلافها فى قدور البيت وآنيته , فى الصباح الفول النابت فى الماء , وفى المساء الفول المدمس بالثوم والطماطم , وعندما بدأت أختى فى التردد على بيتنا بطفليها

فى أسى , وتطلب من أمى طعاما فتصر لها ” حلة ” صغيرة من بقايا الفول النابت الذى نأكله فى الصباح , أدركت أننا لن نجد حتى ماء الفول , ولا حتى بقايا العدس

المهروس فيه لأن طفليها كانا فى حاجة إلى هذا الماء بعد أن جف صدرها , ولم تتمكن من الإرضاع , توالت الأهرامات فى سرعة عجيبة حتى أن أمى لم تهتم كثيرا بأحجامها فها هى أهرامات صغيرة من القماش وأخرى كبيرة تتوالى , تتدفق تصرخ صرخات الحياة , وأخرى تشهق شهقات سريعة ثم تقضى , كانت أختى ولودا , لكن لم يعش من أولادها غير خمسة , منهن ثلاث بنات , وكان هذا يكفى لأن تكتمل صفوف الأهرامات من بقايا ملابسهن , قصقصتها أمى بعناية لتتراص مُخلدة ساعات الميلاد , وساعات حلول القضاء , أعلنت أمى عن رغبتها ذات ليلة

وهى تثبت أهرامات الموت أنها تريد كفنا بسبعة أدراج أى سبع طبقات , نظر إليها

أبى بدهشة , لماذا بسبع طبقات ؟ , , لا يمكنه توفير كفن بطبقة واحدة , غضبت أمى غضبا شديدا , وبكت بكاء مُرا , قالت : قلبى غاضب عليك دنيا وآخرة , وفى الصباح وجدناها شاخصة ببصرها إلى السماء بينما تجمت أطرافها , أغلق أبى جفنيها وبكى , ولم يكن لدينا سوى جلبابها لنكفنها به , وكان بالطبع طبقة واحدة

إن غطى قدميها انكشفت رأسها , وإن غطى رأسها كشف عن قدميها , فخلع أبى جلبابه ليكفنها به , وهو يبكى ملتاعا , وهنا فقط توقفت الأهرامات , بقى منها ما نسجته أمى , ما ثبتته بيديها من ساعات , كان آخر هرم من القماش ذلك الذى سوته بيديها ” آخر سمكة ” , رتقتها بجلباب أبى حيث حل نسيج قماش جديد محل ما أصابته يد البلى , ترى هل كانت تعرف أن هذا الجلباب هو كفنها , ذلك الذى ستتغطى به إلى الأبد ؟! .

**********************************

103035336_968546836920563_779731973970972024_n

 

 

(الملمح النسوي مؤسس في كتابات عزة بدر. لكن لا يعبر عن نفسه بإشارات مادية أو رمزية على نحو ما كان شائعا بين كتابات جيلها التي عرفت بكتابة الجسد. لقد انتبهت عزة إلى الجذر البدئي للأنثي، وهو الجذر الأمومي، بوصفه مركز الوجود الإنساني.

 فالعاطفة الأمومية موجودة في كل المخلوقات،ولكنها بين البشر، أسهمت في تطور الحضارة البشرية، عندما أسست لمعنى التشارك . فالأنثي تطعم صغارها من جسدها ودمها. عندئذ لا يصبح جسد الأنثى رمز ماديا فحسب. بل رمز للحياة. فليس ثم عجب أن الإنسان القديم، اختار آلهته من الإناث.

 انتقلت العاطفة الأمومية للرجل عبر الجينات الوراثية، فكانت الأبوة. ليتأكد معنى التشارك في النواة المجتمعية الأولى، وهي الأسرة. حيث تكتمل صورة الثالوث المقدس في الآب والابن والروح القدس. وليس ثم عجب، أن بجل أجدادنا أيزيس بوصفها الروح القدس)

                                                                                  (سيد الوكيل)

********************************

قراءة فى قصة دنيا وأخرة لـ (عزة بدر)

 

مرفت يس

بقلم :مرفت يس

مفتاح القراءة فى  قصة دنيا وآخرة لعزة بدر هو  مقولة الأم  وهى على فراش الموت ” قلبى غاضب عليك دنيا وآخرة ”   أخر جملة قالتها الأم/ الأنثى للأب/ الذكر عندما لم يستطع توفير كفن بسبع طبقات لها لتبدأ القصة من النهاية حيث الأم محور الأحداث هى الأنثى الفاعلة ربة الأسرة البسيطة.

تبدأ الذات الساردة قصتها بمشهد  للوحة قديمة ملقاة على الأرض تصف حوافها بالبالية نظرا لقدمها متعجبة من تمددها على الارض بدلا من أن تسد فراغا على الحائط الذى هو فى نفس الوقت فراغ الذاكرة الذى يحيط بهاوتحاول مقاتلته  لكنها تتذكر تلك السجادة القديمة التى بقيت تحت قدمها منذ ولادتها وحتى الأن

وتبدأ حالة التذكر..  وتأخذنا بالفلاش باك لنتأمل خطوط تلك السجادة التى هى بمثابة الدنيا ، تسرد من خطوطها مراحل الذاكراة التى تجسدها الأمومة محور الحياة وأساسها

الأم التى ترتق الملابس القديمة نظرا لحالة الفقر التى تعانى منه الأسرة فكل رتق بمثابة هرم وتكثر الأهرامات لتعبر عن مراحل العمر بدء من ملابس المدرسة،  المريول  الأزرق ثم الكاروهات يدل على تغير زى المدرسة ، وثم برمزية للوطن والاعتزاز به تتذكر قسم الكشافات

تقول:” , دق جرس المدرسة , تعالى صوت النفير , أحيى العلم بصوت عال يتدفق بالحماس , أعدِّل شارة عباد الشمس التى ثبتّها على ذراعى , تلمس يدى البيريه ذا اللون البُنى , أهتف أقسم بالله وبالوطن أن أقوم بخدمة الوطن والشعب كما كنا نهتف فى جماعة المرشدات فى فناء المدرسة ,”

وتستكمل قراءة أهرامات القماش لتسد فراغ ذاكرتها

وفى رمزية للصعود ترمز لموت أخيها بالصعود للسماء بديلا عن الموت فتحتفظ الأم المضحية المكلومة بصورة السيدة مريم العذراء تضم بين يديها  يسوع. صورة الأمومة المتجسدة التى تعانى طوال الوقت من فقر المعيشة والعناية بالأسرة ورتق الثياب ورغم حالة الفقر الشديدة فهى تنذر النذور وتذهب للكنيسة المعلقة.

” السندس الأخضر قطعة مختارة من حِمْل القماش الذى نذرته أمى للشهيد مار جرجس , وذهبت به لتفرقه على الفقراء, ولذا أصبحت زيارتها للكنيسة المعلقة زيارات متكررة , لقد تحدثت إلى مار جرجس , وسمعها لأن القرش االذى ثبتته على زجاج المقام هناك قد ثبت , وظلت شمعتها مضاءة “

ثم تضع مشبك شعرها باكليل الشوك مع تاريخ من الأمنيات للأم التى تحلم بحياة أفضل لأسرتها “وتتوالى النذورأيضًا لأولياء الله الصالحين فهذا حمل قماش للسيدة زينب  وحمل قماش لسيدنا الحسين وثوب مقصب للسيدة نفيسة. وقماشات على شكل  أهرامات اخرى تحكى عن زيجة الابنة فى إشارة للملمح الشعبى لفض البكارة بالأهرامات الحمراء التى طوتها الأم بعناية لتحتفظ بها مع أصوات المهللين من الرجال يغنون فى تناص مع الأدب الشعبى

قولو لابوها إن كان جعان يتعشى

فى مفارقة لوصف  حال أسرة تنفق كل مالديها من أجل زيجة ابنتها  لتعود البنت لتقتات من طعام الأسرة لها ولأبنائها الخمسةلتتوقف الأهرامات التى تعبر عن الموت والحياة بصعود او رحيل الأم في القصة أشارات للكثير من الأمور اشارت للانتماء والاعتزاز بالوطن بتحية العلم للصعود كخلاص من الحياة والألم بصعود الأبن من السقف عوضا عن موته

استخدمت أيضا الصعود فى موت صديقة الأم “انجيل ” التى ارتدت الأم السواد منذ وفاتها فى إشارة لأهمية الصديقة فى مساندتها

أشارات للعادات والتقاليد وعادات ليلة الدخلة بفض البكارة والاحتفاظ بالقطرات الحمراء دليل عفة المرأة

تكاليف الزواج التى تعانى منها الأسر الفقيرة  فى قصة زواج الابنة التى عاشت الاسرة بعد هذه التكاليف على طعام واحد هو الفول صباحآ ومساءً

الأنثى محور الأسرة هى الفاعلة فى كل شىء لتحافظ وتحمى أسرتها الكاتبة لم تذكر الأب غير فى جملة واحدة ، حينما فقدت الأم صديقتها واصطفت فى صفوف المصلين لتصلى  سألها زوجها بماذا كنتم ترتولون ؟

 ” , قالت بغموض : لا أدرى , يقسمون بالأب والابن والروح القُدس “

 هى الفاعلة حتى فى ختام القصة حينما طلبت من زوجها كفنا بسبع طبقات لم يستطع توفيره لها لتبوح  هنا  وينكشف  تعب السنين وتقول ” قلبى غاضب عليك دنيا وآخرة ” وتموت متكفنة فى رداء الزوج الذى كان أخر شىء قامت بترتيقه

لتبدأ رحلة الحياة منذ الولادة وتنتهى برحيل الأم فى لغة رشيقة وشاعرية سردت بها الكاتبة قصتها

 ********************************

 

 بهجة الخيال وسحر الكتابة

( شهادة أدبية)

د.عـزة بدر                                  102555236_670521323804642_5536545117125492328_n

كانت تحلو لى الأوقات عندما أخلو إلى مكتبة  والدى التى عمرت بالعديد من الكتب , جذبتنىألف ليلة وليلة , وقد اقتنى أبى نسختها المنقحة , طبعة دار الهلال , ففتحت لى فتحا من خيال فأنا فى الليل  دنيا زاد المختبئة  تستمع إلى حكايا شهرزاد , وتنصت إلى أنفاس شهريار المبهورة بالكلمات ,  ومفتتح الكلام ” حُبا وكرامة ” , وآخره إدراك الصباح , ارتحلت مع سندباد فى أسفاره , ذهبت فى صرة عنبر معقودة على جناح طائر رخ , جبت بلادا وأنا لا زلت أراوح فى مكانى , تخايلنى  شخصيات ألف ليلة فأراهم فى ذهابى , وفى رواحى.
حكايات التجار , والأسواق , ومحلات العطارة , والمنسوجات  , عوالم تتراءى لى وأنا أسير فى شارع التجارى , أشهر شوارع دمياط التجارية , كنت أسكن على شاطىء البحر , وأعبر إلى شارع الشرباصى , ومنه إلى شارع التجارى حيث تتبدى المدينة فى خيالى كما رأيتها فى الليالى , السوق المسقوفة , شهبندر التجار جالسا على الأريكة , والحمالون ينقلون أحمال القماش , وأثواب الحرير , وصنوف الستائر المزركشة والسادة , محلات الحلىّ , والحلوى.
أقراص المشبك , والبسيمة , وجوز الهند , وأتنشق روائح العطارة , القرفة , والقرنفل , وروائح العطور العربية  , والغربية فى قنانى مذهبة , ومفضضة , فتتفتح  ذائقتى على ألوان من الحِس , ومحبة الحياة , ثم أعود ثانية نحو بيتنا الساكن على الشاطىء , أعانق البحر
أتملى أضواء الشاطىء المنعكسة على مرايا البحر , ترقص , وأرى الصيادين وهم يلقون بالشباك , أو يلوحون بالصنارات  فى وجه السمكات  , وتخرج  امرأة بخيط  من دخان , تستأمر السمك , ” يا سمك … يا سمك هل أنت على العهد مقيم ؟ ” , فتنهض بعض السمكات في انسيات مليحات  , يرقصن ويملأن الشاطىء بالأنغام , أرى رجلا وهو يحمل بين يديه غزالة
فأسأله عنها يقول .. هذه بنت عمى , أحببتها  فهجرتنى , فسحرتها وهاهى كما ترينها غزالة !
كنت أود أن أحررها  , فأرشها بالماء لعلها تعود إلى طبيعتها الأولى , ليست معى الكلمات ,
الكلمات السحرية  , الكلمات .. هكذا كنت أمضى وأنا أبحث عن الحروف.أنضد العبارات
يختلط الواقع بالخيال , ولم أكن أدرى أيهما  أصدق ؟ , كان لى دائما عالمان  , عالم  أذهب فيه للدراسة , وآكل الطعام , وأشرب الماء , وعالم خيال وارف الظلال  , آكل فيه الورد ,وأشرب ماء الورد , وأبسط يدى للندى فتمتلىء كالأباريق , كانت تفيض فلم يكن أمامى سوى أن أفضى بها  إلى مساحات بيضاء من ورق , كراسات كتبت  فيها  أشعارى وقصصى ,كنت أقرأها  أحيانا لأمى , وفى كثير من الأحيان لأبى , كان يكافئنى بكتب  جديدة , أو بلوحات يرسمها أو يشتريها , مرسومة بالألوان , أو مشغولة من الكانفاه , أو من الجوبلان لعازفات أو غازلات أثواب , وأحيانا كانت اللوحات لشخصيات فمرة أهدانى لوحة مرسوم فيها بائع غزل البنات , يحمل حلواه بألوانها المبهجة  , ومرة بائع عرقسوس , على خلفية فضية  , هدية نجاح , كما كان أبى يحب اقتناء التماثيل النحاسية القديمة , فكان فى بيتنا أباريق وطاسات , وأوانٍ , وشمعدانات , وتماثيل من الرخام فكان فى بيتنا  أهرامات  , وتاج محل , وبرج إيفل أحببت الصور واللوحات والتماثيل , أحببت الخيوط , وبلاطات القيشانى التى خضعت أيضاللتلوين , ومناقير الطيور بل والطيور نفسها ممزوجة بألوان الزيت , أحببت رسومات أبى نماذج السجاجيد المزخرفة التى كان يُلون تصميماتها على الورق , تتعدد الأشكال والألوان بشكل خلته لاينتهى , كنت أنا أيضا أريد أن أكِّون عالمى , وأن أشكله كما أهوى , بدأت بالرسم ثم اشتهيت الكلمات  فكانت الكتابة , وكانت رحلة بحثى عن كنزها , فى مكتبة بيتنا.

102556433_728308231341892_7825169657061704141_n103118813_2689083291197185_3788473311357472784_n

وفى مكتبة المحافظة , وفى مكتبة  قصر الثقافة , وهناك حضرت ندوة الأثنين الأدبية وهى لا تزال تُعقد حتى الآن ,  وكانت هناك جماعة رواد التى ضمت أشهر أدباء دمياط , وكانتهناك حركة شعرية  وسردية مزدهرة  , أصدرت رواد مجلتين  هما ” عروس الشمال “
و ” رواد ” , وفيهما نشرت قصائدى , وأول جائزة حصلت عليها كانت عن قصة بعنوان
” ما أغلى دموع الرجال ” , وكنت فى الصف الأول الثانوى عندما تسلمت الجائزة فى قصرالثقافة , وعندما التحقت بالجامعة , كنت أحب المحافل الأدبية , وألقى أشعارى فى كلية الإعلامالتى درست فيها , وفى كلية دار العلوم التى شهدت نشاطا شعريا لافتا فى ذلك الوقت , وكنتدائما أبحث عن المكتبات فى كل مكان أذهب إليه , فأحببت دار الكتب , وسور الأزبكية ,ومكتبة الجامعة , , أحببت الكتابة فى كل أشكالها , فمرة تستوى أوراقها كوردة فى قصيدة ,ومرة تستأثر بحديقة فتبدو قصة قصيرة , وأخرى تفتح ذراعيها كبساتين , فيها من كل زوجبهيج  فأسميها رواية .
وبين كل هذه الأشكال الفنية , أحب المقالات حين تهتدى إلى مزهريتها  , والمقطوعات النثرية عندما تستأثر بقوارير عطرها , عشقت الكتابة , وفى خلوتى أملكها ببهجة الخيال , وسحر الأمكنة .
عشقت الكتابة وهى تُبشر بقيم الحق والخير والجمال , ومحبة الحياة .
*********************************

شعرية الأشياء في قصص عزة بدر

 1012812_907441566050334_4549110834110312856_n

بقلم: سيد الوكيل

تحقق مجموعة ( أعناق الورد) (1) لعزة بدر ، طموحها الجمالي عبر تنوع أساليب السرد فيها ، ويبدو أن تجربة ( عزة ) في إصدارات شعرية سابقة منحتها جرأة غير محدودة في اختبار أساليب عديدة للتعبير السردي، بحيث تضع تجربتها القصصية فى أفق الكتابة أكثر مما تضعها في أفق السرد، وحيث الكتابة صيغة حرة للتعبير الأدبي تتأبى على التصنيفات الشكلانية وتمنح النصوص حيوية قد لا يوفرها السرد القصصي في صورته المعتادة.

أما العنصر الثاني الذي يحقق التناغم الشكلي في وحداتها السردية فهو اللغة ، فسوف يلحظ القارئ دقة ورصانة معجمها اللغوي كما في قصة أسئلة الياسمين: ” فإن آنست حفيف أوراق حديقته الصامتة خفت “

وفى موقف مشابه من قصة ( زلزلة ) تطل ذات أنثوية قلقة مبددة بين مجموعة من المشاعر المتناقضة، فثم حب يقف في مهب الريح بين زوجة مشبوبة بالعواطف والمشاعر الرومانسية وزوج يتجاهل مشاعرها. هنا لغة تصنع بلاغتها الخاصة عبر مفردات مستعارة من الواقع اليومي للحياة، فتلفت انتباهنا بطزاجتها: ” أنا مكتومة مثل عين ( وابور جاز) ذي رجل مكسورة وأخرى قائمة في بيت فقير، وفى كف ربة بيت لم  تعرف بعد أن الغاز يأتي في المواسير والموت يأتي في العمائر المغشوشة مستريحاً، ينزل من صنبور ماء من ( دش الحمام الدافئ) ومن البلكونة التي تطل على النيل والتي لا تطل لأنها في النهاية ـ كلها ـ حرث بحر ” .

إن اللغة على هذا النحو هي معادل رمزي  لمشاعر امرأة شعبية محبطة تعاني الكبت، الانكسار، الفقر، الجهل…وهي مشاعر تضع السرد في أعلى حالات التوتر الشعوري عندما تجعل من الإيقاعات الصوتية مرادفاً شعورياً للأحداث التي تكون عادة بسيطة وكأنها مجرد وسيلة لتحريك الشعور، وتقترب بالسرد إلى غنائية تشبه العديد. تستفيد من التنغيم والترديد والتسجيع: ” لكنى ما كنت أحسب يوماً أن أسعى إليه، أن أدق على بابه.. أن أقف على أعتابه ..أن تتشبث يدي بالطرق ..أن تتلبس بالدق”

غير أن هذه الروح الغنائية، وذلك التنغيم الإيقاعي للغة، لا يحرم النصوص من العلامات الفنية التي تصل بالسرد إلى حدود الدلالة القصوى كما نجد في قصة ( أعناق الورد ) التي تمنح المجموعة اسمها.

القصة تحكى -في سياق رومانسي – علاقة حب من طرف واحد، عندما تقع فتاة فقيرة تبيع الزهور في غرام أحد عملاء المتجر. إنه شاب وسيم ينتمي إلى طبقة راقية. القصة على هذا النحو تبدو معتادة بل وتقليدية، غير أن الطاقة الجمالية والدلالية للغة تمنحها قيمة شعرية، إذ تتحول مفردات المكان إلى لغة رشيقة وذكية للحوار بين النص والقارئ، فالورد البلدي يصبح دالا بصرياً على الفتاة ورمزاً لطبقتها، وزهرة (الجلاد يولس) تؤدى نفس الوظيفة بالنسبة للشاب، وهى زهرة لها ساق قوى طويل يمكنها من أن تكون أكثر اعتماداً على ذاتها وأطول عمراً.  في حين يعانى الورد البلدي الذبول السريع وتتساقط أوراقه رغم تغذيته بالسكر وإنعاشه بالأسبرين. يظل عنق الوردة عارياً فوق ساق مفعمة بالأشواك. فالصورة البصرية تستفيد من معطيات المكان لتعمق الهوة بين أحلام البنت وإمكانات تحققها التي تفتقدها منذ البداية فتنتهي إلى الوقوف عارية بلا أي غطاء اجتماعي يحمى عواطفها.

 يأتي صوت تدفق المياه من شلال صناعي في خلفية المتجر ليعمق الشعور باتساع المسافة بينها وبين طموحاتها ويؤكد دواعي السقوط والانحدار واستحالة تغير الأوضاع ويجهض كل الأحلام، لأن المياه لا تصعد إلى الأعلى.

ويبدو هذا التوظيف الجمالي والدلالي للأشياء سمة أسلوبية تتكرر عند عزة بدر لتطبع كتاباتها برصيد كبير من البلاغة البصرية إلى جانب البلاغة الإيقاعية التي أشرنا إليها. إنها كتابة تضع الإنسان في حالة جدل حسي مع العالم حوله. وتراهن على خلق تيار عميق من الشعور لدى قارئها لتوقظ حواسه وتهز وجدانه، أكثر مما تراهن على أن تقول له شيئاً هاماً  أو توصل له معنىً عميقا.

الأشياء في قصص عزة بدر ليست مصمتة، وليست مفرغة من معنى ، وليست مجرد إكسسوارات لشغل الفضاء المكاني. بل هي ذات المكان التي تدخل  في علاقته جدلية مع  ساكنيه، فالإنسان لا يتعامل مع المكان كوحدة كلية، أو كقيمة مجردة، ولكنه يتعامل مع مفردات المكان ومكوناته وتفاصيله التي تمنحه فاعلية الوجود. هذه التفاصيل لها أهميتها مهما كان حجمها أو قيمتها، فيمنكها أن تتحول ـ في النص كما في الواقع  ـ  إلى علامات جمالية ودلالية بشرط نحترم وجودها ونتفهمه، ونحترم الجدل الذي ينشأ عبر علاقات التماثل والاختلاف سواء فيما بينها أو في علاقتها بالإنسان. فالأشياء هي مفردات المكان، كما أن الكلمات هي مفردات اللغة، ولا يمكن للإنسان أن يقيم حواراً فاعلاً مع المكان بدون الوقوف على مفرداته، كما لا يمكن لهذه المفردات أن تصبح شيئاً إلا بوضعها في سياق دلالي يبرر وجودها. عندئذ سيكون للأشياء حياتها الخاصة، وتاريخها الخاص كإشارة إلى وحدة الوجود، وهو ما ينتهي بنا إلى ما نسميه بأنسنة الأشياء، ويشير إلى نظرة عميقة للمكان ليس بوصفه كتلة بل بوصفه تكوينًا من مفردات.

 ربما لا نجد في هذه القصص المكان بمعناه الجيوغرافي أو الأيكولوجى على نحو ما هو شائع لدى كتاب يراهنون عليه، ولكن موجود داخل الإنسان والأشياء والعالم على نحو يؤكد وحدة الوجود.

وعلى مستوى آخر فإن وحدة الوجود لا تدع للجسد الإنساني فرصة الوجود المستقل إلا بوصفه جزءً من كل حيث يصبح الوجود الكوني هو روح الجسد الإنساني أو علة وجوده. كما أن مبدأ وحدة الوجود يضع الذات المفردة في اختبار يومي مع العالم ، ليس بوصفه ( العالم) آخر، بل بوصفه فضاءً فسيحاً للذات والجسد معاً ، وهكذا لا نجد هذا الفصل التعسفي بين الذات والآخر، أو بين الجسد والروح على هذا النحو الاغترابي الذي أمعنت في خلقه الحداثة، إن هذا المعنى يفسر وجود الطيوف الصوفية والرومانسية فى قصص هذه المجموعة التي  تظهر في موضوعاتها ولغتها على نحو قد يزعج المناضلات من كاتبات القضايا النسوية  اللاتي يستهويهن حضور الجسد في كتاباتهن بقوة للتأكيد على حضور ذواتهن النسوية.

غير أن محاولة عزة بدر فى إدراك الوجود الإنسانى عبر وجود كوني أكبر يحررها كثيراً من هذا النزوع النضالي النسوي فتظهر الذات الأنثوية  في صيغتها الأكثر تناغماً مع الحياة باعتبارها نغمة الجمال والعشق البريء. كما ينمي النزعة الغنائية في لغتها لتصيح أكثر شعرية. أي أنها  تبدو  ذاتًا جمالية مستقلة لا تخضع لجنس ما سواء كان ذكوريًا أو أنثويًا  بقدر ما تخضع لتراث حضاري وإنساني عام، ومن ثم فلا يدهشك أن تجد في نصوصها تلك المفردات المعجمية والصياغات البلاغية القديمة من قبيل ” قد ارتج لسانك ــ لم تعد له أربة في…. ــ لوعلمت أمي لقضت جزعاً ” ، وهى تعبيرات تتجاور مع أخرى تبدو شديدة التحرر والمحايثة للواقع اليومي والمعاش على نحو ما أشرنا سابقاً.

يمكننا في معظم قصص عزة بدر الإمساك بالحس النسوي، ويظهر هذا في لغتها، وموضوعاتها، ولمساتها الشعرية التي تضيفها إلى الموضوع. لكننا لا نجد ملمحا صداميًا  وعنيفا في مواجهة الرجل، بل تظل المرأة  محتفظة بهويتها الأنثوية، لاعتقادها أن الأنوثة هي أقوى أسلحة الدفاع في مواجهة  التعديات الذكورية، وكأنها لا تنسى تاريخها الجيني كأم للبشر.

تحقق قصص عزة بدر هذا الحضور النسوي من خلال الوعي الحاد بالبعد الاجتماعى في أزمات بطلات قصصها.  وارتباط الحب بالخوف والفشل وانعدام فرص التحقق أو عدم الإشباع العاطفي والجسدي الذي نراه في قصص ( أعناق الورد ، الريح ، أسئلة الياسمين ..ألخ ) ، فنحن لا نشعر بوجود هذه الذات النسوية المتحدية للرجل بوصفه آخر، بل هي ذات تشعر بالقلق تجاه هذا الفصل التعسفى بينها وبين الآخر، وتحنو للتماهى فيه، فف قصة (الريح ) تتعرض الزوجة لتجربة قاسية تكاد تفصل بينها وبين زوجها بظهور امرأة أخرى في حياة الزوج. صحيح هي امرأة تفتقد الجمال والرقة التي تمتلكها الزوجة، ولكنها تمتلك هذه القدرة على إغواء رجل بتحررها الزائد وجسدها الذي تبذله بسخاء. هذه المفارقة تجسد مأزق المرأة الوجودي، وحيرتها بين عاطفتين : أمومية و إيروتيكية. المأزق يتجلى في أن كل منهما شرط لتحقق الآخر.

تنتهي (قصة الريح ) بانحياز الزوجة إلى  لؤلؤتها الخالدة/ العاطفة الأمومية في مشهد بصري دال على هذا المعنى: ” كان نائماً فى وداعة، سويت حوله أطراف الملاءة، نحيت صوت المنبه بعيداً.. أنزلت ستائر الشرفة لكي يصبح الضوء أهدأ وأكثر خفوتاً.. تأملته من بعيد.. كانت لؤلؤتي في يدي..احتضنها بلكتا يدي وأضمها إلى صدري ..أشمها وهى بالداخل في عتمة الصدفة، أراها تتألق وتضوي ..تضوي وتتألق “.

ولا يعنى هذا انخفاض الوعي بقضية المرأة فى مجتمع يعانى تضخم ذكوري، بل يعنى أن لعزة بدر تصوراتها الخاصة للحل، فالمشكلة تنشأ أساساً في المسافة الفاصلة بين الرجل والمرأة وهى مسافة موجودة في الوعي بذات كل منهما للآخر ولنفسه أيضا. باعتبار أن الذات مكون تاريخي وثقافي قبل أي شيء، وهكذا فالأمر لا يحتاج لمزيد من الاستقلال والانسلاخ لذات المرأة عن الرجل، بقدر ما يحتاج لمزيد من الاندماج والتوحد كلؤلؤة بين فلقتي صدفة واحدة. إن الحب وحده يمكنه أن يبدد عتامة الذات، ويجعلها تأتلق وتضيء. إنها وحدة الوجود مرة أخرى. تلك التي نراها فلسفة جديرة بتفسير الكثير من النصوص جمالياً وموضوعياً.

ويطرح نص ( طريقة للتفاهم ) مشكلة العلاقة بين المرأة والرجل على نحو أكثر فنية وجمالاً على الرغم من العنوان المباشر، فالنص في مجمله يبدو كمشهد مسرحي مفعم بالحركة والحوار الذي يبدأ من نقطة ساخنة بين الزوجين على نحو يعمق المسافة الفاصلة بينهما. وهى كالعادة نقطة تبدأ بعد انتهاء الحدث لتبدو أثراً له، ومع ذلك يمكننا تخمين الحدث. فثمة  خطيئة صغرى للزوج، لكن الزوجة تصعد الشجار إلى نقطة حرجة تهدد بالانفصال، وفيما كان الحوار الساخن يدور، كانت الزوجة على نحو تلقائي تمارس مهامها كزوجة، تعد له الحمام وتجفف جسده بالمناشف وتطوى ملابسه بعناية وتعد له طعاماً ساخناً وشهياً، وأثناء ذلك تسقط بضع تفاحات من سلة فى يدها، ينحنيان معاً لالتقاط التفاح، كلما التقطا واحدة سقطت أخريات حتى صار البيت بستاناً من التفاح الأخضر، عندئذ يتضاحكان ، ويتلامسان ، وظلا طوال اليوم يجمعان التفاح.

إن المشهد الختامي في ( طريقة للتفاهم) دال بقوة على أن التوحد هو الأصل في العلاقة بين الرجل والمرأة بحيث لا يحتاج إلى تعليق منا، غير أننا نلفت الانتباه إلى إمكانية التوظيف الرمزي للتفاح في التذكير بأصل هذه العلاقة، الذي يستحضر في الذهن قصة آدم وحواء في الموروث الديني. وغني عن التذكير أن هذه القصة محملة بأصل المأساة المتجسدة في عاطفة المرأة بين الأمومة و الإيروتيكية.

قد يبدو هذا التوظيف الرمزي  للتفاح متعسفاً إلى حد ما، ومع ذلك يجب ألا ننسى أن عزة بدر تجيد هذه اللعبة  ـ توظيف الأشياء دلالياً ـ  وقد عرضنا لشاهد لها في قصة ( أعناق الورد ) وهو ملمح لا يبتعد كثيرأ عن أنسنة الأشياء الذي نرده إلى فكرة وحدة الوجود على نحو يظهر بقوة  في نص (سيف الليل وسيف النهار ) وربما يكفى الاستشهاد ببضع جمل نقتطعها من هذا النص الذي يعكس حالة من الشجن العاطفي تشارك فيه الأشياء بطلة القصة ويتحدان معاً ليس في أصل الوجود فحسب، بل وفى المصير أيضاً.

” في غيابك قلت لدولابك: هل تسمح بهذه الرقصة؟”

“خصام بين فساتيني وقمصانك، خصام بين جوارب من  صوف وجوارب من حرير”

” لم يسمح دولابك بهذه الرقصة، ومع ذلك دولابك من فروع الأشجار، ودولابي من ورد والاثنين من حديقة واحدة”

” الحب من أول نظرة : قالت السجادة التي وقفا عليها” .

” قال المقعد للمقعد: سجادة تفرق بيننا؟ سجادة تقطع الصلة بين أخوين من شجرة واحدة ؟ من خشب الأرو “

إن توظيف الأشياء  لتفجير الطاقة الجمالية والدلالية للسرد  لا يحتاج إلى تدليل في المقاطع السابقة كما أنه يوضح فكرة الكاتبة عن كنهة العلاقة بين الرجل والمرأة. ولكن من الضروري الإشارة إلى أن عزة بدر تستفيد من هذه التقنية على نحو أكثر نضجا في  قصة ( دنيا وآخرة ) بحيث لا تصبح الأشياء مجرد علامات داخل السرد، بل هي طاقة السرد نفسها ودافعه، فتتحول السجادة إلى شاهد على وجود الراوي، بل وتلهمه السرد، وكأن بدونها لا يوجد السرد أصلاً.

نحن هنا أمام راوية / مروى عنها في نفس الوقت، تقف في حجرة فارغة إلا من سجادة مبسوطة على الأرض، هذا الفراغ معادل نفسي للراوية / بطلة القصة.  مجموعة الجدران المصمتة تمثل فراغ الواقع ” وكان كل جدار فراغ، مشكلة جمالية لم تكن أبداً بسيطة وأنا أستند للفراغ ”  سجادة قديمة على الأرض تتشكل من قصاصات الملابس القديمة، تحمل كثافة التاريخ وعبق الحياة، إنها ذات محتشدة بالتفاصيل الصغيرة، أقمطة الطفلة ، جلباب الأم، قطعة من مريول المدرسة، من بنطلون الأخ الذي  فقدته الأسرة، من جلباب الأب الذي مات، إن كل قطعة قماش في السجادة تمثل حياة كاملة، وهذه الحيوات هي مكونات الذات الساردة، لقد فقدتهم جميعاً واحداً واحداً، وهى الآن تواجه فراغاً مخيفاً يتمثل في الجدار الفارغ الذي تستند علية. الجدار أيضاً( شيء ) يصبح دالاً بذاته على حياة لم تعد موجودة الآن، فالأشياء تحفظ آثار الإنسان، وشواهد على مروره في المكان والزمان.  فنحن إذا القينا بحجر في الماء، ولم يرنا أحد، فلن يبقى لدينا دليل على أننا فعلنا ذلك، فالأفعال تدل بآثارها لا بذاتها، يتوافق هذا مع استرتيجية السرد طوال المجموعة، حيث نرى الأحداث سابقة على السرد، فالسرد هكذا ظل الحدث. لكن الأشياء تحتفظ بأثر الفعل، وتدل بذاتها عليه، تدل على وجود الإنسان، وفعله، وتأثيراته في الحياة.، فكل قطعة من السجادة تحمل حياة. ومن ثم فهي مكتنزة بالسرد، فالأقمطة تكتنز بتفاصيل ميلاد الطفلة، وجلباب الأب محفز لسرد حياته، وكذا مريول المدرسة أو بنطلون الأخ. هكذا تصبح الأشياء محفزات للسرد، في نفس اللحظة التي تشتبك فيها مع الذات وتعمل على تشكيل وعيها باللحظة المعاشة. وهي بذلك تفتح أفقاً تعبيريا عن مشاعر عميقة، مازالت  بعد مرور كل هذا الزمن ، تؤرق الراوية بوصفها تمثيلاً ورقياً للذات الساردة، حتى أنها بمجرد أن تدخل الحجرة ترى حياتها كاملة، ترى الفراغ الذي تعيشه الآن، والتاريخ الذي لم يعد موجوداً إلا أثراً على الأشياء .

القصة هكذا تجسد أقصى درجات التفعيل الحيوي للأشياء في علاقتها بالإنسان عبر تداخلات الزمن والمكان، وهو أمر يختلف في رتبته عن أنسنة الأشياء التي لاحظناه في نص سابق من نصوص هذه المجموعة، فالإنسان والأشياء لا يتبادلان الوجود المشترك فحسب، وإنما يتبادلان التذكارات والمعارف والخبرات والمشاعر أيضًا. هنا نرى خصوصية الوعي الجمالي بالأشياء عند عزة بدر، إن فكرة أنسنة الأشياء تبدو مستباحة عند كثير من كتاب القصة، ولكنها هنا تعامل على نحو أكثر عمقاً، ومن ثم يمنحها تفرداً، وهو تفرد رصدناه من قبل في معالجتها لموضوع العلاقة بين الرجل والمرأة ، وظني أن الكاتبة تتعامل مع الأمرين تعاملاً شعرياً، يجعل عالمها القصصي معادلاً للذات وليس موضوعاً لها. فنحن نعرف أن المرأة ـ مثلاً ـ لا تعامل على النحو الذي صورته عزة عندما يتم تناولها بوصفها موضوعاً في الأدبيات النسوية. وهنا وجه الاختلاف بين النظرة الغنائية للعالم والنظرة الموضوعية. إن النظرة الغنائية تحتفي بالعالم والأشياء، وتمكن الإنسان من تقليل إحساسه بالاغتراب، وتجد دائماً أسباباً لتمجيد الحياة.

كما أن الوعي الشعري لا يتوقف عند مجرد الحيل اللغوية الاستعارية واللعب المجازى. بل يتجاوزه إلى اكتشاف طاقة السرد في المجاز، ففي قصة (دنيا وآخرة ) تبوح قطعة من بنطلون الأخ بحكايته، ذلك الولد الذي ظل يطول ويطول، وكان على الأم ـ في كل مرة ـ أن تفك ثنية من ثنيات البنطلون لتلاحق طول الولد، لكن الولد مازال يطول، حتى لامست رأسه سقف البيت، وذات يوم أخترق السقف وصعد إلى السماء، وظلت الأم شاخصة بعينيها إلى السماء منذ تلك اللحظة. هكذا تضيق الأماكن بالأجساد الطموحة لتبحث لنفسها عن حياة في مكان آخر. هكذا يكون الموت غاية وطموح للجسد. إن هذه النظرة العميقة للجسد تأتى هنا محمولة على المجاز اللغوي الذي نجده في قولنا ( طال حتى اخترق رأسه السقف)  لقد بدأ الأمر مجازياً بالفعل، لكن الذات الساردة يمكنها أن تفجر المجاز لتطلق طاقة التخييل السردي فيه فتنسج حكاية الولد من قصاصة بنطلونه.  إن أحد وظائف الشعر،  كسر ألفة الأشياء، واكتشاف ما ينطوي عليه الواقع من غرائبية.

في قصص ( أعناق الورد ) ثم رغبة في التفرد، دونما طنطنة، أو ألعاب تقنية مبتذلة، أو حيل لغوية شائعة، أو أفكار وموضوعات رائجة تروق بعض النقاد، وتضمن للكاتبة مقعداً وثيراً في صالون الكاتبات المفعم بالمنشيتات المثيرة التي راجت في التسعينيات من قبيل: كتابة الجسد ـ تحطيم اللغة ـ تفكيك القيم المعرفية.

إنها قصص قد تستوعب كل هذا، ولكنها لا تردده على نحو شائع. وإنما تراه عبر وعى خاص، إنه الوعي الشعري بالوجود الإنساني.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ عزة بدر ـ  أعناق الورد  ــ  إبداعات المرأة ــ مكتبة الأسرة ـ القاهرة ـ

102665199_255880162412765_2823976947491075883_n102581891_196845298163626_9221043004514861781_n

 

المداوية

                      قصة:  عزة بدر

خيالات جارها كانت أكثر ضلالة مما تتصور فقد كان دائما غريب الأطوار , كانت تشاهده يرسل غير مرة بقبلات فى الهواء , تتلذذ فيها شفاهه ويتكور فمه , وترقص خلجات وجهه فى حالة من النشوة مغمضا عينيه وهو يرسل إشارة توق وشغف إلى الجميلات , كانت رسالة ملتاثة إلى المرأة التى يتعشقها فى تلك اللحظة ! .

كان ابن ساعته بل ابن لحظة المتعة حتى ولو لم تكتمل بالحصول , تفر النساء من أمامه النساء خائفات من إغماضة عينيه وتكورات فمه , وخلجاته التى تهتز عميقا وطويلا وهى ترقص مثل

سرب كامل من النحل حول خلية من شمع العسل , كان فمه ذكر النحل الذى يود أن يلقح النحلة الملكة حتى ولو لمرة واحدة وبعدها يموت .

لاتدرى حقا لماذا لم تستجب لخيالاته تلك ؟ , أخوفا من أعين الجيران ؟ أم هى بالفعل تخاف على حياة ذكر النحل فى خلية عسل فمه ؟ , كان إحساسها ملتبسا , ولكنها بالتأكيد كانت تبادله متعة الخيال , ولكنه عندما استوقفها ذلك اليوم لم يكن ليغمض عينيه , ولايرسل قبلاته فى الهواء , كانت خلية فمه بأختام شمعها الصباحىّ لم تتسلل إليها امرأة ولم تحوم حولها فتاة .

كان وجهه صارما وهو يتأمل فمها عن قرب … وكان يحكى وكأنه يهذى : ” رأيته فى شرفتك , فر إليها بعد قطع الشجرة الخضراء الوارفة التى سكن بين ضلوعها طويلا , … آه الثعبان رأته قططك وحاولن مهاجمته فتسلل إلى حجرتك .. صدقينى .. الثعبان .. الثعبان ! .. رأيته بعينىّ رأسى ” .

لم تكن لتصدقه , هل تصِور له خيالاته أن الكون كله تفاحة كبيرة تحوم حولها الثعابين ؟ , بل لقد سمعته يسب جيرانه صاعدا من السلم إلى السطح وهو ينعتهم : يا أولاد الأفاعى ! .

شىء واحد كانت تصدقه .. جنونه اللذيذ , وشهوته العارمة التى كانت تجعلها تعيد النظر فى قيمة حياتها نفسها بعيدا عن عينيه المغمضتين , وقبلاته التى يرسلها فى الهواء , وخلجاته التى ترقص مليا أمام الجميلات .

لكنها بالطبع لن تصدق حكاية الثعبان وقططها .. أمثل هذه القطط الناعمة الوديعة تهاجم ثعبانا ؟!

ستملأ جفنيها بالنوم شاردة عن شواغلها , ولكن هاهى تستيقظ على صرخة أختها التى تجمدت إصبعها وهى تشير إلى رأس الثعبان التى تطل بهدوء من جانب المروحة الكهربائية فى ليلة حارة وبعد منتصف الليل بعد قطع الشجرة الضخمة الخضراء بعدة ليال .

تجمدت مكانها , وفكرت أختها بالاستعانة بجارهما الذى يسكن فى الدور الأرضى , صحيح أنه غريب الأطوار أيضا , ودائما يشاهدونه مرتديا ” كورتة ” هندية مكونة من قميص طويل منقوش بورد أحمر كبير , وسروال واسع بورد أكثر دكنة يشبه قماش كريتون  الطقم الأسيوطى المنجد الذى يحتل بكراسيه الصالة الواسعة .

استدعت أختها الجار الذى صعد ملبيا نداء الشهامة فى منتصف ليل بلا قمر , ووطأة صرخة أنثى .

شمر عن ساعديه , وطلب عصا ضخمة لمواجهة الثعبان فمنحاه عصا الغلية التى تقلبان بها الملابس فى قروانة صغيرة على البوتجاز مع كم لابأس به من المنظفات والبوتاس ! .

العصا القصيرة الهزيلة أثارت ضيقه وغضبه وخاصة عندما فاجأته رأس الثعبان الكبيرة التى تشى بحجمه الضخم خلف المروحة المسنودة على الحائط فى مكانها الثابت منذ وقت طويل .

رفع الجار يديه إلى رأسه خالتيا الوفاض وقد وضع العصا جانبا ثم انحنى مبتسما :

–         آسف .. آسف جدا .. لايمكننى مواجهة ثعبان بهذا الحجم بتلك العصا ! .

تراجع للخلف بعد أن منيت الفتاتين بخيبة أمل ونوبة من الإشفاق من فكرة خروجهما فى هذا الليل هاجرتين البيت إلى بيوت الأقارب او الجيران خوفا من الثعبان .

عادت إحداهما تطرح فكرة الصراخ من الشباك أو الصوات حتى يفزع إليهما أى إنسان نبهتها الأخرى إلى احتمالات فرار الثعبان واختبائه فى أى مكان لايدركانه , وهنا ستكون النتيجة هجرة البيت أيضا .

رفع الجار ذو الثوب الهندى يده ثانية ليقول بأدب ” أنا معكما تماما .. ودائما حتى تحل المشكلة فانظرا ماذا تريان ؟ ! .

خرجوا جميعا إلى البلكونة التى تسلل منها الثعبان إلى الداخل , وانطلقت إحداهما لتطلق العنان لصواتها الذى شق سكون الليل ولم يخرج إليهم أحد , ولا فتحت نافذة ولا اهتز إنسان , ولكنها عندما هتفت بصوت عال يتنزى برغبة امرأة على حافة الهاوية :

–         راجل … عاوزين راجل .

هنا انفتحت النوافذ عن آخرها , وشق صوت الفتاة طريقه إلى الأجساد قبل القلوب , وأرهفت النساء الاستماع إلى صيحة حارة ماتزال تضع الرجال على أبواب سقيفة الحل والعقد , وعلى أولوية هتافات النساء  ..

” راجل .. راجل ” !

دوت الصيحة هائلة فأخفى الجار وجهه بيديه متعجبا من النداء وخرج من البلكونة !

وانشقت الأرض عن هراوات كثيرة , وعصى وأسلحة .

صعد الجميع إلى الشقة التى لايقيم فيها سوى الفتاتان اليتيمتان .

كانت هناك نسوة أيضا يبتسمن وهن يمصصن شفاههن ” ” بنات اليومين دول بلا حول ولا قوة , آخر دلع , فى زماننا نحن , كانت الواحدة تصطاد الثعبان على الزعافة ( فرشاة التراب ) , كنا نصطاد الثعابين .. تغمس الواحدة رأس السعافة فى الجاز , وتشعل قطعة القماش بعد أن تلفها على رأس الزعافة وتطارد بها الثعبان فى أمكنة اختبائه فإذا أحس بالنار خرج من وكره ملتفا حول عصا الزعافة التى اشتعلت رأسها خوفا من النار , وطمعا فى النجاة فتنفضه الواحدة فى سرعة على الأرض طعنا وطرقا فيفقد حياته ثم تلمه فى ملاءة , وتطوح به فى حمأة الفرن .

قال أحد الجيران : الفرن ؟ ! , حرام لايعذبن أحدكم روحا , الثعبان لابد من دفنه .

وقال آخر : ” فى زماننا القديم لم نكن نقتل الثعابين أبدا , كان لكل بيت ثعبان حام , يقوم على حمايته من شر الأفاعى الأخرى , وكان أمينا على أهل البيت , أذكر أن الشيخ محمد جدى دخل علينا ذات مرة وكنا نلهو بالثعابين الصغيرة التى وجدناها بجانب ( الزير )  – إناء الماء الكبير –  فغضب غضبا شديدا وقال : ” أتريدون أن تسببوا لنا الأذى والبلوى ؟ , لو عرف أبوهم الثعبان الأكبر ما فعلتم بصغاره لآذانا جميعا .. “

وصار يتلفت حوله , وهو يقول : ” العفو والسماح ياثعباننا الكبير , ياحامى البيت !.

وعندما سمع الثعبان ماقاله الشيخ محمد فهم أن ماجرى لأولاده الثعابين الصغار لم يكن مقصودا فندم لأنه سمم الزير  الذى يشربون منه  جميعا فى لحظة من لحظات غضبه , وندم فيما بينه وبين نفسه على رغبته فى إيذاء الشيخ محمد وأسرته فاتجه الثعبان إلى الزير والتف حوله بكامل جسده , وتمنى لوكان للزير روحا فيزهقها ثم جره جرا حتى تهاوى الزير على الأرض , وتكسر فخاره وانثال الماء المسموم فنجت أسرتنا من موت محقق .

هز أحدهم رأسه ” أول مرة نشوف ثعبانا يحمى أو يخاف على أهل الدار ! , أنت راجل طيب ” .

أفتى آخر : ” تنبهوا إذا قتلتم هذا الثعبان فلابد أن تتذكروا أن أنثاه وصغاره سيتتبعون أثره ونفخه فى الأرض , من الشجرة حتى البلكونة والحجرة حتى يصلوا إلى المروحة بل حتى يصلوا إلى هذا الشبر الذى نقف عليه من الأرض .. استعدوا لمواجهة المزيد من الثعابين .

لم يوهن هذا من عزم الشابين العشرينيين اللذين انقضا بعصيهما على رأس الثعبان فتهاوى وأخذ يتلوى وهو ينظر باتجاه إحدى الفتاتين بعينين دامعتين .. عرفتهما .. كانتا الأقرب شبها إلى أعين الجار الذى يرسل القبلات فى الهواء , ويختلج جسد وجهه كله بالشهوة العارمة .

كان ذيله لايزال يتحرك , كان يحاول النهوض ويكاد يرفع رأسه عندما صاحت بهم الفتاة :

–         لاتقربوه .. إنه فتى أحلامى , قسيم ليلى ونهارى .

جاء اعترافها ليتوتر المشهد كله , يرونها وهى تقرب فاها من فمه الذى تحول إلى فم بشرىّ كخلية نحل بأختامها من شمع العسل , فمه الذى يشبه وردة كبيرة حمراء  ولسانه الذى يتحرك فى فمه كزغرودة شهوة لاتفنى , كان يتقطر عسلا وهو يغنى : ” توبة توبة يا اهل الهوى توبة ” ! .

فتقول الفتاة : ” توبة .. توبة , أصل الفؤاد انكوى م الحب كام نوبة ” ! .

الثعبان يتهيأ للنهوض , والفتاة تتثنى وتتهيأ للرقص .

لأول مرة يرون فعل الحب صاخبا على مرأى من الجميع , يهتز نهداها وهى تقربهما من الثعبان الذى اتخذ نهرهما بيتا , وصعد حثيثا بين فقرات عنقها كما لو كان يتسلق شجرة خضراء وارفة  , يقبِل رقبتها فى شغف .

كانت تتلهف إليه وهى تغنى بصوت احتوى موسيقات الكون  كلها : فحيح الثعابين , وصوت لسعات العقارب والزنابير , وهديل الحمام , وبغام اليمام , وزئير الأسود , وتقلب السباع على السباع , وحنين الضباع إلى الضباع فى كهوف سرية الشهوة , كان صوتها عميقا أخاذا يسلب السامعين القدرة على الكلام خرست الأصوات المنتقدة , والمتقدة , وأخذت الملاحظات الرديئة , والحكايات البالية عن الحب طريقها إلى الخفوت والنسيان .

وصارت الفتاة تغنى : ” دلونى يا المداوية

دلونى يا المداوية , عشمنى هوايا وخِلى بيا ” !

وهنا انفطر قلب الثعبان , رق وتحنن , وملأ قلبه الشجن فعطف عليه الحاسدون والشامتون وقساة القلوب , وكادوا يقبلون رأسه ولسانه

وقال أحدهم : ” والله لن يخرجه من هنا على خير إلا واحد أعرفه من الرفاعية , سيقول له كلاما يفهمه , وسيعقله الثعبان وينصرف تاركا البيت والحارة وفتياتنا فى هدوء وسلام .

إنه متحول .. مسحور .. بشرىّ فى صورة ثعبان .

لو جئنا بأحد الرفاعية يقول له كلاما حتى لو كان بربريا سيفهمه الثعبان , رجلان يدركان ما ألم بهما , وليس لقاء رجل بثعبان بل لقاء رجلين وجها لوجه , كل منهما يحمل قلبا أبيض جميلا , سيسحبه الرفاعى فى كيس من القماش أو حتى فى كيس مخدة , وسيحل الثعبان فيه ضيفا عزيزا كريما , ويمضى الرفاعى به بعيدا , ويا دار ما دخلك شر

وعندما انبروا يبحثون عن أحد الرفاعية , وجدوا أحدهم يسكن فى الشارع المجاور  ولكنه كان قد نسى ما يعرف الأجداد من الكلام مع الثعابين , والتفاهم مع الحيات , ولا يحفظ شيئا من الكلمات بربرية ولاغيرها , ولا أى لغة يتفاهم بها مع الثعابين .

وفى غفلة من الجميع انقض على البيت مجموعة من الثعابين الضخمة التى أحاطت بالبيت كله وحاصرته , والتفت حول الجدران

وأنشبت أجسادها فى كل مكان , وسيطر على الجميع خوف عارم , وسكون مخيف

وهمس من بينهم صوت هادىء حكيم قائلا بروية : ” ياله من سكون , إنه ذاك الذى يسبق العاصفة ” .

 ******************************

 عـزة بـدر

– من مواليد القاهرة …
– صحفية بمجلة صباح الخير- مؤسسة روزاليوسف منذ عام 1985
–  حصلت على الدكتوراه فى الإعلام من قسم الصحافة والنشر من كلية الإعلام – جامعة القاهرة عام 1995 عن رسالتها (المجلات الأدبية فى مصر من عام 1954 – 1981 دراسة تاريخية وفنية) بمرتبة الشرف الأولى.

 من مؤلفاتها :
• ألف متكأ وبحر – شعر (1989 م)، مؤسسة روز اليوسف، القاهرة.
• “أم الدنيا – صورة قلمية فى وصف القاهرة والناس” (2000م)، كتاب الجمهورية، دار التحرير للطبع والنشر، القاهرة.
• هذه الزوايا وفمى – شعر (2003 م)، سلسلة أصوات أدبية، عدد 339، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة.
• ياحب – شعر (فبراير 2008 م)، كتاب الجمهورية، دار التحرير للطبع والنشر، القاهرة.
• حق اللجوء العاطفى (فبراير 2007 م)، كتاب الجمهورية، دار التحرير للطبع والنشر، القاهرة.
• أعناق الورد – قصص (2003 م)، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
• صورة للعائلة – قصص (2008 م)، نادى القصة، القاهرة.
• فى ثوب غزالة – رواية (أغسطس 2006 م)، كتاب الجمهورية، دار التحرير للطبع والنشر، القاهرة.
• رمضان الذى نعشقه – مقالات (نوفمبر 2004 م)، كتاب الجمهورية، دار التحرير للطبع والنشر، القاهرة.
• القاهرة الساحرة – مقالات (ديسمبر 2004 م)، كتاب الجمهورية، دار التحرير للطبع والنشر، القاهرة.
• رحلات بنت قطقوطة (يوليو 2007 م)، كتاب اليوم، دار أخبار اليوم، القاهرة.
• عالم السيرك المدهش – ديوان بالعامية المصرية للأطفال (2011 م)، كتاب قطر الندى، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة.
• محمود درويش وطن فى شاعر – دراسة أدبية (أكتوبر 2011 م)، كتاب الهلال، عدد 30، دار الهلال، القاهرة.
• تواصل – الإصدار الأول – إعداد وتقديم(2012 م)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
• المثقف والسلطة – شهادات وحوارات (2014 م)، كتاب الجمهورية، دار التحرير للطبع والنشر، القاهرة.
“ المجلات الأدبية فى مصر 1954 – 1981 دراسة تاريخية وفنية , 2016 , المجلس الأعلى للثقافة .
” موجة دافئة ” قصص, 2016 , الهيئة المصرية العامة للكتاب
” على باب الدنيا ” قصص , 2017 , الدار المصرية اللبنانية .
” قميص البحر ” , قصص , 2019 , دار المعارف , القاهرة .
” الحياة فى مقام الحيرة – قراءة فى قصص نجيب محفوظ المجهولة ” , 2019 , دار المعارف , القاهرة .
” تجديد الخطاب الثقافى ” , 2019 , كتاب الهلال , مؤسسة دار الهلال , القاهرة .
حصلت على عدد من الجوائز أبرزها:
– جائزة الدولة التشجيعية فى أدب الرحلة عام 2002
–  جائزة إحسان عبد القدوس فى القصة القصيرة عام 2016
جائزة اتحاد الكتاب فى القصة القصيرة عن مجموعتها القصصية ” موجة دافئة ” , عام 2019

أضف تعليق