أرشيف الأوسمة: صدى

  معالجة جانبية للفتنة “3”. قصة: أحمد عبده

                 

         

يقفُ على أرجوحته، اقتربتُ بفمي من فتحات أسلاك القفص، فالتقطَ عود البقدونس من بين أسناني، جلستُ على الكرسي المقابل له، رحتُ أتتبع طريقته في أكل الخضروات؛ وقد ظهر عليه التلذذ بالعصارة الخضراء.

تذكرتُ ضرورة تصوير المنظر الرقيق، قمتُ لإحضار الموبايل، وحينما عدتُّ كانت عشبة صغيرة – هي ما تبقى بين منقاريه، ولا يزال يعالج التهامها, سال لعابي لتقبيله في فمه/ منقاره,! فم مدبب دقيق كطرف نبتة زنبقة، تحبُ أن تمسكهُ بين أسنانك الأمامية، وتظل هكذا, وأنتَ تنظرُ في عينين كفقاعتي زئبق على زجاج أخضر فاتح، كلون ريشَهُ، أو تضعه بين شفتيك وتمتصه لدقائق!

اقتربتُ بوجهي من أسلاك القفص، شفتاي تسبقان أنفي، تحرك من مكانه وجاء نحوي؛ مد منقاره, ربما ظن أنني أُخبيءُ له شيئًا آخر داخل فمي، أو ليشكرني على الوليمة الخضراء الطازجة، نقرني في شفتي السفلى, شفتي سمينة وقرمزيتها طبيعية وباستمرار، هل يعاقبني لأنه لم يجد شيئًا هذه المرة؟

سال الدم على قميصي القطني الصيفي الفاتح؛ فتكونت عليه بقعٌ متفرقة، ليبدو كأنه “مَحرمة” لفتاة من فتيات القرية القديمة ليلة دُخْلتها على عريسها.

وبعيدًا عن أمور العواطف أو الاستلطاف- سألتُ نفسي بعد أن صرختُ، وفور رؤيتي لسرسوب الدم المنسال على صدري:

ـــــــ  بالذمة ! هل هناك امرأة عاقلة تُقبِّل عصفورًا في فمه، أقصد في منقاره؟

المنقار لطيف، ورقيق، مثل مِرْوَد الكحل، يُغري بأن تضعهُ بين شفتيك وتبخّ فيه حبات الدنيبة؛ كي يتغذى العصفور أكثر، فينمو جسده ويصير سمينًا!  

ولأننا نساء، ولنا قلوب في رقة ألسنة اليمام، وأحيانًا في قسوة غرس سِنّ منقار العصفور في شفتي – تجدُ المرأة منِّا تجاه موقف كهذا، وقد انقسمت إلى نصفين يتصارعان، صراع  بين عاطفة وعاطفة:

 عاطفة من حديد تقول لي: أخرجيه من القفص, وأطلقي سراحه إلى الفضاء، فهو خائن، ولا يستحق أن يعيش في قصر كهذا, وينال مني هذه المحبة والرعاية – وعاطفة من الملبن تعترض وتقول: لن تتحملي غيابه ساعة واحدة، فأنتِ دائمة الجلوس أمام قفصه؛ تناغشينه وتلاغينه وتلاعبينه، وأحيانًا تُخرجينه من القفص وتضعينه على صدرك، برجليه وأظافره الدقيقة وأنتِ نائمة, أو يقفُ على أحد أصابعك, فلايحاول الطيران أو القفز.. لا يفكر في النزول من عليه!!    

تُوجعني شفتي، وأرى الدم على القميص؛ فأُصرُ على طرده وتسريبه لخارج القصر. ويؤلمني تخيل فراقه؛ فأُصرُ على وضعه في القفص!

أحبُ أن يكون أمام عينيَّ باستمرار، ولو في الحبس! 

العاطفة الأولى تقول: نقرَ شفتكِ هذه النقرة الغبية: شفتكِ التي تناغيه، وتخاطبه، وحملت له عود البقدونس الأخضر, فلماذا تُبقي عليه؟

فيما العاطفة الثانية تقول: الخطأُ خطأُكِ! وإذا أصررتِ على طرده، أخرجيه من القفص، ودعيه يمرح في أجواء القصر، فالفراغ محكم، لا يوجد فيه ثقب تخرج أو تدخل منه ذبابة، والأبواب وهي مغلقة نحسبها مفتوحة! وهي مفتوحة نحسبها مغلقة!, وكان تبريرها لذلك أنه بدلا من حبسه في السجن الصغير، فليمرح بجناحيه في السجن الأكبر، فالمفروض أن حريته على الأشجار، وفي الحقول، فعلى الأقل يمرح على أطراف الستائر، وحواف النجف والثريات، فلماذا تميَّز عن البشر بالجناحين؟

وأقول في نفسي: لكنه ليس من عصافير البيئة الخارجية؛ لكي نطلق سراحه, هو غريب عن هذا العالم, تميَّز بشكله الأجمل والأرق؛ ليكون حبيسًا هكذا! هو مثل طفلي” قرنفلة ” تمامًا, فلو أُطلقنا سراحه، وخرج معه “قرنفلة” إلى الشارع- فكلاهما لن يعرف طريق العودة إلى القصر!

وحياته في القصر هي ما جعلته هكذا: محدود النطاق، محدود النظر، غشيم التصرف! حتى وأنا أمُدُ  له اليد بطعامه.

 فلا نحن تركناه مع فصيله الذي يمتلك شواشي الأشجار وأسلاك الهاتف وحبال الغسيل! ولا نحن تركناه يمرح في أجواء القصر؛ فيطول باع جناحيه، ويقوى ريشه على مقاومة الطيران كما يقوى منقاره من كثرة النقر في الأرض. وهل ما جعله لا ينتمي لبيئة الأشجار والنقر في الحقول – إلا أننا جعلناه تربية قصور؟ 

هو، ومن كثرة الأُلفة معنا في القصر نقر شفتي، مثيله البري على طرف شجيرة، يطير هاربًا لو هشَّهُ  الصغير” قرنفلة”.

لكن كلما نقح عليَّ الثقب الذي أحدثه في شفتي، أشعر بغلظة نحوه فأقرر طرده خارج القصر, تخفت هذه الغلظة شيئًا, فأقرر إطلاقه في جو القصر مع  حرمانه من الطعام يومًا، فسرعان ما تلين تلك الغلظة أمام بكاء “قُرنفلة”، فهو لا يريد لعصفوره أن يغادر القفص؛ ولا القصر, فأرى أن رأيه أصح مهما حدث، فنحن أتينا به ليكون أقرب لنا من نجفة السقف: نتكلم معه، ننظر في عينيه، ننقله من مكان لمكان بسهولة، آخذه معي إلى غرفتي وأنا ذاهبة إلى سريري! يوجد أكثر من عصفور في أقفاص أخرى: في الصالة، في الشرفة، لكن القلب وما يهوى، فإذا أطلقناه في جو القصر- فأين سنجده؟ مره نجده مختبئًا وراء ستارة، ومرة على سلك نجفة، ومرة يطوي فراغات القصر بألعاب بهلوانية: من غرفة! إلى بهو! إلى صالة! ثم يختفي كجن! وأنا لا أطيق غيابه عن عيني، بودِّي أن أعلقه في صدري دلَّاية.

ومن بين أسلاك القفص، مددتُ له عود بقدونس آخر بيدي هذه المرة، ظل واقفًا على أرجوحته، لم يتحرك، هل يريده من فمي، من بين أسناني، شفتي؟

ظللتُ مادةً له العود الأخضر، كأنني أُلحّ عليه، أو أتوددُ له قائلة:

 لا تحزن! أنا سامحتك!

حشر العصفور منقاره بين خشبتين من خشبات أرجوحته، وانهمك في ثنيهِ شمالاً ويمينًا, حتى سقط منه طرف الزنبقة!، ثم رفع رأسه وهو ينظر لي بعينين لامعتين.. بسائل شفاف.

                                  ***

                                               مايو 2022 

قتلت الخوف رميًا بالرصاص. قصة: ياسمين الغمري

إلى من سيأتي بعدي، لن أقول لك تحية طيبة وبعد، كما اعتاد الناس أن يستهلوا أوراقهم البيضاء، لأني ببساطة لا أملك ورقة بيضاء مثلهم ــ على ما يبدو أن ورقتي ملوثة ــ غير أني أكتب لك بالطبشور على جدار هذه الغرفة الضيقة التي استوعبت حريتي وجموح روحي.

سيدي الذي حتمًا لن يكون فاضلًا.. لا تخف، أعلم أن بينك وبين الموت ثلاثة أمتارــ المسافة التي تفصل بين غرفتنا والحبل الذي سيطوقونه حول رقابناــ هدىَّ خفقان قلبك وحدق في حروفي، ماذا لو أمهلتك الحياة سنوات أخرى؟

قطعا إجابتك الآن أنك ستذهب إلى الله تضرع وتبكي وتعلن توبتك وتفعل كل الخيرات، إجابة أكيدة من شخص سيموت بعد لحظات قلائل، لكن يا سيدي غير الفاضل الحقيقة أنك لن تستطيع أن تستمر على هذا الوضع الخير كثيرًا، لأنك بالفعل كنت تملك السنين ولم تفعل فيها شيئًا، أعلم أن أمامك ساعة واحدة فقط وستكون مثلي تمامًا لا وجود لك في هذا الكون اللعين، لذا في هذه الدقائق المعدودة غني كل الأغاني التي أحببتها، أرقص يا عزيزي، أبكي فرحًا، هذه اللحظات ملك لك ليس لأحد آخر في الدنيا.

كنت أتمنى أن أكتب لك أكثر، لكن عُمْرَ طبشوري قصير ولم يعد أمامي الكثير، سلامًا طيبا إليك فأنا ذاهب لأغني وأرقص حتى ينادون على اسمي وأرحل، وداعًا صديقي الذي لم ولن أقابله يومًا ما.

الاسم: نعيم علي الغمراوي

الجريمة: قتلت الخوف رميًا بالرصاص

فقدان المعنى الذاتي في السرد، بقلم: سيد الوكيل

فقدان المعنى الذاتي

سيد الوكيل

في ثقافتنا العربية الحديثة، سيطرت قضايا الواقع الاجتماعي والسياسي على المشهد الأدبي تمامًا، كانعكاس طبيعي للظرف السياسي والاقتصادي المأزوم، الذي خلف قضايا مازالت عالقة، وظهرت تجلياتها في اتجاهات الواقعية، بمرادفاتها الاجتماعية والنقدية، عبر تمثيلات تصارعية، بين الطبقات والأجيال، فضلا عن صراع المثقف مع السلطة، والصراع بين الأنا والآخر، أو بين الشرق والغرب على خلفيات استعمارية، كما نجد عند الطيب صالح وبهاء طاهر وغيرهما. كما الصراع بين المتن والهامش، عبر أقنعة مختلفة منها، روايات: النسوية، والمكان، ومؤخرًا الرواية التاريخية.

والذي ينظر إلى المشهد على هذا النحو، يلاحظ أن الطبيعة التصارعية هي المزاج الغالب على الإنتاج الأدبي. وأن هذا الصراع موجه لخارج الذات المبدعة طوال الوقت. سواء في نزعتها النقدية للآخر، أو في نزعتها البحثية عن الأنا. حيث تدخل الأنا في معنى جمعي يشير إلى الهوية، وهو التعبير الأكثر قبولا وجاذبية لوصف روايات المكان وأبعادها الأنثربولوجية. لكنه يضع التجربة الفردية للذات المبدعة في أمان القطيع الاجتماعي. 

هكذا ظلت الذات العربية المبدعة منغمسة (إلى شوشتها) في معان كلية، تعكس أزمات الواقع، الذي غالبًا يكون مفروضًا عليها من خارجها. فتتحول من موقف الإبداع إلى التلقي، وتدخل في دوائر الاستنساخ والتنميط. وهذا يفسر لنا، ظهور (موضات) في الكتابة، تروج وتنتشر على نحو سريع، ثم تختفي، ولا نعرف لماذا بدأت ولا لماذا انتهت؟ كما يفسر لنا ظهور روايات (الأندر جراوند) بوصفها احتجاجًا على أنماط الرواية الاجتماعية، عندما يلجأ كتابها إلى تصوير واقع غير مرئي (ميتافيزيقي) عن كائنات غير بشرية، تعيش بيننا وتسيطر علينا، كالجن والزومبي والفامباير، ومثل هذة المعروفة برواية الرعب.    

المشكلة، أن انهماك الذات المبدعة، في موضوعات الواقع، يعرضها للاغتراب، فتدخل هامشًا قصيًا باعتبارها مضافًا إليه، وشيئًا فشيئًا تتعرض للتجريف والتآكل، ومع الوقت، يصاب المثقف العربي بفقدان تام للمعنى الذاتي، ويصبح مجرد آلة كاتبة في يد المجتمع ومفرداته من: قراء ومؤسسات نشر ولجان جوائز، ثم.. السلطة نفسها.

استمر في القراءة فقدان المعنى الذاتي في السرد، بقلم: سيد الوكيل

متحررا من كل شيء. قصة: مراد ناجح عزيز

…………….

لا يوجد ..

اثر تاريخي يذكّرني بلون بشْرته, متجوّلًا بين الأزقّة والشوارع, يتخطّف النظرات تجاه المارة هُنا وهُناك على مدار الدقيقة الواحدة, دون أن يبدي أي اهتمام بأحد أو يحاول الحديث معه, وكأن لسان حاله يقول: لا بأس, الناس جميعًا سواء, لا بأس, مرور الوقت كتوقّفه, صوت نقيق الضفادع كصوت الأغاني لا يثير في نفسِه اشتياق لحلم بعيد أو قريب, يمتلك جسدًا فارعًا في الطول وبنيان قوي في ظاهره, يجلس منطويًا اغلب الوقت في ركن بعيد, يستظل بتنْدة أحد المحال التجارية نهارًا, متحرّرًا من براثن عقل, دون أن تهاجمه طعنات حزن لو انه ظل يحمله أو ربّما طعنات فقد أو ربّما, .. احتمالات كثيرة, كان يمكن أن تقتاده خطواته يومًا لجريمة قتل أو قصّة حُب, كان يمكن أن يصبح زوجًا وأبًا لأبناء, يجلس وقد أصابه وهن السنين, منفردًا يقرأ طالع الأيام في جريدة, يبهره صوت أغنية, فيجاهر بترديدها على مرأى ومسمع من المارة دون خجل, نعم هو الآن لا يحمل هموم يوم أرهقته, ولا هو يشعر بضيق من العالم حوله.

استمر في القراءة متحررا من كل شيء. قصة: مراد ناجح عزيز

صياغة المعنى في (حروف الغربة) بقلم: أحمد غانم عبد الجليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 يتناول القاص المصري عصام سعد حمودة الغربة من أوجه عدة ضمن مجموعته القصصية “حروف الغربة”، حروف تتدفق وتنساب في مسارات عميقة المضمون، ولو من خلال أبسط المواقف الحياتية، مما يتطلب أكثر من قراءة لكل نص ينطوي على أزمة فكرية أو نفسية أو عاطفية أو مادية تعاني منها الشخصية المحورية، تشترك في إعادة صياغة السؤال عن معنى الاغتراب، أو منطلق الإحساس به، سؤال يواجهنا كثيرًا في مواقف شتى، حتى مع ممارسة ذات الطقوس اليومية، وفي ذات الأماكن، والأماكن في جل نصوص المجموعة كانت أداة من أدوات السرد التعبيرية، سواء داخل أو خارج مدينة الكاتب (الإسكندرية) عبر الإشارة إليها بمفردات متفرقة هنا وهناك.

استمر في القراءة صياغة المعنى في (حروف الغربة) بقلم: أحمد غانم عبد الجليل

جريمةز قصة: ماهر طلبة

فى حادث غامض مات البطل، لم ينتبه المؤلف فى البداية إلى حالة الوفاة، فقط أمام بطء الأحداث وتوقف زمن القص والسكون التام الذى سيطر على القصة، راجع المؤلف ما كتبه، فاصطدم أثناء المراجعة فجأة بجثة ملقاة على الأرض، لم تكن مغطاة أو مدفونة مما يؤكد أن الجانى لا يريد إخفاء جريمته، ولم يكن سلاح الجريمة ظاهرا أو موجودا مما ينفى فرضية الانتحار من البداية.. الدماء التى تركت الجثة كانت تغطى مساحة ليست بالصغيرة من القصة، حتى أن يد المؤلف كانت تقطر دما حين رفعها عن الورقة.

وقف المؤلف مذهولا فى بداية الأمر، لكنه وكمؤلف ملتزم بكل خصائص السرد الواقعى وقواعده، اضطر إلى استعمال التليفون والاتصال بالشرطة للإبلاغ عن الجريمة والجثة، سارعت الشرطة بالحضور، وأيضا كشرطة تعرف دورها وتعمل على حفظ الأمن ومنع الجريمةحتى داخل قصة قصيرة، بدأت فحص القصة من بدايتها.. كان العنوان مريب لكن الأحداث تبدو عادية من الوهلة الأولى.. موظف صغير متزوج من سيدة لا تعمل، لم يهتم المؤلف بها فلم يرسم لها صورة أو يظهرها فى قصته حتى ولو ككمبارس صامت، يسكن شقة من حجرتين وصالة، ترك الزمن بصماته القاتمة على كل ما بها.. جدران، سقف، أثاث.. حتى بلاط الأرضية لم يسلم من ضربات الزمن التى حطمت بعضه وتركت على ما بقى منه علامات سوداء..

لم يكن هناك أعداء واضحون فى السرد رغم أنه يبدو –بقراءة ما بين السطور – أن المؤلف منذ البداية لا يحبه، فقد حبسه فى سجن العادات والتقاليد.. صلاة الجمعة فى المسجد القريب من بيته الروتين والفرض الذى يجب أن يتم، العودة والجلوس أمام التلفاز لمشاهدة الشيخ الشعراوى والتثاؤب المستمر، تناول الغذاء فى موعد مبكر – لم تظهر القصة من أعده ولا من يتناوله معه استمرارا لحالة التهميش–عن المعتاد فهذا يوم الإجازة، ثم العودة للتلفاز وأكواب الشاى السوداء المتعددة – هنا أيضا لم تظهر من أعدت وجهزت وأحضرت- والتثاؤب حتى ميعاد النوم، الذهاب إلى العمل طوال أيام الأسبوع حيث يتحرك الملل والكأبة والضغائن الصغيرة فى شكل أوراق وأشخاص..

كان انسانا عاديا، يتلبسه الفقر منذ اليوم السابع بعد قبض المرتب، لا يملك ما يجعل منه محلا للحسد أو الحقد، ولا يحتل منصبا يجعله مطمعا للأخرين أو خصما لهم يستحق القتل.. لم يمارس أى نشاط يثير الشك أو يخلق العداء – للأمن وحراسه-  تأكد من هذا ضابط الشرطة.

لم يفهم الضابط الذى يقوم بالتحريات.. لماذا وأنا أملك القدرة على الخلق لا أحقق طموحى الذاتى؟!.. لماذا لا أخلق المناصب العالية والسيارات الفارهة والقصور التى تحيط بها الحدائق والأشجار والأسوار،تحرسها الكلاب – من كل نوع-  من كل جانب؟!..  لماذا أخلق شخصية عادية يسعى يومه للحصول على طعام بينما يمكننى أن امد مطبخى بالخدموأصناف الطعام التى نراها على موائد الأسيادواللئام؟!!.ز

توقف وكيل النيابة أمام هذه الجزئية باستغراب.. “لماذا يكون مثله بطلا لقصة؟!.. لابد أن المؤلف يخفى شيئا ما فى داخله.. ربما يكون هذا نوعا من المرض النفسى”.. من هنا تحرك شك وكيل النيابة – الذى تدعمه تحريات ضابط المباحث وشكوكه- نحو المؤلف.. خاصة أنه لم يكن هناك فى الأساس أى شخصية أخرى بجانب البطل.. اختار المؤلف منذ البداية آدم دون حواء.. شخصا واحدا فى قصة عادية، وقد أحاط قصته منذ البداية بحائط – من الكلمات والنقاط- لم يجد وكيل النيابة ثغرة به يمكن لأحد آخر أن يتسلقه أو يتسلل من خلاله ليدخل القصة، ويقوم بعملية القتل مع انتفاء الهدف والسبب.. لذلك وفى نهاية يوم طويل اضطر وكيل النيابة إلى الأمر بالتحفظ على المؤلف – ذلك القرار الذى أدخل السعادة إلى قلب الضابط – وتشميع القصة بالشمع الأحمر والتحفظ عليها لحين انتهاء التحقيقات.

ماهر طلبه

mahertolba@yahoo.com

عشة رجاء. قصة: محمد زين العابدين صبري

                                 (عشة رجاء )

كنا نستيقظ قبل أن تفيق الشمس من غفوتها لأننا كنا ننام في العراء ونحن نرى الشمس قرص أحمر يستعد للابتهاج والسطو على الأرض كنا نراه يدنوا من خلف جبل بعيد عالي وضخم كنت أسأل نفسى عن الذين يقطنون هذه الجبال ويستطيعون أن يلمسوا قرص الشمس بأيديهم كم حلمت أن أكون هناك ..

فركنا أعيننا من غبار التراب الذى كنا ننام فوقه وإنطلقنا بين المزارع والغيطان نجلب العشب لنعجة عاقر ( وسخلة ) ضامرة لا تنموا رغم سعارها فى الأكل وجاموسة بروز عظامها كنا نستعمله مسند لظهورنا اذا امتطيناها ..كان موسم الأربعينية حيث لا ماء فى الترع ولا المصارف وأسماك ضاقت عليها معيشتها تتقافز نحو اليابس بسبب انحسار الماء وقلة الاكسجين وأخرى دفنت نفسها فى الطين … كانت (رجاء) تسكن وأمها في قبو من الطين على حافة الترعة تركهم أخوها وسافر الى الاسكندرية للعمل فانقطعت اخباره كانت (رجاء) صارخة الجمال تتوسط أسنانها (فللة ) تجعل ضحكتها ساحرة وغمازة فى خدودها احب أن أنظر إليها حينما تضحك …

نظرت الى القصب المنتصب والمستوى وفيه المائل على بعضه من فرط عافيته وكأنه أسوار يستحيل اختراقها تتجول داخله الذئاب والكلاب كنا نسمع عويلهم وكانت أعواد الشامي هائمة منتصبة تراقصها الرياح تتدلى منها القناديل برائحتها المميزة ..وقفنا نتدبر من أين نجمع العشب نخشى من (جاد) هذا الرجل الغبي الذى يملك عقل حمار لا يتحدث ولا يعاتب ولكن بيده مطرقة فإن وجدنا سيجرى خلفنا ويضرب بزمة وضمير وهو يلعن ويسب في أهلنا وأباءنا … ونحن على هذا الحال خرجت ( رجاء من قبوها ) وأعطتني كسرة خبز محشوة بالسكر ففرحت بها ثم ابتسمت وقالت لي تعالى سأرفعك لتحضر لي ( السرة المعلقة ) لأن ( الشناطة ) عالية … وسحبتني من يدى داخل القبو وأغلقت باب الخشب المتصدع خلفها … فنظرت الى الشناطة المعلقة وفوقها السرة كنا بحاجة الى شيء أصعد عليه فأحضرت لي كوة من طين فإرتقيتها ومددت يدى لأسحب( السرة) فإذا بيدها تقبض على مناطقي وقد كانت مناطقي متورمة ومنتفخة بفعل سنى الذى يطرق أبواب المراهقة المسعورة وبيدها الأخرى قبضت على مؤخرتي ..فارتبكت وانتفضت وقفزت من على الكوة للأرض وإذا بي أجد نفسى بين أحضانها محشور بين نهدين اعياهم الظمأ (وفللة أسنانها جافة تماما ) وقد تجردت من عباءتها في غفلة منى وأنا مشغول بإحضار (السرة ) كان كل شيء متواطئ ومتأمر الأرض التي افترشتنى عليها وضغط نهديها وعصير قبلتها الجاف والحمم التي تخرج مصطحبة أنفاسها قشعريرة سرت في جسدي.. وبدأت مناطقي تتمدد فهي الأخرى متامرة حتى الباب المتصدع يتكأ على الجدار بثبات وأخي ومن معه انغرسوا بين ماء الترعة يتحسسون بأيديهم بين الطين موطن الأسماك العفية ونسوني … قالت لي بهمس إن أمي ذهب للعزاء ولن تعود الآن لم أكن أتحكم بشيء حتى ذلك الصراخ بداخلي تحول الى خصب يروى الأرض الظامئة ..هدير انفاسها الساخنة يرقد في مناطقي .. كل شيء حولنا متآمر وكل شيء بداخلنا متآمر اهتزت الأرض تحتنا وتناثرت حبيبات الغيم السابحة في السماء ثم تجمعت بعد عناء.. فأنزلت مطر بكر حديث عهد بأرض لم ترتوى من قبل. فكان الغيث وفيرا والأرض ظمأى فارتوت وأطفأت نار مشتعلة وهدأ هدير الصراخ الذى يعوى في جسدها منذ سنين

درجات سلم. قصة : سمير فوزي

ظننته يستعجلنى  عندما وجدت رقمه على الهاتف، قلت له :

–  أنا قريب من الجامع يامولانا ،انت وصلت ؟

أحسست بتوتر فى صوته وهو يقول :

– إطلع المستوصف اللى فوق الجامع ، ماحدش يشوفك

– إنت تعبان؟

 –  هاتعرف لما تيجى

المفروض أن يكون الشيخ عارف الأن فى المسجد لكتب كتاب هبة ابنته الصغرى ما ذا يفعل الأن فى المستوصف إن لم يكن مريضا !

 عندما وصلت الجامع نظرت من شبّاكه رأيت أبناء الشيخ وأخوالهم وجيرانه والشيخ حامد المأذون  ينتظرون صلاة المغرب التى سيعقبها كتب الكتاب،.

 صعدت الى المستوصف الموجود فى الطابق الثالث أعلى المسجد من باب مستقل  ،بحثت عن الشيخ وجدته جالسا على كرسى خشبى  بجوار حجرة النساء والولادة ، كانت عمامته قد تزحزحت من على راسه فبانت صلعته كاملة ،أراها لأول مرة منذ عرفته، فالشيخ حريص كل الوقت على ارتداء العمامة ،وفى البيت لايخلع طاقية بيضاء التصقت برأسه ,

كانت نظارته السوداء العريضة ساقطة بين قدميه ،يمدد ساقيه أمامه ،سألته:

– خير يامولانا ؟

عرفنى من صوتى كعادته وقال:

–  خالتك سناء بتولد

قلت مندفعا

–  دا وقته!

–  حكمة ربنا

 حًبًكْتُ العمامة فوق رأسه والنظارة على عينيه وقلت

— والناس اللى تحت فى الجامع وكتب كتاب هبة !

كما لم اره من قبل، كان الشيخ عابسا قال:

–  سناء مالهاش حد،أهلها كلهم فى البلد،  خللى هبة توًكِّل حد من اخواتها

–   مش هاترضى وهاقول لهم انت فين؟

 –  اتصرف، بس ما تقولش انا فين

–    لازم يعرفوا

–  بعدين ، انت عارف عملوا إيه  فى الأولانية، انزل اقف معاهم وبلغنى

أعرف الشيخ عارف من سنين طويلة ، كان صديقا لأبى الدى كان ضريراَ مثله ،كان ابى مثل الشيخ عارف  يصر على أن لا يسحبه أحد، قربنى الشيخ منه بعد موت أبى واعتبرنى عوضا عنه  وأصبحت بطول العشرة سره ،أعرف عنه أكثر من أبنائه الثمانية ،يحفظ عندى كل اوراقه  الخاصة ،دفاتر توفير البنات ، قسائم زواجهن و قوائم منقولاتهن وعقد الأرض التى اشتراها فى المرج وعقود إيجار شقق بيته بعد أن رفض أولاده السكنى فيه و قسيمتى زواجه من سناء وطلاق الأخرى.

كنت شاهدا على قصة زواجه الأولى التى  صارح بها أم مصطفى عندما بدأت  تغسل كلى  فسلّطت عليه  أولاده وقاطعوه وأجبروه على طلاقها، وكنت شاهدا على زواجه السرى من سناء التى جاء بها من قريته بعد أن ماتت أم مصطفى .

كانوا قد انتهوا من صلاة المغرب ورأيت القلق والدهشة  والغضب على الوجوه خاصةأولاده الذين يعلمون انه سبقهم الى الجامع ،سألونى عن الشيخ فاضطررت للكذب وادعيت أننى لاأعلم وشاركتهم استغراب غيابه وعدم رده على تليفوناتهم.

انتحيت جانبا واتصلت به، أخبرته أن هبة رفضت توكيل  غيره و انهارت وصرخت فيمن ذهب إليها أنها لن تتزوج ونزلت لتبحث بنفسها عنه،  طال صمته ثم قال:

–  إتصرف

 قلت له:

—  أقول لهم ؟

قال بسرعة :

– لأ

أَشعرأحياناَ أن الرجل يخاف من أبنائه، عندما قاطعوه بوشاية من أمهم أرسلنى  لأسترضيهم  واحدا واحدا ،لكنهم أصروا على الطلاق ,

لم أقل له أن  مصطفى إبنه الكبير ضابط الشرطة اتهمه بالجنون  والخيبة على كبر، وأقسم إن  اقتضى الأمر سيحبسه فى البيت .

 وقالت نهى المحامية أنها لولا الفضيحة لسمعت كلام شقيقها سعد وحجرت عليه.

الشهادة لله، لم يقصر الشيخ فى حقهم أو حق أمهم  ،طول عمر  الشيخ واسع الرزق مند  تعيينه فى شركة الكابلات ضمن نسبة المعاقين ،لم تجد إدارة الشركة له عملا إلا المصلى  يؤذن ويصلى بالعاملين الظهر وأحيانا العصر.

 اكتشفوا حلاوة صوته،وأخده كبار الموظفين لبيوتهم يقرأ القراًن لنسائهم فى الأخمسة والأربعينات والسنويات .

إرتدى  عارف الجبة والقفطان  وعرف طريق السرادقات  ، ذاع صيته فرفع أجرته لتقارب (الصييتة) الكبار ،ولم يعد يقرا  فى السرادقات الصغيرة وقاعات المناسبات إلا مجاملة لجيرانه ومعارفه.

فى مواسم الحج والعمرة كان أصحاب شركات السياحة يتنافسون عليه ،يجمع لهم راغبى أداء الفريضة مقابل عمولة على كل رأس ، كانوا يوفدونه لمرافقة النساء وشرح المناسك لهن ، مابين سنتين وثلاثة أدرك الشيخ   التفاصيل كاملة .

خصص حجرة فى بيته مكتبا أسماه شركة العارف للحج والعمرة، كان موظفو السفارة السعودية يعرفونه فخصصوا له حصة فى التاشيرات ،كان يحفظ خريطة الفنادق الكبيرة والصغيرة القريبة من الحرم والبعيدة ويتصل بهم ويمنحونه خصومات كبيرة  ،كنت أسمعه وهو يتحدث إلى الزبائن و شركات الطيران  وهو جالس الى مكتبه والتليفون الدولى على أذنه ونظارته السوداء العريضة على عينيه عن أنواع تداكر السفر ودرجاتها فينطقها بالانجليزية (الفرست كلاس والايكونمى والتدكرة البزنس) مع أنه بالكثير يكتب اسمه.

  حكى لى الشيخ عارف وهو يضحك إهانة أم العيال له عندما علمت بزواجه فى مرضها ، ووصفها له بقلة الأصل والشايب العايب الذى تخطى الستين و(يريِّل )على الحريم ،وعايرته  باحتمالها لعماه أربعين سنة.

وكان يواصل ضحكه قائلا :

–   والله عندها حق ، هى الوحيدة فى الدنيا كلها اللى عارفة اننى ماستغناش عن الحريم، أعمل ايه إذا كان ربنا ضلم عينيّ ونور لى جسمى كله !

عندما أخبرنى الشيخ عارف أن سناء حامل  سألته:

—  مبسوط ياشيخ ؟

قال والفرحة تنط من وجهه وعيناه تشعان وكأنه يرى :

 –  فرحة أول خلفة من أربعين سنة، ياه!! دا الواد مصطفى كبر، هو شعره إبيضْ واللّا لسّا؟

وقال فى زهو:

–   سناء عدت الأربعين سنة، اتجوزت مرتين ٌقبلى وماخلفتش  ، عمك الشيخ لسا بخيره

سمعت الشيخ أكثر من مرة يقول أن أول مايسأل عنه عقب كل ولادة هل المولود يبصر أم نزل أعمى مثله  ؟ ويقول : الحياة متعة لأعمى زيى بيحسس عليها مابالك باللى شايفها بعينيه الاتنينن!

اتصلت به لم يرد ،كررت الاتصال حتى انقطع الرنين، خفت عليه فتسحبت صاعداَ إلى المستوصف ،وجدته مكانه وعرق غزير يملأ وجهه وقطرات منه تتسرب الى فمه  وذبابتان تستقران فوق رأسه التى تزحزحت عنها العمامة ثانية، سألته:

–  لسّا يامولانا!

–  لسّا !  البنت اللى مع الدكتورة قالت ان الولادة صعبة، سناء بكرية وسنها كبير ،ربنا يستر

ثم  علا صوته

–  انت ايه اللى طلعك !خليك معاهم

كانوا قد خرجوا من الجامع وانصرف المأذون ورأيت هبة وإخواتها ونساء كثيرات انضممن للباحثين عنه،تابعتهم يتشاورون .

 قال مصطفى الضابط أنه سيصل لحد قسم الشرطة يبلغ بغيابه فاعترض الشيخ ناجى الإبن الوحيد الذى ولد أعمى والذى  استجاب لرغبة أبيه ودخل الأزهر ليكون واعظاَ وقال :

– ماتستعجلش أنا شامم ريحته قريبة من هنا

 نهره أخوه قائلا :

– والنبى بلاش الدروشة اللى ورثتها منه

كنت منحازاَ لأن أخبرهم أن المسافة بينهم وبينه بضع درجات سلم من الباب الخلفى للمسجد  وأنه يجلس الأن منتظرا قدوم الأخ التاسع.

سمعت هبة تبكى وهى تدعوهم للسؤال عنه فى المستشفيات القريبة فاحتمال أصابه مكروه وهو فى طريقه للمسجد.

هممت أن أخبرهم أن الشيخ بخير لولا  الوفاء لعهدى معه.

 اتصلت به ناويا إبلاغه  بأننى لا أستطيع إخفاء الأمر أكثر من ذلك وأنه لايرضيه بهدلة أولاده  فى الشوارع  فلم يرد .

تسللت إليه ،لم أجده على كرسيه، لمحت هاتفه المحمول ونظارته ملقيان أسفل الكرسى وغرفة الولادة لازالت مغلقة.

حركـات. قصة: إبراهيم صالح.


تصاعدت حدة التصفيق داخل الخيمة الكبيرة بالسيرك فور إنتهاء اللاعبين من تأدية حركاتهم ،إلا أن واحدا فقط من وسط الجمهور الكبير المحتشد هو الذى شذا عن هذا التوافق الجمعي؛ حيث لم يبد عليه أي أهتمام لكل ما حدث من حركات وألعاب ملهية، بدت عليه علامات وأمارات عدم التقبل والرفض الصريح لما يحدث أمامه تمثل ذلك في وجوم وجهه المربع القسمات كوجه أسد حكيم وفي نن عينيه المتسعتين بلونهما البني الفاتح. كانت تجلس إلى جواره زوجته وأبنتيه اللتين إستغرقهما المشهد تماما وإن إختلف مشهد هذا الإستغراق من واحدة لأخرى في كيفيته حيث بدت الصغيرة بنت الخامسة عشر عاما في قمة سعادتها ونشوتها وهي ترى لأول مرة مثل هذا العرض الكبير،بينما بدت الثانية طالبة الجامعة منتبهة فقط للمشهد المحيط بها وإن كان قد بدا على وجهها الرقيق النحيل علامات عدم الفهم والحيرة من حركات اللاعبين التي أدوها بسرعة، وما أن أحست الزوجة بنغص زوجها وعدم مشاركته لجمهور المصفقين حتى مالت عليه بكتفها الملاصق لثدييها الكبيرين وغمزته بحركة إنفعالية بكوعها فى جنبه الأيمن كشفت عن محاولتها القهرية المقصودة لإخراجه عن صمته بقوة، ثم تابعت ما عمدت إليه فمالت ناحيته لتقول له بعد هدو عاصفة التصفيق داخل السيرك نسبيا:
” مالك يا راجل ما تسقف زى الناس ماهى بتسقف بلاش فضايح ونكد، فكها وسقف”، إلا إنه رغم النكزة العصبية التي مُني بها لتوه تلك التي لم يحسب لها حساب بدا أكثر جمودا من الأول فلم يبد حراكا أو تأثرا، وإن كان قد أجابها في بهدوء دون أن يتحرك بوجهه نحوها بكلمات خرجت بصعوبة من بين أسنانه المصطفة في نظام ونظافة:
” مش قادر “


ردت عليه وهى تلتفت إلي جموع الموجودين من حولها يمينا ويسار في حركة إرتيابية وكأنها تخشى ملاحظتهم لزوجها وإنكارهم عليه عدم إستجابته لما يحدث حوله:
” ليه لسانك مسكه عفريت، ولا بطنك هبشها مغص معوي”. ولما لم يجبها في التو واللحظة، فقد تحولت عنه بالنظر إلى بناتها الغارقات فى المشهد الكبير من حولهن وربتت على كتف الصغيرة الجالسة إلي يسارها مباشرة وكأنها تعوض نفسها عما فقدته من الزوج بالابنة الممتثلة لها دون طلب.
خرج الأب عن حالته المستعصية لينظر بحنو أبوى إلى ابنتيه ثم ليعاود النظر مجددا فى تسليم ويأس الى مشهد اللاعبين الذين لم يغادروا أرض الملعب بعد على الرغم من إنتهاء فقرتهم ، فبدوا في زهو وفخر وهم لا يزالو ينظرون إلى جمهور المصفقين لهم لم تختلف هيئاتهم جميعا عدا واحدا منهم فقط هو الذي ظهر وكأنه قائدهم بإتخاذه بعدا ناحية اليسار وخروجه عنهم، إلا انهم ما لبثوا ان غادروا الى كواليس المسرح فى خفة حركة فكان زعيمهم هو البادىء بالخروج ومن بعده بقية الفرقة التى خرجت الواحد تلو الاخر فى زهو وغرور أكثر من ذي قبل إصطدم آخرهم بقوة بواحد من اللاعبين كان يعد نفسه بالتمرين للدخول الى أرض السيرك ليمارس فقرته المقررة ، لينظر إليه في ضيق وتبرم شديدين: مش تحاسب يا عم الحلو إنت كنت هتقلع كتفي أيه هتفضل كده مش واخد بالك عالطول
أجابه وهو يسترخي ملتقطا أنفاسه ودون أن يعيره إهتماما:
إنت اللي خارج ومش باصص قدامك مش أنا اللي خبطت فيك العكس هو الصحيح
لم يشأ أن يجادله وخوفا من فقدانه الإتصال ببقية اللاعبين تركه بعد أن أشاح له بيده
بدت على اللاعب المستعد لدخول الخيمة علامات الهدوء والرزانة وفور أن أذن له بالدخول دلف بنفس إلى الداخل، وما ان رآه الجميع حتى سكتوا ليبدأ هو فى تأدية حركاته واضعا يده فى تمهل وحرفة عالية حيث كان يلعب بكرة صغيرة مطاطية يضعها في جيبه تارة ويخرجها تارة أخرى ومحتفظا بها أحيانا وراء ظهره وقفاه مرات أخر كل ذلك بسرعة ومهارة وخفة، إلا انه فجأة بدأ يتخلى عن خفته ليؤدي حركاته ببطء ظاهر، ويُري الجمهور حقيقة ما يفعله بوضوح ، إلا أن أحد الجالسين قام منتفضا من مكانه صارخا بقوة وغضب جعلت جميع المتفرجين ينظرون إليه:
ماذا تفعل يا هذا؟
رد عليه فى أدب وهو لا يزال يؤدي حركاته
: أُريكم ما أفعل حتى تقهموا و تتعلموا
أجابه بلهجة أكثر قساوة من الاولى
:لا نريد أن نرى ما تفعله نحن هنا لنستمتع فقط
، وفي تلك اللحظة بدا الزوج يخرج عن صمته حيث صفق بقوة للاعب ثم توجه بالكلام ناحيته قائلا:
برافو عليك لازم نعرف لازم
لم تمهله الزوجة أكثر من ذلك لتمنحه كوع أقوى من الأول دون أن تخشى ملاحظة الآخرين لها من عدمه لتقول له:
“يا راجل أسكت إيه اللي بتنيله ده هتفضحنا وسط الخلق إشمعنا دلوقتى لسانك خرج بره حنكك دا شكله مخبول جاي يعكنن علينا
إلا أن الأبنة الكبرى عاجلت الأم قائلة لها:
لا يا ماما مش مخبول ده عاقل جدا عايز يورينا هوه بيعمل إيه بالتحديد عشان نفهم معنى حركاته.
أجابتها وهي تضغط بقوة على نواجذها وتشتد عصبيتها
حتى إنت يا مقصوفة الرقبة بتتكلمي دلوقتي آمال هتطلعى لمين
تزايدت الإعتراضات داخل الخيمة وساد هرج ومرج ما بين مؤيد لما يفعله اللاعب ومعترض عليه إلا أن تيار المعارضة كان الأقوى حيث قام الرجل المعترض الأول الحجم الذى إعترض عليه أول الامر ولما لم ير منه إلا كل إصرار على موقفه ترك مكانه ونزل إلى أرض الملعب مستخدما قوته الجسدية لمنعه من مواصلة اداء حركاته بينما قام الزوج هو الآخر من مكانه للدفاع عن اللاعب فبدا الموقف أشبه بمولد يحتاج للفض.

سينما رشدي أباظة. قصــــة : مراد ناجح عزيز

مبكراً ..

يصافح دواّمة عشقه اليومي , صبغته شمس الصيف بسُمرة أهل الجنوب , لكنّها لم تنال من بياض قلبه ونقاوته , , يلتحف القليل من الثياب الثقيلة شتاءاً , تشعر وكأنّه يستمتع بعمله رغم ساعاته الطوال , ورغم قسوة برد الشتاء وصقيع الماء , يشعل بعضاً من الخشب , تستكين رعشة جسده النحيل , تعود الدماء تجري في انسياب , كأنّها ثلج بدأ في الذوبان , يرتكن بظهره إلي حافة المركب , يحاول خلخلة أوقاته ورتابتها بسماع أغنيات ( أم كلثوم ) , ينفث دخان الشيشة في الهواء , لا يشغل يوسف بعد عناء يومه , سِوي أوقاته التي يقضيها , بعيداً عن عالم يضج بكل نشاز ومثير للقلق , محلّقاً في سماء عينيه , متقمصًا دور العاشق في سينما الزمن الجميل , تعلق في ذهنه دائماً مشاهد بطله المفضّل ( رشدي أباظة ) , تصاحبه أجمل الفتيات , تستند برأسها علي كتفه , بينما هو يداعب بيده خصلات شعرها , ساعات من الفرح الطفولي تعانق نشوته .

مستلقيًا يتأمل صفحة السماء باتساعها , قاربت الشمس علي المغيب بعدما تشبّعت بنسمات الحياة علي الشواطئ وبين الأزقّة والشوارع , أهازيج من الأغنيات الجميلة التي تعوّد يوسف علي سماعها , تبدو علي وجهه ابتسامة لا يعرف مصدرها أحد , هل تذكّر سنوات صباه ؟ هل تذكّر حديثاً لأحد أصدقاؤه بالأمس ,

وحده يوسف يعلم سبب ذلك , إنّها نسمات الصيف تُعلن عن حياة , جعلت من قاربه القديم صفحة من دفتر العشق , تنتظر من يسجل رفيها , أحلاماً وأمنيات ,

يتحدّث بلطف وبلباقة , اكتسب خبرات طويلة في التعامل مع الآخرين من خلال عمله , يتعمّد البعض مداعبته لعلمهم بردود أفعاله خفيفة الظل , يحافظ علي هيئته دائماً , فلابد لمن يحب عمله أن يكون أنيقاً , هكذا كان يقول يوسف .

امتلأت السماء بنجومها ليلاً واستدار القمر , نظر إلي ساعته ثم هدأ متمتماً : لا بأس مازال في الوقت متّسع , بدا يوسف وكأنّما يمشي راقصاً يجدّف بيديه وكأنّما هو في قاربه , يوجهه يميناً ويسارًا , جلس علي احد المقاهي متمتاً بشفتيه :

( لقد عاد من جديد زمن الحب الجميل ) , بعيدا عمّا أتلفته التكنولوجيا , فقد جَمّدت المشاعر بدلاً من أن ترققها , وزيّفت الحقيقة بكلام معسول لا يفصح عن وجه صاحبه إلا خداعاً وكذب , قضي يوسف أجمل لحظاته واضعاً ساقيه واحدة علي الاخري , ينتظر رنّات هاتفه , لحجز رحلات أُنس بين حبيبين , تُعيد إلي قلبه نشوة غائبة لسينما الزمن الجميل , وبطلِه المفضّل ( رشدي أباظة ) أو رحلة لعائلة , ذهب يوسف إلي قاربه , ينظفه ويرتب مقاعده , وكأنه يوم عيد , تتراقص فيه الأغنيات والطيور, تتزين الشوارع ويصبح الضجيج نوعاً من الاحتفال .  

        

الجمال. قصة. محمد مصطفى الخياط.

نظرت نحوه وفي عينيها غيرة لا تخفيها وسألت وقد اتكأت بمرفقيها على الطاولة قبالته وسألته؛

  • هل أُعجبت بهن؟

قطب حاجبيه وأجابها باستغراب من لا يفهم،

  • من هن؟
  • نساء حفلالأمس !!

ابتسم وعقب

  • أما زلت تذكرين؟

نفثت خيطًا رفيعًا من دخان سيجارتها وعقبت بتهكم،

  • وهل نسيت أنت؟!
  • انتهى الحفل ومضى بكل ما فيه !

نظرت في عينيه وأعادت السؤال بنبرة محقق

  • إذًا أجبني، هل كُن جميلات فأُعجبت بهن؟
  • لعلك تسألين عن الشكل؟
  • وما الفرق؟
  • الشكل ظاهر والجمال باطن !

رجعت بظهرها للخلف ونظرت بطرف عينيها وسألت بتهكم،

  • أفدني أفادكم الله !!
  • الجمال تركيبة معقدة أولها الروح وآخرها الشكل
  • –        ….
  • أنظري حولك وستجدي من التوافق والتجانس بين ثنائيات الحياة ما يثير في عقولنا ألف ألف سؤال إن وقفنا عند الشكل فقط؛ كيف تآلفا، وكيف تحابا، ما لأعينهما تفيض حبًا وشوقًا على ضفاف نهر الحياة متى التقيا، ما لهما لا يطيقان بعدًا، كيف لهذا الشوق متأجج كنار المجوس لا تُطفأ، ..

اعتدلت في جلستها ونظرت نحوه بمحبة غامرة، فتشجع وأكمل،

  • حتى عندما نستعرض صور القادة والزعماء على مر التاريخ؛ غاندي، تشرشل، موسيليني، هتلر، مانديلا.. قارني بين الشكل والجمال، لن تجدي أي صلة، بتلقائية نتخطى الشكل ونتحرك بدافع تلك الصورة الوجدانية، صورة صنعتها عوامل عديدة؛ سيرة كل منهم، مواقفه، تضحياته، آماله، أحلامه، انتصاراته، انكساراته، نجاحاته، إخفاقاته، ما استطاع وما لم يستطع، …

نظرت نحوه بعينين تفيضان محبة والتفتت نحو الراقصين حولهما على أنغام موسيقى هادئة تنساب في أرجاء المطعم وسألته بصوت عاشقة،

  • هلا قمت تراقصني
  • –        ……

ابتسم في مودة من يعرف أن ثوراتها عليه تعادل حبها له.. وقف مادًا ذراعه نحوها فمدت ذراعها بدورها، مال على كفها الصغيرة النائمة في كفه وقبلها، فقامت معه تحيط بها هالة من جمال خفي، حتى إذا ما انضما إلى الراقصين دفنت رأسها في صدرة وراحت تتنفس في هدوء…

المصرى وطومان. قصة: محمود عماد

 محمود عماد

القاهرة 1516 :

وصل الخبر وعم أرجاء القاهرة إنهزم جيش المماليك ودخل العثمانيون حلب وإستولوا على الشام

وقتل السلطان الغورى وهرب من تبقى من الجيش عائدا لمصر ليبشروا بقية المماليك والشعب البشارة الشؤم وأنهم أصبحوا بدون حاكم والجيش الذى هزمهم منذ أيام فى مرج دابق آت لدخول مصر والقضاء على المماليك .

خلع قلبه من الخبر فلقد مات عمه وضاعت الشام والخطر يدق باب مصـــر بل وباب جميع الممــاليك ودولتــهم ولكنه لن يقبل بحكم دولة مهلهلة سلطنة على حافة الهاوية تنتظر ضـربة

أخيرة لكى تسقط بلا قيامة وستكون هذه الضربة خيانة كما حدث مع عمه الغـورى ألم يخبره ويحذره منها ليته إستمع إليه .

جمع الأمراء أنفسهم ثم أجمعوا على طومان باى نائب الغيبة وابن أخ الغــورى هو الأنسب واللأصلح لها ، ولكنهم قوبلوا برفضا قاطع من طومان باى لنفسه حائط صد ا امام خيانتهم المحتملة .بعد توسلات وبعد توسط الشيــخ أبو السعــود الجارحى وافق طومان باى على التسلطــن وبدأ يعد العدة للجيش ويحاول توحيد أمراء المماليك وضم المصريين للجيش لاول مــرة منذ زمن وكان يعلم أنه سيخسر هذه الحرب بسبب خيانة ستقسم ظهره ولكن لم يكن منه غير الإعتماد على كل الأمراء حتى المشكوك فيهم فلا خيار آخر .

فى أثناء هذا ظهر غريبا يرتدى سوادا ويغطى وجهه حتى لا يعرفه أحد خطى خطواته

واثقا نحو بوابة القلعة يريد مقابلة السلطان الجديد .

ـ من أنت أيها الغريب ؟

ـ لست غريبا قل للسلطان مصريا يريد مقابلتك معه مفتاح الإنتصار على ابن عثمان .

ـ أنت يا هذا ستخبر السلطان بما يفعل .

ـ فقط أخبرة .

بعد أن أخبره الحراس بأمر المصرى أمرهم بإدخاله لكى يقابله ليفهم ماذا يقصد دخل المصرى

وكشف عن وجهه وابتسم .

ـ أهلا بالسلطان المصرى البطل .

ـ مصرى ماذا تقصد ؟ أنا شركسى وأنت مصرى .

ـ خطأ يا طومان بل أنت مصريا أكثر من مصريين أعرفهم أنت تنتمى لهنا .

شتته كلماته ولكنه أعجب بوصفه بالمصرى .

ـ من أنت ؟

ـ أنا مصريا أريد للبلاد الأمان أريد أن ننتصر على العثمانى ونكسره وأن يحكم طومان باى

العظيم والعادل مصر لتزدهر وترجع لعصر الحكام العظام .

ـ ولكننا بعيدون كل البعد عن تحقيق ذلك .

ـ إن فعلت ما أقولة لك كان النصر معنا بعون الله .

ـ أستملى على ما أفعل أيها المصرى .

ـ بالطبع لا أيها السلطان ولكن أنا سأدلك على الخيانة فقط تقطلعها من جذورها ثم نحارب

ابن عثمان وننتصر عليه، أعطنى يدك نتعاهد . نظر له طومــان فى شىء من التردد ثم

مد يده وتعاهــدا. بدأ المصرى فى إعطاء الأوامر لطومان باى فإقترح عليه إبعاد كــل

المماليك المتذمرين أو الطامعين ثم أشار على طومان بالتخلص من جان باردى الغزالى

ومماليكه وإدخال أكبر عدد ممكن من المصريين فى الجيش بل إعلان الجهاد العام فى

كل أنحاء البلاد العربية .

رغم أن كل تلك القرارات ستقلب المماليك عليه بل وتجعلهم يتمردون ولكنه نفذها على

الفور وكأن المصرى هو السلطان وطومان هو الوزير .

ـ لقد نفذت كل إقتراحاتك رغم عدم موافقتها لسياسة الدولة ماذا الآن ؟

ـ الآن ندرب المتطوعين أنت تعرف هذا فأنت أفضل مقاتل فى كل تلك البلاد .

ـ أتعرف إن لم ننتصر أيها المصرى بعد كل هذا ماذا سأفعل بك ؟

ـ مولاى لا تشغل بالك لقد أخذنا بكل أسباب النصر أدعو الله فقط وبإذنه سيكون النصر

حليفنا .

 نظر طومان بعينيه السوداوين التان تنبضان بالشجاعة والإقدام الى المصرى فى تصديق

فهو يعرف فى قراره نفسه أن المصرى أشار عليه بما كان فى فؤاده ،فقط قام بتشجيعه

على لزوم تنفيذها .

دق العثمانى باب القاهرة بعثوا برسالة الى طومان باى تفيد بتسليم وإتباع ابن عثمان مع

تثبيت طومان باى على حكم مصر . هنا وقف طومان كثيرا ماذا يفعل هل يقبل عرض

ابن عثمان ويحقن الدماء أم يتمسك بالأرض والعزة والكرامة ، طبعا سيستشير المصرى

الذى أصبح لا يفارقه كظله تماما مستشارا أو وزيرا أم شريكا فى الحكم ؟

ـ ما رأيك فى رسالة ابن عثمان ؟

ـ رسالة متوقعة ولكن أرى فى عينيك شىء من التوتر .

ـ بالتأكيد أفكر فيما سيكون بعد الرسالة هل أذبح الرسل أم أوافق على عرضه؟

ـ لا هذا ولا ذاك .

ـ ماذا يا رجل ماذا تقصد ؟

ـ نحن المصريين لا نقتل الرسل لأن ما على الرسول إلا البلاغ ولكن سنبعث معهم

برسالة ترعب ابن عثمان نفسيا وذهنيا هو فى قمة ترقبه من الأساس بعدما قطعنا

الخيانة من جزورها .

طوى الرسالة بعد ما نزلت كلماتها عليه كالصاعقة سليم بن بيازيد الذى يظن نفسه لا

يقهرولا يقدر عليه أيا من البشر يقف حائرا أمام عزة وكرامة المصريين ، نظموا صفوفهم

يريدون تغيير ما سيكون ولكن رغم إشتداد مرضة لا أحد يقف أمام سليم الغازى كما

لقبه أهل الشام .

كان الجيشين على أهبة الاستعداد للإلتحام معا ، ولكن قبل بدأ المعركة المنشودة التى

ستغير التاريخ وتكتبه من  جديد , جاء النبأ قضى سليم نحبه بعد اشتداد المرض عليه

آه من ترتبيات القدر ، أثر الخبر على عزيمة رجال العثمانى فلم يستطيعوا القتــال ،

قاتلت مجموعة منهم ولكن الجنود المصريين حققوا إنتصارات ساحقة عليهم وفرمعظم

الجيش الى الشام حيث أرتكزت هناك .

ـ لقد إنتصرنا أيها المصرى .

ـ ترتبيات القدر كان لها رأى آخر لقد إنتصرنا بدون قتال حتى ,وها نحن فى طريقنا لاستعادة

الشام .

قاتل المصرى جنبا لجنب مع طومان باى فى الشام إحتدم القتال بين الطرفين ومع بشائر النصر

بدأ جيش العثمانى الغير منظم فى الفرارفمن لا يقاتل من أجل أرضه أو عرضة فلا يكون

عنده دافع للبقاء .طارد طومان والمصرى فلول جيش العثمانى حتر خرجوا من القطرالعربى كله.

ـ لقد إنتصرنا يارفيقى يا من أنرت الطريق .

ـ بل أنت من أنرت الطريق أيها السلطان ولكن الخطر لم ينتهى بعد .

ـ ماذا تقصد ؟

ـ الإحتلال دائما ما يفكر بنا ويريد العبث بأرضنا وسليمان بن سليم أقوى من أبيه لن يستسلم ولو

إستسلم اليوم لن يستسلم غدا إعلم إنه طالما هناك غدا إذا هنالك خطر هنالك صراع بين الحق والباطل مغتصب الحق .

أفاق من نومة لم يدرى أكانت قيلولة أم غفلة فكثيرون هم من لا يفيقون من غفلتهم ولكنها على الأقل فاق ، وجد نفسه فى أحد المكتبات يقرأ كتاب بدائع الزهور فى وقائع الدهور

للمؤرخ ابن إياس ،يتذكر أنه تحدث مع طومان باى عنه فى رحلته بل والتقاه أيضا وقف

حائرا هل كان مجرد حلم ؟ قرر التقليب فى صفحات الكتاب والتأكد إبتسم تلقائيا بعدما وجد كل مافعله موجودا خطوة بخطوة ظل منتشيا حتى أسود وجهه بعد برهة قرأ أن طومان باى طمع فى أملاك العثمانى فراح يستولى على الواحدة تلو الأخرى حتى طرق باب إسطنبول نفسها .

راسل سليمان المماليك الثائرة فى القاهرة فدبروا محاولة لقتل السلطان الاشرف طومان باى

وبالفعل فى ليلة التجهيز لدخول عاصمة العثمانى والقضاء على دولته أغتيل طومان باى وهجم سليمان بجيشه بغته فألحق هزيمة كبيرة بجيش  المصريين وظل يتقهقر حتى أخرجهم من جميع أملاكة وأصبحوا على حدود الشام ،اهنا كون المماليك الحانقة على طومان حركات ضربوا بها الجيش المصرى، وهجم سليمان فوقعت الشام فى يد العثمانى مرة أخرى وزحف الى القاهرة المشتعلة بالحرب الأهلية بين المصريين وشراذم المماليك فدخلها بعدما ضربها بالمدافع بل وأحرقها وأعمل السيف فى أهلها حتى كادوا يفنوا من فيها ، والمصرى إختفى

منذ إسترداد الشام ولم يعلن أحد أين ذهب .

أقفل الكتاب وخرج من  المكتبة . وعلم أن الأقدارلا تتغير لا يعرف كيف ذهب ولماذا لم يكمل الرحلة لماذاجاء الفشل بعد لمس النجاح يبدوا أن التاريخ لا يعترف بالعواطف أو اللأهواء ولكنه  لن يرضخ ابدا ولكنه لا يعلم أن ليست كل الأحلام ممكنة ..

المتخيل السردي وأسئلة ما بعد الحداثة: د. محمود الضبع

د. محمود الضبع

شهد العالم تحولات جذرية في كثير من أبعاده منذ نهايات الألفية الثانية، وحتى لحظتنا الراهنة، فتوارت فلسفات ونظم ونظريات، وحلت أخرى بديلا عنها، وتراجعت أفكار ومرتكزات لصالح أخرى، واستطاعت التكنولوجيا والرقمية “digitalization” أن تعيد صياغة مفاهيم وأبعاد كل شيء في الكون بما فيه الفنون والآداب، ولذا لا يمكن اليوم قراءة نتاج هذه الفنون والآداب بمعزل عن هذه المتغيرات والأبعاد وبخاصة في اندماج الإعلام والإعلام البديل والميديا والحركات الاقتصادية والاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا والعولمة وصناعة المعرفة والمعلوماتية والسيولة بما أوجدته من تمييع لكل ما هو صلب، وهنا تكمن الخطورة، وبخاصة بعد سقوط زمن الحداثة modernism(٤)، ممثلا في السرديات الكبرى التي كشفت عن زعزعة الثقة فيها.

فأفكار مثل الحرية والتسامح والسلام  والجمال وسلطة العقل وغيرها، لم تثبت أمام التجريب الفعلي، ومن ثم حاولت ما بعد الحداثة Postmodernism، طمس ومحو الحدود بين الفن والحياة اليومية، وإزالة التسلسل الهرمي بين الراقي والجماهيري في الثقافة الدارجة وتفضيل الأسلوب الانتقائي المشوش، وتمازج الثغرات، والمحاكاة الساخرة parody، والمعارضة pastiche، والتهكم والسخريةirony، والهزل والمزاح playfulness، والاحتفاء بالمظهر الخارجي إلى غير ذلك مما نظرت له الحداثة بمفاهيمها الغربية(٥)، وما انتقل بدوره إلى الوعي العربي وأثر في منتجه الفكري ومن ثم الإبداعي، فالحداثة العربية ارتبطت في بعض جوانبها بالتحولات السياسية الكبرى، وتجسدت في أفكار مثل العروبة والقومية العربية والكيان العربي الموحد، ولكن بعد تحقق سلسلة من الهزائم المستمرة في نهاية الستينات ثم الدخول في أنماط متعددة من السلطة والحكم لم تكن إيجابية لصالح الشعوب وهو ما حدا كثيرا من الكتاب العرب للتوقف نهائيا عن الكتابة والإبداع، وفي ظل هذه الظروف كان المناخ مهيئا للتراجع عن تبني الحداثة والتحول إلى أنماط ما بعد الحداثة، وهنا أيضا بدأ انهيار فكرة المدرسة الأدبية والجماعة والجيل والاتجاه، وبدأ التوجه إلى اليقين الفردي بديلا عن التوجه الجماعي.

وهنا بدأت المخيلة السردية في إعادة  تفكيك الأبنية الفنية المتعارف عليها للأنواع الأدبية المختلفة (القصة – الرواية – المسرحية ) فعمدت إلى إحداث تداخل الأنواع تارة، وإلى التجريب في العناصر الفنية الداخلية للنوع الأدبي تارة أخرى، وذلك كله استجابة لأسئلة مصيرية يتعلق بعضها بالغاية العامة من الكتابة، ويتعلق بعضها الآخر بالنوع الأدبي، مثل حدوده وأبعاده وعلاقته بالأنواع الأخرى، وإمكانات التجريب فيه، ومدى الالتزام بما أقرته علوم السرد حول عناصره الفنية، مثل الموضوع، والشخصية، واستخدام اللغة، والحدث، والبناء الفني المعماري وحركة السرد، وغيرها من الأسئلة التي كان نتاجها هذا التحول المشهود عبر تطور الكتابة الروائية (والاتجاه نحو الرواية الجديدة مثلا) والقصصية والمسرحية.

  1. المتخيل السردي وسؤال الوعي:

يرتبط الوعي في العمل السردي بالتلقي وحضور المتلقي في بناء العمل، وفي المتخيل السردي، حيث بدأ الاهتمام بتمرير الوعي عبر السرد منذ تشكلت الأسس الفنية للعمل السردي في أنواعه المختلفة (الرواية والقصة والمسرحية والسيناريو) وما تطور عنها من أشكال تعمد إلى تداخل تقنيات النوع في الآخر، أو استعارة تقنيات من أنواع أدبية أخرى خارج الحقل، مثل حضور التقنيات الشعرية في السرد.

ويحتفي السرد الجديد (وبخاصة الرواية الجديدة)  بالوعي أكثر من الاحتفاء بمركزية الحدث وتنامي الأحداث، فلم تعد الأحداث في الرواية الجديدة – مثلا – هي التي تجتذب المتلقي ليتقدم معها، وإنما غدا الوعي هو المركز الذي تمد الرواية جسورها معه، وهو ما يمكن تسميته حساسية الوعي الجديد، هذه الحساسية التي ترى الفن لعبا مقصودا وانتهاكا لقدسية الممنوع، ووسيلة من وسائل فهم غموض هذا الممنوع واستكشاف أسراره، ومن ثم تحيل هذه الحساسية في كثير من الأحيان إلى المحرم أو الممنوع بالتماس مع المقدسات الثلاث: الدين والجنس والسياسة، على اختلاف طبيعة الوعي بكل منها، فالوعي البشري لم يزل يتعامل مع هذه المقدسات بلغة رمزية لا تصريحية، ويرفض الانطلاق والتحرر في مناقشتها حتى مع أقرب المقربين، وإن كانت المجتمعات المتحضرة قد حققت تحررا في الأخير “السياسة” الذي لم يعد يمتلك قدسيته كما كان في العصور الفائتة، أو لدى بعض الشعوب الآن.

أما الديني والجنسي فما زالا يحاطان بكثير من التكتم والسرية، ويلقيان الكثير من حواجز الوعي الفردي والجمعي على السواء.

من هنا عمدت كثير من الروايات الجديدة إلى الاشتباك مع وعي المتلقي في الثالوث المحرم والممنوع (الدين والجنس والسياسة) واتخذ ذلك مستويات عدة على مستوى الجدل وأهدافه:

فبعضها يعتمد السخرية والتهكم، وبخاصة مع الممارسات البشرية التي لاتحتكم إلى المنطقي والعقلي بقدر ما تحتكم إلى الخرافات التي تم تكريسها – بفعل البشر أنفسهم – عبر التاريخ، مثل تقديس النصب والأضرحة، وتقديس الحاكم، وتقديس الجسد.

وبعضها يعتمد التشكيك في بعض أفكار هذا الثالوث من منطلق فكر الحداثة، أو احتكاما إلى معطيات العلم، أو تغليب العقلي على العاطفي، أو احتكاما إلى منطق الواقع العالمي الذي أصبح مفتوحا الآن مما يسمح بإمكانية المقارنة مع أوضاع الشعوب الأخرى خاصة في الفكر السياسي.

وبعضها يعتمد تفكيك خطاب هذه التابوهات بالاعتماد على الفكري والفلسفي .

وبعضها يعتمد منطق الكشف عن موجودات في حياتنا بالفعل، غير أننا لم نفكر فيها، مثل الأعمال التي تحتفي بالتناقض بوصفه الأكثر حضورا من الاتساق في حياتنا، وبالجنس بوصفه المهيمن على حركة الإنسان وتحركاته استجابة لمقولة ألبير كامو “ثمة جرائم ترتكب بدافع الهوى”.

وغير ذلك من أشكال الجدل التي تمارسها الرواية على مستوى الوعي، وتأتي في هذا السياق أعمال عدة، منها: نون لسحر الموجي، وشارع بسادة لسيد الوكيل، ومواقيت التعري لهيدرا جرجس، والأرملة تكتب الخطابات سرا لطارق إمام ورائحة القرفة لسمر يزبك، والآخرون لصبا الحرز، وطرشقانة لمسعودة أبو بكر، وطوق الطهارة لمحمد حسن علوان، وساق الغراب ليحيى امقاسم، وتمارين الورد لهناء عطية، وعشرات الروايات التي تشتغل على الوعي بوصفه الغاية والهدف، وكذلك الأمر في القصة القصيرة  التي سعت لإحداث وعيها المفارق مع كلاسيكيات القصة القصيرة المتعارف عليها عبر مراحل تطورها العربية .

  • المتخيل السردي وسؤال الشكل:

الشكل يمثل للسارد المعاصر سؤالا جوهريا، مما دعاه إلى التجريب في البناء الفني للعمل الأدبي ومغايرة عناصره عما هو قار في الأبنية الفنية الكلاسيكية منذ استقرار عناصرها في علوم السرد من طرائق البناء المعماري، وبناء الشخصية، والحدث، والزمن… إلخ.

فعلى مستوى البناء المعماري – مثلا- كان السؤال حول مغايرة أشكال البناء السردي المعتمدة الوصف أو الحوار أو تيار الوعي، أو الحكي من خلف، أو الحكي مع، أو من خلال، ومن ثم نتج عن ذلك تحولات عدة في الأبنية السردية، حيث جاء بعضها في شكل مشاهد سردية متجاورة، تكاد تمثل قصصا قصيرة على نحو ما، لكنها تتجاوز مجرد ذلك، ومنه روايات ” شارع بسادة ” لسيد الوكيل، و”ملاك الفرصة الأخيرة ” لسعيد نوح، و”مسألة وقت ” لمنتصر القفاش، و”فانيليا” لطاهر الشرقاوي، و”مواقيت التعري” لهيدرا جرجس، و”معبر أزرق برائحة الينسون ” لياسمين مجدي، و”فدوى” لفدوى حسن، و”تمارين الورد ” لهناء عطية، و”شهوة الصمت ” لأمينة زيدان، و”حكاية الحمار المخطط ” لرانية خلاف و”وقوف متكرر” لمحمد صلاح العزب، و”فاصل للدهشة” لمحمد الفخراني، و”أسد قصر النيل” لزين عبدالهادي، وغيرها كثير.

تعتمد رواية “فانيليا”(٧) لطاهر الشرقاوي على المشاهد السردية غير المكتملة على الدوام، بما يشبه سرد الأخبار والمواقف غير المنتمية إلى مركزية موحدة، حيث لا تحتكم الرواية منذ البداية إلى مركزية الأحداث، وإنما تحتكم إلى فكرة المتواليات القصصية والحلقات المسلسلة التي يظل أبطالها كما هم، وتتغير وظائفهم وبالتالي أحداث ووقائع حياتهم، غير أن الأمر هنا يختلف قليلا، إذ تبدأ الرواية بالكاتب الراوي يجلس على مقهى من مقاهي القاهرة، يبحث عن مشهد يلتقطه في الشارع لكتابة رواية أو البدء فيها، ويحكي عن اختباره لكل ما تقع عليه عيناه للبدء في الرواية، غير أن التأمل يكشف أن هذه إحدى الألاعيب السردية، فالرواية قد بدأت بالفعل منذ بدأ الرواي يحكي عن جلوسه على المقهى، ولم يتبق إلا استكمال حكاية الجالس، ولكن الرواية تنتقل في مراوغة أخرى لرصد مشاهد الشارع الحية حتى تقف عند البنت الصغيرة حافية القدمين الصغيرة التى تسير في الطرقات والشوارع بحثا عن السعادة والحرية، ويقرر الرواي أن يجعلها موضوعا للرواية، وإن كان التأمل أيضا يكشف عن أن موضوع الرواية هو عالم الشارع المتسع بما يشمله من شخصيات وأماكن وعلاقات بما فيها البنت ذاتها التي توهم الرواية بأنها تحكي حكايتها.

هذه الكتابة على هذا النحو تخالف السائد المتعارف عليه في السرد الروائي وطرائقه التي كانت تبدأ من نقطة مركزية في السرد (من الماضي إلى الحاضر، أو من الحاضر إلى الماضي بطريقة الفلاش باك، أو بغيرها من الطرق، ولكنها في الغالب الأعم تتخذ مسارا خطيا على مستوى البناء الزمني، إلا أن بعض النماذج التي قدمتها الرواية الجديدة انطلقت من مشاهد سردية، قد تبدو في ظاهرها مرتبكة لا تنتمي لخط زمني محدد، ولكنها عند تحليلها والوقوف أمام تقنيات بنائها، نجد أنها تصنع مسارها، فهي إما أن تعبر عن الارتباك الحادث في واقع مسارات الأحداث في الحياة من حولنا، ذلك أن الأحداث في الحياة متقاطعة ومتشابكة وليست متراتبة، وإما أن تعبر عن آلية اشتغال العقل البشري في رصده للأحداث من حوله، فهو لايفكر فيها على نحو خطي، وإنما ترد على الذهن بغير ترتيب، ويبذل الإنسان مجهودا عميقا في محاولة لترتيبها، وهو ما جاء استجابة لتغير النظرة حول الحدود الفاصلة بين الأشياء، وهدم القطعية في الفصل، والتأكيد على التشابك والالتقاء بين الشيء والأشياء المحيطة به.

وهو ما تعتمده رواية شارع بسادة لسيد الوكيل، إذ توهم بأنها تحكي قصة وتاريخ شارع بسادة، وإن كانت تحكي مشاهد سردية متجاورة ومتقاطعة لبعض الذين سكنوا أو عملوا أو مروا بشارع بسادة، وتعيد تفكيك هذه المشاهد وتقديم بعضها وتأخير الآخر، كما يكشف عن ذلك رصد مسار المشاهد في الرواية.

  • المتخيل السردي وسؤال الموضوع:

لم يعد الموضوع في الكتابة السردية الجديدة المنتمية إلى ما بعد الحداثة، محتفيا بالقضايا الكبرى السياسية والاجتماعية، أو قضايا الإنسان مع الحب وارتباطه بالآخر، أو قضايا التاريخ، أو غيرها مما أبدعته الرواية العربية في القرن العشرين، وإنما حدث تحول مركزي في مفهوم الموضوع ذاته، فلم تعد سيرة حياة الإنسان هي الموضوع، وإنما أصبح الوعي بالإنسانية والإنسان وتصوير ضعفه وانهزاماته هو الموضوع، إنسان الألفية الثالثة بكل ما يحمله من توترات تهدد وجوده، وصراعات تتحكم في مساراته، وعولمة تطارده أينما حل أو ارتحل، وغدا الاستبطان النفسي، ورصد علاقات البشر الداخلية في علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بالآخر، واعتبار الرواية مصدرا وسبيلا للوعي هو الموضوع الأكبر لكثير من الروايات.

من هنا تصبح الرواية سعيا نحو الكشف، وطريقة من طرائق المعرفة، واكتشاف الذات، واكتشاف العالم، والكشف عن الحجب المستورة، وتتحول الشخصيات من كونها العناصر الفاعلة القادرة على تحويل مسار الحكي والتحكم في الأحداث إلى كونها المفعول به، الباحثة عن ذاتها، وتصبح الأحداث في كثير من الأحيان غير واضحة المعالم، لا يصنعها المحكي عنه، وإنما تصنع هي المواقف والمشاهد السردية.

وهنا تنهار كل الموضوعات التي كانت تمثل المتفق عليه بين البشر، مثل رصد التحولات الاجتماعية في الحياة، أو التعبير عن تبدل منظومة القيم، أو رسم حالة الطموح البشري،  وتحل بدلا من ذلك كله موضوعة الإنسان ذاته في وعيه ومحاولته فهم كينونته وفهم الكون من حوله، وعبر ذلك جميعه يأتي – على سبيل المثال – الممنوع والمحرم وتنويعاته السياسية والدينية والجسدية موضوعا للرواية في محاولة للاشتباك والجدل، ليس بهدف الوصول لحقيقة مطلقة ما، وإنما بهدف التجريب أحيانا، وهنا يتشكل الموضوع.

ويمثل هذا التحول سمة غالبة على بعض المنجز الروائي المعاصر في معظم البلدان العربية: مصر وسورية ولبنان وتونس والمغرب والسعودية وبعض بلدان الخليج الأخرى، وبخاصة لدى الكتاب والكاتبات الشباب، ففي سورية على سبيل المثال تطالعنا أعمال خالد خليفة (مديح الكراهية) 2006م ؛ لتفتضح عالم المعتقلات والسجون السياسية والصراع بين الإخوان المسلمين والحزب الكافر – بتعبير الرواية – في حلب، وتطالعنا أعمال منهل السراج في روايتها (كما ينبغي لنهر) 2003م ؛ لتقدم الممنوع والمحرم بين الإسلامي وغير الإسلامي من خلال حكاية مدينة عربية مهملة تتألف من حارتين يفصل بينهما نهر هما حارة الإسلاموي نذير وحارة غير الإسلاموي أبي شامة، وتطالعنا أعمال سمر يزبك في روايتيها (طفلة السماء) 2002م و(صلصال) 2005م ؛ لتشتبك مع الممنوع والمحرم من منظور الطائفة الدينية والأسرة العسكرية، ثم في رواية (رائحة القرفة) التي تعالج فيها الجسدي بين المثليات.

وفي سلطنة عمان ظهرت بعض الأعمال التي تتناول الجسد من منظور آخر، ليس في علاقته بالجنس فقط، وإنما بوصفه ألما وتعذيبا كما في رواية “حز القيد لمحمد عيد العريمي”، و”فيزياء لبدرية الشحي”، وغيرها.

وفي لبنان تطالعنا بعض الأعمال الحديثة لرشيد الضعيف وإلياس خوري وبخاصة رواية (عودة الألماني إلي رشده) لرشيد الضعيف، ويتناول فيها موضوع العلاقات المثلية الجنسية، ورواية (يالو) لإلياس خوري التي تقترب من الموضوع ذاته.

وفي المغرب العربي تتعدد الروايات التي تتخذ الممنوع والمحرم سبيلا لها، ومنها روايات: كمال الخمليشي (الواحة والسراب) 2001 و(حارس النسيان) 2003م، وعبدالحكيم أمعيوة (بعيدا عن بوقانا) 2007 م، ووفاء مليح (عندما يبكي الرجال) 2007م.

وفي مصر تتنوع الأعمال الروائية التي تتعامل مع ثالوث الدين والجنس والسياسة، وبخاصة في كتابات سيد الوكيل (شارع بسادة ) 2008م، وطارق إمام (الأرملة تكتب الخطابات سرا)، وهناء عطية (تمارين الورد)، وأمينة زيدان (نبيذ أحمر) و(شهوة الصمت)، وطاهر الشرقاوي (فانيليا)، ومحمد صلاح العزب (وقوف متكرر)، وسعيد نوح (ملاك الفرصة الأخيرة)، وغير ذلك كثير من الأعمال والكتاب الذين تجاوزت كتاباتهم مجرد الإشارة إلى مشاهد القهر والظلم السياسي، أو التعبير عن الرجعية لبعض الفئات المتشددة دينيا، أو الكتابة عن المشاهد الجنسية بالطريقة التي تناولها إحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس، ذلك أن الميراث المصري الروائي لم يترك مجالا لإمكانية معالجة هذه الموضوعات بالطريقة التقليدية على غرار قول عنترة (هل غادر الشعراء من متردم)، ولذا فإن التعامل مع هذه الموضوعات الآن كان لزاما عليه أن يحمل مغايرة مع سابقه على مستوى التداول والآليات، وهنا يصبح الأمر أكثر صعوبة من أي واقع آخر.

إن اللجوء إلى التعبير عن الجسدي في كثير من الأعمال السردية التي تنتمي إلى الرواية الجديدة لم يأت من فراغ، ولكن تحكمه في الغالب الأعم أسئلة كينونة تتعلق بالموضوع الروائي، ومنطلقات فكرية تكشف عن آليات اشتغال عقل الكاتب / الروائي في اشتباكه مع الجسدي، وتتنوع هذه المنطلقات في مرجعياتها إلى ما هو ديني، وما هو فكري، وما هوغريزي في أنفس البشر عموما.

غير أنها جميعا تخضع لمنطق علاقات الذات الفاعلة بمستوياتها الجدلية المتنوعة: الأنا مع الآخر، والأنا مع الأنا، بين التعبير عن الاحتجاج، وتأكيد الذات من خلال نفي هيمنة الآخر، واكتشاف الذات، ومحاولة اكتشاف الآخر، وهوما يؤكده استقراء النصوص الإبداعية المنتمية إلى هذا الوعي.

ويتنوع منطق حضور الجسدي في المتخيل السردي الروائي(٨) بين الكتابة بوصفها احتجاجا وتعبيرا عن الرفض، والكتابة بوصفها تعبيرا عن القهر، والكتابة بوصفها محاولة لاكتشاف الذات، والكتابة بوصفها محاولة لاكتشاف الآخر، والكتابة بوصفها كشفا للمستور، ذلك المنطق الذي أوجدته تداعيات الكتابة الروائية في تطورها، وتطور الوعي الإنساني عموما والإبداعي على وجه الخصوص، وهو الأمر ذاته الذي يجابه بالرفض من قبل الذين يركنون إلى الكلاسيكيات المعتمدة ويرون الخروج عليها خروجا على النوع الأدبي ذاته، على الرغم من خلخلة الحدود بين الأنواع على النحو المتعارف عليه إلى درجة الانمحاء أحيانا.

  • المتخيل السردي وسؤال المكاشفة (الكتابة بوصفها كشفا للمستور):

تعتني الكتابة عبر المتخيل السردي هنا بفضح المسكوت عنه، واكتشاف ما يدور خلف الأبواب المغلقة، وخلف جدار الصدر مما يتعلق بممارسات الجسد ورغباته وانحرافاته عن المألوف، وهو ما اعتمدت عليه كثير من الروايات عبر تنويعاتها على معزوفة  الجسد، تارة بالحديث عن المثلية، وتارة بالحديث عن العلاقات المحرمة شرعا، وتارة بالحديث عن الانحراف الخلقي، وغيره.

وتأتي رواية “رائحة القرفة” لسمر يزبك (٩) منطلقة من هذا الوعي، حيث تدور أحداثها حول فكرة الخيانة في العلاقات العاطفية والجسدية، ولكنها ليست الخيانة المتعارف عليها بين زوجين أو حبيبين يخون أحدهما شريكه مع آخر، وإنما الخيانة في إطار المثلية، أي خيانة العشيقة لمعشوقتها، حيث تسبر الرواية أسرار علاقة مثلية جسدية  بين سيدة مجتمع راقية ثرية وخادمتها التي نشأت في حي فقير.

  • المتخيل السردي وتحولات البناء:

يمتلك السرد (عبر المتخيل السردي) قدرة على إعادة صياغة العالم، غير عابئ بإمكانية تحقق هذه الصياغة على مستوى الواقع من عدمه، وغير معني بقدرة العالم ذاته على استيعاب هذا المتسع من إعادة الخلق والتأويل المستمرين على الدوام.

بين تفكيك الوعي، وهدم المرتكزات، والتأويل، وإعادة البناء، والوقوف على أعتاب خفايا النفس البشرية، وعبر ذلك جميعه تتشكل رواية “أسد قصر النيل” لزين عبدالهادي، لتضرب في جذور الإنسانية بعيدا حيث المناطق شبه المظلمة، وقريبا حيث اليومي والمشاهد والمعيش.. بين العودة إلى الوراء حيث الأسطورة هي المتكئ الأول لتفسير الكون وظواهره الغامضة رغم عاديتها ويوميتها، وبين الوقوف على مستجدات التحولات البشرية بفعل التكنولوجيا والثورة المعلوماتية، وأثر ذلك على اتساع هوة الفجوات في حياة البشر، وبخاصة الفجوة بين الغنى والفقر (حيث الأثرياء يزدادون ثراء، والفقراء يزدادون فقرا) والفجوة بين التقدم والتراجع للوراء، والفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، وهنا يبدأ المتخيل السردي في الحضور حيث تتخذ الرواية القاهرة الكبرى بتداخلاتها وتشابكاتها مسرحا للأحداث وفضائها، ويصبح رصد مشهدها اليومي وتحليل واقعها الثقافي وتشريح أنماط شرائحها الاجتماعية هو أبطال الحكي وشخوص المسرحية / الرواية.

الرواية التفاعلية من الحرف إلى الرقم. بقلم” سيد الوكيل

سيد الوكيل

روائي وناقد مصري

******************

فاعلية الخيال الأدبي، وانتصار الإنسان.

لما كانت رحلة المعرفة البشرية وتطورها قد أكدت طبيعتها التراكمية، حيث تتولد المعرفة من أخرى سابقة عليها، فمن التسرع القول بأن نماذج السرد الرقمي المتاحة (ونماذجها الواردة في هذه الدراسة) منقطعة الصلة -على نحو ثوري – عما قبلها مما يشار إليه بوصفه أدبًا تقليديًا.

ربما يكون صحيحًا التأكيد على أن الوسائط تلعب دورًا مهمًا في تعزيز التفكير الإبداعي، ولكن.. هل التفكير الإبداعي في طبيعته ذاتي أم أداتي؟

بمعنى هل الأزميل في يد المثال، يفرض عليه طريقة تفكيره ويحدد أبعاده الجمالية؟ أم هو مجرد أداة، يوظفها لخدمه تصوراته الفنية؟

نظن أن الوعي الجمالي يتحرك في فضاء ذاتي بالأساس، بغض النظر عن الوسيط المنتج له أو فيه. فجميعنا يعرف أن الشعر العربي على سبيل المثال، ظل يحمل موروثاته الشفهية لعدة قرون بعد ظهور الكتابة كوسيط، كما أن المقامات بوصفها فنًا سرديًا كتابيًا منذ نشأته، لم تتمكن من تطوير نفسها، وفقًا لطبيعة التفكير الكتابي، حتى أن الرحلة من الهمذاني إلى المويلحي لم تسفر عن تطور، فيما تمكنت القصة الحديثة– مثلاً- التي تشكلت عبر وسيط كتابي أيضًا، من ابتلاع وهضم ليس المقامات فحسب، بل الكثير من فنون الأدب السابقة على القصة. كما أنها التفتت إلى السينما، لتستفيد من طبيعتها المشهدية، وتقنيات الزمن فيها عبر المونتاج إضافة لإفادتها البالغة من فاعلية التجريب، فخاضت تحولات كبرى في رحلتها القصيرة، وتفاعلت مع الأنواع الأدبية الأخرى، بدءًا من إدجار آلان بو، مرورا بنتالي ساروت وتجربتها مع النص المشهدي، إلى إدوار الخراط وطموحه إلى نص عبر نوعي، فضلاً عن نجيب محفوظ في نصوص الأصداء ثم الأحلام، ثم إلى ما يوصف الآن بقصة الومضة، أو القصة الشاعرة.. إلى آخر هذه المصطلحات والمسميات المتجددة، والتي على الرغم من سعيها الدءوب لأن تستقل بنفسها، أو تقدم نفسها كأنواع مستقلة عن القصة القصيرة، ظلت مقترنة بها، ربما لأن عباءة النوع أوسع مما نظن.   

 لقد احتمل السرد القصصي كل مغامرات التجريب، فالسرد بطبيعته محرض على التجريب، وميلاد القصة في فضاء حداثي وتقني بعد الرواية بأكثر من قرن، ضاعف قابليتها للتجريب، واستدرك عثرات الرواية الأولى:” فقد وصلت الرواية إلى وعي ذاتها متأخرة” [1]

ومن ثم يعتقد أن الإمكانات التقنية، والنزعة التجريبية في القصة القصيرة أفادت الرواية وعززت مسيرتها عبر عمليات صغرى من التفاعل التقني بين النوعين. هذه التفاعلات ليست شكلية فحسب، بل أنتجت معها تحولات في  البناء السردي، واللغة، وكثافة الدوال وطبيعة الخيال، لهذا فكل من السرد القصصي أو الروائي، لديه من الإمكانات أن يخوض تحولاً كبيرًا على الفضاء الإليكتروني، فيفيد منه ويعزز كل منهما الآخر بتجديد طاقاته التخيلية والتقنية واللغوية، لكن هذا لا يعني أن يتنازل فضاء السرد الأدبي عن هويته لصالح الفضاء الإليكتروني، بل الأغلب أن تتشكل هوية مهجنة للسرد الرقمي، على نحو ما تقول فاطمة البريكي: ” تمخض الأدب عن جنس جديد، جمع بين الأدبية والإليكترونية، وهو ما اصطلح عليه في الأوساط الأدبية والنقدية الحديثة بسم الأدب التفاعلي”[2]. لكنها تعود وتقول إن الرواية التفاعلية :” لا تتجلى لمتلقيها إلا إليكترونيا”[3] لكني بعد فحص نماذج دراساتها، لم أصل إلى يقين إذا ما كانت التفاعلية التي تعنيها، تتعلق بالوسيط الإليكتروني (hyperlink ) وحده، أم بالخيال (fiction) أم بهما معًا! على أي حال هي تؤكد أن التفاعلية مصطلح فضفاض، واتفق معها، وأطرح على نفسي سؤالاً أوليًا: هل التفاعلية قيمة إنسانية، أم آلية بحتة؟ ولعل هذا السؤال يقود بحثنا إلى فهم أدق للرواية التفاعلية.

لكني أيضًا قلق بشأن نظرة (محمد سناجلة)[4] إلى الوراء بغضب، فهو يرى أن الرواية الورقية اعتمدت على خيال سلفي طوال الوقت، وغير عملي، وعبرت عن وعي ارتدادي مرتبط بطفولة الإنسانية، حتى أنه يضع خيال سيرفانتيس، وكتاب ألف ليلة وليلة، وكتابات وليم فوكنر في سلة واحدة مكتظة بالخيال السلفي، كما أني لم أفهم على وجه الدقة، المقصود بأن خيال الرواية الورقية (غير عملي) ربما يقصد غير مفيد معرفيًا.

 كانت رحلة السرد مرافقة لرحلة الإنسان على الأرض، ومتوافقة مع تطور وعيه بوجوده حتى صار هو مركز الكون، وكانت الرواية بوصفها نوعا سرديًا، أكثر فنون الكتابة نضجًا، إذ مرت بتحولات كبرى، تؤهلها لدخول الفضاء الإليكتروني بلا شك ومعانقة معرفة جديدة قد تكون بداية لحقبة جديدة من تطور البشرية. فعلى الرغم من مقولة (أينشتاين) الشائعة بأن الخيال أهم من المعرفة، فالعلاقة بين الخيال والمعرفة متلازمة كوجهي عملة واحدة، فنحن نعرف أن الحضارة البشرية وما وصلنا إليه الآن من تطور علمي هي نتاج رحلة طويلة لتطور الخيال البشري، من الرمز كأداة اتصال في الثقافات الطوطمية، كأن تصبح الشجرة رمزا أموميًا، تتفق القبيلة على تقديسها، إلى آخر معجم الرموز البدئية، والتي مازالت ترافقنا في أحلامنا بحسب (كارل جوستاف يونج) عالم النفس الشهير. فقبل امتلاك اللغة كانت الرموز في صورتها المرئية مرتبطة بالواقع، لكنها أصبحت أكثر تجريدًا عندما تحولت إلى علامات تتكون من حروف وأصوات لسانية، وبفضل هذا التحول تحرر الوعي البشري من سلطة الواقع ليمنح الخيال البشري فضاءً معرفيًا يساعده على تفسير ظواهر الطبيعة حوله، وتحديد موقعه منها. هذا التحول في طرائق الاتصال البشري من الرمز إلى العلامة اللسانية لم يأت بين يوم وليلة، لكنه عبر رحلته الطويلة أنتج فنونًا ومعارف شفهية، ومع الكتابة تجاوزت اللغة في وظيفتها مرحلتي الاتصال والتعبير إلى التفكير أيضًا. إن روافد المعرفة البشرية، من منطق وفلسفة وطب وفلك.. إلخ هي نوع من التفاعل الثقافي والمعرفي جاء مع الكتابة نظرًا لإمكانات الضبط والمراجعة والاستدلال التي وضعت ركائز العلوم التجريبية التي أفضت إلى التكنولوجيا مؤكدة انتصار الإنسان على الطبيعة، وتمكنه من وجوده.

وإذا كانت الرواية الحديثة بدءًا من سيرفانتيس وحتى الآن مرورًا بفوكنر هي آخر فنون الكتابة فلا بد أنها جاءت محملة برصيد معرفي وحضاري، هذا فضلاً عن تحولاتها السريعة في السنوات الأخيرة بين التقنيات والأساليب ومسارات التجريب المختلفة، لتكون مهيأة لدخول عصر جديد، حتى وإن كان له شروط جديدة، فلا شك أن السرد الروائي سيكون قادرًا على هضمها لتصبح هذه الشروط جزءًا من قوامها الجديد اليافع، لا سيفًا يفرق بينها وبين ماضيها العريق بدءا من أساطير الأولين.

 نظن أن الرواية الورقية، قد هيأت نفسها لمجيء الفضاء الإليكتروني بطبيعتها التفاعلية والمعرفية، بل طرقت أبواب التفاعلية فعلاً قبيل مقدمه، كما أن خيالها لم يكن ماضويًا بالضرورة، بل متجاوبًا مع مستجدات الواقع الاجتماعي والسياسي، كما لا يمكننا في هذا الصدد تجاهل بعض صور الخيال الافتراضي في الروايات التي تستشرف المستقبل وتجعله موضوعًا لها، وهو ما يظهر في الرواية العربية عند صبري موسى في (السيد من حقل السبانخ – 1984م) التي تأسست بكاملها على واقع يفترض الكاتب أنه سيحدث في المستقبل، فللمستقبل قضاياه المرجأة التي تمس الوجود الإنساني أيضًا، وتهدده بالتشيؤ لحساب عبودية جديدة لا تقل قسوة عن عبودية العصرين الزراعي والصناعي اللذين كانا موضوعًا لكثير من الروايات في أزمنة سابقة، فقضايا الوجود الإنساني، بأبعاده الواقعية والفلسفية، والنفسية، نالت حظًا وافرًا في الأدب الورقي.

صور التفاعلية في الرواية الورقية:

 الواقع أن صور التفاعلية في الرواية الورقية أكبر مما نظن فهي لا تتوقف عند حدود التناص كآلية لسانية فحسب بل تصل إلى درجة من تفاعل الخطابات الجمالية والثقافية بين الروايات التي تتعرض لموضوعات وأفكار متشابهة. كما يمكن لتعدد الخطابات في النص الواحد أن يحقق درجة من التفاعل الداخلي، ففي (حيوانات أيامنا) لمحمد المخزنجي، تتضافر خطابات تأتي من حقول معرفية مختلفة: بيولوجية، وتاريخية، وأنثروبولوجية لتنتهي (حيوانات أيامنا) في  صيغتها الممتزجة بأدب الرحلات إلى بناء بحثي مقارن بين الطبيعتين الإنسانية والحيوانية. وفي سياق قريب نجحت الرواية في عقودها الأخيرة أن تتجاوز الحدود النقدية التي جزّرت كينونتها كخلق مستقل، بأن تجاوزت التصنيفات النظرية، وأكدت طبيعتها الكرنفالية بالتفاعل بين صنوفها المختلفة عندما جمعت بين الواقع والخيال في (الواقعية السحرية) كما أفادت من فكرة البحث عن القاتل بوصفها (ثيمة) خاصة بالرواية البوليسية، لتدفع بها في اتجاه بحثي بالغ  القيمة على نحو ما نرى في روايات مثل: اسم الوردة لأمبرتو إيكو، واسمي أحمر لأورهان باموق، والعطر لباتريك زوسكند التي تشير إلى نفسها بوصفها قصة قاتل على ما فيها من أبعاد معلوماتية وفلسفية ونفسية عميقة.    

إن محاولات قصر الرواية التفاعلية على كونها تلك التي يكتبها أكثر من كاتب، قول فيه تسطيح وإهانة لتاريخ الرواية. ومع ذلك فإن فضاء التجريب في الرواية يسمح بتجاوزها لحدود العمل الفردي إلى العمل المشترك. فقد استطاعت الرسائل المتبادلة بين مكسيم جوركي وتشيخوف، أن تحافظ على مستوى من الأدبية في لغتها وبنيتها، فضلاً عن مستويات من التفاعل المعرفي في الأدب والفن والسياسة.

إن استعارة فكرة التراسل كتقنية لبناء عمل روائي شائعة وقديمة ومتجاورة مع رواية الأصوات، لكنها تتطور فتصبح المراسلة وسيطًا لتشكيل بناء واحد من خلال كاتبين أو أكثر. فلطه حسين وتوفيق الحكيم تجربة مميزة تنهض على تبادل الرسائل طبعت كرواية تحت عنوان (القصر المسحور -1936م) وفضلاً عن التفاعل بين الأديبين في تشكيل نص واحد، فإن الرواية كلها تنهض على التناص مع مسرحية (شهرزاد) التي كتبها توفيق الحكيم، والتي تتناص بالتالي مع (ألف ليلة وليلة) وكان طه حسين قد وجد بعض الملاحظات على رسم الحكيم لشخصية شهرزاد، فقدم ملاحظاته في صورة محاكمة تعقدها شهرزاد لتوفيق الحكيم وأرسلها إليه، فقام الحكيم بالرد عليه مدافعًا عن نفسه، وموجها الاتهام إلى طه حسين، وهكذا.. تنتظم الرسائل بين الحكيم وطه حسين في سياق لعبة المحاكمة (اتهامًا ودفاعًا) لتحقق مستويات عالية من التعبير الأدبي والتفكير الخيالي المتضافر مع أجواء ألف ليلة وليلة، وشخصياتها، بل وتسقط على الواقع المعاش، وتختبر خطابات نسوية تناقش أحوال النساء عبر التاريخ. وخطابات نقدية، وتتطرق إلى معاني الحب، ومفاهيم في الفلسفة، مثل الخلود والعدمية، واللامعقول. إن الكتاب يقدم متعة تخيلية ومعرفية مدهشة فضلاً عن طبيعته السردية التي حافظت على مستوى لغوى بليغ وعذب، مدعم بروح تهكمية. ونتيجة لهذه الطبيعة المراوغة والمنفلتة من التصنيف، يعتبر البعض (القصر المسحور) رواية، والبعض الآخر يراها كتابًا يحمل بين طياته لعبة متخيلة ومحتشدة بمعارف عدة. وفي هذا السياق، نلاحظ أن تعبير ( لعبة) متداول في الإشارة إلى الرواية الرقمية.        

غير أن بنية الرسائل تكتسب بعداً جديداً على الفضاء الإليكتروني، من ذلك رواية (إيميلات تالي الليل -1911م) التي نُظمت بالتراسل بين الكاتب المصري (إبراهيم جاد الله) والكاتبة العراقية (كليشان البياتي) لتدور أحداثها حول وقائع الغزو الأمريكي للعراق، واعتقال (كليشان البياتي) بتهمة دعم المقاومة. وبعد اكتمالها طبعت الرواية ورقيًا.

 وفي سياق قريب من هذا صدرت ورقيًا رواية (روجرزـ 2007م) لأحمد ناجي، التي تشكلت بنيتها الأساسية على مدونة (وسع خيالك) من خلال مداخلات مشتركة، كان يديرها الكاتب بنفسه، ولهذا كان حريصًا على أن يؤكد بنبرة تهكمية، أن روجرز ليست رواية بالمعنى المعتاد بل هي مجرد لعبة، وهو نفس الوصف الذي أطلق على رسائل (طه حسين والحكيم) وقد استطاعت الرواية في ثوبها الورقي، أن تتنقل بين فضاءات مختلفة، تنطلق من ألف ليلة وليلة، إلى أفلام الأينميشن وطوابعها الفانتازية، ثم تتناص بوضوح مع فيلم (الجدار) لتدخل في رسومه المتحركة وأغاني (بنك فلويد) ثم ترجع إلى خيال أسطوري لعوالم سحيقة حتى عصر التنانين، وهكذا تتنقل الرواية بين أزمنة وأمكنة في حراك ديناميكي يبلغ غايته من التفاعل بين عوالم عديدة. 

لكن أي من الروايات المشتركة التي أشرنا إليها، لم يطلق عليها كتابها (رواية تفاعلية) برغم وعيهم بها كلعبة سردية مشتركة منذ طه حسين وتوفيق الحكيم. لكن الأمر يبدو أنه يتطور ليعبر عن هويته بشكل أوضح. ففي عام 2014م تشكلت مجموعة من أربعة كتاب مصريين (محمود عبد الحليم، ياسين أحمد سعيد، داليا مصطفى صلاح، مصطفى جميل)  أطلقت على نفسها جماعة (لأبعد مدى) وبدأت في إصدار سلسة من الروايات المشتركة تحت مصطلح الرواية التفاعلية، وأطلقتها على شبكة الإنترنت مباشرة ،  فهم على درجة من الوعي والقصدية بالتفاعلية منذ البداية.

 أول أعمالهم كانت رواية (أمسية مظلمة) وتتكون من عدة حلقات، كل حلقة مكتوبة باسم مؤلفها الحقيقي وهو راويها وبطلها الرئيس، يشاركه في البطولة باقي فريق العمل ويحضرون باسمائهم الحقيقية أيضًا. ومع ذلك لا يمكن اعتبارها رواية أصوات متعددة فحسب، فهى تتميز بتعدد أنماط الخطاب السردي، بين القصة والرواية والمقال والعرض المسرحي. 

إن للخيال الأدبي فاعلية بالغة وبليغة، تمكنه من التفاعل مع سياقات موضوعية ومعرفية وتخيلية عديدة، وتتشكل عبر أبنية غير نمطية، قادرة على استيعاب خطابات مختلفة، بين الأدب والفسلفة وعلم النفس والأنثروبولوجي بل وعلوم المستقبل. والممارس للتجربة الإبداعية، يعرف أن كل رواية تنتج خيالها ولغتها. لهذا فالنظر إلى خيال الرواية الورقية بوصفه خيالاً سلفيًا ارتداديًا كما يقول (محمد سناجلة) فيه تعجل ينشأ عن حماس ويفضي إلى خلط المفاهيم والتصورات والمصطلحات، على نحو ما يقول سعيد يقطين في معرض كلامه عن الرواية التفاعلية: ” شاع في العديد الدراسات العربية التي تذهب إلى أن “الرواية” ظهرت في التراث العربي، خلط واضح بين “الجنس” و “النوع”علينا تبينه وتجاوزه، إن تبين هذا الخلط وتجاوزه في آن يسمح لنا بالتفكير في تطور الرواية العربية ورصد صيرورتها بمنأى عن أي مصادرة أو اختزال”[5]

 وفي هذا السياق يذهب (يقطين) إلى أن تجارب الرواية العربية أفادت من التراث العربي، كما أفادت من الرواية العالمية، وتفاعلت مع الواقع في قضاياه وتحولاته، ونجحت في اقتحام مجالات السينما والدراما التلفزيوينة، ويدعو في نهاية مقاله إلى استثمار العجائب والخيال العربي الإسلامي الخصب في بناء تفاعلي جديد لا يهاب الحواسيب وتكنولوجيا الاتصال المختلفة[6].

نفهم من كلام ( يقطين) أنه لا غضاضة على الإطلاق أن تستعين الرواية التفاعلية بخيال ما قبل الرقمية، مهما كان موغلاً في قدمه. إن مراجعة تصوراتنا عن الرواية الورقية، قد يسهم بدرجة كبيرة في فهم ما نحن مقدمون عليه تحسبًا من نتائج الاندفاع بحماس إلى مستقبل لم نمتلك أدواته بعد، بل ولم نسهم في صنعه، فليس علينا البدء من نقطة الصفر. أظن هذا ما يقصده (يقطين) مع التأكيد –من جانبنا – على أن الخيال العربي ليس فقط هو الخيال العجائبي الإسلامي. والحق ما قاله، فما دامت الرواية العربية قد وصلت إلى درجة من النضج والاستقرار، فلن نخشى عليها الحواسيب وتنكولوجيا الاتصال.

سلطة الوسيط :

هل للوسيط الرقمي سلطة على النص الأدبي؟

سؤال نطرحه ونحن نتأمل تنازع السلطات على الأدب من: المؤلف إلى النص إلى المتلقي إلى الوسيط.  

لكن ثمة ملاحظة أولية، قد تجيب عن السؤال، وهي أن حجم المنتج الإبداعي للرواية الرقمية مازال أقل من أن يؤكد هويته، بوصفه فنًا روائيًا جديدًا، سواءً في حرفية صناعته، أو تقنياته المتاحة. ويبدو الأمر أكثر حدة في مجتمعاتنا العربية، حيث تنخفض مهارات التعامل مع الوسائط الإلكترونية لدى الكاتب والمتلقي معًا، ولهذا فالقول بأن هذا المنتج الضئيل من الأدب الرقمي، يمثل جنسًا مستقلاً ومنبت الصلة تمامًا عن مثيله الورقي فيه مبالغة، وذلك بالنظر إلى تاريخ الأدب، وتطوره، وتطور ذائقة المتلقي معه. وقد رأينا فيما سبق، كيف طرقت الرواية الورقية صورًا عديدة من التفاعلية. علينا أن نضع في الاعتبار أن ليس الأدب الرقمي فقط يعاني أزمة البدايات، بل تلقينا له أيضًا، بما يعني أن علينا التعامل بحذر مع إحصائيات المشاهدة التي يعتمد عليها كتَاب ونقاد الإنترنت، فهي ليست افتراضية فحسب، بل الكثير منها عابر وسطحي من قبيل الفضول لمعرفة ما هو جديد.

ويبدو لي أن بعض الدراسات الأكاديمية حول الرواية الرقمية، انطلقت بدافع الفضول والحماس للجديد أيضًا، وباستثناءات قليلة، فأغلبها يتشابه في شواهده، وتعريفاته ومفاهيمه، كونها تنقل عن بعضها البعض، نظرا لمحدودية الرصيد النقدي لفن أدبي جديد وقيد التشكل. وعلى ما سبق، وإيماءً لما هو قادم، باعتبار أن مستقبل التكنولوجيا واعد بالكثير مما لا يمكن توقعه، فإن كل رؤية أو بحث نظري في موضوع الرواية الرقمية حتى الآن، لن يكون مؤسسًا على مراجع وشواهد كافية لتمدنا باليقين، ولاسيما أن جانبًا كبيرًا من أدوات الرواية الرقمية، ليست في يد نقاد الأدب، بل في يد فئة المبرمجين والتقنيين المهرة، الذين يفاجئونا كل يوم بجديد، يضطرنا في كثير من الأحيان، أن نعيد النظر في كثير مما عرفناه.

وعليه، فإن مراجعة الرؤى والتنظيرات التي قدمت حول علاقة الأدب بالتكنولوجيا ضرورة ضامنة لأن تمضي التجربة على قدميها بثقة، غير أن هذا ليس مقصدنا في هذه المقاربة النقدية، لولا أن واجهتنا بعض تساؤلات، وملاحظات تستدعي استجلاء الكثير من الملتبس والمتشابه بدءًا من طوفان المصطلحات والمفاهيم حول الرواية الرقمية، انتهاء بآليات تخنق النص الأدبي، فتجعله محدودًا ومتشابها، نتيجة لأسبقية التصميم الذي يحد من أفق توقعات القارئ، وهو ما لاحظناه في النصوص التي استخدمت تقنية الارتباط التشعبي على وجه التحديد، بوصفها أداة التفاعلية الأكثر استخدامًا في الأدب الرقمي. فالكثير منها يستخدم في غير موضعه، ولا يحقق وظيفة جمالية من أي نوع، كما لا يمكن الوثوق في الوظيفة المعلوماتية له في فضاء حر ومفتوح لكل من يشاء، بما يفقده كثيرًا من الموثوقية.

وقد لاحظتُ في بعض نصوص (غرف ومرايا)[7] روابط تفضي إلى معلومات غير ذات صلة بالموضوع، أو غير دقيقة. وفي (محطات)[8] تتوقف وظيفة الروابط على وصل مجموعة من النصوص المكتوبة في أفق واحد، وهو تصميم مسبق يحقق بديلاً لفكرة المجموعة القصصية، ولكنه على الرغم من ذلك لا يثنينا عن قراءة كل نص منفردًا، دون التزام بحركية الروابط، بما يعني أن النص يمكن أن يكون مكتفيًا بذاته، مُشبعًا في دلالته ومُحققًا لدرجة من التفاعل الداخلي، لكنه في نفس الوقت يحقق قدرًا كبيرًا من التفاعل بين النصوص التي تحتفظ بعناصر السرد، كالمكان والحدث والشخصية، فتحقق نسقا بنائيًا يذكرنا بالمتتاليات القصصية، فالروابط في (محطات) تسهم في تشكيل الفضاء المكاني لمجمل النصوص، حيث أجواء الريف المغاربي، كما تسهم في تحديد أبعاد الشخصية ولا سيما الثقافية، فالمفترض أن محطات (سيرة افتراضية لكائن من ذلك الزمان) كما يوصفها أشويكة. لهذا فإن تقنية الروابط المتجاوبة بين النصوص حققت هدفها في بناء (محطات) لتمتلك وحدة عضوية تقترب بها من الرواية على الرغم من توزعها بين نصوص منفصلة. لكن هذا يمكن أن يتحقق في الأدب الورقي بفضل أسبقية التصميم الكلي للنصوص حتى يقترب العمل من الرواية. لدينا الكثير من الأعمال التي نجحت في تحقيق هذا، منها (وردية ليل) لإبراهيم أصلان، وهي أيضًا سيرة قصصية لعامل بمكتب التلغراف، حيث تدور كل أحداثها فيه. وقد أحدثت وقت صدورها ( 1977م) جدالاً نقديًا حول هويتها بين القصة القصيرة والرواية.

 في جميع الأحوال يظل المجد في (غرف ومرايا ومحطات) هو فضاء الأدبية وليس الفضاء الإليكتروني. إن كل نص، يحضر بقيمه الجمالية الكتابية المعهودة في القص الورقي، بما يعني أن الإضافات التي تحققها الراوبط بين النصوص ليست فارقة في التشكيل الجمالي للنصوص، لكن هذا ليس حكمًا قاطعًا على تقنية الارتباط التشعبي، ومدى قدرتها على التجانس ولحم النصوص المكتوبة لتزيد من طاقتها الدلالية وفاعليتها الجمالية. فهي في سياق آخر كما في روايات (محمد سناجلة) أكثر فاعلية في تشكيل شبكة العلاقات الدلالية، والسمات الجمالية، كما أنها تمثل إضافة على المستوى المعلوماتي. بما يعني أن تقنية الارتباط التشعبي، لا تحتاج خبرة ومهارة بإمكانات الوسيط الإليكتروني وأدواته فحسب، بل تحتاج مهارة فنية عالية في رسم خارطة كل نص ونتائج اتصاله بالنصوص الأخرى.

وهنا يجب الإشارة إلى أن أعمال (محمد سناجلة) تنتج من خلال مؤسسة للتصميم والنشر، بما يعني أن إنتاج نص رقمي متفاعل على مستوى جيد، لا يتحقق بجهد فردي شأن الرواية الورقية، بل يحتاج لفريق عمل من التقنيين المهرة، سواء الضالعين في إنتاج النص مباشرة، أو الذائبين في الفضاء الإليكتروني من مصممي ومنتجي المواد التي تحيل إليها الروابط، كالصور والفيديوهات والمعلومات.

 وهكذا يخرج العمل من إطار الحساسية الفنية إلى الصناعة، كما هو الأمر في صناعة السينما. ومن ثم فالتساؤل عن مستقبل الأدبية يطرح نفسه: هل يمكن أن يبتلع الفن السابع (السينما) فنون الأدب؟

 ثمة تغير واضح في العلاقة بين الأدب والسينما عالميًا، فبعد أن كان الأدب مصدرًا لإلهام السينمائيين خلال القرن الماضي، أصبح العكس هو ما يحدث، بل يبدو أن كثيرًا من روايات الشباب تعكس شغفًا ليس بالتناص مع الأفلام فحسب، بل بالاقتباس منها أو  محاكاتها، على نحو ما نرى في روايات الرعب والمغامرات التي تحكي قصص الفامباير والزومبي والمتحولين والكائنات الفضائية. وقد اشرنا سالفًا إلى رواية (روجرز) لأحمد ناجي، وظني أن هذه الظاهر تحتاج دراستها بدلاً من تجاهلها ووضعها في دولاب الأدب المبتذل. وقد سبق أن تناولنا هذه الظاهرة بتفصيل أكبر.[9]

ربما هذا النهج في صناعة نص رقمي، يحقق مفهوم الرواية التفاعلية على نحو أكثر رسوخًا، بوصفه نصًا يتشارك في كتابته أكثر من كاتب، ويتفاعل مع أكثر من وسيط، ويستفيد من أكثر من مصدر أمرًا ممكنا، ولكنه يدعونا للتفكير في أدبية النص. فإذا كانت اللغة بوصفها جهازًا لسانيًا تشير إلى خارجها، بمعنى أنها تمتلك قدرة على التناص مع نصوص أخرى، فإن المادة المستعارة من شبكة الإنترنت تشير إلى نفسها فحسب، وتتعين في النص بوصفها أيقونات معدة سلفا ومطروقة على شبكة الإنترنت. فهل يؤثر هذا على طاقتها التفاعيلة مع العلامات النصية الأخرى؟

فاعلية الخيال الأدبي

تاريخيا مر السرد بتحول كبير من الشفاهة إلى الكتابة، والواقع أن الطابع التفاعلي للمرويات الشفهية لا يستهان به، فالمرويات الشفهية كالأساطير، والحكايات الشعبية، والسير وغير ذلك من فنون الأدب الشفهي أو الشعبي، تتغير صورتها في كل مرة، بإضافات أو تعديلات وفق ثقافة كل راوٍ لها، ووفق خبراته الذاتية، وقدراته التخيلية، حتى أنها في كل مرة، تبدو خلقًا جديدًا، ثم  تتفاعل من جديد، مع متلقين أو رواة جدد. وقد ترك هذا أثرًا على التفاعل بين الثقافات المختلفة، بحيث يصعب نسبة الكثير من المرويات إلى موطنها الأصلي، بما ينتج نصًا عابرًا للثقافات كما هو الحال في ألف ليلة وليلة. لكن الكتابة أخضعت المرويات لعمليات من الضبط والمراجعة والتوثيق وغير ذلك من أدوات التحقيق. ونتيجة لذلك، فلم تكن الكتابة مجرد وسيلة للتدوين، بل طريقة للتفكير أنتجت مناهجها وطرق بحثها، والتعرف على الموضوع فيها، أو المحرَف عن أصلها، أو المقتبس منها، وغير ذلك من صور التضمين والتناص التي أصبحت جزءًا من علوم السرد الحديث. وهكذا أصبحت الكتابة مرادفًا لرحلة المعرفة البشرية، بفضل شغفها بالحقيقة والموثوقية المغلفتين بخيال لغوي. وخلاصة كل هذا، أن حصلت الرواية الورقية على خيال مهذب، واقعي وموضوعي، بفضل تعانقه مع المعرفة. لقد اقترب السرد الورقي في مراحلة الأخيرة لأن يكون طريقة للتفكير، وليس مجرد وسيط لنقل حكاية، فهل يمكن للرواية الرقمية أن تفيد من ذلك الرصيد؟

لكن.. علينا أن نأخذ في الاعتبار أن المعرفة الحديثة بعد موت الفلسفة لم تعد دربًا من التأمل الذاتي. بقدر ما هي قدرة على تحليل البيانات واختبار المعلومات التي توفرها الحواسيب. والتي هي في الأصل نتاج تاريخ المعرفة والعلم. ولو تمكنت الرواية الرقمية من خاصية تحليل البيانات لضاعفت من فاعليتها لعشرات المرات. لكن ما نلاحظه حتى الآن في الكثير من النصوص الرقمية هو أن الروابط اللغوية تكتفي بدورها الإشاري.

هذا الدور الإشاري يمكن أن يحقق إضافات جمالية للنص المكتوب. فالرابط الأخير في قصة (هي والحمام) للبيبة خمار، يحيلنا إلى نفس القصة ولكن مكتوبة ومصورة بتقنية الفيديو. ومصحوبة بموسيقى (حنين) لجوفاني مرادي. لتقدم لنا معادلاً مشهديًا للنص المكتوب. لكنه يسرب شعورًا رومانسيًا دافئًا ومغايرًا لما صدره لنا النص المكتوب المحتشد بلغة فوارة، وخيال حوشي. والحقيقة أن فاعلية الخيال عند (لبيبة خمار) في نصوصها المكتوبة  تقترب من الشعر. أعلى من أن تلاحقها المشاهد المصورة. فأي إمكانية تصويرية يمكن أن تحقق نصًا كهذا: ” وكان كلما اتصل، تكلم، أقفل الخط إلا هزت برأسها فتتساقط قشور البيض صلبة، دامية، ويختبئ الباقي، يراقب، وينتظر تصاعد الأبخرة إلى الرأس ليتكور، يفقس، ويطير سرب حمام“.

لكن الملفت للانتباه أن محمد سناجلة نجح في أن يجعل الصورة المستعارة تشير إلى خارجها مرة أخرى من خلال تقنية كتابية قديمة هي (الإسقاط) وهي تقنية لصيقة بالرواية التاريخية. أفاد منها (سناجلة) كثيرًا في تصميمه رواية (ظلال العاشق)  فالكثير من الروابط تسقط على وقائع وأحداث حقيقية حدثت في أزمنه وأمكنة أخرى غير زمان ومكان الرواية. لكن أبرز ما يستوقفنا منها الربط الذي يسقط على مشهد حرق الطيار الأردني (معاذ الكساسبة)  فبغض النظر عن الأثر الحسي العنيف الذي يتركه الفيديو على المتلقي. فهو يحلينا من جديد إلى خارج النص. إن الفيديو مستقلاً كما بثته بعض القنوات الإخبارية يحفزنا لإدانه الحدث بوصفه استثنائيًا في عصرنا، لكن وضعه في سياق تاريخي لا يحلينا إلى سوابق مماثلة لمحاكم التفتيش فحسب، بل إلى التفكير في أن رحلة الوجود البشري لم تخلصنا من همجيتنا بعد. وكأنها غريزة عابرة للحضارات والأديان. أي أن الإفادة من تقنيات الكتابة الورقية يمكنها أن تحقق قيمًا جمالية يصعب تعويضها. لهذا فليس من الحكمة التخلي عنها لمجرد مجاراة الجديد. على الأقل في الوقت الحاضر. إذ مازالت قيم الكتابة وأساليبها حاضرة وفاعلة في حياتنا. ولعل هذا ما تومئ إليه (عبير سلامة)[10] عندما اعترضت على استخدام محمد سناجلة لمصطلح (الواقعية الرقمية) حيث ترى الواقعية مصطلحًا مستعارًا من سياق نظري سابق على الرقمية. فيما تفضل (زينب خليلي)[11] أن تستخدم مصطلح (الرواية التفاعلية) لتبدو التفاعلية بديلا للرقمية أو مرتبطة بها دونما التفات إلى أن التفاعلية سمة نصية بالأساس. كون النص جهاز نقل لساني وتواصلي بحسب جوليا كريستيفا.

التفاعلية الرقمية وأبعادها الجمالية.

 يلفت (عبد النبي اصطيف) انتباهنا إلى أن التفاعل خاصية داخلية للنص. حتى لو نهضت على استعارات من خارجه :”الحقيقة الأكثر أهمية وخطورة في مسألة تفاعل النصوص هي أن النصوص لا تتفاعل بوصفها مجرد نصوص، ولو كانت كذلك لصح النظر إلى تفاعلها على أنها مجرد اقتباس أو تضمين أو تأثر بمصادر معينة، يستطيع أن يحددها القارئ الخبير المطلع، ولكنها تتفاعل بوصفها ممارسات دلالية متماسكة. إنها تتجاور وتصطرع، وتتزاوج وينفي بعضها البعض الآخر، أو باختصار عندما تتفاعل نصيًا، تتفاعل بوصفها  أنظمة وعلامات متماسكة لكل منها دلالته الخاصة به، وهذه الأنظمة عندما تلتقي في النص الجديد، تسهم متضافرة في خلق نظام ترميزي جديد، يحمل على عاتقه عبء إنتاج المعنى أو الدلالة في هذا النص” [12]

تأتي مشكلة التفاعل نتيجة لأن النصوص الرقمية المتاحة حتى الآن، تنشأ أساسًا على نهج كتابي. وتتشكل في وعي كاتبها عبر طرائق التفكير والتعبير الكتابيين. ثم تأتي مرحلة الإخراج الفني، وهي التي تبدو أكثر وضوحًا وانضباطًا عند (محمد سناجلة) وفي مجمل نصوصه.

الإخراج الفني عملية مركبة تحتاج شخصًا قادرًا على الجمع بين طريقتين للتفكير: اللساني، والأيقوني. وفيها يتم دمج العلامات والأنظمة الكتابية في منظومة من الرموز الصوتية والبصرية.

الأمر يحتاج قدرًا من التصميم المسبق لتشكيل النص على الفضاء الرقمي. فالعلامات الكتابية تنتج دوالاً تتفاعل داخل نظامها، يستدل عليها القارئ بخبراته ومستويات تلقيه. بينما الرموز متعينة لا تحتاج إلى لغة. وعند دمجها بالرسوم تصبح أيقونات.

فإذا كانت اللغة تشير إلى شيء خارجها، فإن الأيقونة تشير إلى نفسها فحسب. ولذلك هي تأتي محملة برصيدها الرمزي. فإذا كان اللون الأحمر يرمز إلى الخطر كنظام ثقافي عالمي، فلا يمكننا التفكير فيه بعيدًا عن معنى الخطر، فيتوجه وعي المتلقي إلى مثيرات الخطر وصوره، وما يترتب عليه من انفعالات حسية تنتج عن زيادة الأدرينالين في الدم كاتساع حدقة العين وازدياد ضربات القلب. وهكذا يمكن للروابط التي تحيل إلى أيقونات ذات صلة وثيقة بالعلامات اللغوية أن تحقق قدرًا معتبرًا من التفاعلية.

تأتي فاعلية الخيال الأسطوري نتيجة لحمولتها المكثفة من الرموز والأيقونات، وهي مازالت تسكن حياتنا وتشكل وعينا حتى الآن. بل تزداد كثافتها في كل يوم. فلم تعد تقتصر على المراسم الدينية. بل تجاوزتها لتصبح كامنة في اللافتات والعلامات التجارية، والخطابات السياسية، وملاعب كرة القدم. ولم تعد الرموز صورًا فحسب، بل أصوات وحركات أيضًا، فالدقات الثلاث على خشبة المسرح رمز، ورفع الراية في مباراة كرة القدم رمز، والحركة الدائرية لمؤشر البحث على شاشة الحاسوب رمز وكذلك أسهم التنزيل، بل اللون الأزرق للكلمات رمز الارتباط التشعبي. إن الفضاء الأليكتروني يحتشد بالرموز والأيقونات، التي تمثل لغة عالمية عابرة للثقافات، حتى أن كاتب النص الرقمي لا خيار أمامه غير التعامل معها كلغة عالمية. بما يعني أن كل نص رقمي، لديه إمكانية التفاعل مع نص رقمي آخر. وهكذا نحن نكتب نصًا واحدًا لا ينتهي. عندئذ يكون السؤال عن مستقبل الأدبية مشروعًا.

لكن علينا أن نضع في الاعتبار، أن كل المدركات الحسية من صوت وصورة وحركة ولمس، تنتج عبر عمليات ميكانيكية لا دخل للإنسان فيها، وتتم في حافة الجذع المخي الذي يخاطب كل الغرائز ويعمل علي تلبية احتياجاتها عبر نظام كيمائي محدد، فالمشاهدات المثيرة جنسيا مثلاً، تحفز الدفق الهرموني في الجسم، والمشاهدات العنيفة أو المخيفة تفرز الأدرينالين، والموسيقى الهادئة (كالتي استخدمتها لبيبة خمار) تسرب شعورًا بالراحة نتيجة لتحفيز هرمونات السعادة (السيراتونين، والدوبامين) وهكذا.. فإن ميكانيزم الحواس يسيطر على المشاعر ويوجهها، ويعمل على تعطيل عمل القشرة المخية الأمامية، المسئولة عن الخبرات والمعارف والاختيارات والتفاعلات الاجتماعية. لهذا فإن القيم البصرية والصوتية والحركية التي توفرها الروابط على شاشة الحاسوب، قد تحفز قدرًا من الإثارة الحسية، ولكنها لا تمكن القشرة المخية من التفاعل معها. بما يعني تقييد طاقة الخيال الذاتي والنشاط الذهني للمتلقي. في هذه الحالة، سيكون متلقيًا سلبيا. إنها الوصفة السحرية التي تراهن عليها السينما التجارية، أن تحقق نشاطًا كبيرًا من الإثارة الحسية، في أفلام الأكشن، والرعب، والبورنو، فيما تعطل عمليات تحليلها. ومع الوقت تصبح عقولنا في خدمة ما يقدم لنا، ومن هنا يتحسس علماء الدماغ من سيطرة الحواسيب علي طرائق تفكيرنا.     

 كما أن الروابط تقدم لنا خيالاً مقيدًا ومعد سلفًا، كما تقدم معارف موجودة بالفعل، ومحكومة بسياق محدد، توفره المادة المتاحة على شبكة الإنترنت. وقد رأينا في بعض نصوص (غرف ومرايا) روابط تفضي إلى معلومات غير متفاعلة مع موضوع القصة ولا تضيف إلى الخيال الشعري الذي تتمتع به قصة مثل (انتصار). نقرأ في هذه القصة: “اصطياد الذباب هوايتها المفضلة، كانت تجلس الساعات الطوال تحت الشمس الحارقة تطيح بالأولى، فالثانية والثالثة..”  وإذا كان موضع الرابط يتمثل في كلمة (الشمس) فهو يفضي بنا إلى موقع ويكيبيديا لنقرأ الآتي: “اشتق اسم عنترة من ضرب الذباب يقال له العنتر وإن كانت النون فيه ليست بزائدة (مثل قبيلة كندة أصلها كدة) فهو من العَتْرِ والعَتْرُ الذبح والعنترة أيضًاً هو السلوك في الشدائد والشجاعة في الحرب[13]

 صحيح أن شبكة المعلومات التي أدخلنا إليها الرابط ثرية وذات صلة ببعضها البعض، لكنها قد لا تصلنا إلى بؤرة تفاعلية مع النص نفسه. بل قد تعطل هذا التفاعل إذا ما فكرنا في تتبعها، كونها معلومات مجتلبة لم تدخل في نسيج النص، ولا تصدر طاقة شعورية بقدر ما تظل مجرد معلومة. بالتأكيد جهلنا بأن اسم (عنتر) مشتق من ضرب الذباب لن يؤثر على تلقينا لنص لبيبة خمار.

وفي سياق آخر فإن الروابط قد تحيلنا إلى صور وفيديوهات وأغانٍ مطروقة ومشهورة، لا لشيء إلا لأنها المادة المتوفرة على شبكة الإنترنت. في النصوص الرقمية، علينا الانتباه إلى أن المتلقي لا يتعامل مع أرقام. بل مع نص محتشد بالعلامات والدلالات التي ينتجها وعيه. لهذا قد نشعر بالخديعة مع رابط يطيح بنا بعيدًا أو يقدم لنا شيئًا مطروقًا أو مكررًا على نحو ما شعرت به في (ظلال العاشق) عندما أحالني الرابط إلى (أنيمشن) للعبة استراتيجية، ثلاثية الأبعاد/ 3d. ربما المتلقي يحتاج جهدًا خاصًا في تصميم النص يساوي جهده في التلقي مثلما رأينا في رابط حرق الطيار الأردني وآثاره التفاعلية القوية.

إن اللون والصورة والصوت والحركة تحقق قيمًا تفاعلية في حد ذاتها، لكن توظيفها لصالح النص الكتابي لا يعني اجتلابها كاجتلاب القوافي، بل يحتاج إلى حساسية عالية وآلية معقدة للتوليف والنظم والابتكار. لأن أي خلل سوف يخرج القارئ من نطاق التفاعل. والواقع أننا وجدنا هذه الحساسية في نصوص محمد سناجلة، ولاسيما المقدمات التي تحتاج عناية خاصة بوصفها عتبات أولى لعالم النص.

في ( ظلال العاشق) نلحظ أهمية التصميم المسبق، وضرورة المُخرج الفني.

 في مفتتح الرواية تباغتنا دقات طبول الحرب، وتتحرك صور ظلية (سلويت) لفرسان يصاحبها صوت يشبه العويل كأنه يأتي من الماضي السحيق. المكان صحراوي معبق بالغبار. عندئذ يظهر عنوان الرواية بلون أحمر دموي يسيل ويتقاطر. وفي آخر لقطات المشهد الافتتاحي يظهر ظل الفارس (سلويت) جالسًا على تل وبجواره راية ترفرف و في مواجهته قلعة تحترق تفر منها طيور مفزعة. إنها علامة مركبة على الانتصار. عندئذ يظهر النص في صورته المكتوبة على ورق أصفر قديم متآكلة حوافه لنصبح في قلب الحدث بلا مقدمات :”أحاط بنا الأعداء من كل الجهات. العبرانيون من بني إسرائيل بقيادة ملكهم الطاغية أخاب بن عمري وحلفاؤهم من الأدوميين والبدوان وقطاع الصحارى جيشوا جيوشهم وهاجمونا “لقد حلت عتبات النص في الرواية الرقمية بإمكاناتها الصوتية والبصرية والحركية مكان المقدمات في الرواية الورقية. وبها تتأكد ضرورة التفاعلية من خلال ترك مساحات في النص المكتوب ليملأها النص الرقمي. غير أننا نلاحظ الإفادة من أساليب (التتر) في الدراما التلفزيونية.

 إن الحكاية في الرواية الرقمية لا يمكنها أن تستمر بدون اللغة كما هو الحال في الدراما التلفزيونية والسينما. فالعلامات اللسانية تظل هي الأقدر على حمل حكاية متماسكة في دلالاتها الداخلية، نعرف هذا في الحكايات الشفهية والكتابية معًا. ومهما كانت الوسائط الأخرى التي تسهم في إنتاجها. إذ يظل الفيلم السينمائي والعرض المسرحي في حاجة إلى اللغة لتكتمل الحكاية. عندئذ يلتفت القارئ إلى إيقاع جديد هادئ ومرتب وهو يتحرك في عمق الحدث منفردًا بتشكيله. إنه إيقاع الكتابة. لهذا فإن النص الكتابي في (ظلال العاشق) يطغى على النص. هذا ما نشعر به بمجرد تجاوزنا لعتبته المنفذة على مستوى احترافي ،ينتبه لقيم جمالية بصرية وصوتية.

العنصر الكتابي:

العنصر الكتابي يمثل الكتلة الدلالية الأكبر في نص (ظلال العاشق) سواء في متنه أو هوامشه ذات الصفة المعلوماتية. ومن ثم هى كتلة حاضنة لكل العناصر الجمالية الأخرى تقريبًا بحيث يمكن وصفها بالعنصر المهيمن الذي وصفه (جاكبسون) بأنه العنصر الذي يحتل البؤرة من العمل الفني ويحكم غيره من العناصر بل ويحددها بما يعني أن النص الكتابي في (ظلال العاشق) هو الذي يحدد النوع الأدبي للعمل بوصفه رواية تتناول فترة من تاريخ الأردن. وبالتحديد تلك الفترة التي بدأ فيها عدوان (آخاب بن عمري) ملك اليهود والأدوميين على مدينة (ديبون) أو ذبيان حاليًا، والتي تقع في جنوب الأردن. لم يكن بوسع النصين البصري والصوتي تجسيد هذا الإطار الحكائي للرواية وإلا تحولت إلى فيلم وثائقي. 

في الواقع إن المعاني والدلالات التي قرءنا بها عتبة الرواية (التتر) لم تكن متاحة إلا بعد قراءة النص المكتوب والتعرف على تفاصيل الحكاية كلها. بما يعني أن العلاقة بين النص المكتوب وعتبته تفاعلية بحيث يشير كل منهما إلى الآخر ويكتمل به.

يأتي السرد بضمير المتكلم على لسان (ابن ميشع بن كموشيت) ليبدأ بحكاية غزو اليهود لمدينة ديبون، وهزيمة أبيه (ميشع بن كموشيت) واضطراره للتحصن بقلعة ديبون. يستمر التسلسل التاريخي للحكاية بدءًا من رؤيا الكاهن كموشيت التي تقضي بذبح ابن ميشع. ثم يتم فدوه برؤيا أخرى تستخدم لغة متناصة مع القرآن الكريم “إنا قد فديناه بذبح عظيم واعتقناه وآزرناه بنصرنا أبد الآبدين ” ما نعنيه أن النص المكتوب هنا لم يتخل عن آليات تفاعله مع نصوص أخرى مكتوبة. وهو ملمح نجده في شواهد كثيرة وفق الروابط المتاحة. فالرابط رقم (6) من الرواية يقتبس على نحو واضح من شعر عبد الله بن رواحة في غزوة مؤتة وهو يرثي نفسه قبيل استشهاده حاملاً الراية. وهنا نتذكر الراية التي رأيناها في (تتر) الرواية. ثم ربط بين العلامات البصرية والكتابية.

الرابط (6) لا يحقق قيمة معلوماتية فحسب. بل يتم توظيفه في النص المكتوب ليصبح جزءًا منه. إذ يجيء على لسان ابن ميشع في سياق تحريض رجاله على قتال الغزاة وطلب الشهادة. وهو اقتباس متجانس وموفق. ففي معركة مؤته كان جيش المسلمين قليل العدد. فاستهانت بهم جحافل الروم والغساسنة. لهذا فعندما بادر المسلمون بالهجوم بوغت الأعداء وتفرقوا. تلك هي الرواية التاريخية لغزوة مؤتة وهي تتناص بوضوح مع خطة بن ميشع لردع الغزاة. هكذا ينقلنا التناص إلى زمن وحدث مختلفين.

تكتفي العتبة النصية في رواية (صقيع)[14] بدلالات خارجية عن الظلام والبرد وذئب يعوي في وجه القمر وكأننا أمام واحد من أفلام الرعب الهوليودية. إنها (ثيمة) شهيرة كنا نجدها على أغلفة سلسلة روايات الناشئين (الرجل الذئب) وهي جذابة حتى أنها أصبحت موضوعا لسلسة أفلام أمريكية (Werewolf) ولو كانت الرواية موجهة للناشئين فلا بأس. لكننا بمجرد أن نتجاوز عتبات النص إلى متنه الكتابي نشعر بخفوت الجاذبية. إذ تتمركز “صقيع” حول شخصية واحدة تعاني مأزقها الداخلي فيما يشبه الإحساس العميق بالعزلة والتيه المفضي إلى ارتباك الحواس واضطراب المشاعر. هذه انفعالات تنجح الكتابة في التعبير عنها بشكل أدق على نحو ما أشرنا سابقًا في نصوص (غرف ومرايا)  فيما تنجح النصوص المحتشدة بالحركة والمغامرات المباشرة في الإفادة من التقنيات الرقمية. فليس للحاسوب واقع داخلي لا مشاعر ولا أحلام ولا غرائز.

إن الانطباع الأولى عن عتبة (صقيع) مفارق لمتنة على نحو كبير. فالواقع إننا أمام نص ينشغل بالمشاعر الداخلية لبطله. ويستسلم لخيال لغوي من صور وتشبيهات ومجازات بعضها يمتثل لتراكيب شائعة من قبيل تراقص النجوم. لكنها قادرة على كشف الواقع النفسي لبطلها :”نظرت إلى كأس العرق الأخير، ثمالته تتراقص فيها النجوم كما تتراقص في رأسي الذي أمسى ثقيلاً كجبل طارق، يا للحسرة انتهت الزجاجة ولم أثمل بعد.. كنت دائمًا أحب السكر وحدي في المطر. تتكثف الأشياء كما الغيوم.  تنداح خيالات عذبة وجنيات تخرج من قلب البحر تلعب بالمتوحد مع ذاته كما تشاء “

في الشاهد السابق علامتان مهمتان كونهما مترابطتين لتوسيع الدلالة. العلامة الأولى زمنية (كأس العرق الأخير) بما يعني أن ثمة  (مسكوت عنه) سابق على زمن السرد. وهذه العلامة تترابط مع العلامة الثانية عندما تعلن الشخصية عن نفسها ( المتوحد مع ذاته) وبها ينتقل مستوى السرد من الوصف الخارجي إلى الوصف الداخلي الذي يناسب شخصًا متوحدًا مع ذاته ومن ثم ينتقل السرد إلى ضمير المتكلم ليأخذ النص المكتوب طابعًا مونولجيًا خالصًا ومنحصرًا في منطقة لاواعية من النفس. تتأرجح بين الهلاوس البصرية والسمعية. ربما بتأثير السكْر، وربما فعل السكر نفسه كان نتيجة  للمسكوت عنه بين ثنايا النص. كما يمكن أن يكون الإخفاق في التواصل ليس مع زوجته فحسب، بل مع كل شيء خارج قوقعته الذاتية. ليبدو شخصًا يقيم في رأسه منفصلاً عن العالم خارجه. 

إن هذا التفسير الأخير لحالة الشخصية، يأتي في نهاية النص كمفارقة تستوقف القارئ لمراجعة النص. حيث نكتشف عندما تفتح زوجته نافذة الغرفة أن الزمن الخارجي صيفي حار. على عكس زمنه الداخلي وما فيه من صقيع.. تدفعنا لإعادة القراءة من جديد لنقف على مزيد من المعاني التي تفسر طبيعة المفارقة: هل كان الأمر كله مجرد حلم؟ إنه أحد الاحتمالات المطروحة. فالنهايات التي تقوم على المفارقة أحد التقنيات التي يجيدها محمد سناجلة، وتدفعنا لمراجعة تصوراتنا عن النص.  ففي (ظلال العاشق) يحيلنا الرابط الأخير إلى لقطة لصبي أنهي لعبته للتو على شاشة الحاسوب، لنكتشف أنها اللعبة الاستراتيجية التي طالعتنا في (التتر) وتجاوزناها باستخفاف. عندئذ ينبغي على القارئ أن يراجع وظيفتها في كل مراحل الرواية ليكتشف أن المؤلف كان يلعب معه وبه طوال الوقت. إن اللعب أحد قيم التفاعلية في روايات سناجلة الرقمية، لهذا فهي في الحقيقة ليست نهاية للرواية، بقدر ما هي نهاية اللعبة. حيث تتركك الرواية فجأة في لحظة فارقة وحاشدة بالتوقعات.   

 لقد أمكننا قراءة النص في (صقيع) بالكثير من تفاصيله من خلال النص المكتوب على الرغم من أن التصوير الحركي والصوتي كان يتخلله طوال الوقت ولكنها لا تمثل إضافة حقيقة للنص الكتابي بقدر ما هي معادلات صوتية وبصرية له. فالرابط (قمت أجر نفسي) يمكن أن يعبر عن معنى مجازي (ثقل النفس) لكن المعادل البصري له لم يكن سوى رسم متحرك لرجل يمشي. وكذلك الرابط ( الجدار يترنح تحت يدي) يتحول بصريًا إلى جدار يتحرك وهكذا.. إن المعادل البصري أو الصوتي لكثير من المفردات يفقدها فرصة التأويل وتعدد الدلالة.

***

تستطيع الرواية من خلال الحاسوب أن تكتسب قيمًا جمالية مضافة إلى قيمها الأدبية، غير أن الرحلة مازالت في بدايتها، وهي محفوفة بالمخاطر، نظرًا للطبيعة الآلية للحاسوب، وقدرتها على استيعاب الروح الإنسانية، بكل مشاعرها وطرائق تعبيرها. ففي نهاية الأمر لا يتعامل القارئ مع النص الأليكتروني بوصفه متتاليات رقمية أو خوارزميات بل بوصفه علامات تمنحه حق الحضور فيه والتفاعل العميق بالداخل الإنساني، وليس مجرد التفاعل بين مجموعة من البرامج والوسائط الإليكترونية. غير أن النماذج التي توفرت لنا حتى الآن، لم تبعد كثيرًا، عن طرائق التفكير والتعير الأدبي، لهذا فالمسافة بين النص الرقمي و النص الورقي ليست شاسعة من وجهة نظري، على الأقل فيما يتعلق بفلسفة الجمال. إنها نفس المسافة التي يحسها مشاهد السينما، بين الفيلم الخام والديجتال الذي ضاعف من إمكانات التعبير البصري. لكن لا أحد يعتبره فنًا جديدًا ومستقلاً عن سابقه. فحتى ألان نحن نسعى على أقصى تقدير إلى الموائمة أو الدمج بينهما.


[1]1 مالكوم برادبر ي( تقديم ) : الرواية اليوم ـ مكتبة الأسرة ـالهيئة المصرية العامة للكتاب ـ ترجمه أحمد عمر شاهين ـ القاهرة ـ 2005. 

[2] فاطمة البريكي موقع إليكتروني – https://middle-east-online.com

[3]  فاطمة البريكي: نفسه

[4] محمد سناجلة : رواية الواقعية الرقمية – موقع اتحاد كتاب الإنترنت العرب http://www.arab-ewriters.com/booksFiles/5.pdf

ا

[5]سعيد يقطين: الرواية العربية من التراث إلى العصر (من أجل رواية عربية تفاعلية) – علامات- العدد20 – المغرب

[6]نفسه

[7]لبيبة خمار: غرف ومرايا- قصص رقمية – موقع اتحاد كتاب الإنترنت العرب.

[8]محمد أشويكة: محطات – قصص رقمية- موقع اتحاد كتاب الإنترنت العرب.

[9]إشارة إلى كتاب (عملية تذويب العالم) للباحث -صدر عن دار روافد للنشر والتوزيع – القاهرة- 2015م

[10]زينب خليلي: المكونات البنائية في الرواية التفاعلية، رواية ( صقيع ) لمحمد سناجلة  نموذجًا-  رسالة ماجستير في الآداب واللغة العربية – جامعة محمد خصيرةبسكرةـ الجزائر – 2017م

[11]نفسه

[12]عبد النبي اصطيف – التناص –  مجلة راية مؤتة – المجلد الثاني، العدد الثاني – كانون أول 1993م

[13]لبيبة خمار: عرف ومرايا، سابق

[14]محمد سناجلة: صقيع – رواية رقمية- موقع اتحاد كتاب الإنترنت العرب.

الهوية، والإحتفاء بالماضي والمستقبل، في قصة (صورة في الذاكرة) للأستاذ محمد جبريل. بقلم:د. ناهد الطحان

هناك من بين كل الصور والأحداث والأماكن والأسماء ، صورة واحدة لاصقة كمشهد دائم ، نحاول تغييرها دون جدوى،  وكأنها كل ما نملك من ذكريات .

يستدرجنا الأديب الكبير محمد جبريل عبر السرد في قصته ( صورة في الذاكرة ) لنبحث معه من خلال كل تلك الثقوب الزمنية، عن تلك الصورة الثابتة التي علقت فأصبحت مشهدا لا يمكن نسيانه، ويتحول بنا بين صوره الذاتية القابعة هناك حيث الطفولة والشباب في عشقه ( بحري )، للمساجد والأضرحة والحارات والمقاهي والسحن يهيم بها ساكنا لا يبرح، فيطارده شبح النسيان ، الذي يزرف خوفا من الفقد والتيه في عالم نجهله ولم نعد جزءا منه بعد أن فقدنا ذاكرتنا .

اذ يعادل هذا العالم الخاص عالما لا نهائيا من الشعور بفقد الهوية والوجود والأصول والإمتداد، عبر صورة الشاب الذي يخفي وجهه بمنديل فلا يرى إلا عيناه وحجر في يده ، إنه خوف دفين أشد قسوة ، فالذات جزء من الكل جزء من الأرض، التي تمثل نقطة الإرتكاز في هذا العالم ، وكأن الراوي / الأديب شاهدا على التاريخ وحارسا له .

فدلالة المقاومة الفلسطينية الشابة ، تحمل معاني الصمود والقوة والإستبسال،  أمام النسيان والخضوع ، فهي الأمان لنا كي نحمي إرثنا – ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا- الذي غاب عن ذاكرتنا وأصبحنا نبحث عن هوية جديدة لنا بدلا من محاولة استعادة هويتنا الأم .

إن براعة أديبنا الكبير الأستاذ محمد جبريل في الولوج  بين هذه العوالم يعد تحذيرا قويا من محاولات تجريف العقل وطمس ذاكرته، ذاكرة الإنسان المصري العربي ذو التاريخ الإنساني المؤثر ، وإلا فسوف نفقد هذا التأثير إلى الأبد .

يقول الراوي / الأديب محمد جبريل :

( لماذا لا تبقى الذاكرة على ما كانت عليه ؟ لماذا تتحول إلى ذكرى ؟ لماذا لا تتجدد الأشياء الجميلة في زمن مضى؟ )

تساؤل يحمل معني الإدانة،  لعالم يتسم بمحو مستمر لكل الرموز في حياتنا، فرغم تدفق الصور الضبابية، يجدها وقد تكتلت في شبكة عنكبوتية على وشك الإنهيار ، فيحاول الإستعانة بصديق ينشط ذاكرته ، لكنه بقدر ما ينعش ذاكرته بقدر تدافعها وتخبطها ، ليظل هناك حاجز بينه وبينها .

ورغم مطارده الأماكن له عبر ذاكرة بصرية حادة، فإنها لا تكشف عن نفسها إلا لتغادر الذاكرة مرة أخرى، ليظل الراوي حائرا باحثا عن كنهه ازاء هذه الإزاحة المستمرة ، فيستدعي مبررا لها من خلال حديث أمه في الطفولة – مبررا من الماضي أيضا – عندما أخبرته أن الملاك عند الميلاد يلمس جبهة الطفل وينسيه الحقيقة حتى لا يقع فريسة المعاناة .

هكذا يجد الراوي الحل في ماضيه الذي يمثل عالمه الآمن ازاء تقلب الحاضر ، ويتمنى  لو لو كانت له ذاكرة شهرزاد التي تستدعي الأسماء والأحداث حية نابضة عبر الحكايات ، فتمنحهاوجودا وحياة ، مما يذكرنا بعوالمنا وتاريخناوأصولنا، التي سقطت منا ومن ذاكرة أمتنا لصالح كل ما هو وافد وغريب وليس له اسم في ذاكرتنا .

ويتحايل على الأمر بتسجيل وتدوين هذه الأسماء، تلك الأسماء التي كرم الله آدم عندما علمه إياها، كمنحة إلهية ميز بها الجنس البشري، وهو ما يذكرنا بما فعله خوسيه أركاديو بوينديا في رواية ( مائة عام من العزلة ) لماركيز حين أصاب قريته ماكوندو وباء النسيان، فأخذ يدون الأسماء في أوراق حتى يمنح القرية ذاكرة حية،  كنوع من التحايل على الداء ، مما يؤكد معه الراوي / الأديب محمد جبريل على مزيد من المحاولة والتسجيل والمراجعة لهذا الماضي الثري بعد أن استشرى لدينا داء النسيان، ووجب علينا علاجه  .

ويقول أيضا في نصه ( صورة من الذاكرة ) :

( حل الزحام فتلاصقت الأجسام وصعبت الحركة ، المارة والواقفون يتزاحمون حول عربات اليد والبضائع المكومة على الجانبين . اسأل باستدعاءات الذاكرة ، أعرف من ظل حيا من أصحاب الدكاكين )

الراوي هنا يقاوم التحلل والتصدع والتجاهل الذي أصاب هذه الذاكرة الفردية الجي معية ، والتي يحمل عبأها في قلوبهم من ينتصرون لذاكرة الأمة، ويشعرون بالغربة إزاء الإندثار والهجران والتشوش، وبالرغم من ذلك لا تتضح الصور بل تصبح ضبابية ليس لها ملامح ولا نعرف معانيها، بعد أن أصابها النسيان والإهمال ، وهي دعوة كي نعيد قراءة ماضينا وحاضرنا ونستحضر رموزنا،  التي فقدناها مدفوعين بدعاوى التطوير والإحلال .

هكذا يتحمل الماضي كل شيء حتى مسؤولية مستقبلنا، فيلح علينا في كل وقت في نوستالجيا دائمة لا تنتهي منذ وطأ الإنسان الأرض ، ليخوض معركة تتزاحم فيها الذكريات ويصبح التذكر مغامرة كما يرى الراوي / الأديب الكبير محمد جبريل ، كي ينتصر الإنسان لإرادته لأنها معادل لوجوده ، فإما أن يتذكر فيستريح ، وإما أن ينسى فكأنه لم يكن .

هذا الحنين للذاكرة حنين لأصولنا وجذورنا الأولى، كي نرسخ هذا الوجود، علنا نستدرك الأمر، بعد شوشت كغيرها من الذكريات أو اندثرت معها الأمم، وعلينا استدعاءها بكل الطرق، عبر التدوين والبحث والتحدي الدائم،  لأن وجودنا مرهون بها ، فلا انفصال بيننا وبينها كما يعتقد البعض .

إن الإحتفاء بالماضي هنا بالنسبة للأديب الكبير محمد جبريل – عبر مفرداته السمعية والبصرية – حنين دافق وركن دافيء ومتجدد ، وهو الطريق للنجاة من عالم عاصف ومتغير ومتزاحم يزعزع هويتنا الذاتية / الجمعية و

الواعية / أو اللاواعية ، لأنه يحمل مسؤولية الوجود والإمتداد والمستقبل .