الأستاذ….” ملف خاص “عن نجيب محفوظ (2)

الجزء الثاني

نجيب قلادة النيل

المحتويات

أولا: فن كتابة الأحلام، تأسيس نظري. سيد الوكيل

     : أحلام نجيب محفوظ. د. ذكي سالم

ثانيا: سينما نجيب محفوظ:

( شريف الوكيل.. أهل القمة – د. مصطفى الضبع .. العناصر السينمائية في روايات نجيب محفوظ – السينما المكسيكية ونجيب محفوظ )

ثالثا: قصص من نجيب محفوظ:

“لقاء خاطف – ثمن السعادة – حزن وسرور – مدد – من أصداء السيرة الذاتية – الطاحونة – مندوب فوق العادة “

ثالثا: مساحة حرة

” أشرف عبد الشافي، “محفوظ وكرة القدم” – سمير الفيل “طبيعة الصراع في القصص القصيرة لنجيب محفوظ “- عاطف محمد عبدالمجيد ” تجربة نجيب محفوظ عملية عبور واسع للنوع “، – د خالد عبد الغني ” رادوبيس بين نجيب محفوظ ومحمود قنديل ” ، شريف الوكيل”  الأستاذ  – فتحي إسماعيل ”  نجيب محفوظ حارس حارتنا  “-  محمد محمد مستجاب” المكان حينما يتواطأ مع المقهورين”  – محمد بركة “حرافيش نجيب محفوظ “- “بروفايل.”. بهاء الدين حسين- زينب عفيفي ” الحوار الأخير “حوارمع ابنة محفوظ” منه الله الأبيض – “آفة حاراتنا النسيان”. سيد الوكيل – “محفوظ الذي قرأته”السيد شليل – ” برلمان محفوظ”  سعيد سالم  – كاتبة يونانية تعيش مع شخصيات نجيب محفوظ

68366f38-8330-422d-8fe4-dac3db6bc064

فن كتابة الأحلام..تأسيس نظري

سيد الوكيل

سيدالوكيل 2

إذا نظرنا إلى أحلام فترة النقاهة، سنرى أن الرغبة في سبر الواقع الداخلي للإنسان، الذي يتجاوب مع المعنى الواسع للواقعية الإنسانية. يتشكل في صور مختلفة، تومض على نحو غامض في ثنايا النص الإبداعي سردًا وشعرًا، وتصوفًا، وفلسفة.. إلخ. لكنه ينتهي إلى شكل أدبي جديد ومستقل، بل ومتفرد بذاته في نهاية رحلة الجمال المباركة عند نجيب محفوظ” إن النشاط الحلمي المتميز، يمكن أن يعتبر نوعًا من الإبداع في ذاته، إذا وسعنا تعريف الإبداع بما يستحق”[1](1). كما أن الحلم من إبداع الحالم، وهو الذي يحدد حبكته كما يذهب إريك فورم.

يقول (حمدي النورج) في وصف السرد الذي يسعى إلى تقديم الواقع الداخلي للإنسان “إننا نستقبل كل لحظة، بنية سردية جديدة، تسعى في صمت إلى كسر الحواجز بين الأنواع الأدبية، مع تفجير أنواع أدبية أخرى، وهي على النوع الروائي، أو القصصي، أو حتى تقنيات السردية الروائية التقليدية أكثر، فضلاً عن الطرق التقليدية في تصوير الشخصيات، وتصوير الزمان، والمكان، بل وتفتيت الحبكة والحكاية معًا، في وقت، يستوجب على القارئ ألا يهبط على النص المقدم له بمخططات ذهنية مسبقة، فيقرأ النص ويتلقاه طبقًا لنوع التخطيط المحفور في الذهنية”[2]

وإذا كان سرد الأحلام يسعى إلى تصوير الواقع الداخلي للإنسان، وإذا كان الواقع الداخلي وثيق الصلة بالواقع الخارجي، فنحن لا يمكننا أن نعرف، إذا كان الحلم هو أصل الحقيقة، أم أن الحقيقة هي أصل الحلم؛ وعبر تاريخ الإنسان كانت الأحلام جزءًا من واقع الحياة اليومية، حتى أن قبائل الأشانتي كانت تعتقد بأنه يتوجب على الرجل، الذي حلم بأنه زنا بامرأة رجل آخر، أن يدفع له غرامة الزنا، أي أن الحلم هو وجود موازٍ للواقع الحقيقي. فإذا كان السرد في صورته الخالصة، يفيد من الواقع المعيش ويعود إليه، فما المانع في أن يعود إلى الواقع الداخلي، الذي نختبره ونراه في يقظتنا ونومنا؟ فمن ناحية، ثم اتفاق بين علماء الدماغ على ذاتية الأحلام، وارتباطها بواقع الحياة اليومية، ومن ناحية أخرى فإن الأحلام تأتي في نوبات مستمرة طوال وقت النوم (عشرون دقيقة، كل تسعين دقيقة) أي أن لدينا يوميًا ساعتين نتفرغ فيهما للتحديق في صندوقنا الأسود، عالمنا الداخلي.

 التحديق في الداخل أثناء الكتابة مختبر، ومجرب، ونتائجه الإبداعية تشيع في كثير من فنون الأدب، لكننا لم نلتفت إلى إمكانية انفراده بطبيعة الحلم، إلا مع نجيب محفوظ. ورغم ذلك فلدينا تجربة فريدة في هذا الصدد، سنشير إليها على نحو مفصل لاحقًا. وهي تجربة (أحلام سرية) للكاتب مصطفى بيومي، التي صدرت عام (1998م) في طبعة خاصة محدودة لم يقدر لها الانتشار. وهي رواية قصيرة تتألف من تسع وتسعين حلمًا.

في كتابه (عن طبيعة الحلم والإبداع) والذي نعتمد عليه، كونه الكتاب الأكثر إحاطة بتجربة (أحلام فترة النقاهة) من وجهة نظر خبير بالنفس الإنسانية، والإبداع الأدبي، وبشخص نجيب محفوظ معًا. يشير الدكتور يحي الرخاوي، إلى تتبعه لجذور الطبيعة الحُلمية في مجمل أدب نجيب محفوظ، مؤكدًا على أن مستويات الوعي عند نجيب محفوظ، ذات طبقات وثيقة الصلة ببعضها البعض، حتى لا يمكن فصلها، فهذا الفصل، يحرمنا من سيمفونية إبداعه المتداخلة. ومن ثم يشير إلى حضور تيار الوعي جنبًا إلى جنب مع الواقعية في كتاباته، وإن ظل على نحو محدود في سرده، لكنه كان ينمو مع الوقت، كما نرى في ليالي ألف ليلة، ورأيت فيما يرى النائم، وأصداء السيرة الذاتية، وإذا به يكتمل في أحلام فترة النقاهة؛ ليعلن عن هويته فنًا مستقلاً على غير مثال، يمكن أن نطلق عليه فن سرد الأحلام.

 كما يومئ الرخاوي، إلى أن تجربة الأحلام، اهتزت وربت، وأنبتت ثمارها، خلال الفترة التي انقطع فيها نجيب محفوظ عن الكتابة، أي فترة النقاهة التي عاشها بعد محاولة اغتياله الآثمة، وتعطلت حركة يده اليمنى عن الكتابة لست سنوات. ربما هذه الواقعة المؤلمة التي جاءت في نهاية رحلة أدبية مليئة بالنجاحات المبهرة، يمكن أن تكون أدخلت محفوظ في سحابة اكتئابية، تشبه أزمة عمر الحمزاوي، فخاض رحلته الداخلية عبر بنيه حلميه، تسمح بفضاء سردي، جديرة برجل عاش حياته في السرد. كان الرخاوي يتابعه فيها ليؤهله نفسيًا، ويدرب يده لتعود إلى الحياة. وكان أول ما خطت يداه على نحو شبه مكتمل، ذا طبيعة حلمية. قد يبدو الأمر أقرب إلى المعجزة، ولا مشاحة أن نتوقع المعجزات عندما يتعلق الأمر بنجيب محفوظ. لكنني أرنو إلى المغزى الأعمق في حكاية الدكتور الرخاوي، إن التجربة النفسية التي عاشها محفوظ بعد واقعة العدوان عليه، وتوقفه عن الكتابة، بوصفها طريقة للتحديق في الواقع المعيش، منحته الفرصة ليحدق في واقعه الداخلي.

 وأذكر أنني مررت بشيء قريب من هذا، عندما أصبت بمشكلة في العمود الفقري، اضطرتني للرقود على ظهري عدة أشهر بلا حراك ولا فرصة للحياة غير نوم متكرر من أثر المسكنات، وفي هذه الأثناء، انبثقت أول نصوص (لمح البصر) ويبدو أن أحلام نجيب محفوظ كانت في وجداني رغم مرور سنوات عديدة بعد قراءتها، لكن النصوص الثلاثة الأولى التي كتبتها حينها، بدت عصية على التشكيل المميز لطبيعة الأحلام، مع قلق كبير من شبهة التقليد، فصرفت نظر عن الموضوع كله، حتى رأيت في منامي نجيب محفوظ وهو يجلس بين رفاقه على مقهى بترو بالإسكندرية، وكنت ممسكًا بواحدة من أصداف البحر، فأعطيتها له، وفرح بها. ونصيب هذا الحلم من الحقيقة كبير، فقد كنت في عام (1975م) جنديًا في قاعدة أبي قير البحرية، وكان من هواياتي جمع الأصداف.

118582338_658315061447292_5074579156862627963_n

أثناء وجودي بالإسكندرية سمعت عن جلست محفوظ ورفاقه التي يعقدونها كل يوم جمعة بمقهى (بترو) ذهبت مبكرًا إليه. وربما من قبيل المصادفة، أو من حسن حظ المبتدئين، أن أول من جاء إلى المقهى، كان نجيب محفوظ، وبعد بضع كلمات حذرة عرضت عليه أن اقرأ له قصة قصيرة جدًا فوافق، ثم أثنى عليها باقتضاب.

كانت هذه هي المرة الوحيدة التي التقيت فيها بمحفوظ وجها لوجه، لكنها كانت كافية لأعيد كتابة القصة مرات عديدة، وأتقدم بها في أول مسابقة للقصة القصيرة تنظمها القوات المسلحة، وقد أحرزت المركز الثاني. وأذكر أن يوسف السباعي كان وزيرًا للثقافة وقتها، وفيما هو يسلمني شهادة التقدير، همس في أذني أنه يرى قصتي تليق بالمركز الأول، لكن الجيش له تقاليده، فقد كان الفائز بالمركز الأول ضابطًا عاملاً فيما كنت جنديًا مجندًا. 

حررني الحلم بنجيب محفوظ من قلقي تجاه كتابة أحلام (لمح البصر) لكن يهمني التأكيد على أن كتابتي للحلم بنجيب محفوظ، الذي راودني أثناء مرضي، جاءت شيئًا مختلفًا عن الحلم نفسه، فأثناء الكتابة، نعيش حالة تداعيات لهمسات وأصوات بعيدة وخافتة، إذ تداخلت في كتابة الحلم أصداء التجربة الذاتية، وذكريات الحياة بالإسكندرية، فضلاً عن حرفية السارد، وفاعلية التخييل، وشعرية أحلام اليقظة. هكذا أدركت أن كتابة الأحلام، تجربة إبداعية، تخص كاتبها وحده.         

أذكر هذه الحكاية، لأن تصورنا أن نجيب محفوظ، كان يحلم ويسجل أحلامه، لا يقل بساطة عن اعتبار البعض أن أحلام فترة النقاهة، تهويمات رجل تائه في ضباب الشيخوخة. ولا مشاحة في أن كتابة الأحلام قد تبدأ بتهويمات، أو نغبشات كما يسميها نجيب محفوظ والعهدة على يحي الرخاوي[3] لكن إذا كان الحلم نفسه، مهمة اللاوعي، فإن كتابته، هي مهمة واعية بالدرجة الأولى، حيث يقوم العقل الخبير بطرائق السرد، بعملية استبدال فني، لتصوراتنا عن ماهية الحلم. وهذه العملية التي تتم أثناء الكتابة، تضع الحلم المكتوب في أقصى نقطة ممكنة عن حلم النوم، ومع الوقت، يستطيع كاتب الأحلام، أن يستنطق أحلام النوم في يقظته، لتصبح إبداعًا خالصًا، منسوجًا من مادة الحلم وآليات عمله.  

*****

عبر التراث الإنساني، كانت الأحلام وتفسيراتها هاجعة في ظلال التفكير الميتافيزيقي، حتى جاء (سيجموند فرويد) الذي نشر في العام (1900م) أولَ محاولة علمية لدراسة الحلم بوصفه نشاطًا آليًا في عمل الدماغ للإنسان. وبهذا، تدخل الأحلام في سياق التفكير العلمي، وتنتج نظرياتها حول تشكل الحلم، وأنماطه، وآليات إنتاجه، ومرجعياته، بل وسيرورته لاستقراء دوره في التركيب النفسي للإنسان عبر تاريخه. ومع ذلك، فقد أكد فرويد، على أن الحلم، مرتبط بالحياة الواعية؛ أو بمعنى آخر بالواقع المعيش، ومن ثم فهو يكشف عن المقموع في الوعي، ولا علاقة له بالنبوءات. هكذا يصبح الحلم خلقًا خياليًا مرجعه الواقع كأي نص أدبي، وفي نفس الوقت، تعبيرًا عن المكبوت في اللاوعي، بتأثيرات الواقع المعيش.

 معنى هذا أن الحلم يقدم صورة عن الذات الإنسانية في صورتيها الواعية واللاواعية. ومن ناحية أخرى فلغة الحلم من مادة الصور والرموز، وبهما تُمثّلُ المشاعر والمكبوتات، وهى تقريبًا نفس الآلية التي يعمل بها العقل المبدع. وفي النهاية فإن الأحلام تعكس صراع الإنسان مع محيطه السيسيوثقافي كأي نص أدبي.

لقد رسم (فرويد) للحلم مسارًا محددًا وعلميًا، فالوقائع والأحداث التي تسبق الحلم في يقظتنا، هي مجرد محفزات، لتحريك المكبوت في لاوعينا الشخصي منذ طفولتنا، وهي تخرج أثناء النوم في صور رمزية، ذات معنى جنسي، هكذا يبدو اللاوعي عند فرويد، هو صندوقنا الأسود، أو سلة قمامتنا التي نخفيها.

 أما (كارل جوستاف يونج) تلميذه المتمرد، فقد ذهب لأبعد من ذلك كثيرًا. لقد حرر الحلم من الارتباط الشرطي بالجنس، وحرر لغته الرمزية. فاللاوعي هو تكوين (وعي) بدائي يرجع لطفولة الإنسانية، حيث الأساطير الأولى التي تفسر الوجود، وتنتج نماذج قبلْية موجودة عند كل البشر، وهذه النماذج، تمضي في سيرورة رمزية عبر التاريخ لتسكننا، وهي شديدة المراوغة، ذات طبقات ومستويات عدة،  ومن ثم ، فهي محملة بكل رموز التاريخ البشري وليس الرموز الجنسية فقط، فالنار، والنجوم، والماء، والبيوت، والمعابد، والرحلة، والموت، وغيرها الكثير، هي رموز قد تظهر في الحلم، ويجب أن تقرأ في سياقها الموضوعي وليس على إطلاقها، ومن ثم، فتفسير الحلم، هو قراءة لرموزه في سياق موضوعه، طبقة بعد أخرى.

 إن للحلم بنية كلية مثل أي نص، تترابط علاماته فيما بينها. وفي هذا السياق، يرى (الرخاوي) في معرض قراءة الحلم رقم (4) من أحلام فترة النقاهة: “إن الأهم من البحث عن الرمز هنا وهناك، هو رصد هذه النهايات المفتوحة بشكل تشكيلي محرك لوعي المتلقي”[4] والشاهد في كلام يحيى الرخاوي، أن التعامل مع  الأحلام المسرودة كتابةً، لا يكون بتفسيرها الرمزي فحسب كتفسيرنا لأحلام النوم، ولكنها قراءة تشمل كل طرائق وأساليب تشكيل الحلم، بوصفه نصًا أدبيًا.  

ولأن الأحلام هي أكثر آليات اللاوعي اشتغالاً في حياة البشر، نجد أن حضورها المصاحب للشخصيات الروائية والقصصية، شائعًا ومألوفًا كما هو في الحياة؛ لهذا كانت الأحلام ومازالت موضوعًا أدبيًا، سواء كانت مضمرة في ثنايا العمل الأدبي، وهو الشائع المعتاد، أو مقصودة لذاتها كأحلام فترة النقاهة.

 كان السرياليون قد التفتوا إلى أهمية توظيف اللاوعي وآليات إنتاج الحلم، وكتبوا بها قصصهم ورواياتهم، فجاءت مميزة في لغتها وعوالمها عن الأدب الواقعي. إذ أن السرياليين رأوا أن الانهماك في الواقع يعمق عزلة الفنان عن ذاته المبدعة، ومن ثم يتحول الإبداع إلى وظيفة فاقدة للروح. وتقوم فلسفتهم على إخضاع الكتابة لقوة داخلية تقهر الوعي، وتسمح بانفلاتات محسوبة للاوعي، فثم اعتقاد أن قوانين الواقع فرضت على الإنسان أن يعيش عبر أقنعة. والمبدع السيريالي الذي يسعى لاستنطاق اللاوعي، يهدف إلى تحطيم هذه الأقنعة، وتحرير الداخل، بإطلاق الصور، والأخيولات، والرؤى السجينة فيه. ويمكننا ملاحظة أن هذه الوظيفة التي يسعى إليها المبدع السيريالي، وثيقة الصلة بالوظيفة التعويضية، التي تحدث الاتزان عند (يونج) أي أنها وظيفة ذاتية تخص كاتبها، وليست موجهة إلى الشأن العام كدأب الأدب الواقعي بمختلف اتجاهاته. ومادام الأمر ذاتيًا على هذا النحو، فالكاتب، يحتاج إلى تدريبات على الاستبطان واستقراء الداخل، مع قدر كبير من الشجاعة على مواجهته، واحترام مخرجاته، مهما كانت مؤلمة أو مخجلة أو حتى مخيفة وغير مفهومة.

وسواء كانت وظيفة الأحلام، فضح المقموعات التي تسكننا، كما يذهب فرويد، أو إحداث الاتزان من قبيل التعويض النفسي كما عند يونج، فإن كتابة الأحلام يمكنها أن تقوم بهذا الدور على نحو آمن. أي أن كتابة الأحلام ليست مجرد نشاط أدبي وحسب، بل هي مواجهة مباشرة مع ذواتنا، واستنطاق للاوعينا، وتحريره من تراكمات رحلة وجودنا. لذلك، فكتابة الأحلام، هي رحلة استشفاء، وتجديد لطاقة الحياة فينا، ربما لهذا، اختار نجيب محفوظ أن يسميها، أحلام فترة النقاهة.

غير أن التأكيد على معنى الذاتية في سرد الأحلام، قد يوحي للبعض، أنها لا تخص سوى كاتبها، ومن ثم، يسقطون ما في الحلم على شخص الكاتب. هذا احتراز مهم يقوله يحي الرخاوي في إشارته إلى الحلم رقم (10) من أحلام فترة النقاهة، فهو على نحو تهكمي، لا يخفي تخوفه من أن يسعى أحد الفرويديين، إلى إحالة الطيران في نهاية الحلم، إلى مغزى جنسي متعسف، ويسقطه على شيخ يغالب نقاهته.[5]

قد يبدو للبعض أن الأحلام تجربة ذاتية جدًا، لا تخص سوى صاحبها، وبهذا يعرض عن قراءتها البعض، ولكننا نرى فيها شيئًا جديرًا بالقراءة، ليس للغتها المكثفة، وطاقتها الرمزية والشعرية، فحسب، ولا حتى لطرافة التخييل وعمق المعنى، بل هي تقدم لنا معرفة جديرة بالاعتبار، فثمة معان وموضوعات مشتركة في الأحلام بين البشر.

 صحيح أن (كارل يونج) يتفق مع (فرويد) على ذاتية الحلم، نتيجة لأن اللاوعي الفردي يرتبط مباشرة بالسيرة الذاتية للفرد وبتجاربه الحياتية – وهذا في حد ذاته كاف لأن يجعلها تجربة إبداعية- إلا أن (يونج) يؤكد على أن لغة الأحلام تستمد طاقتها الرمزية من عالم أبعد كثيرًا من الواقع المعيش والتجارب الذاتية، فترجع إلى عالم بدائي سحيق، قبل أن تبدأ الحضارة الإنسانية في تشكيل منظومة القيم، والمحرمات، والعادات، والتقاليد الاجتماعية، التي كونت النسيج الثقافي للمجتمعات، وأفضت إلى التمايز فيما بينها؛ بما يعني أن هذه اللغة البدائية، والتي يسميها (إيريك فروم) اللغة المنسية، كانت مشتركة بين كل البشر، وهي مازالت كامنة على نحو رمزي في اللاوعي. ومن خلال الوقوف على رموزها يمكننا تفسير الأحلام، بل وقراءة هنات الوعي وزلات لسان، وتعبيرات الجسد اللاإرادية.

اللغة البدائية للحلم، تفسر لنا وجود أحلام مشتركة في موضوعاتها بين البشر. فمثلاً: أحلام السقوط من المرتفعات، والاحتجاز في الأماكن الضيقة، أو التيه في الأماكن المظلمة، أو التعري بين الغرباء، أو الخوف من خطر النار، التي تعتبر من أشهر الرموز البدائية، التي حظيت بالاهتمام في التحليل النفسي على نحو ما تناولها جاستون باشلار[6]. ولذلك تظل أهمية الحلم مرتبطة برموزه، كما هي مرتبطة بموضوعه، بل وحبكته سواء جاءت مفككة على هيئة صور متناثرة، أو جاءت عبر وقائع وأحداث متسقة فيما بينها. ومع ذلك فحتى الأحلام المشتركة في موضوعاتها بين البشر، تحظى بخصوصية ترتبط بالتجارب النفسية والممارسات الحياتية لحالميها. فأطفال المدارس مثلاً، قد تروادهم أحلام التأخر عن مواعيد المدرسة، أو التيه في الطريق إليها، أو نسيان شيء من مستلزماتها، كالحقيبة أو كراسة الواجب. لكن تفسير مثل هذه الأحلام يعتمد على رمزية موضوع النسيان لا النسيان نفسه. فمثلاً: نسيان التلميذ للواجب المدرسي قد يعكس معنى تعويضيًا يسقطه التلميذ على المدرس، فتجاهل الواجب المدرسي هو تجاهل للمدرس، أو نوع من العقاب له، هكذا ينتقم التلميذ من مدرسه ويتحرر من الخوف، بعمل لا يجرؤ عليه في يقظته. وقد يكون نفس الحلم مجرد حافز ينبه التلميذ إلى أهمية العناية بواجباته المدرسية، كما قد يكون تعبيرًا عن إحساس عميق بالذنب والتقصير في مجال آخر لا علاقة له بالواجب المدرسي، حيث يرى (فرويد) أن الإحساس بالذنب ينشأ في طفولة مبكرة مع المرحلة الشرجية. وعلى ما تقدم فإن رموز الأحلام ذات مستويات وطبقات متعددة، تمنحنا فرصًا لتأويلات وتفسيرات متعددة للحلم الواحد، تمامًا كما نفعل مع النص الأدبي الثري.

 وعلى أية حال، فالتشابهات في موضوعات الأحلام لا تنفي ذاتيتها. نتيجة لتماهي المسافة بين الذاتي والموضوعي في الحلم. وهذا التماهي جزء مهم في تجربة الإبداع أيضًا، عندما يصبح موضوع النص مرادفًا لذات المبدع، ومن ثم يتمكن من التعبير عن ذاته في نفس الوقت الذي يعبر فيه عن موضوعه الواقعي.

مما سبق، نفهم أن الأحلام هي الممارسة الإنسانية الأقرب إلى تجربة الكتابة، وكأننا نكتب ذواتنا كل ليلة في الأحلام. وإذا كنا اعتدنا أن نحكي أحلامنا ونحاول تفسيرها، فهذا لقابليتها للحكي والتأويل، كأي تجربة واقعية معيشة. لهذا، ففكرة كتابة الأحلام ممكنة ومقبولة، ليس فقط لتوظيفها في العمل الأدبي، ولكنها يمكن أن تكون سردًا مستقلاً ومميزًا في حد ذاته، على نحو ما كتب نجيب محفوظ (أحلام فترة النقاهة) فأنتجت شكلها الخاص سواء في كثافتها ودلالتها الوامضة، أو في لغتها الرمزية المفتوحة على التجربة الإنسانية الشخصية والعامة في نفس الوقت، أو في طاقتها التخييلية المتجاوزة لحدود الواقع.

كما أن قراءة الأحلام مثل كتابتها، فهي من ناحية تنطق بتجارب إنسانية مشتركة، لكنها تبقي على الجزء الذاتي لكاتبها. وهذا الجزء الذاتي، هو الذي يعطيها قابلية التأويل المتعدد عند القراء، ويشملها بالسحر الذي قد نجده في النص الأدبي. فمثلاً، الكثير من قراء نجيب محفوظ استخدموا آلية الإسقاط على الواقع الاجتماعي لتفسير أحلام فترة النقاهة؛ ففي الحلم رقم (4) ثم من اعتبر أن شخصية الزعيم التي ظهرت في الحلم، تحيل إلى شخص جمال عبد الناصر، وهو تفسير مقبول ولكنه مباشر وضيق؛ أما الدكتور (يحي الرخاوي) الذي جمع بين خبرة عالم النفس والأديب، يدرك أن رمزية الحلم قد تمتد إلى زمن سحيق في الفكر الإنساني. فالزعيم يمكن أن يكون له بعد إنساني واسع لأسطورة البطل المنقذ، التي تتجلى في فكرة النبي، أو المهدي المنتظر، أو المسيح المخلِّص، كما يمكن وفقًا لآلية التمويه في الأحلام، أن يتماهى المسح المخلص، بالمسيخ الدجال، وفقًا للأسطورة أيضًا. أي أن الرمز قد يحمل المعنى ونقيضه، بفضل آلية التمويه التي يمارسها اللاوعي، على نحو ما رأيت في منامي، مقهى (بترو) متماهيًا مع التكية. 

وهذا التركيب الخاص لسرد الأحلام، يجعله مختلفًا عن الواقعية السحرية، كون الأخيرة عملية توظيف لثراث الإنسانية الغرائبي، يغيب فيها المعنيين: الشخصي والذاتي. كما أنه يختلف عن السيريالية التي تمثل بناءًا مجردًا من أي بعد واقعي، يحمل المضامين الانفعالية والفكرية على نحو تلقائي، وخارج عن أي انشغال جمالي أو موضوعي.

 أما الحلم فله سمات أكثر مرونة وتعقيدًا في نفس الوقت، حيث يلتبس بالوقائع والحقائق والأشكال المعينة، المرئية بالعين؛ لهذا قد تبدو بعض الأحلام منطقية ومتماسكة فيمكن تذكرها وحكيها، ومن ثم محاكاتها سردًا. لكن علماء النفس يعتقدون أن ما نتذكره من أحلامنا لا يمثل سوى نسبة ضئيلة جدًا، أي أن ما نحكيه من الحلم بعد استيقاظنا، ليس هو بالضبط ما حلمنا به، بل تداعياته، بتدخلات من الوعي، وخبرات لأحلام سابقة لنا أو لآخرين، ووقائع نكون طرفًا فيها، فضلاً مهاراتنا الخاصة في الحكي وتأويله، لهذا فحكي الحلم ممارسة إبداعية. أما كتابته، فهي إعادة إنتاج لرموزه وآلياته بشروط أدبية كاملة.

لكن عندما يصبح سرد الأحلام فنًا، نتمكن من السيطرة عليه، وإدارته وفق شروط أدبية، فلسنا في حاجة إلى أحلام النوم لنكتبها، بل يمكننا صناعة نص حلمي كاملاً عبر استنطاق اللاوعي، وتوظيف آليات إنتاج الأحلام. ولابد أن نجيب محفوظ في شيخوخته ونقاهته، لم يجلس ليتذكر كل هذا العدد من الأحلام ليكتبها، إنما هو أفاد من خبرته في استنطاق اللاوعي وتوظيف آليات الحلم، وتلك أساليب، وتقنيات، نراها في كثير من أعماله السابقة على أحلام فترة النقاهة، مكنته من اعتبار كتابة الحلم فنًا أدبيًا مستقلاً بذاته.        

وسواء كانت كتابة الحلم مرجعها إلى حلم حقيقي، أو استنطاقًا يقظًا للداخل، فهي تلتزم بحرفية السرد الإبداعي، في معالجتها لآليات الحلم ولغته التي لا تظهر بوصفها معان، بل رموز وصور تنهمر في الفضاء الحُلمي الغامض، لهذا تظل ملتبسة بحيل اللاوعي من: تمويه وإبدال وتضخيم، وإنكار، وإسقاط. كما أنها مكتنزة بالتأثيرات الشعورية كالألم والخوف والحزن والنشوة. ثم يأتي الخيال الأدبي ليشمل كل هذا، وهو خيال بلا حدود. فإذا كانت لغة الأحلام تحيلنا إلى خيال بدائي كظلال تتراقص على جدران كهف، فإن ارتباطها بالتجربة الشخصية، تسمح لها بمقاربة الواقع المعيش، لتبدو مثل واقع افتراضي فائق القدرة.

 كتابة الأحلام لا تحقق إشباعًا جماليًا لكاتبها فحسب، بل تفضي به إلى تجربة نفسية وروحية خاصة، على ما فيها من مواجهات مع النفس. ولأن لغة التخاطب المعتادة، يصعب عليها التعبير عن الرؤى الحلمية نظرًا لطبيعة الحلم المنفلتة من المعيارية، فإن على كاتب الأحلام أن يكتشف أدواته التعبيرية بنفسه، عندئذ نحصل على نصوص غاية في الثراء والجمال. ولا أستطيع القول بأن هذا يتحقق مع كل النصوص، فمستويات الغوص الداخلي متفاوتة في كتابة الأحلام، كما هي متفاوتة في أحلام النوم نفسها، فبعض الأحلام تكون قريبة من سطح الوعي فتطرح معناها ببساطة، وبعضها يكون عميقًا وغامضًا ومتشظيًا.

إن حق الريادة، الذي اقتنصه نجيب محفوظ عن اقتدار، ومشروعه السردي التجريبي الواسع، مترامي الأطراف، يضعنا أمام مسئولية، تفضي إلى النظر لأحلام فترة النقاهة بوصفها تجربة متفردة، ليس بالنسبة لتاريخ صاحبها فحسب، بل بالنسبة لتاريخ الأدب العربي الحديث. لقد أعطى نجيب محفوظ لسرد الأحلام حق الوجود المنفرد، بوصفه فنًا قصصيًا، جاء في زمن الرواية، ليؤكد أن ممكنات القصة القصيرة مازالت واعدة، وقادرة على خلق مسارات جديدة، حتى ليأتي سرد الأحلام، بوصفه فنًا مميزًا في لغته، وتقنياته، وأساليب سرده، فيقف جنبًا إلى جنب مع أشكال مختلفة من التعبير القصصي، كالمتتاليات القصصية، أوالبورتريهات والانفعالات التي كتبتها ناتالي ساروت، أو النصوص عابرة النوع التي دمجت النثر بالشعر، أو القصة القصيرة جدًا (الأقصوصة) التي بلغت في السنوات الأخيرة شأنًا وشيوعًا في كتابتها، متأثرة بلغة الرسائل النصية على الإنترنت والهواتف المحمولة.     

أحلام (فترة النقاهة) نجحت في أن تجعل كتابة الأحلام عملاً فنيًا مستقلاً في بنيته ولغته، يحقق مستويات من التعبير أكبر مما تتيحه القصة بانهماكها في الواقع اليومي والمعاش، فلم تعد تجربة وحيدة تخص نجيب محفوظ وحده، بقدر ما هي دعوة  للالتفات إلى أن كتابة الأحلام شكل سردي جديد، يقف على التخوم بين الأقصوصة في بنيتها المكثفة، والحلم في فضائه التخييلي، والشعر في فضائه اللغوي. إنها دعوة رائدة، لنكتب أحلامنا، كما كتبنا قصصنا، وقصائدنا.


أبرز 10 نصوص من عالم «أحلام فترة النقاهة»

وائل فتحي

الغد.. أغسطس 30, الغد 2016

«أحلام فترة النقاهة».. آخر ما أودعه أديب نوبل المصري نجيب محفوظ، من ثروة باسمه في خزائن المكتبة العربية، وقد نشر الجزء الثاني من الأحلام بعد رحيله بنحو 9 سنوات، لتثير جدلا كبيرا، داخل أوساط المثقفين والقراء، حول نسبتها إلى محفوظـ، مما ذهب بالبعض إلى اعتقاد أن الناشر (دار الشروق) قام بتلفيق بعض النصوص للحصول على مكاسب مادية، إلا أن أصدقاء محفوظ وأسرته استطاعوا أن يبرهنوا على نسبة الأحلام لصاحبها، واليوم 30 أغسطس/آب، حيث تمر الذكرى العاشرة على وفاة الروائي العربي الأكثر شهرة وصيتا، نقرأ بعض من تجلياته وإشراقاته في «أحلام فترة النقاهة».

حلم 5..

أسير على غير هدى وبلا هدف ولكن صادفتنى مفاجأة لم تخطر لى فى خاطرى فصرت كلما وضعت قدمى فى شارع انقلب الشارع سيركا،اختفت جدرانه وأبنيته وسياراته والمارة وحل محل ذلك قبة هائلة بمقاعدها المتدرجة وحبالها الممدودة والمدلاة واراجيحها وأقفاص حيوانتها والممثلون والمبتكرون والرياضيون حتى البلياتشو، وشد ما دهشت وسررت وكدت أطير من الفرح، ولكن بالانتقال من شارع إلى شارع وبتكرار المعجزة مضى السرور يفتر والضجر يزحف حتى ضقت بالمشى والرؤية وتاقت نفسى للرجوع إلى مسكنى، ولكم فرحت حين لاح لى وجه الدنيا وامنت بمجىء الفرح. وفتحت الباب فإذا بالبلياتشو يستقبلنى مقهقها.

حلم 180

رايت أستاذي الشيخ مصطفى عبدالرازق –وهو شيخ الأزهر– وهو يهم بدخول الإدارة، فسارعت إليه ومددت يدي بالسلام، فصحبني معه ورأيت في الداخل حديقة كبيرة جميلة، فقال: إنه هو الذي أمر بغرسها، نصفها ورد بلدي والنصف الآخر ورد فرنجي، وهو يرجو أن يولد من الاثنين وردة جديدة كاملة في شكلها، طيبة في شذاها.

حلم 192

هذه حديقة الحرية التي تروي أزهارها بدموع العاشقين، وأنا أتجول في جنباتها بين آهات الحب وهتاف المناضلين، وقد عاهدت نفسي على أن أزود النسيان عن الحب والنضال.

حلم 201

يا له من بهو عظيم، يتلألأ نورا ويتألق زخارفًا وألوانًا.. وجدتني فيه مع إخوتي وأخواتي وأعمامي وأخوالي وأبنائهم وبناتهم، ثم جاء أصدقاء الجمالية وأصدقاء العباسية والحرافيش وراحوا يغنون ويضحكون حتى بحت حناجرهم ،ويرقصون حتى كلت أقدامهم، ويتحابون حتى ذابت قلوبهم، والآن جميعهم يرقدون في مقابرهم مخلفين وراءهم صمتا ونذيرا بالنسيان، وسبحان من له الدوام.

الحلم رقم 350..

رأيتني بين يدي أبي الهول ويغمرني اكتئاب وخوف من المجهول ولكني علي غير المتوقع وجدت عطفا من الشرق والغرب فشكرت وصليت وتمنيت أن يمن الله علي روحي بقطرة من الماء الصافي وعند ذاك عزفت الموسيقي لحن الطمانينة..

الحلم 275

رأيتني أقابلها بعد أن تقدمنا في العمر وتجاوزنا فترة الحياء، فقالت لي إنها في مطلع شبابها تمنت أن تتزوج مني، وإنها أتاحت لي الفرص لكي ألتفت إليها، ولكنني كنت أمر بها كأني في غيبوبة.

وتذكرت أن الغيبوبة كانت غيبوبة الحب الأول، الذي وهبني من المسرات مثل النجوم، ومن الأحزان مثل السحب.

حلم 377

رأيتني استقبل المرحوم الأديب “ي” فعاتبني لأني لم أسأل عنه طوال غيبته، فاعتذرت بسوء صحتي وسألته عما فعل في تلك الغيبة الطويلة، فقال إنه كتب عشر قصص قصيرة هي أجمل قصص الحب في الأدب العربي، ورواية طويلة لا شك في أنها أعظم رواية عربية، ثم طلب مني أن أسمعه صوتي كما كنا نفعل قديما، فغنيت له، عشنا وشوفنا كتير واللي يعيش يشوف العجب.

حلم 440

رأيتني في ميدان بيت القاضي يوم الاحتفال بالمحمل وجاء المحمل يتهادى فوق الجمل ويسحب وراءه حاملات الكسوة الشريفة ويموج الميدان بالناس من جميع الأشكال والألوان ويهتفون بجميع اللغات بالحرية والعدل وحقوق الإنسان ويظلهم السلام والحب.

حلم 439

رأيتني وأنا أحلم برحلة بالعالم الآخر، في حديقة فيها أشجار وبساتين وأزهار وجداول لم أر مثل جمالها أبدا، ورأيت فيمن رأيت المعبودة “ع” والمحبوبة “ب” وسعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد، وكانوا ممن يسبحون في الجداول أو يطيرون بين الأغصان، وإذ بي أرجع إلى مدينتي العشوائية، ولكني سرعان ما اتفقت مع مكتب هندسي فأدخلنا الصرف الصحي والكهرباء والماء وجعلنا لنا سورا من الياسمين والفل وموقفا للمساكن وآخر للمدارس ومستشفى كبيرا ومسرحا عظيما ودارا للعرض السينمائي وآخر للفنون التشكيلية، وأنشأنا بيتهما جداول مائية وبساتين وحدائق وانبهر الناس بما نصنع، ولعلي الوحيد الذي شعر بالفارق العظيم بين الواقع وما حلمت به.

نجيب تأمل

د. زكي سالم

أحلام نجيب محفوظ

    في السـنوات الأخيرة من حياة أسـتاذي الحبيب نجيب محفوظ، كانت نصوصه القصيرة، التي يبدعها ببساطة عبقريته الفـذة، وقد أطلق عليها عنـوانا موحيا، وهو : ”أحلام فترة النقاهة“، كانت هذه ”الجواهر الثمينة“  موضوعا مهما لحواري الدائم معه، فقد انبهرت بهذه المقطوعات القصصية البديعة، والتي تعد كلماتها القليلة خلاصة مقطرة للتجربة الإبداعية المدهشة لهذا الفيلسـوف المتصوف، الذي اتخذ من الأدب وسيلة للتعبير عن رؤيته الفلسفية للخالق والإنسان والعالم.

    وقد استغرقت كتابة هذه الأحلام الرائعة من أستاذنا كل سـنواته الأخيرة، من بعد محاولة اغتياله الإجرامية، في 14 أكتوبر 1994 ، وحتى رحيلة في 30 أغسطس 2006 ،أي أكثر من عشر سنوات متصلة، فقد قضى نحو عامين في محاولاته الدؤوبة لإعادة تعلم الكتابة بيده اليمنى المصابة، فإذا ما نظرنا إلى عمله الأكبر ( حجما ) ”الثلاثية“، سنجد أن إبداعها، وكتابتها كلها استمرت لنحو خمـس سنوات فحـسب، أي أن هذه ” النصوص الصغيرة“  قد استغرقت أكثر من ضعف عدد السنوات التي كتب فيها ”بين القصرين“ ، وهو اسم الرواية التي اضطر إلى تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء عند النشر، دون أن يغير فيها كلمة واحدة.

    بالإضافة إلى أن كاتب هذه الأحلام المثيرة للتأمل، بخلاف كاتب ”الثلاثية“، إذ كانت موهبته قد تألقت للغاية، وزادت خبراته الحياتية، واتسعت معارفه الموسوعية، وتعمقت شفافيته الروحية، وأصبح كاتبًا عظيمًا، وشهيرًّا جدا، في داخل الوطن وخارجه، بعد أن منح الأدب العربي صك العالمية من خلال جائزة نوبل عام 1988 ،كما أنه لـم يعد بحاجة إلى أي شيء من زخارف هذه الدنيا الفانية!

    فهو بالتأكيد لم يكن يكتب هذه القصص، في سنواته الأخيرة، من أجل الشهرة، ولا المال، ولا الجاه، ولا النفوذ، ولا أي شيء آخر من هذه الأمور التي قد تسيطر على كاتب جديد، أو كاتب في منتصف الطريق، أو كاتب آخـر ممن يتعلقون – طوال حياتهم – بزينة الحياة الدنيا.

    وأذكر أنني سـألته : من أجل أي شيء تكتب – الآن – يا أستاذنا ؟! فكانت إجابته: من أجل الكتابة ذاتها. وقد قال لي مرة، ونحن نتحدث عن قيمة هذه النصوص القصيرة وسط إبداعاته الخالدة، وعن نظرته الشخصية إليها بعد أن تجاوز التسعين من عمره المثمر، إذ قال: إن تقديرها، أو تقييمها متروك لغيري، أما بالنسبة لي فهذه الأحلام، الآن، أهـم حاجة في حياتي.

    وتعد هذه القصص المكثفة، آخر إبداعات نجيب محفوظ، تتويجا لفن القص العربي بأعظم إنجازاته عبر العصور. إذ في كل نص : حكمة بالغة، أو فكرة مدهشة، أو نظرة فلسفية، أو تأمل عميق، أو خبرة روحية، أو شعور إنساني، أو إحساس عام، أو طلة على الواقع، أو رجوع إلى أحداث التاريخ، أو تداخل مدهش بين عنصري الزمان والمكان، أو تعانق مثمر بين الموت والحياة، أو لمحة خاطفة من لمحات الحياة الإنسانية في هذا العصر، وفي كل العصور.

     وها هي هذه المقطوعات البديعة، تتنبأ بثورة يناير العظيمة، قبل حدوثها بسنوات، وتتأمل في وقائع حياتنا الحالية، كما نعاني منها جميعًا، وتفسر لنا كثيرا من المواقف والأحداث، وتثير فينا دواعي التأمل في معاني الحياة والموت، والنظر في أحوال البشر، والتفكر في شؤون الوطن.

    صحيح هي نصوص قصيرة جدا، مكونة من بضعة أسـطر، أو حتى بضع كلمات، لكن من سينظر إليها جميعا، ويجمع بين حبات اللؤلؤ والمرجان، سيتمكن، في النهاية، من استكشاف الجوانب المختلفة لفلسفة نجيب محفوظ الصوفية، فقد استطاع فيلسوف الرواية، في سنواته الأخيرة، تكثيف رؤيـته الـشاملة في ”أحلام فترة النقاهة“.

نجيب ضاحكا

    وقد قلت لأستاذنا العظيم نجيب محفوظ إن كل ما كتـبه قـبـل الأحـلام يتسـم بالوضوح التام، فأي قارئ – مهما كانت ثقافته محدودة – يمكنه أن يستمتع بفن مبدعنا الأكبر، ويتعلم من أدبه، ومن ثـم يفهم أشياء كثـيرة من رواياته العظيمة وقصصه القصيرة، ولكن الأمر يختلف مع هذه الأحـلام المبهرة، فثمة غموض موح أحيانا وملغز أحيانا أخرى، ولعل من يقرأ بشغف يتـساءل بصدق عن حقيقة المغزى المقصود؟!

     وكان رد أستاذى ببساطته المعهودة: ”هذه هي طبيعة الأحلام“، ففي حياتنا اليومية قد نعجز بالنهار عن تفسير معنى أحلام رأيناها في الليل، لكني أحب أن أؤكد لك – يا صديقي القارئ – أن أحلام هذا العبقري ليست بأضغاث أحلام، وإنما هي أحلام حـق تكشف النقاب بلطف عن خفايا الماضي والحاضر، وتستشرف المستقبل ببصيرة ثاقبة، ولذا سيتاح لمن للرؤيا يعبرون، فهم ما وراء كلماته من معان وأسـرار.

    وعلي أن أعترف، أنني، مهما حصلت من علم، وبذلت من جهد، سأبقى تلميذا لأستاذي الحبيب، وما أقدمه من اجتهاد ما هو إلا محاولة للفهم، قد تصيب، وقد تخطئ، ومن ثم سيبقى متسع لآخرين، وخصوصا للأجيال القادمة لتقديم إضافاتهم المتميزة، من خلال قدراتهم على سبر أغوار أحلام مبدعنا الأكبر، وفهم مختلف جوانب نصوص معجزة تعد من أروع إبداعات فن القصة القصيرة في أدبنا العربي، بل وفي تاريخ الأدب العالمي كله.

* * * * * * *

    ولنتأمل بعض هذه النصوص الجميلة ، ولنبدأ بحلم رقم (200) : ” وجدتني في حالة تأهب للصراع مع عدو شرس وتاقت نفسي إلى شيء من الراحـة فصعدت إلى الدور الأعلى حيث رأيت محمد علي الكبير يتلقى الأنباء وينتفخ عظمة ولكنه جُن جنونا.”

    وكأنما الراوي يمثل الشعب المصري، وهو يصارع الفقر والجهل والمرض، بينما الحاكم الفرد يجلس وحده فوق هامات البشر، حيث ينتفخ خيالاء وعظمة، كفرعون يؤلهه المنافقون من حوله، فيسوق مصر إلى كوارث، ويدفع الشعب الغلبان ثمن سكوته على نظم حكم ديكتاتورية فاسدة.

    ولنتذكر كلمات أستاذنا الجليل في شهادته الكاشفة لمسار تاريخنا كله، في عمله الفريد ”أمام العرش“، حيث يقول تحتمس الثالث لمحمد علي: ”إدراكك رغم ذكائك كان ناقصا، لم تدرك أبعاد الموقف الدولي جيدا فتحديته وأنت لا تدري، وعرضت نفسك لقوة لا قبل لك بها“.

    ويقول أبنوم لمحمد علي: ”لم يكن إيمانك بالشعب كامل ولا حبك له بالقدر الذي يجعلك توظف جهدك الحقيقي لإحيائه ودعمه، استخدمت الفلاح في سبيل الأرض والدولة، وكان الواجب أن توجه كل مؤسسة لخدمة الشعب“.

    وهكذا نرى أن كلمات هذا الحلم المكثف تُلخص مشكلة مصر عبر العصور، فالحاكم الجديد، يتحول بسرعة إلى فرعون جديد ينتفخ عظمة حتى يجن جنوناً ، فيسخر كل إمكانات الدولة من أجل ذاته المتضخمة، وبدلا من أن توجه جهود كل مؤسسات الدولة لخدمة المواطن، يسحق الإنسان الفرد من أجل عظمة الحاكم الفرد!     

* * * * * * *

    وفي حلم رقم (201) : ” رأيتني أذهب إلى مسكن صديقي المرحوم ) أ ) ودعوته للذهاب معي إلى القهوة، فاعتذر لأن اليوم ستتزوج أخته زينب، فذهبت إلى المقهى وأخبرتهم وكنا نتعجب لشدة قبح زينب، وإذا بنا نرى موكب العروس قادما وهي محاطة بالنسوة والجميع متشحات بالسواد من الرؤوس إلى الأقدام ويسرن بخطوات منتظمة عسكرية.”

    ها هو الراوي يتنقل بيسر بين دنيا الأحياء وعالم الأموات، حتى أنه يدعو صديقه الراحل للذهاب معه إلى المقهى، لكنه يعتذر لأن اليوم عرس أخته زينب، وكل هذا لا يثير العجب، وإنما مصدر العجب هو قبح العروس، فما سبب هذا القبح العجيب؟! الإجابة تجدها واضحة في السطر التالي، فهذا السواد الذي تتشح به النسوة في يوم العرس، لا يعبر عن شعب مصر المحب للحياة والجمال، والغناء والبهجة، هذه الهجمة السوداء القاتمة، والقادمة من الصحراء القاحلة، لا تعبر عن روح مصر الجميلة. أما هذه الخطوات العسكرية المنتظمة، فتضيف المزيد من القبح على صورة الواقع البائس، حين يعسكر المجتمع كله، فإذا بنا بين لونين لا ثالث لهما، إما الأسود، وإما الكاكي، وهذان اللونان لا يعبران عن قلب مصر الأخضر.

    وهنا أذكر نكتة قديمة، كانت شائعة جدا، في فترة زمنية من الخمسينيات والستينيات، إذ يحكيها شعبنا الساخر على لسان معشوقته ”الست أم كلثوم“، إذ تُقدم  كوكب الشرق نصيحة للشباب الصغير أن يدخلوا إلى ”الكلية الحربية“، وبعد أن يتخرجوا فيها يعملوا في أي وظيفة يريدونها، فمنهم الرئيس، والوزير، والمحافظ، والسـفير، وعضو البرلمان، وكل المراكز القيادية في الدولة!

* * * * * * *

    وفي حلم رقم ( 202 ) : ” وجدتني في بيت ريفي أغوص في الظلمة والصمت ولا صوت إلا نباح كلبتي الجميلة المتقطع، وإذا بطلق نارى يخترق الليل والصمت، فذهب صاحبي وبعد قليل رجع ليقول بصوت أسيف: قتلوا كلبتك الجميلة، فانتابني حزن لحد البكاء وقلت: أهم لصوص؟ فأجاب: أو قوم يعبثون“.

    أنظر إلى الكلمات القليلة التي يقولها، والكلمات الكثيرة المبثوثة بين السطور! ففي بيت ريفي، أي في مكان بعيد تماما عن المدنية الحديثة، وقيم الحضارة الراقية، وهذا لا يعني الريف بحد ذاته، بقدر ما يعني المجتمع غير المتحضر، الذي يغوص في ظلمة الجهل، وصمت التخلف الناتج عن الأمتناع عن تذوق موسيقى الحضارات المتنوعة، وعدم الانفتاح على عالم الفنون والآداب الثري بكل مجالاته الرحبة، ومن ثم يهيئنا هذا الجو الكئيب لصوت طلق ناري يخترق الليل والصمت، ويقتل الكائن الجميل الوحيد في هذا العالم القبيح، فمن طبيعة الأمور أن يعتدي القبح على الجمال، ويقتل من يعيشون في الظالم معاني الأنس والحب والوفاء. وليس من الضروري أن يكون الهدف السرقة، فهؤلاء أسوأ من اللصوص؛ لأنهم يعبثون بمعان سامية كالحب والسلام، والرحمة والجمال .

    إن مجتمع يسوده الظلم والظلام، ليدعو الإنسان السوي إلى الحزن إلى حد البكاء على قتل الأرواح البريئة، وتراجع قيم الحق والخير والجـمال، واختفاء مبادئ العدل وسيادة القانون، واستباحة الحرمات، وانتهاك حقوق الإنـسان وكرامتـه.

* * * * * * *

    وفي حلم رقم ( 203 ) : “وجدتني في مكان غريب يبعث منظره الأسى وإذا بحبيبتي (ب) قادمة مكللة بشيخوختها فتوالني شعور كئيب بأنني لن أراها مرة أخرى“.

    إنه مكان غريب عن عالم الأحياء، فهو مخصص للراحلين من عالمنا إلى العالم الآخر، هذا المكان الذي يثير فينا الشعور بالأسى على فراق الأحبة، وفي هذا الموقع الغريب تظهر حبيبة الراوي، وهي قادمة مكللة بشيخوختها، مما يؤكد أن الحبيب يعشق صاحبة هذه الروح الفاتنة، والتي لم يأخذ الزمن من جمالها، وإنما أضاف لها نورا وبهاء يضيء ما حولها، وهذا يعني أن الراوي يؤمن حقا أن الجمال الحقيقي هو جـمال الروح.  

    ويبقى في وجدان قارئ هذا الحلم شعور عميق بالأسى على الفراق بين الأحـبة، فهو المعنى الغالب على هذا الحلم الشاعري، فكما قال شاعرنا الجميل إبراهيم ناجي، في رائعته ”الأطلال“ : ” وإذا الدنـيا كما نعرفها.. وإذا الأحـباب كـل في طريق“.

    إذ إن الفراق هو المصير المحتوم بين الأحبة، في هذه الحياة الدنيا، أما من يؤمنون بعالم الروح فلهم لقاءات مع كـل الأحـبة، في عالم الخلد عند مليك مقتدر.

* * * * * * *

    وفي حلم رقم ( 204 ) : ” رأيتني أتجاوز الأربعين وأداعب وردة بيضاء وهي تستجيب لعواطفي بل وتشجعني ولكنني لفارق السن أتردد وأتمادى في التردد حتى تهجرني وحيدا مع الزمن“.

    ها هو حلم شديد البساطة، لكنه يدور حول قانون من أهم قوانين الوجود الإنسانى في كون لا يتوقف عن الحركة والاتساع إلى ما لا نهاية! إذ يدفعنا التأمل في هذا الحلم إلى إدراك معنى حركة الزمن في حياة البشر، وقيمة العواطف الصادقة، وحماقة التمادي في التردد، والكوارث المترتبة على الخوف من اتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب.

    وهنا نرى مبدعنا الملهم وهو يشبه المرأة الحبيبة بوردة بيضاء تعبر عن الجمال والنقاء، والرقة والطيبة، ثم هي تستجيب للعاطفة الحقيقية، وتملك الشجاعة على تجاوز فارق السن بينها وبين الحبيب، كما تملك – أيضا – القدرة على الحسم، والمقدرة على اتخاذ القرار الصعب، حين تكتشف تردد الرجل، وضعف عزيمته، ونكوصه عن اتخاذ القرار الواجب، فهي صاحبة رؤية ثاقبة، إذ تكتشف حقيقته، فتتركه يقاسي من آلام الوحدة القاتلة، وسط أنغام الرحيل المرتقب.

    وقد أشار أستاذنا في حلم آخر يتناول الموضوع نفسه، وهو حلم رقم (224) ، أشار إلى بيت من الشعر القديم، للشاعر العباسي سلم الخاسر ( ت 186 هـ ) ، إذ يقول : ” من راقب الناس مات غـما.. وفاز باللـذة الجـسور”

    وفي كتاب ”الأغاني“ للأصفهاني، يحكى أن أصل هذا البيت من الشعر جاء في قصيدة لبشار بن برد ( 95-167 هـ ) ، كما يلي: “من راقب الناس لم يظفر بحاجته.. وفاز بالطيبات الفاتك اللهج”  فلما سلخ البيت سلم الخاسر وسمعه بشار بن برد قال: ”ذهب والله بيتي“. فالخلود الأدبى دائما يكون من نصيب الأجمل والأسهل والأحكم، فما ينفع الناس يمكث في الأرض، هذا هو قانون الخلود، والذي ينطبق على أحلام محفوظ البديعة.

* * * * * * *

    وفي حلم رقم ( 205 ) : ” رأيتني أدرس القانون إكراما لأبي وأذوب في الأنغام مرضاة لروحي، وعند ذروة الاختيار تناهى بي العذاب ولكن الروح انتصرت في الختام“.

    هذا حلم قصير جدا لكنه يثير قضية في غاية الأهمية، ففي مجتمعنا المقهور يعاني الغالبية العظمى من الشباب من دراسة علوم، أو مواد لا تتفق مع ميولهم الشخصية، إذ يمنعون منعا من اختيار نوع دراساتهم العليا، التي يقضون فيها سنوات عدة، ثم يعملون باقي حياتهم في مجالات بعيدة تماما عن اهتماماتهم أو رغباتهم الخاصة، وهذا الأمر شديد القسوة، ويؤدي، في كثير من الأحيان، إلى صراع نفسي عنيف جدا، كما يمنعهم من التفوق والنبوغ، إذ كيف يتفوق إنسان في تخصص لا يتفق مع ميوله؟!   وكيف يسعد بني آدم وهو يعمل عملا لا يُحبه؟!

     وبطبيعة الفنان، وروحانية المتصوف، ينتصر أستاذنا النبيل في نهاية هذا الصراع الداخلي لمطالب الروح الخلاقة، حيث تصدح موسيقى الكون بترانيم الأنغام الخالدة. وهذا ما حدث بالضبط في حياة محفوظ الشخصية، صحيح هو الذي اختار بنفسه أن يدرس الفلسفة في الجامعة بدلا من دراسة الأدب، إلا أنه تعرض لهذا الصراع النفسي العنيف، حين كان لابد له أن يختار بين كتابة القصص، ومواصلة دراسته الفلسـفية، فبعدما تخرج في قسم الفلسفة عام 1934 ،استمر لمدة عامين، يدرس ويحضر لدرجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية، تحت إشراف أستاذه الإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق. وأستاذنا طالب نابه، ورسالته للماجستير، كان يمكن أن تقوده إلى التدريس في الجامعة، ثم يحصل بعد ذلك على درجة الدكتوراه، ويصبح أستاذا للفلسفة في الجامعة، هذا المستقبل المشرق، تركه محفوظ من أجل كتابة القصص والروايات، فمن كان يمكنه أن يدرك صحة هذا القرار وعظمته؟!

    لقد تم اتخاذ هذا القرار الصعب، بعد عامين من الدراسة والبحث والتفكير، فبماذا شعر الأستاذ بعد اتخاذه لهذا القرار المصيري؟ لقد شـعر بالحرية والاستقلال، حتى أنه كان يقارن – في داخله-  بين معاهدة الاستقلال سنة 1936  التي أعطت مصر نوعا من الاستقلال الصوري، وقراره بالتفرغ للكتابة الأدبية، والتوقف عن إكمال دراسته الفلسفية.

    فقد اكتشف الشاب نجيب محفوظ، أنه إذا ما جمع بين العمل كموظف في الجامعة، واستكمال دراسته العليا للماجستير، فلن يجد الوقت اللازم للكتابـة الأدبية، ولن يجد وقتًا يسمح له بقراءة روائع الأدب العالمي، ومن ثم كان لابد أن يضحى بواحد من الاثنين، إما الأدب، وإما الفلسفة، فاختار التضحية بإكمال دراسته الفلسفية من أجل الاستمرار في الكتابة الأدبية، وتنمية معارفه العامة، وصقل ثقافته الموسوعية. ومع ذلك لم يتوقف محفوظ قط عن متابعة ما تصدره المطابع من دراسات فلسفية، فاهتمامه بالفلسفة لم يتوقف يوما من أيام حياته المثمرة.

* * * * * * *

     وفي حلم رقم (206) : ” رأيتني في بهو واسع أنيق يجمع في جانب منه الأهل والأصدقاء، وفي الجانب الآخر فتح باب وتخرج منه حبيبتي ( ب ) ، وهي تضحك ويتبعها والدها، فنسيت وقاري وفتحت ذراعي وفتح المأذون الدفتر فشملت الفرحة الجميع، وحضرت أمي فباركت العروس وأحرقت البخور“.

    ما أروع تعبيره الجميل عن شعوره العميق بالسعادة بوجوده في مكان رحب وأنيق يجمع الأهل والأحبة، ثم فرح الجميع بزواجه الشرعي من حـبيبته، ومباركة الأهل، وحضور الأصدقاء. إنها من لحظات الفرح النادرة للغاية في حياة البشر الكادحين في هذه الدنيا الغرورة.

    وثمة إشارة لابد من ملاحظتها في نهاية هذا الحلم الجميل، ألا وهي حضور أم الراوي، وليس أبيه، ففي حياة نجيب محفوظ علاقة خاصة جدا مع أمه، وقد ظهرت شخصيتها أكثر بكثير من أي شخصية أخرى في هذه الأحلام الأخيرة، إذ تجلت في أكثر من عشرين حلما. وقد توفي والد محفوظ قبل زوجه بسنوات طويلة، أما والدته فقد أخفى عنها خبر زواجه، حتى لا يسبب لها أي شعور بابتعاده عنها، وهي في سن متقدمة، ومن ثم عبر في حلمه، عن رغبته الدفينه بمباركة أمه لزواجه من حبيبته، هذه الرغبة الباقية بداخله، في أعماق اللاوعي، بعد كل هذه العقود من السنين!

    إن شخصية والدة نجيب محفوظ ذات تأثير كبير جدا عليه، كما ذكر هو مرات عدة في حواراته وأحاديثه، فهذا العبقري الفذ ابن لسيدة مصرية عظيمة، صحيح أنها لم تتعلم القراءة والكتابة، لكنها ربت عبقريا أصبح من أعظم أدباء العالم.

* * * * * * *

    وفي حلم رقم ( 207 ) : ” رأيتني أسير في شارع طويل وفي بيت على اليسار فتحت نافذة ولاح فيها وجه امرأة سرعان ما تذكرتها على الرغم من أنني لم أرها منذ خمسين سنة وأن جمالها اختفى وراء ستار كثيف من المرض، ولما استيقظت في اليوم الثاني وجدت الحلم باقيًا في ذاكرتي فعجبت ورحت أتصفح جريدة الصباح فقرأت نعيها في صفحة الوفيات، فازددت عجبًا واعتراني حزن شديد وتساءلت: ترى ُّ أينا زار الآخر في ساعة الوداع؟ “

    هذه هي روح أستاذي الحبيب، تتجلى في ثنايا هذا الحلم البديع، فالشارع الطويل يرمز إلى عمره المديد، وهذا البيت يشير إلى مكان لقائه بهذه المرأة الجميلة، والتي توارى جمالها بسبب المرض، وتقدم العمر، والنافذة التي فتحت هي ذاكرة مبدعنا الفائقة، والتي تتذكر هذه الفاتنة بسرعة رغم مرور نصف قرن على آخر لقاء بينهما! وفجأة ينقلنا إلى اليوم التالي، حيث يسترجع حلم الأمس المحفور بتفاصيله في وجدانه، وإذا به يقرأ نعيها، فيتساءل عن زيارة روح أحدهما للآخر في لقاء الوداع الأخير؟! ويشير هذا الحلم إلى ملمح من فلسفة محفوظ الصوفية، ورؤيته لحقيقة الإنسان كروح خالدة، لا تؤثر فيها مرور السنوات الطوال، ولا يحجبها شيء عن لقاء الأحبة، ولا يعيقها أي شيء حتى الموت ذاتـه، فكما قال في حـلم رقم ( 104 )  : ” إن المـوت لا يسـتطيع أن يفرق بين الأحـبة“. وهذه عقيدة قـوم مصطفين، يحبهم المولى، عز وجل، ويحبونـه.

* * * * * * *

    في حلم رقم  ( 208 )  :  “وجدتني في مكتبي تزورني السيدة )س) لتسلم علي قبل رحيلها إلى إحدى البلاد العربية للعمل، ووضعت يدها في يدي ولكنها لم تسحبها واغرورقت عيناها الخضروان بالدموع“.  

    هذا النص المكثف يعد من أجمل القصص القصيرة التي قرأتها، طوال حياتي المليئة بالقصص، فهذه قصة مكتملة الأركان، إذ من خلال هذه الكلمات المعدودة، تجلت أمامنا حكاية مؤثرة للغاية تحكي بسلاسة ورقة عن الحنين والحب، والوحدة  والسفر، والعمل والعرق، والغربة والفراق، دون أن تستخدم أيا من هذه التعبيرات المباشرة!

    فالرواي جالس في مكتبه، ومشغول بمشاغل الحياة اليومية، لكن حين تأتيه هذه الزيارة، غير المتوقعة، ينقلب حاله، وتشتعل عواطفه، ويعيد النظر في ما جرى من أحداث حياته، فما بينه وبين هذه السيدة الرقيقة أمور كثيرة لا نعلمها، بيد أن ما بينهما جعلها تقرر أن تزوره وتسلم عليه قبل أن ترحل عن أرض الوطن، وتسافر إلى بلد غريبة، لتعيش مع أناس غرباء عنها، من أجل بعض المال الذي يُدفع ثمنه غاليًا جدا من عرق البشر ومعاناتهم، وأحيانا من كرامتهم أيضا.

    ومن ثم لا تملك صاحبة العينين الخضراوين الدامعتين القدرة على أن تسحب يدها من يده، فهي لا ترغب أبدا في هذا السفر القاسي، ولا هذا الفراق المؤلم، ولا أشياء أخرى كثيرة، لكن الأمور كلها مختلطة معا، ولعلك تتساءل، يا صديقي، عن صعوبة اقتلاع جذور الإنسان المزروعة في أرض الوطن؟ ومدى عمق الألم الناتج عن فراق الأهل والأحبة؟ وعما حدث ويحدث مع كثير من المصريين والمصريات العاملين في بلاد الصحراء القاحلة؟!

    وتستدعي هذه القصة البديعة من ذاكرتي: ”ما لي أكتم حب قد برى جسدي“.، من أبيات شاعر العربية الأروع أبي الطيب المتنبي (303 – 354 هـ ) ، إذ يقول : –

  ”يا من يعز علينا أن نفارقهم . . وجداننا كل شيء بعدكم عدم ِ

  إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا . . ألا تفارقهم فالراحلون هُـم ُّ ْ

 شر البلاد مكان لا صديق به . . وشر ما يكسب الإنسان ما يصم

  هــذا عتاب إلا أنه مقة . . قد ضُمن الدر إلا أنه كلم .”

    فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، ومشاعر البشر هي ذاتها، ودراما الحياة متشابهة للغاية، ومن ثم تلتقي ذروة الإبداع الأدبي عبر العصور، بل وعبر الثقافات المختلفة.

* * * * * * *

     وفي حلم  (  209 )  : ” وجدتني مع الرئيس عبد الناصر في حديقة صغيرة وهو يقول: لعلك تتساءل لماذا قلت مقابلتنا ؟ فأجبته بالإيجاب. فقال : كلما شاورتك في أمر جاءت مشورتك بالاختلاف كليا أو جزئيا فخفت أن تتأثر صداقتى لك بهذا الموقف.  فقلت: أما أنا فلن تتأثر صداقتي لك مهما اختلفنا“.  

    هو الرئيس جمال عبد الناصر، وهو – أيضا – أي رئيس آخر، بيد أنه يختلف في بعض الأمور عن من جاؤوا بعده، فهو على الأقل يجلس في حديقة صغيرة، أما من توسدوا بعده مقاعد الحكم، فقد تنعموا في القصور المنيفة، أما الاستبداد الذي أرسى دعائمه، وانتهاكات حقوق الإنسان التي تميز بها عهده، فقد تواصلت واتسعت بواسطة حكام أخذ هيلمان السلطة عقولهم، وأفقدهم الإحساس بشعبهم الفقير.

    وهذا الحلم يدور حول مشكلة مصر الكبرى عبر مختلف العصور، ألا وهي الاستبداد، النابع من حكم الفرد، صاحب الكلمة الأولى والأخيرة! فالديكتاتور حين يتشاور، حتى مع صديق، لا يقبل منه أي اختلاف فى الرأى ، مهما كان الاختلاف بسيطا، فهو لا يقبل بأي درجة من الدرجات ”شبهة المعارضة“، حتى لو كانت مجرد   وجهة نظر أخرى يقولها صاحب مقرب من الفرعون!

    وهذا هو السبب الأول في انهيار نظم الحكم الديكتاتورية وسقوطها، فحين يسود الرأي الواحد، ويُمنع أو يجرم الرأي الآخر، فقل على البلد السلام. وفي هذا الحلم نتابع منطق الحوار، غير المتكافئ، بين الحاكم الفرد، والمفكر الحر، فالحاكم لا يقبل إلى جواره إلا بمن يوافقه على رأيه، بينما المفكر الصادق يصر دائما على قول كلمة الحق، مهما كان ثمنها غاليًا، إذ هو يدرك أن غياب الرأي الآخر سيؤدي –  بالتأكيد – إلى الكوارث والنكسات.

      ومن ثم ينهي الراوي كلامه بهذه العبارة الحاسمة: ”أما أنا فلن تتأثر صداقتي بك مهما اختلفنا“. وهذا هو بالضبط ما نحن الآن في أشد الحاجة إليه، فمن طبيعة الأمور أن نختلف، وأن يكون لكل منا رأيه وفكره، ومن ثم لا بد أن نتعلم قبول الآخر، ونتفهم أن الاختلاف بيننا لا يصح أن يفرق بيننا، ولا يجوز أبدا أن نبلع الطعم، وننفذ مخططات الأعداء، وندخل في صراعات غبية بين أبناء الوطن الواحد !  وهنا علينا أن نعترف، أننا نعيش، الآن، أسوأ مراحل التعصب، وأشد درجات الاستقطاب، بين التيارات السياسية والفكرية المختلفة، وهذا ما لا يصح أن يستمر، إذا كنا نريد لهذا البلد أن يخرج من أزماته المتفاقمة، ويتقدم إلى الأمام، إذ كيف يتقدم مجتمع منقسم على ذاته؟! وكيف تنمو أمة يتصارع أبناؤها لاختلاف أفكارهم؟!  إننا في أشد الحاجة إلى أن ننتقل من نظم حكم فاشية لا يسمح فيها بأي اختلاف في الرأي، إلى نظام حكم ديمقراطي قائم على التعددية السياسية، وتداول السلطة، وإطلاق الحريات العامة، واحترام حقوق الإنسان وكرامته.

نجيب محفوظ والسينما

أهل القمـــــــــــة

بقلم: شريف الوكيل

شريف الوكيل 2

لاشك أنه مع زيادة رؤوس الأموال الأجنبية ، وتدفقها مع ظهور المستثمرين الأجانب والعرب، تكونت مجموعات طفيلية كل هدفها هو الربح السريع غير المنتج، وبشكل ما يسمى رأس المال المقامر.

وأصبح الشغل الشاغل لهذه الفئات تحقيق أكبر قدر من المال، كما تفننت هذه الفئات فى ابتداع طرق استغلال متعددة،  للحصول على المال والربح، وأصبحت المادة هى القانون الأمثل للحياة(اللى معاه قرش يسوى قرش)

ونظرٱ لأن قيمة التعليم والثقافة، كانت تمثل قيمة مثلى فى مرحلة تاريخية معينة، بالنسبة للطبقة الوسطى،  فقد أصبح هناك صراع نفسى إجتماعى لدى الأفراد،  فى تحديد القيم وتبنيها ، وأصبح السؤال الحائر بين إجابتين، هل يتبنى القيم المادية، او قيم التعليم والثقافة…وفى إطار الاعتبارات والأوضاع المعيشية المزدوجة والمتناقضة، ومع اتساع الهوة بين الأسعار والدخول خاصة المحدودة منها، تسود قيمة المادة على قيمة التعليم والثقافة .

ونتيجة للازدواجية بين القيم الأصلية “التعليم” والوافدة” المادة”، تولدت أيضا ازدواجية بحيث أصبح الفرد يطلب التعليم للحصول على الشهادة…ثم يبحث عن عمل يدر له الربح، أو يجمع بينهما، وأصبح هناك كما يشير الواقع على ظهور المعلم التاجر، وأستاذ الجامعة المستغل والموظف السائق، ورئيس مجلس الإدارة السمسار…إلى آخر تلك الأمثلة الواقعية، وفى ضوء هذه الاعتبارات تغيرت القيم الأسرية وتغير التعليم وغيره .

وفى عام ١٩٨١ قدم لنا المخرج على بدرخان رؤيته بهذا الخصوص من خلال الفيلم العربى الهادف أهل القمة عن  قصة الكاتب الكبير “نجيب محفوظ” التي جاءت ضمن مجموعة «الحب فوق هضبة الهرم» بكونها أكثر أعماله تعبيرا عن فترة الانفتاح الاقتصادي .

 وكتب لها السيناريو والحوار مصطفى محرم والمقصود بأهل القمة هنا هم اللصوص الجدد الذين استفادوا من قوانين الانفتاح الاقتصادى ، وتحولوا إلى فئة شديدة الثراء، ترتدى أحدث وأفخم الثياب وتستخدم أفخر السيارات، وتتستر أحيانا وراء مظاهر التدين ، والفيلم وكما أراد نجيب محفوظ فى قصته يضع المواجهة بين ضابط شرطة شاب (عزت العلايلى) ونشال محترف (نور الشريف) طالما تعقبه الضابط وقبض عليه…وطالما أيضا استخدمه كمرشد له عن المسروقات، فبينهما علاقة مشوبة بالحذر .

يفاجأ الضابط ذات يوم باختفاء النشال من الوكر الذى تعود أن يجلس فيه مع زملائه من النشالين …ويتساءل الضابط ماذا حدث؟….فقد لاحظ انخفاض معدل جرائم النشل فى منطقته، وهذا لا يبعث على الطمأنينة، فما هو سر اختفاء النشالين ؟ ليأتيه الرد من صاحب المقهى العجوز، والذى أصبح وحيدا ، بعد أن هجره زبائنه النشالين ، ويقول صاحب المقهى” إنهم يعملون الآن فى وضح النهار ، وتحت حماية الشرطة” .

يكتشف الضابط الحقيقة…فقد تحول النشالين إلى التجارة، تجارة المهربات وأصبحوا جزءٱ من عصابة الرجل الكبير”عمر الحربرى” الذى يتمسح بالدين بينما رجاله يعملون فى تهريب البضائع من بورسعيد…لعرضها للبيع فى أسواق القاهرة المكدسة بكل أنواع السلع وأغربها .

ويصنف نجيب محفوظ هذه المأساة فى تلك العبارة من قصته : ” أصبح هؤلاء من الأغنياء ، أما هو وأعوانه فيغوصون فى غمار الفقر”…ويجسد الفيلم هذا الصراع من داخل بيت الضابط الشاب ، حيث يعيش مع زوجته وأطفاله…وأيضا مع شقيقته وابنتها “سعاد حسنى” حيث يصبح عليه أن يحقق لهم المستوى المعقول فى الحياة ، وأن يلبى كل طلباتهم فى ظل ظروف صعبة، ودخل محدود، ومشاكل لا تنتهى…وتأتى الصدمة القاسية عندما يكتشف أن ابنة أخته على علاقة عاطفية بهذا النشال الذى أصبح تاجرٱ  كبيرٱ ، وإصرارها عليه حتى بعد أن عرفت حقيقته .

وكان منطقها الوحيد، أنها تريد أن تنجو بنفسها من مشاكل الحياة فى بيت خالها، ثم إنه لا عيب فيه مادام قد تخلى عن مهنته الأولى ، وأصبح الآن تاجرٱ معروفٱ ويعمل فى النور .

وهكذا يجد هذا الضابط نفسه داخل معركة مع جميع الأطراف…فى بيته وفى عمله حيث يحاول المهرب الكبير الإفلات من قبضة القانون…بل ويسعى لاستصدار قرار بنقل الضابط إلى صعيد مصر عقابا له عن ملاحقته لينتهى الفيلم بانتصار أهل القمة الجدد من اللصوص والمهربين .

أهل القمة 2

 يعتبر أهل القمة فيلم من أهم الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية في فترة الثمانينيات، ويجمع عدد من ألمع نجوم هذا العقد وهو من إخراج علي بدرخان، حيث تقوم سعاد حسني بالبطولة بمشاركة نور الشريف وعزت العلايلي وعمر الحريري، مع عدد كبير من الفنانين المعروفين .

تجسد قصة نجيب محفوظ  ملامح فترة الانفتاح الاقتصادي وانتشار المهربين الذين سيطروا على المجتمع فى ذلك الوقت، كما يلقى الضوء على فكرة الاشتراكية وما حدث للمجتمع من تحول في الافكار والعادات والمفاهيم التي كان يتمسك بها سابقاً إبان حكم جمال عبدالناصر .

ومما لا جدال فيه أن ما قدمته  السينما المصرية من خلال هذه النوعية المتميزة من الأفلام، خلقت إحساسٱ لدى المتفرج بالوقوف ضد انحرافات الانفتاح، وتحويله إلى انفتاح انتاجى، ليحمى الصناعة المصرية ويطورها

نتيجة تميز الفيلم بالجرأة الشديدة في مناقشة القضية وحيث اعتبر تمهيدا للعديد من الأعمال التي انتقدت الانتفاح الاقتصادي .

فى بداية الفيلم تشير الكاميرا إلى مجموعة الملصقات والإعلانات المنتشرة على جانبى الطريق، والتى تعبر عن صورة صارخة من صور الإعلانات عن البضائع الأجنبية، فى نفس الوقت الذى تعانى فيه فئات اجتماعية من الحصول على السلع الضرورية للحياة .

حيث يتضح التخلى عن قيم أصيلة، فى سبيل قيم الربح السريع، من خلال بيع السلع الأجنبية والتهريب الجمركى، وفى ظل هذه الأمور يفقد المجتمع بالتالى هويته، وشخصيته وتتحطم التكوينات النفسية والاجتماعية للمواطن العادى، فيفقد ثقته فى القيم الاجتماعية التى تنشأ عليها، فيفقد ثقته فى الدولة…إذ يرى أن تعطيل القوانين لصالح فئات معينة تعد من الأمور العادية، كما يرى إصدار قوانين جديدة تخدم الفئة المسيطرة أو الفاسدة…فيقف حائرا بين القيم الأصلية والقيم المصطنعة…وعليه أن يختار بين الأصيل والوافد .

وقد عكس الفيلم مدى انتشار ظاهرة الفساد والمحسوبية والرشوة واستغلال النفوذ، وقد انتشر هذا السلوك على جميع المستويات فى القطاعات المختلفة ، مثلما تعرض فيلم (المذنبون) عن قصة لنجيب محفوظ أيضا لمدى المعاناة التى يعانيها جماهير الشعب الفقيرة، سواء بتصوير التزاحم الشديد على المجمعات الاستهلاكية” الطوابير” من أجل  المال والجنس، نجد مدير الجمعية يتاجر هو وموظفيها فى السلع التموينية مبررا ذلك فى قوله :

“زبونة محترمه وحلوه طلباتها كتير، وبتزود الدخل القومى معقول برضو أوقفها فى الزحمة”…

وصور فيلم أهل القمة أيضا هذا الاستغلال للقوانين وتعديلها لصالح بعض الفئات الطفيلية الفاسدة، حين حصل  مهرب كبير يتستر خلف الدين من خلال تبرعاته للجمعيات الدينية، ومسك المسبحه التى لايكف عن تحريكها بين يديه، دلالة على الورع والظهور بالمظهر التقي، على إذن إستيراد بضاعة بعد ضبطها فى الجمرك، عن طريق مسؤل كبير فى الدولة…ويدل ذلك على تزاوج الفئة الرأسمالية الطفيلية، مع كبار موظفى الدولة ،ويوضح هذا الحوار الدائر بين ضابط الشرطة وزميله :

“البضاعة اللى من غير مستندات تصادرها وتقبض على صاحبها”….ليرد عليه زميله بقوله”حيلك…حيلك القانون ده اتلغى من مدة” …اتلغى ليه..؟….فيرد عليه بقوله”يظهر المهربين احتجوا…”

كما توضح بعض مشاهد الفيلم تغير قيمة التعليم وظهور القيم المادية، وطغيانها على الحياة الإجتماعية من خلال حوار ضابط الشرطة “عزت العلايلى” والنشال زعتر الذى تحول للتجارة”نور الشريف”:

-الحق يا زعتر أنت درست لحد فين

-وهو المهم درست أو حصلت، الدنيا دلوقتى مش محتاجة علام، كله ماشى بالفكاكة وتفتيح المخ.

وحتى فى هبوط قيم الثقافة والتعليم أيضا يصور الفيلم من خلال حوار دار  بين الضابط والنشال :

-تعرف يا محمد بيه، انا لولا الحظ ملخبط معايا. ماكنش الحال بقى كده

-أظن حتقولى كنت حتبقى ظابط

-لأ فشر…شغلتكم دى متملاش العين …

يتضح لنا من خلال الحوار أن القيم المادية أصبحت هى السائدة فى ظل هذه الظروف المشوهة والمتناقضة، وتصبح الحياة فرصة ذهبية لمن يغتنمها، باعتبار أنه “عبيط اللى يضيع الفرصة من إيده…والشاطر اللى يتغدى بأخوه قبل مايتعشى بيه” .

وكما يشير” محمد حسنين هيكل” فى مقالة له: إننى لست قلقا لأننا لا نبنى صناعات ثقيلة أو لا نقيم سدودٱ جديدة فى مصر…لكننى فى غاية القلق على شئ أخطر بكثير، ألا وهو مجموعة القيم التي تم غرسها فى الخمسينات والستينات، والتي طغت عليها موجة ساحقة بهدف إغراقها تماما” .

يسجل للمخرج علي بدرخان أنه حرص منذ الثمانينات، على أن تأتي أعماله جامعة ثلاثة عناصر يؤمن بها: الإجادة والأهمية والجماهيرية…ينبثق العنصر الأول من السعي لتحقيق أعمال جيدة التنفيذ في كل مرافق العمل، أما العنصر الثاني فيتكون من أهمية المضمون الذي يتداوله الفيلم. والثالث فهو حسن إنتاج وتحقيق الفيلم الذي لا يخالف رغبة الجمهور السائد بل يلبي الأسباب التي تدفعهم لمشاهدة الفيلم، بما في ذلك الاختيار الجيد لأسماء مشهود لها بالنجاح فيما تقوم بتجسيده من شخصيات…ووفقٱ لأسلوب هذا المخرج المتميز بالإجادة، يأتي فيلم (أهل القمة ليكون إضافة كبيرة وهامة لرصيد مخرجه الفني. حيث قفز به إلى الصفوف الأولى في دنيا الإخراج في مصر.

إن بدرخان في فيلمه هذا قدم أسلوب السهل الممتنع، وذلك باعتماده على الأسلوب الواقعي البسيط، والمعتمد أساساً على إبراز التفاصيل الصغيرة والشخصيات الثانوية، وذلك لإثراء الخط الدرامي الرئيسي وتعميقه. فمن المشاهد الجيدة التي تألق فيها بدرخان كمخرج، تلك المشاهد التسجيلية لسوق ليبيا، سوق البضائع المهربة، والتي نفذت بتقنية عالية، أثبت فيها قدرته على تحريك الكاميرا بخفة وسلاسة ملحوظة بين الجموع المحتشدة في السوق، وإطلاقها وسط الزحام حيث انتقى لنا عشرات الوجوه المتعبة. كما أن هناك مشاهد أخرى تدل على تمكن بدرخان في إدارة أدواته الفنية والتقنية، مثل مشهد وداع سهام لحبيبها في المطار، والذي بدا أقرب لمشاهد وداع الموتى. كذلك مشهد حديثها عن حياتها لزعتر النوري والذي نفذه بدرخان في لقطات قصيرة وسريعة معبرة، أخذها من عدة زوايا موفقة وجميلة لمدينة القاهرة. هناك أيضاً مشهد النهاية المؤثر لذلك الزفاف المأساوي، وسط جو مليء بالنشالين والمهربين في قلب سوق البضائع المهربة، والحيرة والقلق تبدوان على وجه الضابط الذي أجبر بالطبع على قبول هذا الوضع الشاذ، حيث نراه ـ في لقطة قوية ومعبرة ـ يغوص وينغمس في زحام سوق الانفتاح، معلناً هزيمته أمام هؤلاء اللصوص.

صحيح إن الفيلم  لا يحوي أحداثاً شديدة الإثارة، وإنما الأفكار التي يناقشها مثيرة حقاً وواقعية جداً، بحيث لا يتخللها الملل، هذا بالرغم من بعض الرتابة التقليدية في الإخراج…رتابة تقليدية لكنها حافظت على هدوء المشاهد وتسلسلها، وأتاحت للحوار الذي اعتمد عليه الفيلم كثيراً أن يأخذ حقه في الظهور… حوار ساخن متدفق وغير مفاجئ ساهم في توصيل الصورة المرسومة بهدوء دون إثارة أو افتعال.

فقد تضافرت مجموعة العمل لتقدم عملٱ جيدٱ فنيٱ وفكريٱ، فمعظم العناصر من التصوير والديكور والمونتاج، كانت فى خدمة الدراما القوية المحكمة التى كتبها مصطفى محرم .

لم يخرج “أهل القمة” عن إطار هذه المكونات بل يؤكد عليها مستفيداً من أن الفيلم مستوحى من إحدى روايات نجيب محفوظ ومحاطاً بعدد من وجوه السينما المصرية المحببة آنذاك ولها جماهيرها وشعبيتها .

أهل القمة  هو فيلم آخر عن مصر الثمانينات

 لنماذج متباينة المواقع تتحرك بدافع من مبادئها من دون أن يكون أحدها خالياً من الشوائب… حيث تناول لحياة ماكان يسمى بعصر الإنفتاح ، وماسببه هذا العصر من وجهة نظر المؤلف (نجيب محفوظ) ووجهة نظر المخرج (علي بدرخان) الذي لم يكن يوماً بعيداً عن النقد الاجتماعي في أفلامه فقد قدم لنا من قبل فيلم «الكرنك»  الذي انتقد فيه مرحلة ما بعد هزيمة حرب ١٩٦٧ ذلك الفيلم أيضاً كان عن رواية نجيب محفوظ التي نشرت قبل سنة واحدة من إنتاج الفيلم ومع الممثلين سعاد حسني ونور الشريف في واجهة عريضة ضمت كذلك كمال الشناوي وفريد شوقي وتحية كاريوكا وعماد حمدي وعلي الشريف من بين آخرين…وتدور أحداث الفيلم عن حالة الاستبداد السياسى والفكرى.

ورغم  ذلك، نجد أن فيلمنا اليوم لم يكن  نقداً صريحاً مثل فيلم الكرنك،  فربما تكون الرقابة (ذاتية أو رسمية) وربما يكون موقفاً شخصياً للمخرج الذي لا يريد إدانة الأطراف سياسياً، بل يفضل الحكم عليها أخلاقياً.

مع ذلك، تظهر براعة بدرخان مخرجاً فذاً للأحداث، ومديراً بارعاً لشخصياته. الجميع يبدو مختلفاً هنا عن معظم ما قام بتمثيله سابقاً. ربما حركات نور الشريف هي ذاتها، لكن براعته في أداء الدور المتأرجح بين العاطفة الصادقة والجنوح صوب المصلحة الذاتية لا تنسى… وقدم نور مشهد من أدق المشاهد وأبرعها فى الأداء , وفى التعبير عن التناقض بين ظاهر الشخصية وباطنها، حين حاول الفرار لأول وهله عندما سمع الناس تصرخ فى أحد الأسواق(حرامى…حرامى) رغم مظهره الجديد والمختلف…وارتبط نور الشريف، منذ صغره بأعمال الأديب العالمى نجيب محفوظ، وكان يقول عن نفسه إنه من مريدي نجيب محفوظ، وإن روايات أديبه المفضل لم تُقرأ بعد! في المقابل، كان محفوظ يثني كثيراً على نور الشريف، ويطمئن إلى الأدوار التي يقوم بتمثيلها… ومن أعمال نجيب محفوظ قدم نور شخصية كمال عبد الجواد، فى الجزء الثانى من الثلاثية”قصر الشوق”، فى الفيلم الذى يحمل نفس

نور السراب

الاسم، إنتاج عام ١٩٦٧، كما قدم أيضا شخصية الشاب الثرى كامل رؤوبه فى فيلم السراب، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم إنتاج عام١٩٧٠ من إخراج أنور الشناوى، ومن بطولة ماجدة ورشدى أباظة، ثم أعقبه بالجزء الثالث من الثلاثية إستكمالا لشخصية كمال  فى فيلم “السكرية”، فى نفس العام أيضا، ولعب دور شطا الحجرى، فى فيلم “الشيطان يعظ” المأخوذ عن قصة قصيرة تحمل اسم “الرجل الثانى” ضمن المجموعة القصصية “الشيطان يعظ” لأديبنا الكبير ، أيضا قدم دور إبراهيم براءة فى فيلم ” عسل الحب المر” عام ١٩٨٥وهو مأخوذ عن قصة قصيرة بعنوان “دنيا الله” من المجموعة القصصية التى تحمل نفس الاسم ، ثم تلاه  بتقديم شخصية مختار، فى فيلم “وصمة عار” عام ١٩٨٦ المأخوذ عن رواية “الطريق” ، وكذلك قدم شخصية جعفر فى فيلم “قلب الليل”، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للأديب العالمى نجيب محفوظ، عام ١٩٨٩ ، وبعده قدم شخصية عاشور الناجى، فى مسلسل “الحرافيش” سنة ١٩٩٨المأخوذ عن ملحمة “الحرافيش” …ويعد هذا المشوار الفنى الحافل،والذى  قدمه نور الشريف خلال إرتباطه بالأعمال السينمائية والتليفزيونية التى كتبها نجيب محفوظ، لتوضح مدى حبه وتقديره للأديب الكبير .

نجيب وشادية

تمامٱ فيما تعد الفنانة الراحلة شادية أكثر ممثلة شاركت في أفلام كتبها الأديب العالمي.

يُذكر أن لنجيب محفوظ في قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، التي شارك في إعدادها عدد كبير من النقاد، ضمن فعاليات الدورة العشرين من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، نصيب كبير، فالقائمة ضمت: “بداية ونهاية”، “الفتوة”، “الناصر صلاح الدين”، “الكرنك”، “درب المهابيل”، “إحنا التلامذة”، “لك يوم يا ظالم”، “الاختيار”، “جميلة”، “المذنبون”، “الوحش”، “ريا وسكينة”، “إمبراطورية ميم”، “أنا حرة”، “السمان والخريف”، “بين القصرين”...ليكون لدينا أكثر من عشرين رواية حوّلت إلى أفلام سينمائية، فيما بلغ عدد الأعمال التي كتبها الأستاذ  وتحولت إلى مسلسلات تلفزيونية نحو  ثمانية روايات…كما كتب محفوظ عددٱ من السيناريوهات الكبرى التي تعد من أفضل الأفلام السينمائية في تاريخ السينما المصرية والعربية، مثل “شباب امرأة”، بطولة الفنانين تحية كاريوكا وشكري سرحان، و”الفتوة” إخراج صلاح أبو سيف، بطولة فريد شوقي، وتحية كاريوكا ومحمود المليجي ، أيضا كتب محفوظ عددا آخر من الأفلام، من بينها: “أنا حرة” المأخوذ عن رواية للأديب والكاتب إحسان عبدالقدوس، وإخراج صلاح أبو سيف، و”جميلة بوحريد”، الذي أنتجته ولعبت دور البطولة فيه الفنانة ماجدة، من إخراج يوسف شاهين، و”إحنا التلامذة” الذي أحدث ضجة كبرى حينها نتيجة تطرقه لعلاقة الأسر بأبنائها للمخرج عاطف سالم. وبوصول أدب نجيب محفوظ للعالمية، تحولت أعمال له  في بعض الدول إلى أفلام سينمائية، مثل رواية “زقاق المدق” التي قدمتها السينما المكسيكية ومثلتها الممثلة “سلمى حايك” حيث أدت شخصية (لميتا) والتي تناظر شخصية حميدة في الرواية الأصلية لمحفوظ والتي سبق أن قدمتها الفنانة شادية بإمتياز أشاد به الكاتب بنفسه، ونال الفيلم جوائز دولية عديدة، فضلا عن جائزة آريل التى تماثل جائزة “الأوسكار” بالمكسيك، كما ترشح للدب الذهبى بمهرجان برلين، وأيضا في أذربيجان قدم فيلم “اعتراف” المأخوذ عن رواية “اللص والكلاب

وكذالك رواية “بداية ونهاية” التى قدمها المخرج المكسيكي “ارترو ريبستسين”، في تحويلها لفيلم عرض عام ١٩٩٣،  لم تختلف الأحداث والشخصيات عن القصة الأصلية، وكما جاءت في الفيلم المصري “بداية ونهاية” والذي كان أول رواية لمحفوظ تحول لفيلم سينمائي.

وترجمت معظم  أعماله الأدبية لكل اللغات تقريبٱ كما كانت رواياته مصدرًا لأعمال سينمائية كثيرة، وشكلت جزءا من تاريخ السينما المصرية.

اهل القمة

 أما عزت العلايلي فقد قدم دوره كما لو لم يكن ممثلاً على الإطلاق فقد إستطاع تجسيد مشاعر الضابط الشريف الذى تقهره الظروف ، وإن ظل متماسكا كإنسان رغم كل عوامل الإحباط المحيطة به، وقد عبر عن ذلك ببساطة وعفوية تحسب له،  وكان معبرٱ عند رفضه للواقع فى نهاية الفيلم، شديد المرارة حين قال بألم عميق “ياخسارة” لإدراكه أن الظروف الطارئة، على هذا المجتمع قد أضاعت أجمل مافيه من قيم …قدم العلايلى مع محفوظ سواء للسينما أو التليفزيون أو الإذاعة تقريبا اثنى عشر عملا، نذكر منها فيلم الاختيار وحماسة عزت بعد النكسة لعمل قوي يعبر عما يجيش في صدر الأمة، فكتب بضع صفحات عرضها على نجيب محفوظ فكان فيلم “الاختيار” من إخراج يوسف شاهين.

أما سعاد حسنى فستظل هى السندريلا المتألقة دائما، مهما كان الدور الذى تلعبه، ومهما كان حجمه فى الرواية فأثبتت أن الفنان الكبير يمكنه أن يجعل من أصغر الأدوار عملاقٱ حقيقيٱ، فقد أجادت تصوير مشاعر سهام إبنة الطبقة المتوسطة، التى تعيش فى كنف خالها، وتحت سياط لسان زوجته، والتى تحاول الخلاص من هذا الواقع المرير، فتتألق فى التعبير برعشة شفتيها، أو خلجات عينيها، أو نظرة كلها إنكسار فى لحظة سعادة عابرة، أو موقف إمتنان أو تحدى…كل ذلك قدمته سعاد حسنى بإقتدار وتميز … فالجميع تحت إدارة علي بدرخان متميزون يتمتعون بعناية إضافية، وهذه شهادة كل من عمل معه .

ينحدر على بدر خان من جذور كردية، درس في معهد السينما خلال الفترة التي قام خلالها يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وتوفيق صالح بالتدريس في المعهد…أخرج أول أفلامه (الحب الذي كان) وهو لا يزال في الثامنة والعشرين من عمره، وكان أبطاله سعاد حسنى ومحمود ياسين ، حصل على جائزة أحسن إخراج عن فيلم الكرنك في المسابقة التي أقامتها وزارة الثقافة لأفلام عام ١٩٧٥ .

قال عنه يوسف شاهين (يمكنني أن أمرض أثناء العمل في فيلم إذا كان مساعدي هو علي بدرخان، أعرف أنني يمكنني أن أعتمد عليه تمامٱ في غيابي وسيقوم بكل شيء كما لو كنت موجودًا)…وهو نجل المخرج أحمد بدرخان، وقد عمل مساعد مخرج معه منذ سنته الأولى بالمعهد ، كان يهوى التصوير الفوتوغرافي منذ الصغر.

وقع خلاف شهير تعرفه البيئة السينمائية بينه وبين السيناريست وحيد حامد حول طريقة تقديم مسرحية (جريمة في جزيرة الماعز) لأوجو بيتي على شاشة السينما، مما أدي لخروج القصة في فيلمين (الراعي والنساء) الذي أخرجه وكتب له السيناريو، وفيلم (رغبة متوحشة) لوحيد حامد وخيري بشارة .

أما مصطفى محرم فقد كان بارعٱ فى تقديم شخصياته، مبينٱ من الوهلة الأولى ملامحها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، فجعل تعارفها أو تقابلها أمرٱ منطقيٱ، وليس صدفة مفتعلة

صمم الموسيقار”جمال سلامة” الموسيقى التصويرية للفيلم ، وهو موسيقي مصري، من مواليد الإسكندرية،  نشأ فى عائلة فنية، فوالده حافظ أحمد سلامة كان مؤلفًا للموسيقى السيمفونية، وكان أخوه ملحنًا وعازفًا لآلة الأكورديون بفرقة سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وباقي عائلته الفنية كانوا يعملون بالمجال الفني .

إن قيمة “أهل القمة” تكمن فى أنه استطاع تقديم صورة لمجتمع تكاد تعصف به رياح التغيير المدمرة، التى تبدل قيمه وتعدل علاقاته، وتحليل  الظروف التى أفرزت أهل القمة الجدد، ليأتى الفيلم وثيقة فنية لتلك الفترة، بإشارتها الواعية وتحذيرها من تلك الطبقة  الطفيلية… ويصبح فيلماً هاماً وناجحاً، على صعيد النقاد والجماهير على حد سواء. وقد ساهم في نجاحه هذا، تركيزه على سلبية واحدة من سلبيات الانفتاح وهى (التهريب) بعيدٱ عن الضياع والتشتت في مواضيع كثيرة لاتفيد .

ونختتم حديثنا اليوم بإستعارة عبارة على لسان فراش المدرسة عند إكتشافه أن ناظر المدرسة فى فيلم(المذنبون) يبيع الإمتحانات فيقول :-

{ ياخسارة الناس الطيبين} .

العناصر السينمائية فى روايات نجيب محفوظ

(قراءة تجريبية)

د.مصطفى الضبع

نجيب مصطفى الضبع

الفيلم السينمائى نص مبصر والرواية فيلم مقروء ، والعلاقة بينهما ليست تتوقف عند حدود اعتماد السينما على النص المكتوب وإنما هى علاقة تبادلية تتقاطع في بعض زواياها وتتشابه في بعضها ، في الرواية يتعامل المتلقى مع لغة السارد الذى يتولى تقديم الأشخاص لذا فعملية السرد تقص عن ، وفى السينما يقوم المخرج بدور الروائى في تقديمه للأشخاص ولكنه لا يقص عنهم وإنما يجعلهم -عبر أفعالهم – يتحدثون عن أنفسهم وعن الآخرين من أبناء جنسهم ، المخرج يقدم أشخاصا حاضرين أمامنا يمثلون لحظة تاريخية تتزامن مع زمننا أحيانا وتتقاطع أحيانا أخرى ، لحظة تمثل امتدادا لطموحنا ، واستكمالا لخبراتنا وتجريبا لمعارفنا وخبراتنا المدخرة .

في اعتمادها على النص الروائى لا تنطلق السينما من فراغ ، أو من درجة الصفر بالمفهوم البارتى ( نسبة إلى رولان بارت ) وإنما يتضمن النص الروائى مبادئ اشتغال السينمائى وكلما زادت نسبة هذه المبادئ بات النص الروائى أكثر إغراء للسينمائى حيث كثير من النصوص الروائية تحمل في باطنها الكثير من الجينات السينمائية التى تجعل عمل السينمائى أكثر عمقا فبدلا من مجهود يبذل في تطويع النص الروائى للعمل السينمائى ، يبذل المجهود في تعميق الرؤية السينمائية لتكون قادرة على التعبير عن روح النص الروائى وفلسفة كاتبه .

ما قبل إنتاج بداية ونهاية  سينمائيا (1960) بوصفها الرواية الأولى المصورة سينمائيا لنجيب محفوظ كتب نجيب محفوظ سبعة عشر نصا سينمائيا مثلت إسهامه المبكر فى مجال السينما قبل أن تكون انطلاقته الروائية  السينمائية المؤسسة على ” بداية ونهاية ” ، وتتوزع مساحة النشاط السينمائى قبل هذه الانطلاقة على النحو التالى :

  1. قصة : قدم قصة واحدة ” بين السما والأرض ” من إخراج صلاح أبو سيف 1959.
  2. قصة وسيناريو : قدم ثلاثة أعمال ( فتوات الحسينية من إخراج نيازى مصطفى 1954- درب المهابيل من إخراج توفيق صالح 1955- احنا التلامذة من إخراج عاطف سالم 1959) .
  3. سيناريو : قدم عشر سيناريوهات وشارك فى إعداد اثنين .

وهو ما يعنى بداءة مساحة الخبرة السينمائية لا بوصفها مجرد عمل يمنح صاحبه بعض قدرات الأداء وإنما بوصفها مكونا من مكونات المبدع فى مرحلة مبكرة من حياة تجربته الإبداعية ومشروعه فى الكتابة فقد كانت الكتابة للسينما خطا موازيا يمثل وجها آخر من وجوه الكتابة المحفوظية ، تلك الكتابة التى قامت على عمادين أساسيين : السرد والسينما فإذا كان منجز محفوظ فى السرد معروفا وله شهرته وفق آليات قراءة السرد القائمة على أن اسم الكاتب شريكا أساسيا فى عملية التلقى فعلى خلاف ذلك لا يهتم المشاهد غير المتخصص بمعرفة ما دون الممثل فى العمل السينمائى ( [1] ) ، فإن الكتابة للسينما والإسهام في نشاطها عبر قناة محددة ( الكتابة ) تبدو غير معروفة بالقدر الذى كان عليه الحال في مجال الكتابة الفردية ، للدرجة التى يفاجأ المتلقى خلالها أن أعمالا غير قليلة يعرفها المتلقى وتكتسب شهرة كبيرة في السينما دون أن يعرف علاقتها بنجيب محفوظ بوصفه مساهما فيها ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

  • ريا وسكينة ( سيناريو) إخراج صلاح أبو سيف  1953. 
  • جعلونى مجرما (سيناريو ) إخراج عاطف سالم 1954.
  • درب المهابيل (قصة وسيناريو ) إخراج توفيق صالح 1955.
  • شباب امرأة ( شارك فى السيناريو ) إخراج صلاح أبو سيف 1955.
  • جميلة بوحريد ( السيناريو الأصلى ) إخراج يوسف شاهين 1959.

بداية ونهاية

وما بعد ” بداية ونهاية ” انفتحت العلاقة عبر خط جديد هو الرواية التى تأخذ طريقها إلى السينما فأنتجت إحدى عشرة رواية خلال تسع سنوات:

  • زقاق المدق (1947) أنتجت (1963) من إخراج حسن الإمام .
  • اللص والكلاب(1961) أنتجت  1963من إخراج كمال الشيخ .
  • بين القصرين (1956) أنتجت (1964) من إخراج حسن الإمام .
  • الطريق (1964) أنتجت (1965) من إخراج حسام الدين مصطفى .
  • خان الخليلى (1946) أنتجت (1966) من إخراج عاطف سالم .
  • القاهرة 30 (1945) أنتجت (1966) من إخراج صلاح أبو سيف .
  • قصر الشوق (1957) أنتجت (1967) من إخراج حسن الإمام .
  • السمان والخريف(1962) أنتجت (1968) من إخراج حسام الدين مصطفى
  • ميرامار (1967) أنتجت (1969) من إخراج كمال الشيخ .
  • السراب (1948) أنتجت (1970) من إخراج أنور الشناوى .
  • ثرثرة فوق النيل (1966) أنتجت (1971) من إخراج حسين كمال .

وقراءة القائمة تقف بنا عند بعض النتائج ذات الدلالة ، منها :

  • أن حركة الإنتاج السينمائى لم تسر فى خط زمنى مواز لحركة نشر الروايات فى طبعتها الأولى وهو ما يعكس توالى الإنتاج عبر خط ارتدادى يؤكده الفارق الزمنى بين الروايات فى طبعتها الأولى وتاريخ إنتاجها سينمائيا .
  • أن السينما حافظت على عناوين النصوص الروائية دون تغيير ( سنتوقف عند هذه النقطة لاحقا ) .
  • أن فترة السنوات العشرة تمثل مرحلة من مراحل نضج عدد من كبار المخرجين المصريين الذين يمثلون أعمدة أساسية في خارطة السينما العربية ، تلك المرحلة التى كانت من أخصب المراحل في تشكل العلاقة بين الرواية والسينما سواء في اعتمادها على الرواية العربية في مصر أو في تنبه كتاب الرواية إلى السينما واعتماد تقنياتها في الكتابة الروائية .

Closing Ceremony Inside - 68th Venice Film Festival
VENICE, ITALY – SEPTEMBER 10: Jury member Darren Aronofsky attends the Closing Ceremony during the 68th Venice Film Festival at Palazzo del Cinema on September 10, 2011 in Venice, Italy. (Photo by Gareth Cattermole/Getty Images)

تمثل أعمال نجيب محفوظ (الروائية خاصة ) نموذجا فريدا للنص السينمائى أو النص الروائى الذى يعتمد تقنيات السينما ـ إذ تحمل النصوص عوامل النص السينمائى وخصائصه ، وقد توافقت آراء معظم دارسى السينما في أدب نجيب محفوظ  أو تجربته السينمائية على ذلك مجمعة على أن نجيب محفوظ ينفرد بين كتاب العربية بعلاقة فريدة بالسينما سواء على مستوى الكتابة للسينما أو العمل بها أو صلاحية أعماله للسينما أو كم المنجز من أعماله سينمائيا ( [1] ) وقد أفرد الدكتور عبد التواب حماد  أربعة فصول لاستعراض أربعة من هذه المقومات ”  جماهيرية  المحتوى الفكرى – دقة وصف المرئيات – التعبير البصرى عن المجردات – الإيحاء بالعناصر السمع بصرية “( [1] ) وأضاف إليها نجيب محفوظ نفسه سمات يراها مما يستفيده الروائى من السينما أو ما يراه خلاصة تأثير السينما على الأدب  يقول :” السينما تؤثر من ناحية أخرى ، الإيقاع السريع والتركيز وهذا تأثير عام للسينما في الأدب ” ([1]) :

  1. جماهيرية المحتوى الفكرى : على الرغم من العمق الفكرى والفلسفى لأعمال نجيب محفوظ فإن محتواها الفكرى يمثل مستويات لا يصعب على المتلقين على اختلاف مستوياتهم الفكرية اكتشاف الرسالة الجمالية التى يطرحها النص ، ومع الإقرار بأن للروايات جميعها قضاياها الكبرى فإن القارئ لا يخفى عليه جوانب لا تقلل من قيمة العمل إن لم تكن قادرة على الوصول إلى نقطة العمق ، في روايته ” ليالى ألف ليلة ” قد يقف القارئ الباحث عن الحكاية عند مستوى إعادة إنتاج حكايات تتعلق بشهريار وشهرزاد وغيرهما ممن يعتمد القارئ في متابعتهما على حكايات الليالى الشهيرة ، وقد ينجح المتلقى المتعمق في الوصول إلى الوجه الآخر لليالى المحفوظية ممثلا في رصد الكاتب لليالى خارج قصر شهريار بوصفه الحاكم والمسؤول عن نظام حكم وشعب انشغل عنه بحكايات شهرزاد مجيبا عن تساؤل يطرحه المستوى الأعمق للنص : ماذا كانت عليه أحوال مدينة شهريار حال انشغاله بحكايات لم يعرفها الشعب إلا بعد أن فض الملك بكارة الحكايات بوصفه المستمع الأول لها ، وفى “زقاق المدق ” قد يقف القارئ عند حكاية محاولة الصعود التى أفضت إلى سقوط حميدة في الفخ دون أن يرى فيها جوانب اعمق بكثير مما يقتصر رؤيته عند مستوى الحكاية في جانبها البسيط ، إن المحتوى الفكرى لكثير من الروايات يطرح هذه الأبعاد المختلفة والمتنوعة التى يصعب الوقوف على نص واحد لاكتشافها لكونها سمة أساسية في إنتاج نجيب محفوظ عبر مراحل تجربته السردية ولكنه محتوى متعدد الأبعاد للدرجة التى تجعل المتلقين على اختلاف أفكارهم ومشاربهم يكتشفون في الروايات ما يؤكد أفكارهم أو ما يرونه ينتمى إلى أيدلوجياتهم ، وما ينطبق على القارئ ينطبق على النقاد على اختلاف مذاهبهم ( [1] )، ويعرض الدكتورعبد التواب حماد لأربعة أفكار يراها محققة جماهيرية النص المحفوظى ومدللا عليها من تلك الأعمال التى عرفت طريقها إلى السينما : “فكرة الظلم الاجتماعى – فكرة عدم التوافق مع المجتمع- فكرة الصراع بين الأجيال – فكرة السلوك المتناقض للسلطة والقيادات ” ( [1] ) وهى أفكار من شأنها الوقوف على مساحة كبرى من تاريخ المجتمع المصرى والعالمى كاشفة عن جماهيرية النص وقدرته على إنتاج جماهيريته عبر خطابه المميز .
  2. دقة وصف المرئيات : ما الذى يضيفه الوصف لما هو مرئى ؟ سؤال أولى يطرح نفسه في سياق الوصف الواقع على ما هو واضح وظاهر . فإذا أضفنا إلى ذلك أن من معانى الوصف الإظهار و الكشف ( [1] ) أصبح من الأهمية بمكان أن ندرك أن الوصف ينسحب على المرئيات المنظورة ، والمرئيات تشغل حيزا دلاليا من فضاء النص  وتشكل حيزا جغرافيا من مكانه ، ولكنها تتجاوز دورها في تشكيل جغرافية المكان إلى تشكيل جملة العلامات التى تتأسس عليها قراءة النص والتوصل إلى خطابه الجمالى .

في السينما يقوم الديكور بصياغة مكانية يكون على الكاميرا أن تسحب المشاهد لتكون عينه في استكشاف التفاصيل ، وفى الرواية تعمد اللغة إلى تشكيل التفاصيل وتصويرها معتمدة المبدأ البلاغى القائل : أن البلاغة قائمة على مبدأ حرية الاختيار فما يطرحه الروائى يندرج في أبسط تركيباته فيما يسمى قصد المؤلف ، هنا تتحول المرئيات إلى علامات لغوية تنافس المفردات اللغوية فإذا كان لكل لفظ وظيفته الدلالية التى لا يمكن الاستغناء عنها ، فإن المرئيات من أشخاص و أشياء وأمكنة داخلية خاصة وممتلكات وغيرها يصبح لوجودها أهمية يصعب تجاوزها كما يصعب الاستغناء عنها ، ومع كثرة ما يمكن طرحه والوقوف عنده من مقاطع وصفية إذ يستحيل الإحاطة في مثل هذه السطور بكل ما أبدعه نجيب محفوظ من مساحات وصفية فإن الوقوف عند مشهد يمكن أن يكون عينة عشوائية دالة على حركة كاميرا السارد :” الوجوه تتطلع إليه مستفسرة .. حتى قبل أن ترد تحيتك .. حنان رقيق مخلص ولكن ما أفظع الضجر .. الحموضة التى تفسد العواطف الباقية .. ولاحت من ورائهم الشرفة الكبيرة المطلة على النيل من الدور الرابع .. وتبدى عنق زوجك من طاقة فستانها الأبيض غليظا متين الأساس .. واكتظت وجنتاها بالدهن ، وقفت كتمثال ضخم ملئ بالثقة والمبادئ ، وضاعت عيناها الخضراوان تحت ضغط اللحم المطوق لهما أما ابتسامتها فمازالت تحتفظ ببراءة رائقة ومحبة صافية ……………………….. واعتمدت بثينة بكوعها على كتف تمثال برونزى لامرأة باسطة الذراعين في هيئة مرحبة وتطلعت إلى أبيها في تشوق بعينيها الخضراوين ، وهى تكرر صور أمها عندما كانت في الرابعة عشرة ، بقامتها الرشيقة ، ولكن يبدو

أنها لن تتعملق مع الأيام ولن تسمح للدهن بأن يغطى على صفائها ” ( [1] )، زمنيا يرسم المقطع الذى تتخلله جملتان حواريتان مساحة زمنية تمتد بين الماضى والمستقبل ، وسرديا يجمع السارد بين الوصف والسرد ، ووصفيا يجمع السارد بين الوصف السردى والصفة النحوية ( [1])، ويعمد إلى تفكيك الصفة إلى أوصاف لها قوة التأثير على السياق ، فالصفات النحوية ( النعوت ) التى تمثل بنية صوتية قصيرة المدة لكونها تعتمد مفردة واحدة يمكن اختزالها سينمائيا في واحدة من عناصر اللون أو الحجم أو المساحة يعمد السارد إلى تفكيكها في أوصاف كما في جملة الوصف لابتسامة الزوجة ” فمازالت تحتفظ ببراءة رائقة ومحبة صافية” التى كان من التقليدى أن يكتفى بصفات نحوية متعددة ابتسامتها البريئة الرائقة ، غير أن دخول الفعل ” تحتفظ ” شأنه شأن الأفعال الأخرى التى تنحو النحو نفسه تعمل على تضفير ما يمكن تسميته بالسرد الداخلى ، داخل الوصف وفى إحالة الفعل أيضا إلى مسند إليه ( شخصية يكشف الفعل عن طبيعتها الداخلية ويتضافر مع غيره من الأفعال في تقديم صورة دالة للشخصية ) ، الأوصاف والصفات هنا تقوم بدور مجازى يقارب دور التشبيه في توجيهه المتلقى إلى عناصر من شأنها أن تصور الشخصية وتطرح فاعليتها بصورة أعمق ، ويبلور الدكتور عبد التواب حماد فكرته عن الدقة في الوصف من خلال ثلاثة عناصر أساسية : وصف المكان – وصف الحدث – وصف البعد المادى للشخصية ( [1] ).

  • التعبير البصرى عن المجردات : وهى تقنية يعتمدها نجيب محفوظ لتجسيد المعانى والمشاعر والانفعالات والمشاعر الباطنية ومساحات الزمن ، جاء على لسان عثمان بيومى في “حضرة المحترم” مجسدا سلطة الدولة وهيبتها : ” إن الدولة هى معبد الله على الأرض ، وبقدر اجتهادنا فيها تتقرر مكانتنا في الدنيا والآخرة ” ( [1] )، ومجسدا طبيعة الوظيفة :” الوظيفة حجر في بناء الدولة ، والدولة نفحة من روح الله مجسدة على الأرض ” ( [1] ) ولا يمتد الأمر إلى التعبير عن الزمن :” فإن محفوظ يعمد إلى التعبير عن ذلك مستعينا بمجموعة من المظاهر البصرية تتجمع في النهاية لتؤكد على مرور الوقت ، كما فعل مثلا في السكرية إذ يقول في وصفه :” بيت غشاه الزمن بالكآبة ” وهو يؤسس بهذه الجملة لتبدل الأحوال مع مضى الزمن ، ثم لا يلبث أن يعود بالسيد احمد عبد الجواد من سهرته في التاسعة لينام في العاشرة ويقرر له طعامه من خلال تذكرة الطبيب واختزال عشائه إلى سلطانية زبادى وإلباسه الملابس الصوفية في وقت يشيع فيه الجو اللطيف .. فيدلنا باجتماعها على تبدل الأحوال مع الزمن ” ([1]  )  .
  • الإيحاء بالعناصر السمع بصرية : وتتجلى من خلال تقنيتى التصوير والمونتاج معتمدا زوايا ذات دلالة خاصة ليس بإمكان زوايا غيرها أن تطرح رؤية الكاتب وتقديم عالمه ويمكن للمتلقى المتابع للمسافة التصويرية بين رصد المشاهد الكلية للمكان بما يعنى انفتاح الكاميرا على مشهد ما ، وبين اعتماد الضوء بوصفه موسيقى خالقة إيقاعا بصريا في المشهد ، ما بين الاثنين تتشكل عناصر لها قوة الإيحاء الدال ، في القاهرة الجديدة : ” ووجد نفسه في شارع الفسطاط مرة أخرى ولفحته ريح باردة عاتية لم يدر متى هبت ، تهز الأغصان فيضج الطريق بحفيفها وتصفر بين الجدران فيصم الآذان زفيفها ، فسرت إلى جسمه المتعب رعدة تمشت في مفاصله ” ( [1] )

تصوير داخلى

فى رواية ” حضرة المحترم ” يعتمد السارد على التصوير الداخلى غير أن نوعين من الداخل يتجسدان إزاء المتلقى : داخلى فى المكان ، وداخلى فى النفس ، الأول متعدد التفاصيل ولكنه يكاد يكون أحادى الدلالة ، والثانى أحادى المشهد ولكنه متعدد الدلالة ، الأول يتمثل فى مجموعة الأحياز المكانية التى تتحرك الكاميرا عبرها حركتها المؤسسة ويمكن اختزالها فى  : منزل البطل – مكان العمل – بيت قدرية – بيت راضية .

حضرة المحترم

والثانى يكتسب أحاديته من كونه يترسب فى نفسية البطل عثمان بيومى ويتصف أول ما يتصف بالثبات حيث الكاميرا تكون ثابتة على لوحة واحدة تصور طموح عثمان وحركته الهادفة للوصول إلى هذا الطموح ،  هنا يكون الهدف نقطة فى العمق والبطل يشبه الكاميرا فى حركتها للقيام بحركة زوم لتجعل المشاهد قادرا على استكشاف أبعاد المشهد أولا والسمات المشكلة لنقطة الوصول ثانيا والكاميرا فى حركته الزومية هذه تلتقط مشاهد ثانوية تمثل مكونات تفضى إلى النقطة الأساسية ، وتتجلى فيما يستجد من أحداث لا يعرفها المتلقى ولكنها تفضى إلى الهدف ، لقد كشفت الرواية لمتلقيها منذ الصفحة الأولى هدف البطل مما يجعل الهدف نهاية متوقعة ومكشوفة للمتلقى المتسائل وماذا بعد ؟ ، هنا يكون العبء واقعا على التفاصيل التى تمر بها الكاميرا مفضية إلى نهاية إن سمحت الرواية لنا بمعرفتها أو توقعها فإنها لم تسمح لنا بمعرفة هذه التفاصيل أو توقعها بدرجة ما ، هنا نحن إزاء مشهد سينمائى تتحرك فيه الكاميرا من أعلى فى ممر طويل نسبيا – زمنيا  بالأساس – وفى حركتها تقوم الكاميرا بعملية مسح للممر وصولا إلى النقطة الثابتة هذه

تقنية الاستديو 

فى السينما تصور آلاف الأفلام فى استديو واحد ، يعد الاستديو لتصوير آلاف الأفلام وهو ما يعنى أنه قد يكون هناك ديكور واحد لفيلم واحد ولكن ليس هناك  استديو واحد لفيلم واحد ، وقد جعل نجيب محفوظ الحارة المصرية تقوم بدور الاستديو الكبير لعدد من الروايات ، ولكنه استديو منفتح يتيح مساحة من الحركة داخل القاهرة بحيث كانت الحارة بمثابة مساحة الاستديو الذى يحتضن التصوير الداخلى وتكون القاهرة خارج الحارة بمثابة استديو خاص بالتصوير الخارجى ، ويمكن رصد ثلاثة أمكنة عامة تمثل ثلاثة استديوهات كبرى وضعها نجيب محفوظ لتكون مسرحا لأحداث رواياته :

روايات تاريخية

  1. المرحلة التاريخية : وتضم الروايات الثلاثة عبث الأقدار – رادوبيس – كفاح طيبة ولا يبتعد الأستديو كثيرا عن الحارة الشعبية التى ظهرت فى المرحلة اللاحقة فقد انحازت الروايات الثلاثة فى جانب منها إلى الشعب بوصفه مصدرا للسلطة تلك السلطة التى منحها الكاتب للحارة الشعبية الأكثر شهرة فى أعمال الكاتب
  2. المرحلة الواقعية داخل القاهرة : وهى المرحلة التى بنى فيها نجيب محفوظ أكبر استديو روائى عرفته الرواية العربية ، فلم يكن أى من المخرجين الذين قدموا أعمال نجيب محفوظ الروائية للسينما ليغير من طبيعة الحارة المصرية أو لنقل الحى الشعبى الذى شكل نجيب محفوظ تفاصيله وتجلى فى معظم أعماله إن لم يكن كلها على اعتبار أن النسبة القليلة جدا من أعماله تمثل استثناء للقاعدة .
  3. المرحلة الواقعية خارج القاهرة : وتمثل ” ميرامار ” النموذج الأوفى والأوضح لهذا الجانب حيث الخروج عن القاهرة إلى الإسكندرية .

العنوان السينمائى والعنوان المتحول

مابين الرواية والسينما يقطع العنوان طريقا يصاب فيها بالتغيير أحيانا ، وعلى الرغم من أن الأمر يخضع لرؤية المخرج أو السيناريست من قبله روايات نجيب محفوظ السينمائية لم يتغير عنوانها ولم يصبها التحول الذى يحدث فى العنوان ما بين الرواية والسينما فما بين الوسيطين ( المكتوب والمصور ) قد يتحول العنوان بأن يعمد المخرج أو السيناريست إلى تغيير العنوان ( مالك الحزين والكيت كات ) غير أن رؤية الكاتب التى تتطابق مع رؤية المخرج أو السيناريست تقف دون محاولة الطرف الأخير تغيير العنوان وعلى الرغم من أن تغير الوسيط يعنى غالبا تغير الرؤية ومن ثم تغير أوضاع التلقى فإن التغير الحتمى فى مجريات الرؤية لا يفرض مطلقا تغير العنوان من النص المكتوب إلى النص المنتج سينمائيا ، وقد سارت السينما على نهج المؤلف الروائى دون أن تجرى تغيراتها التجارية مثلا تأثرا بما تفرضه ظروف الإنتاج والتوزيع والشباك من عوامل لها تأثيراتها السلبية على الفن وجمالياته فى كثير من الأحيان .

وعبر رواياته لم يعمد نجيب محفوظ فى عنونته إلى تلك الصيغ المعقدة ولا الصيغ المركبة وإنما جاءت العناوين الروائية تنتظمها ثلاث صيغ أساسية :

  1. صيغة اللفظ المفرد : رادوبيس – المرايا – الكرنك – الحرافيش – السكرية – السراب – الشحاذ – ميرامار – الطريق – قشتمر .
  2. صيغة التثنية: سواء بالإضافة (عبث الأقدار – كفاح طيبة – زقاق المدق –  بين القصرين – قصر الشوق – قلب الليل – حضرة المحترم – خان الخليلى – أفراح القبة – عصر الحب )أو بالعطف (اللص والكلاب – السمان والخريف ) أو الصفة والموصوف ( القاهرة الجديدة ) .
  3. صيغة التثليث : الحب تحت المطر – ليالى ألف ليلة – ثرثرة فوق النيل – يوم قتل الزعيم – الباقى من الزمن ساعة- حديث الصباح والمساء  ) .

وهى صيغ شديدة الإحكام تعتمد نهجا يقوم على بناء من الأسماء لا الأفعال مما يؤكد فكرة كون العنوان مبتدأ خبره النص ، كما أنها تطرح صيغة سينمائية شديدة التركيز لها إيقاعها الدال تشبه الرصاصة الموجهة إلى مقصدها دون مواربة ، وهو ما يؤكد حرص السينما على عناوين الروايات دون تغيير باستثناء حالات لا يقاس عليها ( الشحاذ تغير عنوانها فى الفيلم إلى الشحات ، والحكاية السابعة من حكايات الحرافيش ” جلال صاحب الجلالة ” تغير عنوانها إلى ” أصدقاء الشيطان ” ) ومن الملاحظ أن الأعمال القليلة التى جرى التغيير فى عناوينها لم تحقق شهرة تنافس شهرة الأعمال الأخرى التى حافظت على نسق العنوان المحفوظى .

الاستهلال السينمائى

منذ عتباتها الأولى (لوحة الغلاف – اسم المؤلف – العنوان ) تطرح روايات نجيب محفوظ بعدا بصريا يتمثل فيما يطرحه العنوان أولا ولوحة الغلاف ثانيا من تصور يتجسد فى لوحة الغلاف التى تكون عزفا على عنصرين أساسيين  : مضمون الرواية ، وأبطالها ، وأغلفة الروايات فى مجملها تخضع لمنطق القارئ الأول ( الفنان التشكيلى ) إذ هى أغلفة أنتجت خصيصا للنص ، وهى تمثل تأثيرا للنص الذى يسبقها بمرحلة الإنتاج ، وتأتى الأغلفة تجسيدا لرؤية سابقة على الغلاف ، رؤية استوعبت قدرا كبيرا من معطيات النص / النصوص لذا يكون من المنطلقى أن تجسد لوحات الأغلفة معظم شخصيات الروايات ، حاملة تصورا يحمله المتلقى بوصفه نموذجا بصريا للشخصية يحكم عملية التلقى ، ويمكن التمثيل بنوعين من الأغلفة :

  •  الأول : تمثله “قصرالشوق” التى يقتصر غلافها على وجه السيد احمد عبد الجواد وصورة لجليلة والشخصيتان فى وضعيتهما يطرحان مساحة من التناقض بين جدية السيد أحمد عبد الجواد( فى حدود الصورة ) ومرح جليلة الظاهر والسيد أحمد عبد الجواد الذى كان قد ترسخ وجوده فى الجزء الأول من الثلاثية (بين القصرين ) فإنه هنا يقوم بدورين ذى طبيعة سينمائية ، أولهما : كونه الشخصية السابقة المتجسدة فى ذهن المتلقى سابقا مما يجعله هنا الشخص المعروف ويقوم بدور جديد فى سياق الجزء الثانى من الثلاثية ، وثانيهما : كونه نموذجا معروفا من قبل يمثل وجوده هنا نوعا من الترسيخ لوجوده السابق .
  • الثانى : تمثله ” اللص والكلاب ” التى خرج غلافها عن النسق التقليدى السائد لأغلفة روايات نجيب محفوظ فلم يكتف الغلاف بتصوير ملامح لشخصية اللص مثلا كما يتجلى فى الروايات الأخرى التى تطرح أغلفتها فى الغالب ملامح أبرز الشخصيات (راجع بداية ونهاية أو المرايا أو ميرامار أو الطريق أو السراب أو غيرها من أعمال نجيب محفوظ ) وإنما جاء الغلاف متضمنا ثلاث علامات أساسية أولاها وأبرزها يدان يمثلان الجزء الفاعل فى الإنسان ، ذلك الجزء الذى يختزل فى يد تطلق الرصاص من مسدس موجه نحو الكلاب ، وثانيها امرأة تحمل صندوقا بيد وحقيبتها فى اليد الثانية وتنظر فى قلق كأنها تتابع ما يحدث ، وثالثها فى الخلفية تبدو صورة سلويتية لكلاب وشواهد قبور .

وفق المنظور السينمائى يمكن تقسيم أغلفة روايات نجيب محفوظ فى طبعتها الأكثر شهرة (طبعة مكتبة مصر ) إلى قسمين أساسيين :

  • أولهما : الغلاف الأفيشى : وهو الأفيش المتضمن تصويرا لحدث أو حركة تعبيرية تشى أو تقدم رؤية القارئ الأول (الفنان التشكيلى منتج الغلاف تأثرا بقراءة الرواية قبيل طباعتها ونشرها ) وهو غلاف له طبيعته البصرية والتعبيرية ويمثل واحدا من الطرائق المتكررة فى روايات نجيب محفوظ تلك الطرائق الجاذبة والمؤثرة فى عملية التلقى ويأتى وفق هذه الطريقة أغلفة روايات :(عبث الأقدار – رادوبيس – كفاح طيبة – اللص والكلاب – الطريق –  الشحاذ – المرايا- الحب تحت المطر – الكرنك- حضرة المحترم – عصر الحب – أفراح القبة – الباقى من الزمن ساعة – رحلة ابن فطومة – العائش فى الحقيقة – يوم قتل الزعيم – حديث الصباح والمساء – قشتمر) للغلاف هنا مستويان أولهما يتصدر اللوحة ويتضمن صورة أقرب للبورتريه ، وثانيهما فى خلفية اللوحة وهو أقرب للتعبير عن حدث ما أو معنى ما يجسده الفنان التشكيلى مستخلصا إياه  من خلال الرواية وأحداثها المتعددة مما يجعل من اللوحة أفيشا مكتمل الأركان الفنية من لون وتصوير ومحاولة اختزال الكثير من المضامين والسعى لتوظيفها فى التأثير على المتلقى بصريا لجذب انتباهه بالقدر الذى يدفعه إلى تلقى النص أو محاولة الاقتراب من عالمه ، وسيميولوجيا
  • ثانيهما : الغلاف البورتريهى : وهو غلاف يميل إلى اعتماد ملامح شخصية أو أكثر بطريقة الكلوز أب close up بمفهوم السينما ( [1] ) حيث يطرح الغلاف صورة بورتريهية لشخصية أو أكثر من شخصيات الرواية كما فى أغلفة الثلاثية وقلب الليل والمرايا وغيرها من أغلفة تشكل النموذج الأكثر ظهورا فى مشروع الكاتب .

 

ينتظم الرواية عدد من الاستهلالات الأساسية يمكن ترتيبها تنازليا :

  1. الاستهلال الوصفى : وهو استهلال بصرى بالأساس ، يعمد إلى طرح مجموعة من التفاصيل الذهنية التى يروح ذهن المتلقى فى تركيبها للوصول إلى صورة تمنحه قدرا من الدخول فى طقس عالم النص ، حيث الاستهلال يحرك الكاميرا على مساحة محددة من المكان منتجة مشهدا يشكل سمات المكان وأبعادهومنتجة وظيفة تأهيل المتلقى لما سيحدث فيما بعد كما نجده فى “القاهرة الجديدة ” :” مالت الشمس عن كبد السماء قليلا ولاح قرصها من بعيد فوق القبة الجامعية الهائلة ، كأنه منبثق منها إلى السماء ، أو عائد إليها بعد طواف ، يغمر رؤوس الأشجار والأرض المخضرة وجدران الأبنية الفضية والطريق الكبير الذى يشق حدائق الأورمان بأشعة لطيفة : امتصت برودة يناير لظاها ، وبثت فى حناياها وداعة ورحمة ….فى السماء دارت حدآت حيارى : وعلى الأرض انطلقت جماعات الطلبة .. ” ( [1] ) .
  2. الاستهلال السردى : حيث التركيز على الحدث والدخول فيه مباشرة وهو استهلال أقرب إلى طبيعة السينما التى تميل إلى الدخول فى الحدث مباشرة وتراهن على حرص متلقيها على اكتشاف الحدث مبكرا بثا للقدر الأكبر من التشويق اللازم لاستمرار التواصل مع المتلقى ، فى الثلاثية بأجزائها الثلاثة يأتى الاستهلال مباشرا فى طرح الحدث :
  3. فى ” بين القصرين” : عند منتصف الليل استيقظت ، كما اعتادت أن تستيقظ فى هذا الوقت من كل ليلة بلا استعانة من منبه أو غيره ” ( [1] ) “
  4. فى “قصر الشوق“: “أغلق السيد أحمد عبد الجواد باب البيت وراءه ، ومضى يقطع الفناء على ضوء النجوم الباهت فى خطوات متراخية وطرف عصاه ينغرز فى الأرض التربة كلما توكأ عليها فى مشيته المتثائبة ” ( [1] ).
  5. فى السكرية” :” تقاربت الرءوس حول المجمرة وانبسطت فوق وهجها الأيدى ، يدا أمينة النحيلتان المعروقتان ، ويدا عائشة المتحجرتان ، ويدا أم حنفى اللتان بدتا  كغطاء السلحفاة ، وأما هاتان اليدان الناصعتان البياض الجميلتان فكانتا يدا نعيمة وكان برد يناير يكاد يتجمد ثلجا فى أركان الصالة ” ( [1]) ، تجمع الاستهلالات الثلاثة على عدة أمور ، أولها : الاستهلال السردى فى اعتماده على حدث أولى يمثل المادة الخام لما تطرحه الرواية من نظام سردى خاص تتشكل منه الأحداث الروائية ، وثانيها الاستهلال السينمائى بتقديم الشخصية بوصفها النظام الاستراتيجى للسرد فالمتلقى حال متابعته لمشهد ما يبحث أول ما يبحث عن الشخصية من حيث هى محركة للحدث أو يحركها الحدث ، وعندما تنفتح عدسة الكاميرا عن مشهد ما يروح المتلقى يبحث عن الإنسان فإن وجده فإنه يبحث فى طبيعته وما سيكون عليه دوره فى نطاق المشهد وإلى أى مدى يمكن لملامح فعله أن تقدم مادة أولية من شأنها أن تنتج عناصر سردية ذات أهمية فى سياق  السرد
  6. الاستهلال الحوارى : وهو استهلال صوتى بالأساس لا يقوم على حوار بين شخصيتين بالمعنى التقليدى للحوار فقد يكون حوارا صامتا تقوم الشخصية فيه بمحاورة العالم من حولها فى لحظة ما ، و حيث يعمد النص إلى محاولة التقاط التفاصيل لاستكشاف العالم عبر الحوارى الذى يعتمد خاصية الإخبار الكاشف عن المتحاورين أولا وعن طبيعة النص وعالمه ثانيا ، فى “قلب الليل ” يبدأ النص بصوتين تتوسطهما مساحة من السرد والوصف :” قلت وأنا أتفحصه باهتمام ومودة : – إنى أتذكرك جيدا . 

انحنى قليلا فوق مكتبى وأحد بصره الغائم . وضح لى من القرب ضعف بصره ، نظرته المتسولة ومحاولته المرهقة لالتقاط المنظور وقال بصوت خشن عالى النبرة يتجاهل قصر المسافة بين وجهينا وصغر حجم الحجرة الغارقة فى الهدوء : حقا ؟؟ لم تعد ذاكرتى أهلا للثقة ، ثم إن بصرى ضعيف ” ( [1] ).

الاستهلال هنا يعمد إلى توظيف الأصوات لتقديم المعلومات الأولية فى سياق المشهد السينمائى قبيل تشكله ، وهى تقنية استثمرتها السينما الحديثة فى نطاق تجريبى يتجاوز التقنيات التقليدية ( [1] )

رسم الشخصية

عبر تجربته الروائية وعلى مدار مشروعه السردى ، نجح نجيب محفوظ فى رسم عدد غير قليل من الشخصيات التى لم تكتف بوجودها الورقى داخل النصوص الروائية أو القصصية ، وإنما تجاوز بعضها هذا الوجود إلى وجود يقارب الوجود التاريخى خارج النص ، وفى مقدمة هذه الشخصيات السيد احمد عبد الجواد بطل الثلاثية ونموذجها الجماهيرى ، أو ” سى السيد ” النموذج الذكورى لعالم الثلاثية بكل ما يطرحه من تفاصيل ذات طبيعة تصويرية للشخصية الاجتماعية ( لاحظ أن الجميع يتعامل مع سى السيد عبر صيغة خطاب تسند إلى أمينة المرأة / الزوجة بكل ما يحمله الخطاب من دلالات الطاعة والاعتراف بسيادة الرجل ، ولسنا هنا بصدد مناقشة جوانب السيادة ومساحات سيطرتها وإنما للتأكيد على جماهيريتها على الرغم من كونها شخصية ذكورية ليس لها جاذبية الأنثى مثلا كما هو الحال عند شهرزاد وكلاهما ( سى السيد وشهرزاد ) تجمع بينهما سمة أساسية كونهما شخصية ورقية أخذت قوة الوجود التاريخى وبات كل من يتعامل مع أى منهما يقاربها من منظور اجتماعى يطرحها بوصفها شخصية كانت هنا يوما وتحركت على الأرض فى لحظة تاريخية ما ، وقد كان للاختيار المناسب لممثل من نوعية ” يحيى شاهين ” دوره فى ترسيخ الشخصية عبر تجسيدها على شاشة السينما  .

بين القصرين 2

إن تصور الروائى للشخصية يفضى إلى المعنى المجرد / القيمة ، وتصور المخرج يفضى إلى تجسيد الشخصيات القادرة على تجسيد القيمة ، ومن ثم يهتم المخرج بدقة اختيار الممثل المناسب للوصول إلى تصور الروائى ممررا بتصور المخرج الذى يكون عليه ترجمة لغة المؤلف فى إشارات وحركات يوجه من خلالها الممثل وصولا إلى مستوى أعلى من ترجمة اللغة السردية ، وهو ما يجعل الممثل يبدو علامة سينمائية لها قدرتها فى إنتاج الدلالة كما بثها الروائى وتصورها المخرج وترجمها الممثل ، وكثير من حركات الممثلين تكون شديدة الدلالة على قدرات المخرج فى تصور الشخصية كما تطرحها اللغة السردية ، يؤكد هاشم النحاس فى مقاربته رواية “بداية ونهاية ” سينمائيا للمخرج القدير صلاح أبو سيف :” أبرز ما يستخدمه صلاح ابو سيف من عوامل الصورة السينمائية هو الممثل ………..ولا يرجع ذلك إلى قدرة صلاح أبو سيف وحدها على اختيار الممثل المناسب للدور ، ذلك أنه من الممثلين من يقوم بنفس الدور تقريبا مع مخرج آخر ولا يصل إلى نفس النتيجة وإنما يرجع أيضا إلى قدرته على توجيه الممثل فى حركاته وإشاراته بما يتفق والشخصية التى يقوم بها …… ولأنه يختار الممثل جيدا وفقا لمفهوم الشخصية الواضح فى ذهنه ويعرف كيف يوجهه وكيف يختار ملابسه وكيف يوظف بقية العناصر السينمائية الأخرى لتدعيم دوره ، نجد من الممثلين من وصل إلى أرقى مستوياته وقدم أفضل أدواره فى أفلام صلاح أبو سيف ” ( [1] ).

ولا يعتمد نجيب محفوظ طريقة واحدة فى رسم الشخصية عبر أبعادها الثلاثة وإنما يعمد إلى تنويع الطرائق التى تبدو ألوانا فى ريشة الرسام ، ويكفى الإشارة إلى واحدة من طرائقه الفذة فى رسم البعد الجسمانى لشخصية عم كامل بائع البسبوسة فى ” زقاق المدق ” حيث يرسمه جسمانيا قياسا للكرسى الذى يجلس عليه :” ومن عادة عم كامل أن يقتعد كرسيا على عتبة دكانه – أو على الأصح – يغط فى نومه والمذبة فى حجره ، لا يصحو إلا إذا ناداه زبون او داعبه عباس الحلو الحلاق ، هو كتلة بشرية جسيمة ، ينحسر جلبابه عن ساقين كقربتين ، وتتدلى خلفه عجيزة كالقبة ، مركزها على الكرسى ومحيطها فى الهواء ذو بطن كالبرميل ، وصدر يكاد يتكور ثدياه ، لا ترى له رقبة فبين الكتفين وجه مستدير منتفخ محتقن بالدم ………..” ( [1] ) ومع متابعة الملامح التى يرسمها السارد تتجسد صورة الشخصية فتترسخ فى تصور متلقيها وتمثل نوعا من الدافع لاختيار المخرج ممثليه وفق مقاييس الشخصية المرسومة سرديا ، وهو ما ينطبق بدرجة ما على وصف السارد للمكان فى علاقته بالشخصية ( راجع وصفه لصالون الحلاق عباس الحلو بعد رسمه للصورة للملامح الأولى لشخصية عم كامل ) .

إن الدراسة المتأنية التى يتوفر لها الوقت والمساحة لقادرة على الكشف عن كثير من العناصر السينمائية فى أعمال  أول أديب يكتب للسينما وأكبر روائى مثلت أعماله زادا ثريا للشاشة الفضية ، إنه نجيب محفوظ وإنها رواياته الخالدة التى تستجيب لأى منهج نقدى ولكن استجابتها لا تعنى أنها تبوح بكل أسرارها وإنما تبقى تتضمن جواهرها من الأسرار وإن تعددت المقاربات واتسعت رؤاها وادعى أصحابها أنهم أحاطوا بجوانبها وتفاصيلها .

Closing Ceremony Inside - 68th Venice Film Festival
VENICE, ITALY – SEPTEMBER 10: Jury member Darren Aronofsky attends the Closing Ceremony during the 68th Venice Film Festival at Palazzo del Cinema on September 10, 2011 in Venice, Italy. (Photo by Gareth Cattermole/Getty Images)

السينما المكسيكية أكثر صدقا وقربا في فهم أدب نجيب محفوظ من السينما المصرية

رويترز

يرى بعض النقاد أن السينما المكسيكية التي قدمت فيلمين عن روايتين لنجيب محفوظ أولهما (بداية ونهاية) الذي أخرجه أرتورو ريبستين عام 1993 و(زقاق المعجزات) عن رواية (زقاق المدق) من إخراج خورخي فونس عام 1994 وقامت ببطولته سلمى حايك، كانت أكثر صدقا وقربا إلى أدب الكاتب المصري الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1988 من السينما المصرية.

وكان محفوظ أقرب الأدباء المصريين إلى السينما حتى إن الناقد  اللبناني إبراهيم العريس أطلق عليه “أديب السينمائيين وسينمائي

الأدباء” كما كان أيضا الروائي الأوفر حظا في تحويل أعماله للسينما بل  إن بعض أعماله أعيد إنتاجها.

ففي عام 1964 أخرج حسام الدين مصطفى فيلم (الطريق) عن رواية  (الطريق) التي قدمت عام 1986 بمعالجة أخرى في فيلم (وصمة عار) لأشرف  فهمي الذي قدم أيضا معالجة لرواية (اللص والكلاب) في فيلم (ليل وخونة)  عام 1990 تختلف عن فيلم (اللص والكلاب) الذي أخرجه كمال الشيخ في  الستينيات وفيلم ثالث أنتجته أذربيجان منذ سنوات بعنوان (اعتراف) عن

الرواية نفسها.

وأنتجت السينما المكسيكية فيلمين عن روايتين لمحفوظ أولهما (بداية  ونهاية) الذي أخرجه أرتورو ريبستين عام 1993 و(زقاق المعجزات) عن  رواية (زقاق المدق) من إخراج خورخي فونس عام 1994 وقامت ببطولته  سلمى حايك.

وقال العريس في دراسة ضمن كتاب (نجيب محفوظ سينمائيا) إن ريبستين  رأى المكسيك من خلال رواية محفوظ التي لم يجد صعوبة في تحويلها إلى فيلم.

وأضاف أن محفوظ شاهد الفيلم ولمح “من دون أن يقول صراحة (إلى) أنه  للأسف وجد أن هذا الفنان المكسيكي أي ريبستين قد فهم أدبه سينمائيا  أفضل مما فعل أي سينمائي عربي. تهذيب محفوظ الفائق منعه من قول هذا.”

والكتاب الذي يضم دراسات ومقالات يقع في 160 صفحة متوسطة القطع  وأصدره مهرجان أبوظبي السينمائي الشهر الماضي ضمن أنشطة دورته الخامسة  التي احتفل فيها بذكرى مرور 100 عام على ميلاد محفوظ (1911-2006) وعرض  ثمانية أفلام مأخوذة عن أعماله هي (بداية ونهاية) و(بين السماء والأرض)  لصلاح أبو سيف و(درب المهابيل) لتوفيق صالح و(الجوع) لعلي بدرخان و (بين  القصرين) لحسن الإمام و(اللص والكلاب) لكمال الشيخ إضافة إلى الفيلمين

المكسيكيين (بداية ونهاية) لريبستين و(حارة المعجزات) لفونس.

وقالت الكاتبة باث أليثيا جارسيا دييجو إنها وقعت في هوى (بداية  ونهاية) واقترحت على زوجها المخرج ريبستين أن تعدها للسينما قائلة له  “ذا لم أعدها سأموت” وإنها اكتشفت أن عالم محفوظ قريب منها مثل اي  كاتب من “بلدي”.

وأضافت في مقال عنوانه (محفوظ.. روابط من الطرف الآخر) وترجمه  السوري رفعت عطفة أنها أعدت أعمالا لكتاب غربيين منهم الفرنسي جي دي  موباسان والنرويجي هنريك إبسن ولم يثر ذلك دهشة أحد إلا أن الأمر اختلف  مع إعداد رواية لكاتب من العالم الثالث.

وقالت “يغيظني أن يجد الناس غرابة في إعداد عمل مصري. أعتقد أن  التفسير الوحيد موجود في عوائق الفكر الاستعماري فالمرء يستطيع أن يتبنى  المركز. ينسخه. ينافسه. لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك مع مثيله. مع فقير  آخر من الأطراف.”

وقال الناقد المصري كمال رمزي إن الفيلم المكسيكي (حارة المعجزات)  الذي أنتج بعد ثلاثة عقود على إنتاج الفيلم المصري (زقاق المدق) الذي  أخرجه حسن الإمام عن الرواية نفهسا “أقرب لعالم نجيب محفوظ ورواياته من  الفيلم المصري. وسلمى حايك تعبر عن (بطلة الرواية) حميدة على نحو أعمق  وأصدق في تجسيد شادية لها… سلمى حايك تفهمت واستوعبت شخصية حميدة

بتكوينها الداخلي.”

وأضاف في فصل عنوانه (نجوم السينما في سفينة نجيب محفوظ) أن كثيرا من  الممثلين المصريين تألقوا في أعمال محفوظ أكثر من غيرها بل إن بعضهم كتبت  له شخصيات محفوظ عمرا فنيا جديدا وباقيا ومنهم سناء جميل التي حقق لها  فيلم (بداية ونهاية) بداية حقيقية بعد عشر سنوات من الأدوار الهامشية.

وسجل رمزي شهادة الممثل المصري الراحل محمود مرسي الذي أدى دور  أحمد عبد الجواد في المسلسل التلفزيوني (بين القصرين) وقارن بين أدائه  وأداء الممثل المصري يحيى شاهين الذي أدى الشخصية نفسها في ثلاثة أفلام هي

(بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية). وقال مرسي في شهادته “بدون تواضع أو غرور أقول إنني خسرت هذه

الجولة أمام يحيى شاهين الذي يبدو كما لو أن نجيب محفوظ رسم هذه الشخصية  خصيصا ليتواءم معها يحيى شاهين. لقد كنت أبحث عن أحمد عبد الجواد بينما  أحمد عبد الجواد يبحث عن يحيى شاهين. لا أظن أحدا يمكنه أن يغدو أحمد عبد

الجواد على نحو يفوق يحيى شاهين لعدة أجيال قادمة.”


مختارات من قصص   نجيب محفوظ

 لقاء خاطف، ثمن السعادة، مدد، من أصداء السيرة الذاتية، الطاحونة، مندوب فوق العادة )”

لقاء خاطف

مضيت أهبط درجات السلم العريض نحو الطريق مخلفًا ورائي العمارة الشاهقة. اعترض سبيلي عند نهاية السلم فتى في الثلاثين من عمره، حدق في وجهي باسمًا. دهشت لغريب يستوقفني، ولكنه لم يكتف بذلك . فمد يده مصافحًا وقال:

  • نحن أقارب!

ابتسمت بدوري وقلت :

  • حقا؟ ..الذنب ذنب زماننا الغريب
  • فقال برقة:
  • أنا محمد ابن زينب صفوت!

غمرتنى فرحة طاغية كادت تهتك ستر الماضي العذب، شددت على يده بحرارة، وتلقيت سيلا من الذكريات الناعمة، وهتفت:

  • أهلا بك، فرصة سعيدة حقا …

وفارقني، كما فارقته، ولم تفارقني الذكريات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من مجموعة القرار الأخير

118514569_322468815764762_3552246034668506633_n

ثمن السعادة .

دخل الأستاذ الحجرة التي قاده إليها الخادم فلم يلق تلميذه الصغير في انتظاره كمألوف عادته، فجلس على كرسيه يقلب عينيه في الصور المعلقة على حيطان الحجرة، وكانت المرة الأولى التي ينتظر فيها تلميذه منذ جيء به ليدرس له لعشرة أيام خلت، وأوشك أن يدعو الخادم حين سمع وقع أقدام خفيفة ورأى الغلام مقبلاً عليه يتأبط كتبه وكراسته، فحدجه بنظرة تعنيف ولكن راعه أن يرى عينيه محمرتين من البكاء وذقته الصغير يرتعش من التأثر فسأله باهتمام: (مالك؟)

وكان السؤال أثار مكظوم شجون الغلام فاندفعت الدموع إلى مآقيه وهو ينتحب:

تيزة. . . ضربتني. وتشاجرت مع بابا وما زالا يتشاجران فسأله باقتضاب: من تيزة هذه؟

-امرأة بابا

فدلته هاتان الكلمتان على معان كثيرة بغير حاجة إلى مزيد من السؤال. على أن الغلام تطوع من نفسه فسرد قصته الصغيرة الحزينة على مدرسه. قال: إن والدته ماتت لعهد ولادته وأن أباه تزوج من تيزة بعد ذلك بعام أو عامين، وأنه يعيش بمفرده تحت رعايتها بعد أن تزوج أخواته الأربع في الأعوام الثمانية التي أعقبت وفاة الأم، وأن أسباب الخلاف لا تنتهي بين تيزة وأبيه، فلن يزالا يصطدمان ويشتجران، وأقسم أن الحق دائماً مع أبيه، وأنه لا يشتبك معها حتى يضطر إلى ذلك اضطراراً، ثم لا يبث أن يكف عنها يائساً قانطاً، فلا تسكت هي عن الغضب والحنق والسباب. وأصغى المدرس إلى تلميذه بغير اهتمام ظاهر، وواساه بكلمة تافهة، ثم تناول الكراسة وبدأ عمله، ولم يطرقا الحديث مرة أخرى ولا عادا إليه فيما أعقب ذلك من الأيام، حتى كانت ساعة درس فاقتحمت عليهما الغرفة بغير استئذان شابة حسناء في ريعان الشباب، فوضع الأستاذ الكتاب على المكتب وقام واقفاً في تأدب واحترام وألقى على الزائرة نظرة حيية، فراعه ما رأى – لا من حسنها وشبابها فحسب – ولكن من انطلاقها على سجينها وعدم تكلفها، الأمر الذي أخرجها – بغير قصد طبعاً – عن الاحتشام، فكانت ترتدي (روب دي شامبر) من نسج رقيق يكشف عن ذراعيها ونصفي ساقيها وأعلى الصدر، وكان الأستاذ يظن أنه لا يجوز لشابة أن تبدو هكذا لعيني رجل غريب، ولذك غلبه الارتباك والاستحياء، وحدس أنها إحدى أخوات تلميذه المتزوجات، وتأكد حدسه حين رآها تمد يدها في رفق إلى ذقن توتو تداعبه، ثم جلست باطمئنان تجاه المدرس وهي تخاطبه قائلة: تفضل بالجلوس. . . هل يعجبك عمل توتو! فجلس أنيس وهو يقول: (توتو مجتهد، وقد تقدم في هذين الأسبوعين في الأجرومية والمطالعة، ولا ينقصه إلا المثابرة على حفظ الكلمات)

فابتسمت ابتسامة حلوة وطلبت إليه أن يستمر في عمله، فعلم أنها ترغب في أن تشهد درسه، فلم ير بداً من متابعة الدرس متلعثماً برماً، واختلس منها نظرة فوجدها تنظر إليه بإمعان، فاعتقد أنها تتابع كلامه، فوجه انتباهه إلى ما يقول ليخرج صحيحاً عذباً. وفي مرة أخرى وقع نظره على جيب الروب وقد انفرج عن أعلى الصدر فزاغ بصره وارتد في اضطراب وذعر ولم تمكث الشابة طويلاً فحيته وانصرفت، فشيعها بنظرة غريبة وقال لتوتو مستفهماً: أهي أختك؟

فهز الغلام رأسه سلباً وقال بجفاء: (تيزة) فتملكت الشاب الدهشة وتساءل متعجباً (تيزة؟!) فنظر الغلام إليه بإنكار وقال: (نعم). فتمالك أعصابه ولم ينبس بكلمة، ولكنه لبث مشغولاً دائم التفكير، وفي أثناء عودته إلى مسكنه بشارع ماهر بالجيزة استدعى صورة والد توتو – كما رآه يوم قدم إليه – ببدنه المترهل وكرشه الكبير ورأسه الصغير المستدير الأصلع، قد علا المشيب قذاله وقلق المنظار على أنفه الغليظ المجدور، ثم تمتم قائلاً: (الآن فهمت كل شيء. . . فرضوان بك حكمدار في المعاش جاوز الستين، وزوجه لا تعدو الرابعة والعشرين، وتوتو غلام بائس تضافرت عليه أسباب التنغيص الظاهرة والخفية. . . ولكن لماذا تلطفت بالغلام أمامي؟!). ولم يعتور أفكاره سوء، لأن أنيس كان طالباً ريفياً – كان طالباً وإن كان أستاذاً لتوتو – طاهر النفس، على أنه تأثر بحسنها وشبابها وخلاعتها غاية التأثر

وفي الدرس التالي لم يكد يطمئن إلى مقعده أمام تلميذه حتى كانت (تيزة) ثالثتهما؛ وكانت كما رآها أول مرة، جميلة خليعة متبذلة في ثوبها، ولم تلازم مكانها طوال الوقت، فكانت تخرج لبعض الشؤون ثم تعود إلى جلستها. وفي مرة عادت فجلست إلى جانبه دون أن يبدو عليها أنها تعمدت ذلك، فخال أنيس أن ساقها – لدنوها – تلامس ساقه. وعند انصرافه سلمت عليه باليد، فراح يضوع من كفه أريج معطر، ومضى مبلبل لفكر تضطرم في وجدانه يقظة عاطفية حارة، وما زال مشغول البال يحاول أن يتفهم محاضراته عبثاُ حتى ضرب مكتبه بقبضة يده وصاح جزعاً مكروباً: (لا احسبني إلا مجنوناً أو مسحوراً)

وفيما أعقب ذلك من أيام كان يذهب إلى بيت رضوان بك شغفاً بها قبل كل شيء، وأحس أن تفضلها بحضور درسه هو السعادة الحقيقية التي تبذلها له الدنيا جميعاً، فاستلذها واستطابها وجن بها جنوناً. وجعلت الشابة الفاتنة تودد إليه، وتعرض لعينيه المشغوفتين محاسنها العارية، وتداعبه بنظرات من عينيها حلوة فاتنة، أو لفتات من لحظها فاتكة. والشاب يذهل عما حوله بسرعة جنونية. وذهب يوماً إلى بيت الحكمدار فوجد الشابة في الحجرة دون الغلام، فسأل عنه وهو لا يحفل به في باطنه. فقالت له المرأة: (ذهب مع والده إلى شقيقته في الزمالك لأنها مريضة). فأحس خيبة وحنقاً لأنه سيضطر إلى مغادرة البيت، وقام واقفاً كئيباً، فسألته: (إلى أين؟). فأشار إلى الباب وقال (سأعود من حيث أتيت). فصوبت إلى عينيه نظرة ملتهبة وتمتمت بجرأة وهي تهز رأسها الصغير (كلا. . .) فخفق قلبه وتدافعت أنفاسه ووقف حيالها كالمسحور المذهول. . . ثم تبعها على الأثر لا يلوي على شيء

وتخلفت بعد ذلك عن حضور درسه، ولكنها سمَّت له الأيام التي يستطيع أن يلقاها فيا في أمن من الرقباء. فاندفع في سبيله كمياه الشلال الجارفة في فورة عاطفة مشبوبة تصم الآذان وتعمى البصر وتغرق هواجس انفس، مستكيناً لنوازع شهوته وجنونه. وإنه ليغادر بيتها ذات أصيل من أصائل الحب إذ لاحت منه التفاتة بغير قصد إلى شرفة البيت المطلة على الطريق، فرأى مشهداً تجمد له الدم في عروقه، وتصلب شعر رأسه من الهول، فتعثر وأوشك أن يقع على وجهه، وهرع إلى الإفريز تحت الشرفة كأنما يداري نفسه؛ وتقدم في خطى مضطربة لاهثاً حتى بلغ منعطف الطريق، وأراد أن يستوثق مما رأى فصوب بصره في خوف وإشفاق نحو الشرفة، فرأى عند مدخلها رضوان بك برأسه الأصلع المستدير يجلس مطمئناً إلى كرسيه في جلباب فضفاض يطالع جريدة ويهش الذباب عن وجهه بمذبة. . فأيس من تكذيب عينيه، ولهث قائلاً بفزع لا يوصف: (رباه إنه هو هو. . . نعم هو في جلباب البيت فكيف كان ذلك. . .؟ هل عاد إلى البيت أثناء وجوده مع زوجه. . .؟ فكيف لم يشعرا به؟ ولماذا لم يقصد إلى حجرة نومه ليبدل ثيابه؟ أم أنه كان في البيت قبل ذهابه هو إليه؟ فكيف استقبلته المرأة باطمئنان؟ أو كيف لا تعلم بوجود زوجها في البيت؟ بل كيف لم يشعر به رب البيت مع أنه غادر المخدع في خطى مطمئنة غير محاذرة؟. . . رباه. . .! لقد نجا من شر فادح. . . وداخله إحساس الذي يستيقظ بغتة فيجد أنه قد اجتاز سوراً شاهق العلو في نومه. . . وتخايلت لعينيه أشباح الإثم والجريمة والسجن، فعزم على أن يضرب بغرامه عرض الحائط متعظاً بالهاوية التي أوشك أن يتردى فيها. ولكنه لبث يذهب لإعطاء دروسه للغلام توتو، وكان يعاني الآم قلبه وجموح عواطفه، ولكن المرأة لم تمهله حتى يتناسى ويتعزى، فعادت إلى اقتحام حجرة الدرس عليه وسألته بعينيها في عتاب وكدر. . . وحين انتهاء الدرس تبعته إلى الباب الخارجي وسألته بحدة: (لماذا لا تأتي؟). . . فقص عليها همساً ما رأته عيناه آخر مرة، ونظر في وجهها ليمتحن أثر كلامه، فها له ألا يرى الانزعاج الذي كان يتوقع، وسمعها تقول بلهجتها الغاضبة: (كذبتك عيناك. . .)، فأكد لها أن ما رآه حق بغير ريب، فاستهانت بتأكيده وقالت له: إنها ستنتظره وترى ما هو فاعل. . . فأبدى لها مخاوفه. . . فقالت وقد نفد صبرها: (أنت مخطئ واهم، فتعال ولا تتعب نفسك بالنظر إلى الشرفة. . . تعال ولا تخف. . .)، فوعدها بالعودة لكي يتخلص من إلحاحها ثم انطلق على نية ألا يعاود ذلك البيت إلى الأبد. . .

ولبث على ذلك أسبوعاً كاملاً. وفي مساء يوم الجمعة، وكان في الشقة – التي يشاركه فيها بعض الأقران – بمفرده، سمع طرقاً على الباب، فمضى إليه وفتحه، فرأى أمامه رضوان بك بجسمه المترهل متوكئاً على عصاه ذات المقبض العاجي. فسرت في جسده رعدة شديدة زلزلت قلبه زلزالاً عنيفاً، ووثب إلى ذهنه خاطر سريع: أن امرأة ربما وشت به كذباً عند زوجها لتكيد له، وأنه جاء للتأديب والانتقام. . . فاستولى عليه اليأس والقنوط، وصعد في وجه الرجل نظرة ارتياع ليقرأ ما تدل عليه إمارات وجهه وما ينذر به حضوره، فرآه هادئاَ مبتسماً كأنما جاء لسلام لا لقتال. ومد يده بالسلام، فمد الشاب يده، ولما يفق من دهشته. . .

ثم تنحى عن الباب وهو يقول مزدرداً ريقه: تفضل بالدخول يا سيدي. . . فدخل البك وهو يتحدث قائلاً: إنه لا داعي للجلوس لأنه على عجل، وأنه جاء ليسأل عن صحته وعما إعتاقه عن متابعة دروسه. . . فاعتذر أنيس بأن موعد امتحانه اقترب وأنه في حاجة إلى كل دقيقة من وقته. . . ولكن البك لم يقتنع بحجته ورفض أن يقبل عذره، وطلب إليه برقة ألا يحرم توتو من دروسه. فعاود الشاب الاعتذار، وكر الرجل إلى الإلحاح، ثم أدنى رأسه من أنيس وقال له: لابد من حضورك. . . فهذا ضروري جداً لتوتو. . . تعال حينما تشاء وكيفما تشاء. . . لابد من حضورك، فهذا ضروري جداً. . . وكان لا يحول بصره عن الشاب، فوجد في نظرته ونبرات صوته ما أثار فضوله ودهشته. . . أما الشيخ، فصمت لحظة متردداً، ثم استدرك قائلاً: (هذا ضروري لتوتو ولسعادتي ولسعادة الأسرة. . . بل لسعادتنا جميعاً. . . فأصغ لي، لابد من حضورك. . .)

واحتقن وجهه بالدم، وارتعشت شفته السفلى وذقنه كالطفل إذا أوشك أن يفحم في البكاء ثم تحول عنه. .. ومضى دون أن ينتظر موافقة الشاب، ولبث هذا في مكانه متفكراً مذهولاً تتجاذبه شتى العواطف. . .

وكان الأسبوع الذي أعقب هذه الزيارة معترك أزمة نفسية عميقة أخذت بتلابيب أنيس، فتقاذفته الغرائز والشهوات، وتجاذبته نوازع اللذة ومغريات السلامة والطمأنينة، وكان ذا عزيمة قوية وسريرة طاهرة وقلب تقي، فآثر السلامة. فلما أن استدار الأسبوع أحس قواه تتماسك وتشتد، فأطرى إرادته وجعل يتناسى بين رضوان بك السيئ الحظ وزوجه الحسناء القلقة الغضوب ويودع ذاك العهد زاوية من زوايا الذكريات الغريبة المنسية. . .
وانتصف مايو، فقصد أنيس يوماً إلى الكلية ليسأل عن موعد ظهور نتيجة الامتحان. ولما بلغت به قدماه باب مقهى المثلث، شعر بإنسان يعترض سبيله بعصاه كالمداعب، فرفع رأسه إليه فرأى رضوان بك يغادر المقهى يسبقه أحد أصدقائه إلى سيارة تنتظر على كثب، فارتبك ورفع يده بالتحية، فالتقت يداهما، وابتسم البك ثم سأله عن حاله، وتحدث معه قليلاً دون أن يعرج إلى الذكريات القديمة. وحين هم بمفارقته غير لهجته وقال بصوت دل على الضراعة والمضض: (أيها الشاب. . . إياك والسخرية من الناس أو الهزء بالبؤساء، فأنت تجهل الدور الذي تعده لك الأقدار غداً. واذكر أن أغرب تصرفات الإنسان لا تعوزها أسباب تبررها؛ فصن لسانك عن الأذى وحاول ما استطعت أن تتعظ بما يصادفك من العبر – كتب الله حظاً سعيداً. . .) ورفع يده بالسلام وسار في طريقه منتصب القامة يدل مظهره على أنه رجل عسكري بغير جدال.


2014-635540703824336689-433_main

حزن وسرور

كانت أسرة هانئة البال , يرعاها فتى في الخامسة والثلاثين , وتتعهدها بالعناية والتدبير أم حنون , وتعيش في كنفها أخت في مراقي الشباب الأولى . لم تكن من الثروة فى شيء , فمرتب الفتى لا يجاوز الخمسة عشر جنيهًا وهو كل مالها . ولا كانت غفل الزمان عنها , فقد فقدت راعيها الأول الأب والابن فى المراحل الأولى من التعليم الثانوي وأخته في مدارج الطفولة , فلاقت متاعب شديدة من الحاجة

والضنك قبل أن بلغت بر الاستقرار والأمان . إنها كانت تعودت الشدة والبؤس على عهد الكفاح الذي أعقب وفاة الأب , فانتقلت بتوظيف الابن إلى حال من يسر لم تكن – على بساطتها – تحلم بمثلها , وصارت أسرة هانئة البال , ودام لها هذا الحال خمسة عشر عامًا , حتى آذنت مظاهرها بما هي مقبلة عليه حتما من التغيير والتطور وفق ما تقتضيه طبائع الأشياء وسنن الحياة . ففتاها بلغ حدًا من العزوبة

لا يجوز أن يتعداه , واحسان أوفت على العشرين , فبات زواجها ينتظر اليوم أوغدًا , وبدت الأم في شيخوختها تحت الخطو فى مفترق الطرق .حقًا إن كل شيء ينذر بالتغيير وغدا تنقسم هذه الخلية الواحدة فتصير خليتين ,وتأخذ كلتاهما نصيبها المستقل من الحياة والنمو المتكاثر . وجاء الغد ولكن بما لم يكن فى حسبان . فقدت هذه الأسرة الشاخصة إلي الأفق بعين الرجاء عاهلها الأوحد … ذهب الرجل بأسرع مما يخطر على بال فى عزة الشباب وعنفوانه .فما كان إلا أن وجد دملا فى ساقه اليسرى , وأهمله أيامًا فبرر وغلظ ثم عالجه

بإبرة محماة ففتحه , ولكنه لم يوله ما هو أهل له من العناية والتنظيف , فورم مرة أخرى وامتد ورمه شيئًا فشيئًا , وسرى الألم فى الساق كلها , فمضى يتصبر على أمل أن تزول تلك الأعراض وحدها , حتى أقعده الألم عن الحركة , واستدعى عند ذلك الطبيب فأشار فى الحال ببتر الساق … وحمل إلى المستشفى وأجريت العملية فانتهت بغير سلامة , وأسلم الروح ومضى بصحته ورجولته ونفعه . وأوشكت الأم العجوز أن تجن . كانت تطمع أن يواريها فى التراب بعد عمر طويل ,فوارته فى التراب هى بعد عمر قصير . وكانت ترجو أن تودعه وهو سعيد بأسرته الجديدة , فودعها وقد تركها للوحدة والقنوط .أما إحسان , فكانت أشقى أخت وأشقى فتاة , فقدت – أو هكذا خالت – الأمل الحاضر والأمل المتخايل فى غضون المستقبل . وترك الرجل معاشًا جنيهين وربع جنيه , ولكنه أورثهما مدخره مائة وخمسين جنيهًا التي كان أعدها لنفقات زواج إحسان وزواجه هو فيما بعد . ولبست الأسرة الحداد وباتت في حزن أليم . إلا أن الله

الذي لا يرد قضاؤه خففه باللطف والرحمة . فقد كان لاحسان عمة عاقر على جانب من الثروة فآوت الشابة وأمها , وكانت إحسان فتاة عليلة وقعت منذ الصغر فريسة لمرض عصبي طال أمده فاستفحل بالإهمال – إذ كان أخوها كأمه ضعيف ثقة بالطب – وكانت إلى هذا حولاء , فاختفى حسنها وراء إهاب شاحب وجسم هزيل وحول ذميم . وربما أدرك الناظر إليها أن سبابها غير عاطل من جمال , ولكنه جمال مختنق تأبى عليه آثار العلة والحول أن يترعرع ويزدهر , فجسمها لطيف التكوين , إلا أنه ذابل , ووجهها مستدير حسن القسمات , إلا أنه مصفر عليل , وعيناها صافيتان واسعتان , ولكن قبحهما الحول وأخفى نظرتهما الحنون . ثم جاء موت أخيها علة فانهارت قواها وغلبها الحزن , فازدادت ضعفًا على ضعف وشحوبًا على شحوب , وأوفت من مرضها على نهاية خطيرة . ذاك كانت حالها حين فتحت لها صدرها عمتها , ثم أخذ كل شىء يتغير من بعد ذلك , بدأ هذا التغير فى الأشهر الأولى التى أعقبت الوفاة , ثم صار طابع الحياة

الجديدة وأملها المرموق و ووجدت الفتاة عناية لم تكن تجدها من قبل , فأقبل آليها يدعون ويقولون لأمها (( ربنا يفرحك بإحسان )) , وغمروها بالعطف والحب والدعاء , ومنحتها أمها جامع قلبها وكان لها نصفه أو أقل قليلا . أما الذى فازت به حقًا , وكان فوزها به عظيمًا , لأنه بعثها بعثًا جديدًا , فهو قلب عمتها , تلك المرأة الطيبة المحبة التى تتفجر نفسها رحمة وحنانًا , أحبتها كما كانت تحبها , وأحبتها كما كانت تحب أخاها , وأحبتها كما كانت تود وتتمنى أن تحب أمثالها من الذرية التى حرمتها ,فمن آى هذا الحب أن قبلتها يومًا وقالت لها :

لا تستسلمي للحزن رحمة بنفسك ورحمة بأمك المحزونة وقالت لها مرة أخرى

وقد آلمها ما تراه فى وجهها من الشحوب والذبول .- لا يرتاح لى بال إذا تركت هذا المرض يعتصر شبابك الغض … ومضت بها إلى الطبيب , وتفحصها الرجل بعناية ووصف لها حقنًا ونصحها بتبديل الهواء , فأحضرت المرأة الحقن , ثم شدوا الرحال جميعًا إلى بلبيس – بلدة العمة – وهناك بين أحضان الريف الحنون وهدوئه الشامل فى الهواء النقي والشمس الصاحية سارع إليها البرء ومشى فى أعصابها الشفاء , فانتهت النوبات التى كانت تعتريها , ونجت مما كان يشقى حياتها من القلق والمخاوف , وسرعان ما امتلأ جسمها الهزيل واعتدل قدها وجرى فى وجهها ماء الشباب ورونق الصبا وجاذبية الأنوثة . وسرت العمة بما رأت , وكأنها بستانى يجنى ما غرست يداه لأول مرة  وأطعمها هذا الظفر بالمزيد , فحدثت نفسها : (( آه لو يذهب الحول … فأى عينين تكونان ! )) ولكن ما الذى يمنع هذه الأمنية من أن تتحقق … لقد سمعت أ، من أطباء العيون من يعالج الحول ويرد البصر سالمًا . ولم يقعدها التردد فقفلت هى وأسرتها الجديدة إلى القاهرة وقصدت إلى كبير أطباء العيون فأملها خيرًا وأجرى العملية فنجحت نجاحًا باهرًا فاق كل تقدير . واستوت عينان فطرتا على الميل والانحراف , وأخلى الحول مكانه لحور فاتن , ونظرة حلوة تقطر ملاحة , ونظرت إحسان فى المرآة فرأت وجهًا جميل  لا عهد لها به , يحسد على حبته الطبيعة من –الحسن والجمال , فانبهرت الفتاة , واستخفها السرور , وتناست أحزان الماضى وهمومه , وتفتح صدرها للحياة كما تتفتح الزهرة عانقها أول شعاع لشمس الربيع ,وابتاعت لها عمتها أبهى حلل فتبدت فى ثوبها الأسود النفيس فى بهاء العاج ورونقه , وأبرزتها من خدرها فقدمتها إلى أبها الاستقبال فى بيوت المعارف والجيران , وكانت تقول لها وهى ترمقها بعين الحب والإعجاب :

لكم يشرح صدرى ويسر قلبى إذا جاءنا العريس المدخر غدًا … !

ولم يتثاقل هذا الغد ولا تأخر العريس طويلا , فجاء يطلب يدها البضة , ولما علمت الأم سر فؤادها المكلوم ,ودارت دمعة ترقرقت فى عينيها حين ذكرت ما ادخره الفقيد من مال لهذا الزواج ولزواجه هو أيضًا وباتت إحسان تلك الليلة فى سرور عظيم بل كانت أسعد لياليها وعندما رنق النوم بجفنيها فى ساعة متأخرة , رأت فيما يرى النائم حلمًا مؤثرُا و رأت أنها عادت إلى الشقة التى كانوا يقيمون بها قبل وفاة شقيقها , وأنها فى حجرته بالذات وعلى فراشه , ورأت فى وسط الحجرة نعشًا ملفوفًا فى الحرير الأبيض , يجلس على رأسه شيخ

كبير فى عباءة سوداء وعمامة بيضاء , وكانت تبكى وتكابد ضيقًا يكاد أن ينشق به صدرها , وكأنما الشيخ رق لها فوجه إليها الخطاب متسائلا :

لماذا تبكين ؟

فقالت وقد أثر فيها عطفه فانهالت مدامعها :

أخى … انى أبكى أخى

فأومأ الشيخ إلى النعش وقال بهدوء :

انه يرقد ها هنا

فحنت رأسها حتى تساقط الدمع على حجرها وقالت بصوت تخنقه العبرات :

أعلم ذلك وا أسفاه

فسألها مبتسمًا :

أتحبين أن يعود إليك ؟

فنظرت إليه بعينين لا تصدقان وقد كفت عن البكاء وتساءلت :

أتستطيع ذلك حقًا ؟

نعم بغير شك

فقالت بلهفة ورجاء :

رد إليه الحياة … أعده إلينا

ولم تتمالك نفسها , فنهضت قائمة يلعب بفؤادها الأمل ؛ فقال الشيخ بهدوئه الذى لا يفارقه :

ليس الأمر باليسر الذى تتصورين , فلابد من ثمن يؤدى

أى ثمن … وهل يغلو ثمن لقاء أن يعود أخى ؟!

فهز الرجل رأسه المعمم وقال :

إذا رد إلى الحياة وهذا على هين , فستردين أنت إلى حالتك الأولى , يعاودك المرض ويعتريك الذبول والاصفرار والحول , ولا يلبث حتى يسترد ماله فتفقدي خطيبك !

علاها وجوم , وشعرت بثقل الكابوس على صدرها , وشح جبينها عرقًا وزاغ

بصرها . فابتسم الشيخ وسألها كالمتهكم :

– – إيه … هل أعيده إليك حقًا ؟

رباه … ماذا تقول ؟ هل يمكن أن تنكص عن الجواب ؟

قالت وهى تزفر :

نعم أعده

وتغير وجه الرجل , فلاح فى محياه الجد والاهتمام , ووثب قائمًا , ثم تحول إلى النعش يفك أربطته ويرفع غطاءه دون تردد وألقت الفتاة ببصرها إلى النعش لتستقبل العائد العزيز … ولكن اشتدت وطأة الكابوس وثقله , ورأت نفسها تتغير فى لمح البصر فترد إلى حالتها  لأولى , فاستردت صورتها العليلة وبشرتها الشاحبة وعينيها القبيحتين , وغابت كل المسرات : فلا نضارة ولا شباب ولا مال ولا زواج

وشعرت بإعياء وخور فلم تعد قدماها بقادرتين على أن تحملاها , فسقطت جاثية على ركبتيها , وعيناها لا تتحولان عن النعش … ثم غلبها البكاء , واستيقظت عند ذاك , فرفعت رأسها عن الوسادة , وتحسست يداها وجهها والفراش , لتتأكد من أنها يقظة , وأن ما كانت تكابده حلمًا من الأحلام , وكان قلبها يدق بعنف اضطرب معه ما فوق القلب من قميصها الأبيض , ثم أسلمت مرة أخرى إلى الوسادة وهى تتنهد تنهدًا عميقًا , وما لبثت أن أجهشت فى البكاء , ول لأنها مسخت فردت إلى حالتها الأولى , ولكن لأنها ذكرت أخاها الراحل , فثارت كوامن أشجانها .

نجيب قهوة وسيجارة

 ” مــــدد

 

عرف عبدين يوماً بحكايته التى جرت على كل لسان ، ورث دكان العطارة الصغيرة عن أبيه ، فيسرت له رزقاً موفورا ، و عاش مع أمه بعد زواج اخوته فى بيتهم القائم أمام الزاوية و تميز بين شباب الحارة برشاقة القوام و وداعة القسمات ، و دماثة الخلق و حسن العلاقات مع المعارف و الاصدقاء ، أما أول ما اشتهر به من الطبائع و ألصقها بعقله و قلبه فهو إيمانه بالعرافين و ولعه بزيارة أضرحة الأولياء ، و لم يكن يخطو خطوة حتى يستخبر أهل الذكر ، و يستعطف القدر ،كان لعبدين جيران ، صاروا لطول الجيرة و حسن السيرة و كأنهم من صميم الأهل ، و كانت لهم بنت تدعى شمائل ولدت بعد عبدين بعامين ، فعرفها منذ كانا يلعبان فى الحارة أو تجمعهما زفة الفوانيس فى رمضان ، و عرفت شمائل باشراق الوجه وحسن التكوين ، و جمال الأدب ، و أتقنت منذ فترة شئون البيت ، و ما يلزم ربة البيت من ضرورات و كماليات ، و حتى الخط كانت تفكه ، فتكتب اسمها كما كانت تكتب بسم الله الرحمن الرحيم .
و كان من المتفق عليه و المعروف فى الحارة أن شمائل هى عروس عبدين ، و أن عبدين هو عريس شمائل ، و فضلا عن ذلك فقد ربط الحب بينهما ، و مهدت البسمات لمعجزة اليوم الموعود .
و لما اقترب الوقت المناسب تحرك طبع الفتى الدفين ، و قال :كيف لا يفوتنى سؤال الشيخ لدى كل حركة عادية أو تافهة و لا أقصده فى مصير حياتى ، و أخذ بعضه و ذهب الى شيخه العارف بالله الشنوانى بحجرته بأم الغلام ، و طرح سؤاله و الآخر يقبض على يده و يشم عرقه ، ثم قال له الشيخ : اذهب الآن الى حارتك و انتظر عند مدخلها ، و سلم أمرك لأول بنت تخرج منها ، هى التى تحمل لك سعادتك المقسومة لك فى هذه الدنيا ، و لن تحظى بخير الا فى الآخرة.
و رجع الى حارته و هو فى غاية من التوقع و التوتر ، و كان على شبه يقين من البنت التى سيراها ، و لكن أين تذهب شمائل فى ساعة الغروب؟ و كان سرحان الأعمى أول من خرج من الحارة ، و تلاه غلام يسوق الطوق و يغنى ” على باب حارتنا حسن القهوجى” ، و اشتد قلق عبدين فقال فى سره : ” سلمت اليك أمرى يا رب العالمين ” ، و اذا بصوت ينادى ” عال الجوافة ” و ظهرت عربة يد فوقها هرم من الجوافة تدفعها حليمة ، ذهل ، لم يحول عينيه عنها ، و ضحكت هى لما رأته و قالت مداعبة :
واقف مثل غفير الدرك ” ، و مضت نحو الميدان ، سار و هو يقول لنفسه : ” يا رب لطفك و رحمتك
أيعنى الشيخ حقا حليمة بنت أم حليمة بياعة المخلل و ابنة المرحوم أحمد المكارى ؟ لا أحد فى حارتنا يجهل حليمة ، و هى أيضا تتعامل مع الجميع ، و لكنه كما تقول أمها مفاخرة : “رجل بين الرجال ” ، رغم رشاقة عودها و ثرائه . و كانت مقبولة الوجه و جذابة أيضا رغم قوة نظرتها النافذة ، و خلا عبدين الى نفسه يتفرغ للحيرة ، و يذهب مع خياله و يجىء بين شمائل و حليمة ، و شكا سره الى صديقه الذهبى فقال له :
–   
أى وجه للمقارنة بين شمائل و حليمة ! و انت عرفت شمائل من خلال الجيرة و المعاملة و شهادة المعارف و الجيران ،أما كلام الأولياء فليس منزلاً من السماء،
و لكن ايمان عبدين بقول الولى كان فوق أى مناقشة ، و انتشرت رائحة الخبر رويدا رويدا ، فأثارت الدهشة و الضحك كما عثت الدموع فى أعين كثيرة ، و حصل كلام و نزاع و صراع ، و لكن عبدين صمد لكل معارضة بقوة ايمان لا يتزعزع ، و فى ساعة العصرية ، و قبل أن تتحرك حليمة بالعربة ذهب عبدين الى حجرتها ، بربع الزاوى و طلب يدها من أمها ، و أخذ الخيال يتحول الى حقيقة ، و سمع حمودة فى احدى الليالى يقول فى الغرزة على مسمع من جميع المساطيل “المجنونة الجشعة ما أحبت أحداً سواى و لكن أعمتها صورة دكان العطارة ” .
و ذهبت العروس الى الحمام لتزيل عن جسدها الممشوق عرق الأعوام و غبار الحارة و فلت شعرها المسكون ، فتبدت فى صورة لامعة و زفت الى الفتى العطار فأقام معها فى شقة أما السيرجة ، و دعا ربه أن يهبه السعادة التى ضحى فى سبيلها بقلبه و بكل اعتبار .
و كانت أياما صافية ، و انغمس عبدين فى هواه الجديد ليغطى على أصداء حبه الأول و يدفن هواجسه و فقدت الحكاية جدتها و دهشتها فلم يعد يتندر بها أحد ، و كان يمارس الحياة و يلاحظها بانتباه حتى لا يفوته سر من أسرار السعادة ، و منذ بدأ المعاشرة شعر بقوتها و صلابتها و بأنه يضعف أمام نظرتها النافذه . و الحق أنه توقع أكثر مما كان و لكنه أقنع نفسه بأن السعادة الموعودة ليست هبة بسيطة أو احساساً سهلا يجود بذاته منذ اللحظة الأولى ، انها حياة عميقة ذات سراديب فلينتظر ، أما حليمة فلم تنتظر ، سرعان ما ضاقت بحياتها فى البيت ، و لم تعد تخفى ضجرها ، و لا تمردها على سجنها ، و تحير عبدين أمام ظاهرة غير مألوفة فى دنيا النساء . و لكنها قالت له بصراحة و جرأة :
دعنى أعمل فقد خلقت لذلك .
و ذهل عبدين ، و أخرسه الذهول فاستطردت:
لا يهمك كلام الناس ، متى سكتوا عنا ؟
و كانت تصر و تصمد و كان ينفع و يتراجع ، و لم تكن تهمه الحوادث ، باعتبارها مقدمات لسعادة لا مفر منها ، ألم يقل الشيخ الشنوانى كلمته ؟
و شهدت الحارة حليمة و هى تشارك زوجها فى دكانه و رجع الاتصال بينها و بين زبائنها القدامى ، و رجع حمودة أيضاً بين الغمز و اللمز ، و كثر اللغط و الضوضاء حتى سأله صديقه الذهبى :
أتعجبك هذه السعادة ؟
و لكن عبدين بدا صامداً مؤمنا فقال له :
الصبر طيب و النصر قريب .
و لكن حليمة اختفت فجاءة ، استولت على ما اعتبرته حقها من النقود المودعة فى الدكان و اختفت ، و بعثت اليه رسولا يعتذر اليه و يطلب الطلاق ، كب كل شىء على عبدين ، و قوض الزلزال صبره فبكى ، و لما رأى صديقه الذهبى مقبلا تعانقا بحرارة ، و فى أثناء العناق استرد الكثير من روحه الضائعة ،
و قال لصديقة :
سأطلقها فى الحال .
فلم يخف صديقه فرحه ، و نظر عبدين اليه طويلا فى فتره صمت ثم قال :
انها ستجرب حظها بعيدا و لكنها ستعود تائبة !
و تنهد ثم قال لصديقه الذاهل :
كلمة الشيخ الشنوانى لا تكذب ..

أصداء السيرة

من أصداء السيرة الذاتية

دعاء

دعوت للثورة وأنا دون السابعة .

ذهبت ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن. بيدي كراسة وفي عيني كآبة. وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير :

بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا.

غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد‍.

رثاء

كانت أول زيارة للموت عندنا لدى وفاة جدتي.. كان الموت ما زال جديدا، لا عهد لي به عابر في الطريق، وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتم لا مفر منه، أما عن شعوري الحقيقي فكان يراه بعيدا بعد السماء عن الأرض. هكذا انتزعني النحيب من طمأنينتي، فأدركت أنه تسلل في غفلة منا إلى تلك الحجرة التي حكت لي أجمل الحكايات.

ورأيتني صغيرا كما رأيته عملاقا، وترددت أنفاسه في جميع الحجرات، فكل شخص تذكره وكل شخص تحدث عنه بما قسم.

وضقت بالمطاردة فلذت بحجرتي لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء. وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء وهمست بحنان : لا تبق وحدك.

واندلعت في باطني ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون. وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدري بكل ما يموج فيه من حزن وخوف.

دين قديم

في صباي مرضت مرضاً لازمني بضعة أشهر. تغير الجو من حولي بصورة مذهلة وتغيرت المعاملة ولت دنيا الإرهاب، وتلقتني أحضان الرعاية والحنان. أمي لا تفارقني وأبي يمر عليّ في الذهاب والإياب. وأخوتي يقبلون بالهدايا لا زجر ولا تعيير بالسقوط في الامتحانات.

ولما تماثلت للشفاء خفت أشد الخوف الرجوع إلى الجحيم. عند ذاك خلق بين جوانحي شخص جديد، صممت على الاحتفاظ بجو الحنان والكرامة، إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة فلأجتهد مهما كلفني ذلك من عناء ، وجعلت أثب من نجاح إلى نجاح، وأصبح الجميع أصدقائي وأحبائي. هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي.

الحركة القادمة

قال برجاء حار :

جئتك لأنك ملاذي الأول والأخير.

فقال العجوز باسما:

هذا يعني أنك تحمل رجاء جديدا.

تقرر نقلي من المحافظة في الحركة القادمة .

ألم تقض مدتك القانونية بها ؟ هذه هي تقاليد وظيفتك فقال بضراعة :

النقل الآن ضار بي وبأسرتي.

أخبرتك بطبيعة عملك منذ أول يوم .

الحق إن المحافظة أصبحت وطنا لنا ولا غنى عنه.

هذا قول زملائك السابقين واللاحقين، وأنت تعلم أن ميعاد النقل لا يتقدم ولا يتأخر.

فقال بحسرة :

يا لها من تجربة قاسية !

لم لم تهيئ نفسك لها وأنت تعلم أنها مصير لا مفر منه.

نجيب بيشيش

مفترق الطرق

 

عرفت في بيتنا بأم البيه – حتى اليوم لم أعرف اسمها الحقيقي فهي عمتى أم البيه. تجلس في حجرتها فوق الكنبة متحجبة مسبحة، كلما طمعت في مصروف إضافي تسللت إلى مجلسها. وعلى فترات متباعدة تقف سيارة أمام بيتنا الصغير فيغادرها البيه، قصيرا وقورا مهيبا ، يلثم يد أمه ويتلقى دعاءها.

زيارة تنفخ في البيت روحا من السرور والزهور، وقد تحمل إلي علبة من الحلوى، رجل آخر يتردد على أم البيه كل يوم جمعة. صورة طبق الأصل من البيه غير أنه يرتدي عادة جلبابا ومركوبا وطاقية وتلوح في وجهه أمارات المسكنة. وتستقبله عمتي بترحاب وتجلسه إلى جانبها في أعز مكان.

حيرني أمره.

وحذرتني أمي من اللعب في الحجرة في أثناء وجوده.

ولكنها لم تجد بدا في النهاية من أن تهمس لي:

إنه ابن عمتك ‍!

تساءلت في ذهول : أخو البيه؟

أجابت بوضوح :

نعم .. واحترمه كما تحترم البيه نفسه؟

وأصبح يثير حب استطلاعي أكثر من البيه نفسه.

الأيام الحلوة

كنا أبناء شارع واحد تتراوح أعمارنا بين الثامنة والعاشرة وكان يتميز بقوة بدنية تفوق سنه، ويواظب على تقوية عضلاته برفع الأثقال، وكان فظا غليظا شرسا مستعدا للعراك لأتفه الأسباب . لا يفوت يوم بسلام ودون معركة، ولم يسلم من ضرباته أحد منا حتى بات شبح الكرب والعناء في حياتنا. فلا تسأل عن فرحتنا الكبرى حين علمنا بأن أسرته قررت مغادرة الحي كله، شعرنا حقيقة بأننا نبدأ حياة جديدة من المودة والصفاء والسلام. ولم تغب عنا أخباره تماما. فقد احترف الرياضة وتفوق فيها وأحرز بطولات عديدة حتى اضطر إلى الاعتزال لمرض قلبه، فكدنا ننساه في غمار الشيخوخة والبعد.

وكنت جالسا بمقهى الحسين عندما فوجئت به مقبلا يحمل عمره الطويل وعجزه البادي .

ورآني فعرفني فابتسم، وجلس دون دعوة . وبدا عليه التأثر فراح يحسب السنين العديدة التي فرقت بيننا . ومضى يسأل عمن تذكر من الأهل والأصحاب. ثم تنهد وسأل في حنان :

هل تذكر أيامنا الحلوة؟

النسيان

من هذا العجوز الذي يغادر بيته كل صباح ليمارس رياضة المشي ما استطاع إليها سبيلا؟

إنه الشيخ مدرس اللغة العربية الذي أحيل على المعاش منذ أكثر من عشرين عاما.

كلما أدركه التعب جلس على الطوار أو السور الحجري لحديقة أي بيت، مرتكزا على عصاه مجففا عرقه بطرف جلبابه الفضفاض .

الحي يعرفه والناس يحبونه ، ولكن نادرا ما يحييه أحد لضعف ذاكرته وحواسه.

أما هو فقد نسي الأهل والجيران والتلاميذ وقواعد النحو.

المطرب

قلبي مع الشاب الجميل. وقف وسط الحارة وراح يغني بصوت عذب :

الحلوة جاية

وسرعان ما لاحت أشباح النساء وراء خصاص النوافذ.

وقدحت أعين الرجال شررا.

ومضى الشاب هانئا تتبعه نداءات الحب والموت.

قبيل الفجر

تتربعان فوق كنبة واحدة . تسمران في مودة وصفاء ، الأرملة في السبعين وحماتها في الخامسة والثمانين . نسيتا عهدا طويلا شحن بالغيرة والحقد والكراهية ، والراحل استطاع أن يحكم بين الناس بالعدل، ولكنه عجز عن إقامة العدل بين أمه وزوجه ولا استطاع أن يتنحى ، وذهب الرجل فاشتركت المرأتان لأول مرة في شيء واحد وهو الحزن العميق عليه. وهدهدت الشيخوخة من الجموح، وفتحت النوافذ لنسمات الحكمة. الحماة الآن تدعو للأرملة وذريتها من أعماق قلبها بالصحة وطول العمر، والأرملة تسأل الله أن يطيل عمر الأخرى حتى لا تتركها للوحدة والوحشة .

السعادة

رجعت إلى الشارع القديم بعد انقطاع طويل لتشييع جنازة.

لم يبن من صورته الذهبية أي أثر يذكر.

على جانبيه قامت عمارات شاهقة في موضع الفيلات، واكتظ بالسيارات والغبار وأمواج البشر المتلاطمة.

تذكرت بكل إكبار طلعته البهية وروائح الياسمين.

وتذكرت الجميلة تلوح في النافذة باعثة بشعاعها على السائرين.

ترى أين يقع قبرها السعيد في مدينة الراحلين؟

ويوافيني الآن قول الصديق الحكيم : ” ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين”.

الطرب

اعترض طريقي باسما وهو يمد يده . تصافحنا وأنا أسأل نفسي عمن يكون ذلك العجوز. وانتحى بي جانبا فوق طوار الطريق وقال :

نسيتني؟!

فقلت في استحياء.

معذرة ، إنها ذاكرة عجوز!

كنا جيران على عهد الدراسة الإبتدائية وكنت في أوقات الفراغ أغني لكم بصوت جميل، وكنت أنت تحب التواشيح..

ولما يئس مني تمام مد يده مرة أخرى قائلا :

لا يصح أن أعطلك أكثر من ذلك قلت لنفسي : يا له من نسيان كالعدم، بل هو العدم نفسه، ولكني كنت وما زلت أحب سماع التواشيح.

رسالة

وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرت عليها وراء صف من الكتب وأنا أعيد ترتيب مكتبتي.

ابتسمت. انحسرت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر.

وأفلت من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمس.

وند عن الأوراق الجافة عبير كالهمس.

وتذكرت قول الصديق الحكيم . ” قوة الذاكرة تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان”.

نجيب صورة حلوة

الطاحونة …

كانوا ثلاثة قيل انهم خرجوا الى الدنيا فى يوم واحد . و حديث الأعمار يبوح بأسراره فى حارتنا عند الحوار بين الأمهات حتى بلغوا السادسة . عند ذاك حجزت البنت لتصبح خفية وراء الجدران و استمر الصديقان فى اللعب و التذكر . أما رزق فيتذكرها كلما احتاجوا الى ثالث فى لعبة من الألعاب ، و أما عبده فحتما منذ تلك المبكرة كان يشعر بها حبيبة للقلب على نحو ما . و منذ تلك السن المبكرة أيضا أدرك أن عليه أن ينتظر عشر سنوات قبل أن يحقق أمله المشروع .

و كان عبده من الذين يملكون ، أما رزق فممن لا يملكون . و تزاملا فى الكتاب كما تزاملا فى اللعب . و انقطع رزق عن التعليم بحكم فقره و واصله عبده حتى نال الابتدائية . و منذ ذلك الزمن البعيد و رزق يتشكل فى وجدان عبده مثالا فائقا فى القوة و الجرأه و المهارة فاحترمة و اعجب به و تبعة رغم فارق الغنى و الفقر .

و لما مات والد عبده حل الفتى محل أبيه فى مطحن البن الذي ورثه . و كان الأب قد دربه ، كما أن العمال القدامى أخلصوا له أيما إخلاص ، و لكنه سرعان ما ضم صديقه رز الى المطحن كمعاون له ، و كان كل ما حصله كل منهما فى التعليم كافيا له فى عمله ، و تجلت ألمعيه رزق فى متابعة العمل من شرائه كـ (بن)

أخضر الى تحميصه و طحنه و تعبئته و توزيعه . و قال لأسرته مفسرا قراره بتعيين رزق :
أنا لا أجد الطمأنينة الا معه .
ذلك حق . لم يتخل عن خدمته قط . يدفع أى أذى الصبيه . يسارع الى نجدته كلما احتاج الى نجدة . يسعفه بالرأى و المشورة . و لما ضمه الى المحل قال له :
كن فى العمل ما كنته فى الحارة ، عينى و أذن و يدى ..
و فى وقت قصير استحق أن يلقب بالوكيل . انه الرقيب بين العمال الدائب على رعاية الطاحونه ، و أنشط من قام بتوزيع البن فى الدكاكين و المقاهى . يا له من طاقة لا تخمد . و أصبح هو لا يدرى كبيرة أو صغيرة من محلة الا عن طريقة . بالمقارنه أصبح هو لا شىء و الآخر كل شىء .
و كان ارتياحه لذلك أضعاف ضيقه به لما طبع عليه من كسل و حب الحياة اليسيرة و الميل الى الاستمتاع بالسهر كل ليلة فى المقهى أو الغرزة . و كان العملاء يقصدون رزق لعقد الصفقات و كأنه مالك كل شىء . و لاحظ خال عبده ذلك و هو فى غاية من الاستياء و لكن الشاب قال له :
بكلمة واحده منى يتغير كل شىء ، أريد أن تجرى الأمور على ما تجرى عليه ، و أنا يا خالي أحب المال و لا أحب العمل ، و رزق أمين ، و هو هدية ربنا الى ..
و مضت الأمور فى طريقها المرسوم حتى قال عبده لرزق يوما :
آن لى أن أفكر بالزواج قبل أن يسرقنا الوقت .
و لم يبد على رزق أنه فوجىء و سأله :
هل فاتحت أحدا فى الموضوع ؟
انت أول واحد أفاتحه فيما يهمني ..
أحسنت ، فالطريق المعتاد الى الزواج هو أردأ الطرق ، فدعنى اتحرى بأسلوبى الخاص و الله يهدينا سواء السبيل ..
هكذا سلمه شئون قلبه ضمن اختصاصاته ن و لم يكن هو رأى ظريفة طيلة السنين الا مرات معدودة ن و لكنه لم يحب من جنس النساء سواها ، غير أنه قال كالمعترض :
أسرتها طيبه و حسنة السمعة و لا حاجة بنا الى التحريات .
هذا كلام الناس الطيبين و لكننا لن نخسر بالسؤال شيئا ..
و انتظر عبده و هو يزداد قلقا و توترا ، و يتساءل فى حنق :
متى تنتهي تلك التحريات المشئومة . و التقت عيناه بعيني صاحبه اذ هما فى المقهى فقرأ فيهما ما أثار خواطره و سأله :
ماذا وراءك ؟
فقال بحزن شديد :
ليس خيرا
فهتف :
يا خبر أسود ،ماذا قلت ؟
هى الحقيقة للأسف ..
لكن ظريفة ملاك .
إنها ليست ملاكا
فغمغم بعد تردد :
أنا أريد البنت :
فقال الآخر بادى الامتعاض :
انت حر .
و انطوى على نفسه يفكر و يفكر . و يتردد بين الإقدام و الإحجام ، و ضاعف من تعاسته أن رزق اعتكف فى بيته لمرض طارىء . و ذات أصيل و هو منفرد بنفسه فى المطحن ترامت الى أذنه زغرودة . و جاءه عامل ليخبره بأن رزق كتب على ظريفة فى حفل خاص و نفر من أهله .
و ثار عبده ثورة جعلته يبدو بين عماله كالمجنون حقيقة لا مجازاً
و زاره قريب لرزق يحمل اليه اعتذره و قوله انه فعل ما فعل لينقذه من شر كبير كان حتما سيقع فيه . و ضاعف الاعتذار من جنونه و أعلن طرده من المطحن و توعده بشر من ذلك .
و لكن الذى حدث غير ذلك . و قال لى شيخ الحاره – و هو راوي قصة عبده و رزق و ظريفة- ان عبده عاد مع الأيام الى رشده . و غرق فى عمله لا يدرى ماذا يفعل فاقتنع بأنه لا غنى عن رزق . و عفا عنه و أعاده الى مركزه السابق .
و الأعجب من ذلك كله أنه فاجأنا ذات يوم بالزواج من أم ظريفة !

نجيب شاب

مندوب فوق العادة

كنت أراجع الصحف اليومية، وهو ما أبدأ به عملي عادة كل صباح، عندما  فتح الباب دون استئذان عن رجل غريب.

كان هائل المنظر لطوله وضخامته، فخم البدلة، وطربوشه الطويل الغامق يضفي على وجهه الأبيض نصاعة، وفيه وجاهة تؤكدها نظارة كحيلة وشارب غرير مربع كساه المشيب.

كان أيضا في الستين أو نحوها لكنه تقدم من مكتبي في حركة قوية ثابتة قابضة يمناه على منشة عاجية بيضاء وهو يقول بصوت حلقي غليظ:

  • صباح الخير، مكتب الصحافة ؟

فأجبته ولم أفق من صدمة اقتحامه:

  • نعم ، صباح النور!
  • أظنه تابع لمكتب الوزير؟
  • نعم……

فأخرج حافظته، واستخرج منها بطاقة أعطاها لي. نظرت فيها فقرأت :

إسماعيل بك الباجوري

مستشار برياسة مجلس الوزراء

انفجرت “الرياسة” في رأسي، ولم يكن قد مضى على خدمتي إلا عام أو دون ذلك بأشهر، ووقفت باحترام وأنا أبتسم كالمعتذر، وقلت بتأثر ظاهر:

  • تفضل بالجلوس يافندم، أنا في خدمتك!

لكنه مشى موغلا في الحجرة الصغيرة المستطيلة حتى وقف وراء النافذة في نهايتها يطل على ميدان الأزهار، ثم عاد إلى مكتبي وهو يسأل :

  • ألم يحضر معالي الباشا؟
  • كلا معاليه يحضر حوالي العاشرة.
  • ولامدير مكتبه ؟
  • المدير يحضر حوالي التاسعة…

فانحرف جانب فيه الأيسر في امتعاض، ثم مد يده إلى سركي الوارد وراح يفره بسرعة ثم قال :

  • خانات كثيرة لم تسدد هناك شكوى لم يرد عليها منذ عشرين يوما!

فانقبض صدري وأنا أتساءل على وجه من أصبحت اليوم، ثم قلت:

  • إني أوزع الشكاوي المنشورة في الصحف على الإدارات المختصة في يوم ظهور الجريدة، والإدارات هي التي التي تتأخر في الرد…
  • ولم لا تستعجلها ؟
  • أستعجلها طبعا، ولكن بعض الردود يستدعي التحرير إلى التفاتيش في الأقاليم.

فهز رأسه في امتعاض ثم أشار إلى الباب وهو يقول بلهجة آمرة:

  • اتبعني من فضلك …

وسار في ردهات الوزارة وأنا أسير إلى جانبه متأخرا عنه خطوة من باب التأدب، من ردهة إلى ردهة، حتى أخذنا في طريق العودة وهو لايمسك عن نثر الملاحظات:

  • مكاتب خالية، أين الموظفون؟!، حتى السعاة، والفراشون كالذباب الغائم!، ماهذه الزكائب المحشوة بالأوراق؟، وتلك الأكداس المكدسة من الملفات كالمقابر، ورائحة الزيت والبصل ؟، ماشاء الله ….ماشاء الله…..

وجعلت أبدي عن أسفي بهز الرأس والتبسم الحزين وأنا أسأل الله أن ينهي اليوم على خير، وإذا به يقول:

  • كل شيء في غير محله ؟ ..لو يعلم دولة الباشا !.

وعدنا إلى الحجرة فوقفت وراء مكتبي على حين جلس على الكنبة في شبه استلقاء ثانيا ساقه فوق ركبته، والظاهر أنه رحم ارتباكي فقال لي :

  • اجلس…

فجلست متشجعا بنبرة رقيقة انتزعتها انتزاعا من غلظة صوته، ومضى يتفحصني من وراء نظارته الكحيلة في غير مبالاة ثم سألني :

  • من الجامعة ؟
  • نعم…
  • لم توظفت ؟

فلم أحر جوابا. فقال:

  • قل لأعيش !، كلنا يريد أن يعيش، لكن الحياة تجري على غير مايجب !

فخفضت رأسيموافقا، ولاشيء أحب إلي من أن يحضر مدير المكتب ليخلصني من موقفي الرهيب.

  • أنا مكلف بعمل بحث شامل، مهمة شاقة، ولكن أهل ثمة فائدة ؟

تأثرت جدا لتعطفه بالبوح بمهمته الخطيرة وازددت في الوقت نفسه حرجا فقلت:

  • ستجىء الفائدة حتما على يديك

فتثاءب لدهشتي، وحل صمت مقلق، وكان يبدو عظيما جدا، ولعله ضاق بالصمت والانتظار فراح يتحدث وكأنما يحدث نفسه هذه المرة:

  • على المرء أن ينشد الطمأنينةوالصفاء ولكن كيف يتأتى هذا ؟!

فقلت وأنا في شك من سلامة الحديث:

  • ربنا يهب سعادتك الصحة.

فأنزل ساقه عن ركبته قائلا:

  • الصحة !، ماهي الصحة ؟، هي كمال التوازن والتوافق والتعاون في الكائن، ولكن هيهات أن تتحقق إذا كانت الصحة العامة معتلة، خذ مثلا صحة الوزارة!، خانات لم تسدد، موظفون لايحضرون،  روتين، وما الرأي في هذا الغلاء الفاحش ؟

فقلت وأنا أتابعه بجهد..وأي جهد:

  • شيء لايطاق …
  • العالم أيضا صحته معتله، هتلر ورم خبيث، ورم آخر، والأوقاف عندكم لماذا يستحق بعض الأوباش هذه الألوف المؤلفة ؟

فقلت رغم دبيب الدوار في رأسي:

  • فلنأمل خيرا مادام دولة الباشا مهتما بهذه المسائل.

فنهض بغتة وهو يقول:

  • لكن متى يأتي الوزير؟ …الساعة العاشرة؟، ومتى يأتي مدير مكتبه؟….الساعة التاسعة….

ونظر في الساعة ثم جلس مكفهر الوجه. واتجهت عيناه نحو التقويم المثبت بالجدار، الأربعاء 2 يونية، 29 جمادى الأولى، 25 بشنس، وتساءل في ملل:

  • كم ورقة يجب أن تمضي حتى تصبح الصحة على مايرام؟

ثم حدجني بنظرة متحرشة هرب لها قلبي، ولكن سرعان ماحلت محلها نظرة دعابةوهو يسأل:

  • ماذا تريد من الدنيا ؟

فارتبكت مؤثرا الصمت، ولما آنست انتظاره لجوابي تكلمت يدى بإشارات مبهمة سابقة لساني، ثم قلت :

  • أشياء كثيرة!
  • تكلم !

فاستجمعت شجاعتي قائلا:

  • مرتب حسن..
  • والصحة ؟.
  • لابأس بها ….
  • وكم منالنقود تريد ؟
  • مايكفيني…
  • حسبي الضروريات، والكماليات الهامة، وأن أتمكن من تكوين أسرة…
  • والآخرون ألا ينبغي لهم ذلك أيضا ؟
  • نعم لم لا !
  • عند ذاك ترتاح النفوس من الانفعالات الخبيثة…

فقلت بارتياح حقيقي:

  • نعم يافندم…
  • فقال بجدة ساخرة :
  • كلا ّ، لايكفي هذا كله، سيظل هناك هتلر، وتشرشل أيضا، هذه هي العقدة المحيرة، لقد كلفت بالبحث ولكنني كلما وجدت حلا لمشكلة عرضت مشكلة أخرى، وكلما أزلت دملا ظهر دمل جديد، كأن الرحلة يجب أن تشمل العالم كله…

فغمغمت بذهول:

  • العالم
  • نعم العالم، راقب آثار الحرب في بلادنا إن كنت في حاجة إلى دليل ، أمور كثيرة معقدة، ومشاكل لاحصر لها، فكر في أن تنعم بالجبال في سويسرا فسيقال لك أنها مهددة باجتياح الجيوش الألمانية ، أو أن تستظل بشجرة بوذا في الهند فستجد جوا مشحونا بالتعصب والانفجار، وقد تتطلع إلى زيارة موسكو ولكنك لن تعود ، والغلاء،  ألم يبلغ حدا لايتصوره عقل ؟

ولهث خيالي في إعياء، ولم أعد أفهم شيئا، لكني عكفت على النذر اليسير الذى وجدت له معنى فقلت:

  • الغلاء فاحش جدا، والطماطم نادرة الوجود، أما البطاطس فبات أسطورة…

ولاح في نظرته الكحيلة تفكير، وشىء من الحزن والفتور، فتساءل:

  • أتحل هذه المشاكل إذا حددنا المرتبات؟
  • أي مرتبات يافندم ؟
  • يصدر مرسوم بأن أعلى مرتب لايجوز أن يزيد عن كذا.
  • كذا ؟.
  • ألا تنتشر تبعا لذلك الطماطم ؟، ويظهر البطاطس، وتهبط أجور المساكن ؟
  • ولكن الدنيا ليست موظفين فحسب، هناك تجار، ورجال صناعة وأصحاب أراضي، وهناك أيضا الأجانب !

فهز رأسه كالمتعب وقال:

  • ويوجد هتلر، وموسوليني وتشرشل، وأكاذيب لاحصر لها ، وصرخات زنوج تصم الآذان….

ياله من شخص غريب ، ليس له جبروت المستشارين، ولا جلال الرياسة المخيف، بل وفيه جانب لطيف لايكاد يفصله عن …ماذا أقول؟ عن التهريج إلا خطوة ؟!،  بيدأني قررت أن أستمسك بالحذر الشديد حتى النهاية.

وقلت برقة ورجاء:

  • هذه أمور محيرة، ولاسبيل إلى حل مشاكلها، أو سبيل طويل لايعلم مداه، ولكن هناك سبيل ميسور قريب المنال لو أقنعت صاحب الدولة مثلا بزيادة علاوة الغلاء ؟.

فحدجني بنظرة استغراب وهو يقول:

  • أتريد أن تحول مهمتي الخطيرة إلى مجرد مسعى شخصي لتحسين حالتك ؟.

فاحترق وجهي بالخجل وقلت متلعثما:

  • لا أقصد ذلك ولكن….

فقاطعني بقوة:

  • ولكن عيبنا أننا نفكر في أنفسنا ولا شيء غير أنفسنا ….

ونظر إلى الساعة وهو يقول متسخطا:

  • الوزير في الساعة العاشرة، مدير المكتب في التاسعة، ضاع سدى جميع ماقصدته من التبكير !

وتذكرت بغتة واجبا فاتني لشدة ارتباكي فهتفت :

  • لم أطلب لسعادتك القهوة!

ومددت يدي نحو الجرس ولكنه أوقفها بحركة آمرة وساخطة وقال بحدة :

  • نحن في مقبرة لاقهوة !

ثم بشىء من الهدوء:

  • قلت إن عيبنا أننا نفكر في أنفسنا ولاشىء غير أنفسنا، الحق أن لى من القدرة ما أستطيع به أن أبلغ الصفاء، علي فقط أن أعتزل العالم وهمومه، وهو صفاء حقيقي أسمع في سكونه الأبيض موسيقى النجوم، علي فقط أن أعتزل العالم وهمومه ، لكني لا أستطيع، لا أريد، للهموم أيضا أنغامها التي يلتقطها القلب، فأما صحة عامة أو لا صحة على الإطلاق هذه هي عقيدتي النهائية، ولذلك كلفت بالمهمة.

وراح يعبث بشعر المنشة فداخلني شعور بالحيرة، وتساءلت عما يعني الرجل، ماذا وراء هذه النظارة الكحيلة ؟ . وعند ذلك فتح الباب وظهر الساعي وهو يقول لي كعادته:

  • إليك المدير وصل .

واستأذنت من المستشار فمضيت من فوري إلى المدير وقلت له :

  • إسماعيل بك الباجوري المستشار برياسة مجلس الوزراء في مكتبي.

وانتفض المدير واقفا وهو يتساءل:

  • إسماعيل بك الباجوري ؟

وفي اللحظة التالية كان يصافحه باحترام بالغ مقدما إليه، ثم ذهبا معا إلى حجرة مدير المكتب ولبثت وحدي أفكر، ولما يذهب عني روع المقابلة وشجونها.

وواصلت عملي في مراجعة الصحف وأنا مشتت الفكر، لايتركز انتباهي في شيء مما بين يدي. ومضيت نصف ساعة أو نحوها ، وإذا بالباب يفتح ويدخل مدير المكتب مهرولا. أقبل نحو التليفون وهو يسألني:

  • هل تعرف هذا المستشار ؟

فأجبت نفيا، فأدار قرص التليفون :

  • آلو رياسة مجلس الوزراء ؟، أنا علي عباس مدير مكتب وزير الأوقاف، من فضلك هل يوجد في الرياسة مستشار اسمه إسماعيل الباجوري ؟
  • –         ……..
  • سعادتك متأكد يافندم !، عندنا شخص بهذا الاسم وهذه الصفة كما هو واضح في بطاقته ….
  • –         …..
  • آسف على إزعاجكم وسأفعل ما أشرتم به….

وضع السماعة دون أن ينظر إلى وجهي الضائع ثم أدار القرص ثانية :

  • آلو ، سعادتك المأمور ؟
  • ……
  • علي عباس مدير مكتب وزير الأوقاف، عندنا شخص ينتحل شخصية مستشار بالرياسة ، يتحدث حديثا غريبا ويطلب مقابلة معالي الوزير، وبالنظر للظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد فأخشى أن يكون من الإرهابيين….
  • –         …….
  • الواقع أن مظهره مخالف لهذا النوع من الشباب، ولكني آخاف من المفاجآت ….
  • –         ……
  • في انتظارك يافندم، أرجو السرعة …

وأعاد السماعة وغادر الحجرة وأنا في حال، ووضح الأمر في القسم.

لم يكن الرجل إرهابيا ولكن كان به لطف. واستدعينا أسرته، واتخذت الإجراءات المتبعة، وقد سمعته وهو يقول للمأمور في كبرياء غاضب:

  • الحق علي، ماكان أسهل أن أنعم براحة البال، الحق علي …..

مسـاحة حـــرة

أشرف عبدالشافى2

محفوظ وكرة القدم ” أشرف عبدالشافي

تحت عنوان (الأدباء أيضاً يمكنهم اللعب)، اختارت ” النيويورك تايمز” أحد عشر لاعباً يمثلون اشهر شخصيات الإبداع فى العالم ،ومن بينهم 3 شخصيات حصلوا على جائزة نوبل الأول هو الاديب الروسى ـ الأمريكى “فلاديمير نابوكوف” لحراسة مرمى الفريق ،وذلك لأنه مارس هذا الدور فى صباه حيث كان يعشق حراسة المرمى ،أما الثانى فهو الكاتب التركى الشهير “أورهان باموق” الحاصل على نوبل فى دورته الأخيرة وذلك للعب فى مركز الظهير الأيسر.
وفى قلب الدفاع كان “نجيب محفوظ ” حاضراً بقوة،فصاحب “زقاق المدق والسراب وخان الخليلى والحرافيش وبين القصرين ..”بدأ حياته لاعباً لكرة القدم ،وشهدت شوارع العباسية مقابلات ساخنة بين جيل كامل كان محفوظ واحداً من أبرزهم ،وقد ساعدته مهاراته فى اللعبة على اكتساب مهارات إبداعية فيما بعد ،وهذا ما أكده الناقد د.محمد بدوى عندما قال :” كان نجيب محفوظ فى مراهقته لاعب كرة قدم مشهوراً بالمراوغة والحيلة والسرعة، ثم قرر فى لحظة ما أن يهب نفسه للكتابة ليواصل اللعب بمهارة وخفة وحكمة ايضاً “.
من المدرسة الابتدائية بدأت علاقة الطالب نجيب محفوظ بكرة القدم ،حيث كان يلعب فى فريق الصغار بالمدرسة بينما ضم فريق الكبار الكابتن “ممدوح مختار” الذى كان يلعب بين صفوف الفريق الأول بالنادى الاهلى وهو من عائلة صقر التى اشتهر منها “عبدالكريم ويحى صقر”.
ولعب نجيب محفوظ فى الهجوم وتحديداً فى مركز الجناح الايسر، ويقول عن ذلك:( رغم اننى لا أجيد اللعب بقدمى اليسرى وكان ذلك المركز يحد كثيراً من حركتى ، ومع ذلك كنت هداف الفريق واكثر لاعبيه احرازاً للأهداف، وعندما انتقلت الى مدرسة فؤاد الاول الثانوية تغير مركزى وأصبحت العب كقلب دفاع وأجدت فى المركز الجديد لدرجة ان كثيرين ممن شاهدونى فى ذلك الوقت تنبأوا لى بالنبوغ فى كرة القدم وباننى سألعب لأحد الأندية الكبيرة، ومنها إلى الأولمبياد مع المنتخب الوطنى، ومن هنا كانت دهشة زملائى عندما انتقلنا الى الدراسة الجامعية ورفضت الانضمام الى فريق الكرة بالجامعة، ومنذ ذلك الوقت انقطعت علاقتى بكرة القدم من ناحية الممارسة ثم انقطعت صلتى بها من ناحية المشاهدة والمتابعة بعد اعتزال الكابتن حسين حجازى.
ويواصل صاحب نوبل حديثه الشيق عن علاقته بكرة القدم :” قد لا يصدق أحد إننى كنت فى يوم من الأيام (كابتن فى كرة القدم) واستمر عشقى لها حوالى عشر سنوات متصلة ، فى اثناء دراستى بالمرحلتين الابتدائية والثانوية .. ولم يأخذنى منها سوى الأدب . ولو كنت داومت على ممارستها فربما أصبحت من نجومها البارزين . وعلاقتي بالكرة ترجع الى الفترة التي انتقلنا فيها إلى العباسية ،كنت وقتذاك قد التحقت بالمدرسة الابتدائية ، واصطحبنى شقيقى ذات يوم لزيارة صديق حميم له من عائلة الديوانى، وهى عائلة معروفة ، ومن أبنائها أطباء ومستشارون . كان بيت هذا الصديق يطل على محطة السكة حديد . وعندما فرغنا من تناول الغداء اقترح أن يصطحبنا لمشاهدة مباراة فى كرة القدم بين فريق مصرى وآخر انجليزى، وكم كانت دهشتى كبيرة عندما فاز الفريق المصرى، فقد كنت أعتقد حتى ذلك الوقت أن الإنجليز لا ينهزمون حتى فى الرياضة.
رجعت يومئذ الى البيت وذهنى كله معلق بكرة القدم، وباسماء لاعبى الفريق المصرى الذى هزم الانجليز، وخاصة كابتن الفريق حسين حجازى نجم مصر ذائع الصيت في ذلك الوقت. طلبت من والدى ان يشترى لى كرة ، والححت عليه حتى وافق، وبدأت اقضى وقتاً طويلاً فى فناء المنزل العب الكرة بمفردى، ومحاولاً تقليد ما شاهدته في تلك المباراة التي خلبت عقلى. وبسرعة شديدة استطعت ان اتقن المبادئ الاساسية للعبة.
………..
من كتاب ” المثقفون وكرة القدم”

104822594_283923016311251_3165488278194602649_n

طبيعة الصراع في القصص القصيرة لنجيب محفوظ.

                     قراءة في مجموعة ” أهل الهوى “

                                  رؤية : سمير الفيل

* من يقرأ المجموعات القصصية المتنوعة لنجيب محفوظ سيلحظ دون شك طبيعة الشقاء الإنساني الذي يصادف أبطاله ، وهو ما يجسده الصراع الذي ينشأ على عدة مستويات يمكن تلخيصها في المرتكزات التالية :

ـ الصراع بين الأبطال وواقعهم المرير ، في محاولة لانتشال الذات من وهدة الفقر والعوز المادي والروحي .

ـ الصراع المستمر بين الإرادة الإنسانية في مواجهة قوى تحاول فرض القهر والوصاية ، وسلب الكائن البشري كرامته وعزته.

ـ الصراع بين الذات المتطلعة للتحقق وبين قوى تحاول أن تسيد خطابها الأحادي ، وهو ما يؤدي لعملية مقاومة مستمرة أو تسليم نهائي بالأمر الواقع .

وفي كل الحالات فالبشر يشعرون بضعفهم البشري فيزهدون في الدنيا أو يزيدون من التهام متع الدنيا ، وقد يبلغون حافة الجنون ، وكثير من أبطال محفوظ يفرون  إلى الله فهو الملاذ الأخير. مع تنويعات على اللحن الأساسي الذي يحاول القبض على ممكنات القوة ، عبر الزمان والمكان وكلاهما متغير بطبيعته.

وقد اخترت ” أهل الهوى ” وهي مجموعة من القصص القصيرة التي اختارها الكاتب بنفسه للنشر في سلسلة روايات الهلال بعد فوزه بجائزة نوبل للأدب سنة 1988.

* البحث عن الحقيقة:

في ” زعبلاوي ” ينشغل بطل النص في البحث عن تلك الشخصية التي  سمع بها من والده في عهد طفولته ، لكنه لم يلتق به مطلقا. حين يطوقه اليأس ويصيبه الداء وتسد في وجهه السبل يقوم برحلة شاقة للعثور على الشيخ زعبلاوي ، فأبيه قد أخبره أنه عرفه في بيت الشيخ قمر بخان جعفر ، يكتشف الراوي أن الشيخ قمر قد نقل سكنه إلى حي جاردن سيتي ، يخبره أنه ابن الشيخ علي التطاوي ، ويريد لقاء الولي الطيب ، فيشير عليه بالذهاب إلى برج البرجاوي بالأزهر ، ويحاول البحث بجدية عند شيخ حارة الحي ، فيفيده انه لا مسكن له ، يطوي خريطة بالأماكن المحتملة في جيبه ويمضي في البحث ، وعند حسنين الخطاط يحط به عصا الترحال فيصفه بالرجل اللغز ، حيث يقبل عليك حتى تظنه قريبا ويختفي فكأنه ما كان . يذهب إلى بيت موسيقار بالتمبكشية هو الشيخ جاد فيخبره بمراده ، فيؤكد له أن هذا الولي العجيب يتعب كل من يريده فبعد أن كان يتمتع بمكانة لا يحظى بها الحكام بات البوليس يطارده بتهمة الدجل . يخبره أنه يتردد على الحاج ونس الدمنهوري وهو من الوارثين الذين يزورون القاهرة من وقت لآخر. يعثر عليه في حانة النجمة وما يلبث أن يضغط عليه فيشاركه السكر عقب الكأس الرابع تدور به الدنيا فيستسلم للنوم وينطلق في حلم بهيج ، يصحو فإذا برأسه مبتل ليخبره الحاج ونس أن الشيخ زعبلاوي كان في المكان فترة نومه وقد ذهب وهنا ينطلق الراوي باحثا عنه في كل مكان بلا جدوى.

فكرة البحث عن الأب أو المعنى أو الحقيقة تتردد في أكثر من عمل لنجيب محفوظ ، فنجدها أوضح ما تكون في رواية ” الطريق” 1964 ، و” الشحاذ ” 1965 ، أما هذا النص الذي كتب عام 1962 فهو بمثابة الإرهاصة القوية للأعمال التالية ، وفيها خيط سحري يتسرب في مفاصل النص ، فرحلة الإنسان في الدنيا هي محاولة مستمرة لليقين ودحض الشك.

لن نقترب من معنى أن تكون المسألة متعلقة بفكرة البحث عن الإرادة المطلقة ، وإن كان هذا التفسير له نصيب من الصحة ، لكننا أكثر اقترابا من رحلة اكتشاف الذات عبر ثيمة فنية ترى أن الذات الإنسانية قلقة بطبعها ، لا تهدأ ولا تستريح ، وهي تحاول إخماد الشكوك للوصول إلى مرافيء اليقين. إن الفكاك من المصير المؤلم والقدر الغامض أمر حتمي وما البحث إلا تجربة أصيلة لفهم ما وراء الحجب . إن مأساة البطل هنا يرفدها إحساس قوي بالضآلة والضعف ، وفي مسارات الإنسان احتكاك قوي بالملذات التي قد تعطل الاقتراب من الكشف الباهر. لذا كان الضياع حتميا ، وينبغي الاعتراف أن اغلب قصص الكاتب تسير على هذا التوجه الفلسفي حيث تأمل حيوات الشخصيات المتردية في الخطيئة والباحثة بكل شجاعة عن فرصة للإفلات من الهلاك أو الضياع وربما الموت.

شخصية البطل يكتنفها ظلال وجودية ترى العبث في تفصيلات الحياة ، فالاغتراف من ملذات الدنيا لا تؤدي إلى راحة الضمير ، ومن ثم يكون على الذات أن تفتش في الزوايا والأركان والمدن والبلدات عن حقيقة ذلك الوجود ، وعن يقين يبعث الطمأنينة في النفس . الخلاص من عبودية العالم تتطلب المزيد من البذل والتضحية ، وتظل هناك فسحة من الأمل وهو ما يعني اقتراب الشيخ زعبلاوي من رأس البطل وسكب الماء عليه قبل أن يفيق فهناك حالة من المراوغة والتي يطلق عليها عامة الناس ” الملاوعة ” ، فالحياة تتضمن هذا الشق الذي يعني العذاب الحقيقي لمن أراد المعرفة. فقانون الحياة أن تمضي غافلا عما فيها من أعاجيب ، متعاميا عن ضربات القدر الطائشة ، أو أن تتوجه لفهم ما يدور حولك ولو كان هذا اختيارك فرحلتك مشوبة بشيء من التعاسة والأسى بل والخبل.

الحياة بهذه الصورة مركبة ولا تسلم أسرارها لأحد إلا بعد مكابدات ومجاهدات وربما انتهى الأمر بالوعد المنبسط في مستقبل آمن لكنها تخادعه كونها تنتهي بالموت في كل الأحوال . بين الميلاد والموت مسافة متعرجة أو مستقيمة ، صاعدة أو هابطة ، يخوضها الإنسان بإلحاح قاس وأعصاب عارية ، بحثا عن أمان كذوب أو طمأنينة زائفة.

وسوف نجد الكاتب يستخدم تكنيك الخط العرضي مارا بالأمكنة والشخصيات ثم يكتشف أن هذا الخط قد تحول في النهاية إلى شكل مستدير لا تكاد تعرف نهايته من بدايته. أما اللغة التي يستخدمها محفوظ فهي مرصعة بأسلوبه السهل الممتنع وقصة كهذه تحتشد بالأماكن والشخصيات التي تكاد تراها من دقة الوصف والتصوير ، وهي السمة التي تشمل إنتاج الكاتب على وجه الشمول.

شخصية ” زعبلاوي ” التي لا نكاد نراها ، تتوزع على أفواه المحبين والمريدين ، فنحن نعرفه بوصفه لا بوجوده ، كما أن تأثيره يفوق مساحة حضوره ، ناهيك عن الظلال الأسطورية التي تحيط بالشخصية المحورة للعمل ، فهي غائبة حاضرة ، تنسب إليها الكثير من المعجزات.

إن الزمن الذي يتحرك في أغلب نصوص محفوظ  “هو تشكيل إبداعي لحركية الوجود بكل ما يعنيه جدل وعي الحياة ووعي الموت” (2) . تجربة البحث عن زعبلاوي تمثل في رأيي درجة الوعي التي شملت شخصية البطل في استجابته لنداء قاهر يبحث فيه عن المعنى الذي يغيب وراء حركة الأشياء ، أما خيب مسعاه فيرجع إلى عدم استطاعته أن يسلك الطريق الصواب ليدخل هذا العالم الرحب المترامي الأبعاد. فكأن رحلة الشقاء التي يعانيها البشر هي في نهاية الأمر سعي حثيث لاكتشاف خواء الأفكار القديمة التي تكلست بفعل الزمن.

بهذه النزعة الصوفية يسقط الكاتب الهامشي ويمضي في تقصي الجوهري ومعرفة أبعاده ، ولنجد أن علة الشقاء هو الألم الذي يلم بالنفس البشرية وينعكس تلقائيا في تصرفاتها ومسلكها مما يدفعه لتجاوز المحنة عبر البحث والكشف والتنقيب الذي غالبا لا يصل إلى محطة نهائية مستقرة ، بل هو اغتراب ابدي ، وتعب أكيد ، ومرض عضال لا شفاء منه.

* صراع بين جيلين :

هناك صيغة تتساءل عن ماهية الإنسان حين يدرك مأزق وجوده ، وهناك درجة أخرى من القلق يعانيها الشخص عندما يصل إلى سن الشيخوخة فيكتسب الحكمة لكنه في الوقت ذاته يفقد قوته العضلية ومرونة حركته. ربما هذا ما تثيره قصة ” القهوة الخالية ” كتبها نجيب محفوظ عام 1965 ، وفيها نجد محمد الرشيدي يودع زوجته ورفيقة عمره زاهية إلى القبر ، وعندما ينفض المأتم يعرض عليه ابنه صابر أن يحل عليه ضيفا مع الخادمة مبروكة وتقابل منيرة الزوجة ذلك العرض بابتسامة ترحاب وروح طيبة ، وينتقل فعلا لبيت الأسرة الصغيرة وتحمل نظراته معنى الحياء ويتذكر سميرة ابنته التي سافرت خارج مصر ، ويندفع الحفيد ” توتو ” لمداعبة جده ويحاول خلع طربوشه ليرى صلعته . من هذه النقطة العابرة بين مداعبة الجد الحنون وبين عبث الطفل الطائش تتعمق المفارقة بين زمنين ، وتتخلق المشكلة بين نمطين من الحياة.

لم يكن العيش في بيت الابن مجرد محاولة للاستجمام بل هو هروب من الوحدة ، إنه يرجع الفكر ليوم زفت إليه زاهية في ” الحلمية ” وكيف رقصت أمامها الصرافية ، وعاشت معه أربعين عاما في محبة ووئام. يعود بذهنه ليوم احتل الانجليز القاهرة وظفر بجواد ضال ولكن والده خشى العاقبة فضربه ومضى بالجواد ليلا على الخليج ثم أطلقه والمدينة ترتجف من شدة الخوف وقسوة الحزن.

 طفولته التي شهدت هذه الحوادث يقظة لما يفعله ” توتو ” حين يلمح قطته البيضاء ترتاح عند مقام الجد فيقبض بشدة على قفاها ويجري بها خارجا. يلتقط الطفل كرة  صغيرة يرمي بها العجوز، يشعر بأسى وهو يتذكر ابتنه سميرة حين فقدت طفلا في سن ” توتو ” فعزاها وفي المأتم كانت الأعين ترمق شيخوخته بدهشة مستحضرة التناقض الصارخ بين بقائه وموت حفيه . يلوذ الرجل بجلسته المفضلة في قهوة ” ماتلتيا ” فإذا بها خالية من الأصحاب والمعارف ، ترتد ذاكرته إلى أيام الجلوس مع الشلة ومناقشات أخبار جريدة ” المقطم ” ، ويوم إحالته إلى المعاش عام 1930 عاد بيته كي ينام آخر الليل ليحلم بأنه يلعب في الجنة .

 أما في بيت صابر فليس أمامه أن يأتنس إلا بالقطة ” نرجس ” وهو ما يراه ” توتو” تعديا على ممتلكاته. تكاد خشونة الصغير مع جده تبلغ درجة الشجار فهو يندفع غاضبا ليدفع الجد في ركبته فيترنح ويتهاوى حتى يكاد يسقط على الأرض لولا أن تلقاه الجدار. يحاول النهوض فيعجز وما تلبث خادمته مباركة أن تنقذه من السقوط الوشيك . يجلس على مقعده مغمضا عينيه ليستجم ، وهي لحظة مناسبة لتذكر حفل تأبين راسخة في الروح . رجع من المنصة بعد أن ألقى كلمة طيبة ودوى التصفيق والهتاف . يرتفع مواء القطة وبكت كل عين حتى الأطفال ترامى إليه صراخها . وتنتهي القصة باستغراقه في النوم.

العلاقات هنا تسير على نحو متسارع بين رغبة الجد في أن يلوذ بالهدوء والسكينة ، وقوة إرادة الطفل في أن يظفر بقطته بكل قوة ممكنة. التعامل الخشن الفظ وأسلوب الحكمة الرصين لا يلتقيان. هي بذرة صراع بين جيلين في طريقة الحياة، وأسلوب المعيشة. وربما تعمد الكاتب أن يغيب الابن صابر ليشتد الصراع ويكون بين طرفين لا علاقة مباشرة بينهما فزيارات الحفيد للجد كانت جد قليلة.

زاهية الزوجة الغائبة بدت أكثر حضورا فهي منقذته رغم رحيلها ، وشلة المقهى الذين تبددوا يمثلون له الطمأنينة المفتقدة . إن الزمن يدب فيحرك الأشياء ويوسع المسافات وهو في تسارعه لا يبقى على حقائق راسخة فكل شيء يتبدد ، ومن خلال جدل الموت والحياة تنقشع الضلالات ليتأكد بطل القصة محمد الرشيدي أن زمنه قد صار مفقودا ، وأنه قد أصبح عالة على الحياة ، و” القهوة الخالية ” هي ترديد جواني لذاته الخالية من كل معنى. ليس هناك جحود من الابن الوفي صابر ولا من زوجته المطيعة لكن الزمن نفسه هو الذي يكشر عن أنيابه ويشعره بالانكسار. تشمل النص نبرة حذرة تعكس ذلك التدهور الحادث في شخصية الجد الذي يتسلح للعثرات بابتسامة حكيم. إنها حيلة العاجز وملاذ الضعفاء ، ولقد كان مبضع الجراح حادا حين كشف عن الداء بكل جرأة فإذا بالموت يظهر في تفاصيل الأيام الأخيرة للشيخ الذي يبدو على شفا التسليم بالعجز ، وإن لم ينطق التعبير عبر اللغة.

* ثيمة الإرادة والعجز :

إن القراءة الفاحصة المتأنية لنصوص نجيب محفوظ السردية القصيرة تدفعنا لمتابعة اشتغاله الدءووب على ثيمة الإرادة والعجز ، وهي إن كانت قد تجلت كإحدى مسببات الشيخوخة في النص السابق فهي تختلف هنا لتكون العجز الكامل في معرفة الذات بعد تبدد الذاكرة وتشتتها كما نجد في ” روبابيكيا ” ، والتي كتبت عام 1971 ، وهو العام الذي أعلن فيه السادات أنه ينوي الحرب ضد إسرائيل باعتباره العام الحاسم ثم لما انقضى العام بلا تحرير تحدث عن وجود ضباب في الأجواء . إن العجز الذي كان يدوم فوق رأس الأمة المنكوبة بهزيمتها القاسية إثر حرب يونيو ( حزيران ) 1967 قد ألقى بثقله على الساحة الأدبية ، ولم يكن كاتب بحجم نجيب محفوظ يصمت ، وهو يرى مظاهر الانكسار تتجمع لتشد وطنه نحو الهاوية . إن السياسي الترميزي قد ينهض على مستوى بعيد فيما يتجلى الواقعي الإنساني في ذات النص ، ولأن العمل السردي معقد ، غامض ، ملتبس ، عند تماسه مع القضايا الكبرى فقد أفلح نجيب محفوظ في تمرير أفكاره عبر المعادل الموضوعي وسلسلة الترميز الغير مؤكدة التي يمكن تسريبها عبر خطاب فكري يحتاج إلى قدر من الفطنة والدهاء .

لكن أبهى ما في تجربة محفوظ أنك تستمتع بالنص عبر القراءات المتعددة ، فنصوصه جماليا حمالة أوجه ، وهو ما يبدو من خلال سياحة في النص بحرفيته وببعده التاريخي المستتر وراء السطح المواّر بالدينامية والحركة لأبطاله الممسوسين بقدرية عجيبة.

الأشباه والنظائر ، والمتضادات والمتناقضات تجتمع في هذا النص المدهش الذي يتحدث عن شاب يلتقي بفاتنة تحت شجرة الأكاسيا ، يحبها على الفور ، ويقع في غرامها ، فتبوح له بكونها تكره العجز . عند السور يظهر رجل غريب ،يحذره من الاندفاع وراء عاطفته التي لم يختبرها بعد ، يخبره أنه كان زوجا لتلك المرأة ، وقد طلقها عندما تردت به الأحوال حتى صار تاجر روبابيكيا . يشير له أن مكانه في سوق الكانتو حيث يعرف بالملعون. لا يستمع إليه ـ لنلاحظ هنا دور الغريب الذي يشبه الجوقة في الملاحم الإغريقية ـ ويمضي الشاب في استكمال مشروع الارتباط، ، تتزوج به ، وتجلس في نعيم ؛ لتحدق في اللؤلؤة المعجزة التي صاغها بأصابعه ، وما تلبث الأيام أن تدور دورتها فيختل ميزان العمل في يده ، ويشعر بلعنة مؤكدة تطير النوم من عينيه. حين تحاصره المقادير المظلمة يذهب ليتقصى أخبار تاجر الروبابيكيا ، ليسأله عن التفصيلات التي رفض سماعها عند أول لقاء . في طريقه إلى هناك تنهال السياط على ظهره في الظلام كالنيران .

ربما كان كابوسا مزعجا ما حدث له في رحلة البحث غير أنه يهتدي إلى ناصحه القديم حيث يعترف له أنه جاء يسأل عنه ، فحدث له ظرف مؤلم ، حيث جرى معه تحقيق غريب وسجن في الظلام زمنا لا يدري به. يتفق الجواهرجي المعدم والملعون بائع الروبابيكيا على مشروع تجاري يعود عليهما بالربح ، ويتحقق لهما الثراء . في انعطافة من الزمن تأتي المرأة بنفس جمالها المثير لتطلب قرضا فيعرفها بنفسه ويساومها على الرجوع لعصمته لكنها ترفض ،  فماذا يفعل وعجزه المستتر يفضحه ؟

يعاوده الطبيب حاملا حقيبة وعصا غليظة . يشرح له أسباب إصابته بذلك العجز المزري ،ويؤكد له أنه كان يخاف النسيان بقدر ما يتمناه ـ نلمح هنا عنصر إسقاط تاريخ الشخصية للهرب من تبعات الاختيار ـ و في لحظة جنون ماكرة يمضي الطبيب في تحطيم التحف النفيسة التي هي ثروة الرجل ، وسرعان ما تحولت التحف والمصابيح والثرايا أكواما من الشظايا. وينطق الرجل المصابة ثروته بما يعلن عن غضبه وجنونه فيهنئه الطبي على شفائه من عجزه.

يمر من تحت النافذة بائع روبابيكيا ينادي بصوت أجش ، فيناديه أن يحمل البقايا ويكتشف البطل أن ما بقى لم يعد بذي قيمة. يقترح عليه بائع الروبابيكيا أن يحمله على عربته ، فهذا أليق به ـ لننتبه في هذه التفصيلة لفكرة إسقاط عنصر الإرادة للهروب من المراجعة أو المؤاخذة أو المحاكمة ـ ورغم رفض الرجل للفكرة فإنه يجد نفسه ، وقد حمله البائع على كتفه كطفل ،مضى إلى الخارج. يدفع تاجر الروبابيكيا العربة وقد رقد فوقها الرجل بين أشيائه المحطمة .عندما يبلغ طريق النيل لدى هبوط المغيب بدا الرجل مستسلما ،يخطف بصره شيء يلمع ، يجد فيها اللؤلؤة تتراقص فوق صدر المرأة الفاتنة . كانت تبحث عن زوج جديد . يخمن أنه قد دبت فيه الحيوية فينتظر اقترابها على لهف لكنها تحاذيه وتمر به دون أن تلتفت نحو العربة . تمضي في الاتجاه المضاد .

هذه التجربة المتشابكة ، المعلنة عن كدح وتعب ، عن جب وغرام ، يتلوه فقر ومسغبة تنتهي بعجز كامل لا يشفع معه طب أو سحر. إن البطل يحفر قبره بأظفاره ولكنه رغم التحذيرات المتكررة يمضي نحو المأساة دون لن يراجع حساباته أو يختبر مواقفه فيخسر ماصيه وينهار حاضره ، فضلا عن مستقبله المجهول الذي ينظر بموت محقق على المستوى المعنوي وربما المادي . أليست هذه تراجيديا على أية حال؟

أخلص نجيب محفوظ في تلك التجربة لهاجس الانهزام نتيجة غباء السلطة المطلقة التي تمثلها المرأة التي تفتن الرجال وتمضي في تنفيذ مخططها لخراب البيوت ، والانتقام من المغيبين من أصحاب النوايا الحسنة والإذعان المتكرر ، والهفوات المقلقة . فهم العالم الكارثي يأتي عبر الرمز لكنه يبسط خطابه الجارح على مستو أول ؛ فتشعر كمتلق بمدى الانهيار الذي يبدأ بالذات ثم يمضي ليحطم كل الأشياء الثمينة التي يمتلكها الفرد. زيارة الطبيب أو الساحر كانت هي الأخرى مجرد خديعة لتفويت الفرصة على إدراك فداحة الخطب وعظمة الخسارة.

 الفهم المتأني لخط السرد الخطي يتعامد على عمود رأسي يتقاطع في نقطة ضعف تشبه العقدة ليضاعف الخيبة فإذا الضياع يكتمل بفقد البيت بعد طمع الزوجة وإنكارها الزوج في محنته. يتراوح أسلوب السرد بين ضمير الغائب ثم استحضار حوار يعتمد فعل المضارعة لينتقل الحدث إلى ما يمكن أن يكون اعترافات تحمل نبرة الرثاء وبذرة الفناء.

إن قصة البحث التي وجدناها في ” زعبلاوي ” تتوزع بعد ذلك في مسارات مختلفة ، ما بين السيرة وبين فكرة الاعتراف ، يصل بينهما هذا الحوار الرقيق الكاشف عن تضاعيف المأساة. تبدو تركيبة الشخصيات عند الكاتب غريبة حقا ، فهي تكشف عن ذوات محبطة تسعى للسعادة التامة ، والراحة المبهجة  ، فيكون مصيرها النهائي هو الفقد والخور والانحطاط . إنه يتردد كصدى ضعيف مع شيخوخة الجد حين يلعب مع حفيده ” توتو ” فيصاب بارتباك شديد ويهرب لذاكرة قديمة مع مقهى “ماتاتيا ” ، أما في نصنا هذا فالانفعالات تتصاعد ، والمثال يتبدد فيما يتهاوى الحلم في لحظة بصوت مدو يعلن عن الفجيعة مكتملة الأركان.

الخطاب السردي يقف عند أعتاب فكرة الكشف عن ضرورات النكوص وطرائق الانهيار فالمرأة لم تكن مخلصة ، وهو في سعيه للاقتران بها كسلطة وحيدة ، جميلة شابها الطمع ، الشيء الذي أودى بتماسكه ،  فإذا هو عاجز ، محبط ، مقهور . يكاد يكون مصيره الوحيد هو عربة الروبابيكيا التي يسوقها البائع بتمهل كبير لحظة المغيب.

هي صورة مجسدة للضعف البشري فتبدو عبر الحبكة القصصية لحظة تنوير مدهشة تعلن عن فجائعية مرهقة تسيطر على القوى التي استأمنها الناس فسلمت مقاديرها لمن يكذب ويخدع ، يراوغ ويعقد الصفقات دون أي اهتمام بالعيش والملح أوب”العشرة ” بمغزاها الشعبي . سقوط الرجل لم يكن فجائيا في نظر الكاتب بل مضى في طريقه بعد مصارحة الملعون له . جرس الإنذار لم يجد آذانا صاغية لذا كانت النهاية بمثل هذه القسوة.

تعترف المرأة له أن ” رذائل القوة أحب عندي من فضائل الضعف ” ، الشيء الذي لم ينتبه إليه  إلا وهو في حالة ضعفه وانحطاطه وعجزه البائن ، ساعة مغيب العمر.

يلاحظ أن الصراع في النص سار في اتجاهين رئيسيين : الاتجاه الأول نلمسه في جدله مع الذات لاختيار الطريق الذي سلكه تقربا من المرأة الفاتنة التي التقاها مصادفة . الاتجاه الثاني يتشكل من احتدام الصراع بينه وبين المرأة التي تطالبه بالجواهر والمال وبين نفسه المنزعجة من سوء المصير. غاية ما كان يملكه أن يلقي بنفسه في تيار عارم من النشوة ينتهي بتلك المأساة التي تجسدت في حمله كقطعة ” روبابيكيا ” عديمة القيمة ، قليلة النفع.

* ثنائية الخير والشر

  المرأة الفاتنة التي تطرح الأسئلة حول ماضيها الذي لا يعرفه أحد لحن أساسي في أعمال محفوظ له تنويعات فرعية تتكشف دائما عن ضياع كامل أو انهزام مستحق. في ملحمة ” الحرافيش ” محاولة للإجابة عن سؤال أرق الإنسان منذ بدا الخليقة عن انتظار العدل دون كلل أو ملل فالإنسان يتوجه بكليته نحو الخير مهما عانى أو تعثر أو أخطأ وبالطبع لا تقر العدالة إلا من خلال سلطة عادلة ورؤى حكيمة. ذلك ” أن التحدي الإنساني يظل مفتوحا على مصراعيه ، ويبقى باب الأمل منتظرا أن نلجه في وقت أو في آخر ، ومثلما كان الفن إمكانية للتغيير والتبديل والانطلاق ، فالإنسان عند نجيب محفوظ يظل إمكانية لتحقيق العدل على سواعد من القوة الحكيمة وانتظار للخير وأمل فيه واستشراف نحو النشيد الإلهي نشيد الحياة الخالدة ” (3). 

في ” نور القمر ” التي كتبت عام 1979، تأخذ التجربة منحى آخر لأن النص يؤكد حقيقة الضعف البشري في مواجهة المطلق أو الزمن ، فنور القمر هذه المرة امرأة ناضجة ، تتألق بأبهة الأنوثة الكاملة ، لعلها في الثلاثين ، تعمل مغنية في إحدى ملاهي روض الفرج، أما أنور عزمي ، بطل المغامرة  فهو من ذوي المعاشات ، في الخمسين من العمر ، أكول ، ضحوك ، صافي السريرة ، كان ضابطا بالجيش حتى أحيل للتقاعد ، عرف الحب حين قاده مصيره إلى ملهى” الواق واق” استمع منها إلى وصلتين من الغناء ، فهام بها وألح في مقابلتها فمنعه الجرسون حمودة ، ولم يجد مفرا من التعرف على سنجة الترام فتوة المحل ليوصله بها. أحيط بالمرأة ستار من الكتمان ، تزوره عمته نظيمة فتفضي إليه بحديث سوء يتناقل عنه من خلال حمدي مأمور شركة وزوج ابنتها ، لكنه لا يرعوي . في شقته بالمنيرة يمضي ليضع الخطط فيتعرف على موسى القبلي مدير الكازينو لكنه حسب مقولة محفوظ على لسان البطل ” كنت أحلم بالنجاة ، وأنا أتدحرج نحو الهاوية ، لم تعد قوة بقادرة على صدي ” . في إحدى كبسات الشرطة  يقبض على جميع من في المحل ومنهم البطل فيشعر بأنه عار تماما.

بعد القبض على موسى القبلي يسعى حثيثا ليحل محله في إدارة الكازينو ويقابل حفني داود صاحب كازينو الواق واق الذي يسند إليه الإدارة ، ليصبح له مجلس خاص بمحاذاة المسرح ، إلى جانب النسبة المئوية التي تشكل مكافئته. يركب ذات ليلة سيارة صاحب الكازينو وهي تقل نور العيون ، تصل السيارة إلى حي المنيرة ذاته الذي يقطنه البطل المعذب. وهناك يعرض عليه الرجل القيام بتهريب لفة معينة أربع مرات في الشهر ، فيوافق ، لم يكن الثراء هو الإغراء الكافي بل غرامه بنور العيون. يمرض صاحب الكازينو فتستغل المرأة الفرصة وتهرب من رفيقها . يعترف له حفني داود أنها ابنة المرحومة زوجته وقد جن بها ، وقرر الاحتفاظ بها ، وبمجرد أن اقتحمه المرض هاهي تهرب.

مات حفني داود وأغلق الواق واق وتوارت عن عينيه الحياة الجديدة ، شعر بعدها أن الحياة قفر لدرجة الرعب وقد وجد أرملة في الحلقة الرابعة ترضي به زوجا ربما للشفاء من هذا الحب أو التخفيف من حدة جنونه، يخوض تجربة الانتماء السياسي وتتوطد علاقته بالزعماء .

في صيف أحد الأعوام يسافر ضمن وفد برلماني إلى مؤتمر البرلمانات العربية ببيروت يحدثه صحفي لبناني عن مغنية من أصل مصري تشدو بأغاني ” فرانكو أراب ” . يذهب إلى الفندق الذي تعمل به ويسيطر لها رسالة يبارك لها فيها نجاحها. عند عودته إلى مصر يجد ” كارت بوستال” عليه كلمة شكر بتوقيع نور القمر. صورة المرأة التي عشقها يحتفظ بها ربما رجعت صاحبتها يوما.  يضع الصورة في حافظته عند ذاك تطرح أمامه الحياة بكل ألوانها المتضاربة وما يند عن مفاتنها من جنون مقدس .

إننا أمام رحلة مكابدة شاقة وغريبة تهدف للوصول إلى قلب المرأة الغامضة التي سلبت لبه ونجد أنفسنا ننتقل من فضاء الحب المسور بتقاليد البيوتات المحترمة إلى حب غامض يجري في ملهى محاط بسرية عالية. لكن الشخصية المركزية في كلا النصين متقاربة ففي ” روبابيكيا ” يكون الزواج الناقص الأركان فلا تكافؤ بين الزوج وزوجته التي تهمله فور شعورها بالشبع دون شفقة أو ضمير، أما في حالة نور العيون فهي تمتنع عنه وعن الآخرين ولا يصله بها سوى الغناء من بعيد. تضحياته من أجل الوصول لقلبها باءت جميعها بالفشل وقد كان هذا السقوط التراجيدي مسألة وقت لا أكثر.

ربما بدا المعنى الفلسفي الذي يسعى الكاتب لكشفه حيث ذات الإنسان المعذبة في مفترق الطريق بين الخير والشر ، وتتفرع من هذه القضية عدة إشكاليات خاصة بالاختيار والمجهول والإصرار على كشف الأسرار الخفية التي لم تمنع من الضياع.  بطل ” روبابيكيا ” كانت نهايته وضيعة أما بطل ” نور العيون ” فقد استسلم لحياة عادية بلا لون أو طعم ، محاولا أن يتناسى غدر المرأة الهاربة . وحين يوشك على الاستقرار يفاجأ بها تقتحم حياته من جديد فلا تترك له غير صورة فوتوغرافية لها.

إنه يقبض بعد هذه الرحلة الشاقة على سراب ، وهو ما يطيح بتماسكه ويحوله إلى شخص مرتبك مثقل بالإحباط . تبدو شخصية الضابط المتقاعد مشوشة ، والدافع غامض كأنه السحر ، لكنه يقدم على التجربة تلو التجربة كأنه فراشة تندفع نحو اللهب المقدس . إذا كان الطبيب قد أعمل العصا في ” روبابيكيا ” محطما ثروته كلها إلا أنه في ” نور العيون ” بدا القدر رحيما بالضابط المتقاعد الذي لم يكن غرا ، فقد خدم في السودان والصعيد والسلوم ووصل إلى رتبة الصاغ . لكن هذه الخبرة العسكرية والحياة الخشنة بطبيعتها لم تنقذه من التردي في تجربة حب فاشلة ، لا لكونها من طرف واحد بل لأنها  علاقة غير مبررة البتة رغم اعتراف البطل بمعنى ” أن يكون القرب نارا فالبعد موت ومهما يكن الثمن فلن أرتضي هجر الواق واق”.

 لنلاحظ دلالة اسم الملهى ذاته فهو مكان شبه أسطوري لا يمكن تخيله على الأرض لكن اندفاع البطل يظل بلا فتور أو ضعف.

إن تعقب حالة الهروب والتي يتردد صداها كالأنين داخل نفسه الحائرة تبدو محددة لسياق التلاشي في تيار يمضي بلا توقف ، فلا العقل يجدي ولا التدبير يحقق الوصال المستحيل. إنها الحياة المخادعة المخاتلة ، بقشرتها الزائفة تشكل هذا السقوط الحتمي . ونجيب محفوظ يعقد الخيوط ويفكها ويحركها بنوع من التمرس محاولا ألا يحمل النص إجابة محددة عن الأسئلة التي تتجدد باستمرار عبر رحلة البحث المضنية.

الصراع في النص يكتسب شكلا يراوح بين رغبة الضابط المتقاعد في كشف اللثام عن أخبار المغنية الأثيرة ، وبين مجموعة من الفتوات والبلطجية والمهربين يكدسون الثروة دون أن يمسهم شيء من شرارة الحب . ربما يبدو حفني داود هو المنافس له فقد كان قريبا من المرأة التي تحولت لديه إلى أيقونة أكثر من جسد فائر بالرغبة.

يأتي الانكسار مبررا ومتسقا مع الرحلة التي يعاقب فيها الضمير الجمعي الباحثين عن المتع الحرام والصبوات المقلقة. وهنا تتجدد ثنائية الخير والشر بقرائن مختلفة .

* صدمة الغريب:

سعى نجيب محفوظ لاكتشاف الحقيقة ، فوجد أنه يستحيل أن نفصل المكابدات البشرية عن التاريخ الجمعي للأوطان ، فهو يحتفي بالفرد ويضع على كاهله مهمة إنقاذ الجماعة لكنه في نفس اللحظة يكون مسخرا للانفلات من القوى الضاغطة التي تهدد طمأنينته وأمنه الروحي .

كان البحث عن الحب في ” روبابيكيا ” و” نور العيون” وراح الكاتب يبحث بإلحاح عن ملحمة الوجود البشري وعن طبيعة الوجود الحيوي ، ولكن براعة محفوظ تتجلى في المخططات الهيكلية التي يبدأ بها رحلة بحثه ، فمرة تكون عبر علاقة مركبة بين بطل يسعى لاقتناص السعادة وبين امرأة لعوب ، ومرة تتشكل مع مغامرة إثبات الذات في مواجهة العواصف وفي قصة ” خمارة القط الأسود” يكون الخطر في الملهى الليلي ذاته  ، الذي هو مكان للترويح ومعاقرة الخمر بغية النسيان .

ففي خمارة ” النجمة ” التي عرفت بخمارة القط الأسود نسبة لقطها الأسود الضخم ، معشوق صاحبها الرومي وصديق الزبائن وتعويذتهم ، تتبادل الملح والنوادر وتتوادد النفوس ببث الشكايات ويترنم صاحب الصوت السالك بأغاني رخية، هنية  . هي إذن ساعات حظ حيث تصفو نفوسهم وتفيض بالحب لكل شيء . فجأة يقتحم غريب المكان ، يدخل للحانة ويعود بكرسي الخواجة الرومي ليضعه لصق الباب ، تجلت في عينيه نظرة حذرة متوجسة ، فخمد الضحك ، وسكت الغناء .

ضرب الأرض بقدمه فتقهقر القط ، حينها خرج الغريب من جموده ، معلنا أنن أحدا لن يغادر المكان ؛ وليتقدم من باب الخروج من يريد التفريط في عمره. اضطروا تحت تأثير نظراته المخيفة إلى الجلوس ، رجعوا إلى مقاعدهم التي كانوا قد غادروها رغبة في الخروج وحين يسأله كهل عن سبب حبسه لهم يشتد غضبا متهما إياهم بالاستغلال الدنيء ل” الحكاية “. يقسمون له بالله أنهم أناس طيبون في حالهم لكن غضبه يشتد وينذرهم بالويل عن حاول بعضهم خداعه.

المناقشة أصبحت عبثا والرجل مجنون أو مطارد. هم سجناء رغم كثرتهم وإنه لقوي شديد . شعور بالخزي والذل يحيط بهم في جلستهم القسرية ، حيث يشير واحد من الجالسين أن القط كان إلها على عهد الأجداد في مصر الفرعونية. يخبرهم بغل مكتوم أنه ذات يوم جلس على باب زنزانة ثم أذاع سر الحكاية.

كان في الأصل إلها ثم سخط قطا. يرتفع صوت الجرسون العجوز : أصح يا كسلان وإلا هشمت رأسك. فهل كان كابوسا ثم اختفى أم أن زيارة الغريب كان أمرا حقيقيا؟

أقبل رجل ضخم محني الهامة من الانكسار ، راح يرفع الأقداح وينظف الموائد دون أن ينبس بحرف. وقد غشيه حزن عميق وامتلأت عيناه بالدموع . تابعوه برثاء ، سائلين إياه: ما الحكاية؟

لم يكن ليلتفت إليهم فقد تابع عمله صامتا ، مغرورق العينين ، يتساءل الكهل : متى وأين رأيت هذا الرجل؟

مضى الرجل نحو الممشى بملابسه المكونة من بلوفر أسود وبنطلون رمادي غامق وحذاء بني من المطاط . وتردد نفس السؤال عن ماهية الرجل الذي اختفى كما جاء .

إشكالية هذا النص تكمن في تلك المساحة التي تقع في ظلال التخييل لكنها في ذات الوقت تبدو واقعية صرفة . إن محفوظ يواصل صياغة التساؤلات حول المصير الإنساني ، ومسار البشر في سعيهم الحثيث نحو امتلاك المعرفة ـ تأخذ هذه المرة اسم “الحكاية” ـ يتناغم السؤال مع واقعه العبثي فتلك الجماعة التي تهرب من بؤس الحياة يأتيها الشر مجسدا من حيث لا تتوقع. يدور الكاتب مع شخصياته بحثا عن المطلق وهو لا يعترف بالخلود البشري  ، ويراه شيئا ضبابيا ويحيله للموت الذي يدب فوق الأرض حتى في لحظات المتعة الخالصة.

 إن الغريب يدخل الخمارة ليبث في قلوبهم الرعب لكنه في نفس الوقت يفتح أذهانهم على حقيقة أنه لا هروب من المصير الحتمي للبشر كافة. لم يكن أمامهم سوى مواصلة الطرب ومعاقرة الأكواب الجهنمية فهم بإفراطهم في الشراب يهربون من انتظار اللحظة المميتة حينها فقط تنزاح الهموم ويتعالى الضحك ويتبدد شبح الغريب حتى وإن تكرر السؤال العتيد، بإلحاح مرهق  : “متى وأين رأيت هذا الرجل؟” .

 لا يجيب أحد على السؤال لفرط بساطته وتعقده في نفس الوقت. القط الأسود نفسه يتحول من كائن للتسلية إلى إله قديم ، وهي إحالة ذكية لبدائية الإنسان وسعيه القديم للسمو فوق أوضاعه المزرية.

إلا تبدو خمارة القط الأسود هي العالم الذي نعيش فيه ، حيث نهرب من آثامها بمحاولة النسيان فإذا بالهموم تقتحمنا ، وبالأحزان تستغرقنا . حيث ينبسط نفس السؤال عن الكائن الذي أفشى أسرار ” الحكاية”، أي دلهم على طريق المعرفة . من فرط بساطة المشهد يبدو السؤال سهلا غير أن النهاية لا تشي مطلقا بنهاية مبهجة أو منطقية. إن القط الذي كان مصدر مؤانسة ولهو يعود ليحتل بؤرة الاهتمام كإله فرعوني قديم. هنا تهتز المسلمات ويعاود الكاتب النظر في دورة الحياة من جديد .

مثل هذه الأصداء تتردد بطريقة أو بأخرى في نصوصه القصصية الأولى لكنها ومع اكتمال المنجز السردي تبدو مقطرة وذات شحنة سحرية عالية مع ” أصداء السيرة الذاتية ” حيث تتراكب الحكمة واكتناز اللغة ورصد الحقيقة في لمحها الباهر.

” خمارة القط الأسود” يتعالى فيها الصراع واضحا ومتوحشا بين الغريب من جهة وبين رواد الخمارة من جهة اخرى. إنهم قابعون في خزيهم وصمتهم يبتلعون المهانة فيما هو يمنعهم من الخروج من الباب ، ثم يمر الوقت فتنجلي السحابة السوداء حيث يجدون أنفسهم أحرار فيما يقبل الرجل الضخم ليزاول عمله المعتاد بحزن بالغ.

مرثية الضعف الإنساني في تجل جديد يرصدها نجيب محفوظ بقلب مفعم بالمحبة لهؤلاء التعساء الذين يمضون مع صبواتهم ومسراتهم وأحزانهم وأشواقهم ، غير مبالين بالنهاية المربكة التي تنظرهم طال الزمان أم قصر. أما الأيقونة التي كانت تتمثل في سحر وشقوة ” القط الأسود” فهي تنحرف عن أصلها لتكون مجرد مباغتة لمخاوفهم القديمة ولذا يعود في صورته البدائية عند حضارت قديمة كانت تمنحه حظوة ملكية .

والحقيقة أن نجيب محفوظ بعينه اللاقطة و حضوره المشع ، يدفعنا كل مرة للبحث عن الحقيقة المراوغة كي نظفر بالطمأنينة والسكينة  ، وكلما أوشكنا على الاقتراب من يقين ثابت أو إجابة دالة اهتز ما بداخلنا من ثقة . ربما لأن الفن به فسحة من الاحتمالات ، وشحنة من الذبذبات التي ينشأ مع حركتها المستمرة فعل الحياة ذاتها.

* هوامش :

1ـ صدرت المجموعة في نوفمبر 1988 ، ربيع الثاني 1409، وحملت العدد رقم 479، في 198 صفحة.

2ـ حركية الزمن وإحياء اللحظة في إبداع أحلام نجيب محفوظ ، د. يحيى الرخاوي ، دورية نجيب محفوظ ، العدد الثالث ، ديسمبر 2010، ص 121 .

3ـ تداعيات المكان والشكل في أدب نجيب محفوظ . مصطفى كامل سعد ، دار النديم ، القاهرة ، أكتوبر 1990 ، ص10.

عاطف عبدالمجيد

تجربة نجيب محفوظ عملية عبور واسع للنوع

  عاطف محمد عبد المجيد

في كتابه عن نجيب محفوظ وعنونه بـ ” مقـامـات في حضرة المحترم ” ويهديه إلى د. محمد حسن عبد الله، مفتتحًا إياه بمقولة لشاكر النابلسي يقول فيها ” الكتابة عن أي رواية من روايات نجيب محفوظ، لا يمكن أن تتم بتكوينها الأمين إلا من خلال أعمال نجيب محفوظ ككل، كذلك الحال مع جميع الروائيين العظام، والشعراء العظام، والفلاسفة العظام”، ومقسمًا إياه إلى ” مقام الأسرار، مقام الكمال، مقام الوصل “، يتساءل بداية سيد الوكيل قائلًا: ” لماذا رحلة المبدع هي تحولات مشفوعة بالقلق، والتوتر، والضنى؟ “، مجيبًا أنه ربما لأنها مرادف لرحلة البحث عن الذات.صحيح، يقول، أن كل خطوة هي عطاء جديد يفضي إلى نضج ما، لكن، يبدو أن الرحلة نفسها لا تنتهي، ربما لأن الذوات القلقة، لا تطمئن إلى النهايات، مضيفًا أنه في البدايات لا تبدو قلقًا، بقدر فرحك بالبداية نفسها، وهكذا تنطلق بكليتك حتى تكتشف أنك صرت في الرحلة فعلاً، عندئذ يبدأ القلق.                        الوكيل الذي يرى أن  الحياة ماهرة في نصب الفخاخ،  إذ كلما نظرت وراءك بغضب، أو أمامك بشغف، ستقطع مزيدًا من الخطوات، نحو مزيد من القلق.إنها رحلة وجودية أيضًا، تماثل رحلة الإنسان، يبدأها بصراخ يعلن عن وجوده، وينهيها بصمت أبدي، يتساءل كذلك:  متى يبدأ المبدع الإحساس بقلقه الوجودي؟      ويجيب بأنه بالتأكيد يبدأ القلق، وأنت في قلب الرحلة، ولكننا لا نعرف كم من الخطوات نقطعها لنقابل قلقنا.الوكيل يظن أن كثيرًا من الكتّاب، لا يقابل قلقه أبدًا. ربما، لأنهم لم يقطعوا رحلتهم، بقدر ما قطعوا رحلة آخرين غيرهم؛ لكن، يمكنه القول إنك تلتقي بقلقك الخاص، في تلك اللحظة التي ينتابك شعور، بأن عليك أن تمشي رحلتك وحدك، وأنت مستعد لتحمل تبعاتها.

الخطوات الأولى

في مقدمته يعترف الوكيل أن الخطوات الأولى التي قطعها، لم تكن سوى اقتفاء لخطوات آخرين، خاصة وأن تلك هي وسيلتنا الوحيدة لتجنب التيه، فعندما تقرر أن تكف يد أبيك عن الإمساك بيدك، ستتبع خطواته لابد، لبعض الوقت.كما يعترف بأنه اقتفى آثار آباء كثيرين في مجموعتيه القصصيتين الأولى والثانية، لهذا يعتقد أن رحلة قلقه بدأت مع روايته ” فوق الحياة قليلاً ” ثم مؤشرات تدفعه لهذا الاعتقاد.     

هنا يعلن الوكيل أنه أدرك أن رحلة المبدع هي رحلة معرفة، أن تعرف، قبل أن تتكلم، وهذا هو السبيل الممكن لإدراك ذاته المبدعة، فليس من حقك أن تكتب عن حيوات الناس وموتهم بكل هذا اليقين دون معرفة.هذه لحظة تواضع وهوان لابد منها، لتعرف طريقك، ولكنها ليست كل شيء، فكلما خطوت في طريق آخر، عرفت طريقك، حتى لو تشابهت الطرق.هذا تعبير عن التيه المقترن بالرحلة، لابد من تيه تجتازه، لابد من أوديسا.لقد اختار الوكيل تيهه في طرقات محفوظ ليعرف طريقه هو، فهاله أن طرقاته لا تنتهي.كما يذكر أنه احتاج قدرًا من الشجاعة ليقول إنه أصبح أسيرًا له، لهذا، كان جهاده الخاص، أن يحرر ذاته منه، لقد اقتضى منه هذا سنوات عديدة بدون كتابة، استعان عليها بالقراءة والنقد، حتى كادت رغبته في الإبداع تذوى، ثم اكتشف، أن كل ما كتبه أثناء ذلك، لم يكن سوى محاولة للفرار من أسره. كان لابد من مواجهة ذلك، من جلوس خاشع في حضرته، ولم يكن هذا ممكنًا، إلا في الحلم.

قراءة معايشة

أما د. مصطفى الضبع فيكتب عن سيد الوكيل المقيم في حضرة المحترم نجيب محفوظ فيقول كانت قراءة سيد الوكيل لنجيب محفوظ، قراءة معايشة، فانتقال من مرحلة إلى مرحلة ومن مقام إلى مقام، فهي قراءة مقام لا قراءة عوام، وقراءة فعل لا قراءة كلام، وقراءة بحث عن الوجود لا البحث عن أيديولوجية، فلم يقرأ سيد الوكيل أعمال نجيب محفوظ على طريقة الأكاديميين ” يقرأ الواحد منهم نصًّا للعمل عليه دون أن يمنح نفسه الفرصة لمعايشته واكتشافه، فيكون كالهابط على كوكب لا ينشغل إلا بموضع قدميه “.

يضعنا سيد الوكيل أمام حقيقة: كل نص لا تعايش شخوصه ولا تشاركهم تجربة حياتهم فلن يعطيك نفسه، ولن يمنحك حقيقة وجوده أو قوانين عمله، فكيف تعرف قوانين مدينة أو نظام حياة أهلها، وقد مررت عليها ترانزيت؟

الوكيل الذي لا يذكر الآن، عدد الذين نصحوه في بداية مشواره مع السرد قائلين له: إذا كنت ترغب في قراءة القصة القصيرة فعليك بإدريس، وإن كنت ترغب في قراءة الرواية فعليك بمحفوظ، يرى أن القصة عند نجيب محفوظ ليست نوعًا مستقلًا، ولا شكلًا مميزًا، بقدر ما هي طريقة لرؤية موضوع ما، وهذه الرؤية هي التي تحدد طبيعة السرد بين التكثيف والتجريد والترميز من ناحية، وبين التحليل، والتقصي والوصف من ناحية أخرى.والرؤية وعي فردي لصاحبها، وليست آلية أو تقنية يمكن ضبطها، وتحديد فاعليتها وأثرها.

الكاتب يرى أيضًا هنا أن الفارق بين القصة والرواية، عند محفوظ، لم يكن معيارًا شكليًا، خارجًا عن التجربة السردية، بقدر ما هو مرتبط بجوهر الرؤية لها، أو بزاوية النظر التي يتناول من خلالها التجربة.فنفس التجربة، يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة، تمامًا كما يمكن النظر لمنظور ما من عدة مساقط ” جانبية أو رأسية  أو أفقية “. المنظور هو هو، فيما تكون المحصلة القرائية لكل زاوية مختلفة.

بناء إشكالي

في حضرة كتابات نجيب محفوظ يقول سيد الوكيل في مقامه إن  البناء الروائي لحديث الصباح والمساء يتشكل عبر قصص قصيرة منفصلة متصلة.إنه بناء إشكالي، أقرب إلى بناء المعاجم، لكنه يتراوح بين القصة القصيرة، والمتتالية القصصية، والكتاب القصصي، ثم يستقر في أذهاننا..رواية، لكن نجيب محفوظ لم يكن مشغولاً بهذه التصنيفات، كان مشغولًا بالسرد في ذاته، لدرجة أنه لم يضع على إصداراته تصنيفات مباشرة، وكأنه يترك هذا الأمر للقارئ.لهذا فإن النظر إلى سرد نجيب محفوظ على أساس من الفصل بين الأنواع المختلفة للسرد،يقول الوكيل، ينطوي على قمع لتجربته الواسعة والمتعددة.أما الحرية التي تعامل بها محفوظ مع السرد، فقد مكنته من القيام بمغامرات مدهشة في تشكيلات البني السردية لأعماله. بحيث لا يمكننا الفصل، بضمير مرتاح بين ما هو قصة، وما هو رواية.لهذا فتجربة نجيب محفوظ كلها، هي عملية عبور واسع للنوع. 

ما يتوصل إليه الوكيل في كتابه هذا أن الإنسان ظل في أدب محفوظ، له الحضور الأول، قبل أي معنى سياسي أو اجتماعي، فحتى لو كانت الشخصيات ذات بعد رمزي، فهي لا تنجرف إلى التجريد، إذ تحتفظ بطابعها الإنساني في كل حالات ضعفها وقوتها، انتصارها وانكسارها؛ فتبدو كما لو كانت من لحم ودم، وليست مجرد شخصيات ورقية مكتوبة، وموجهة لخدمة معنى أو فكرة أو أيديولوجيا.هكذا تكتسي الأفكار المركزية عند محفوظ لحما وحياة.

هنا أيضًا يخبرنا الكاتب أن القصة القصيرة قد نشأت، منذ تيمور، معنية بانحيازها للواقع الاجتماعي وقضاياه، منحازة لهموم البسطاء من الجماهير المغمورة، والمقهورة.ومع الوقت، أصبحت أكثر إيغالًا في نزوعها السياسي، لتضع الأدب في خدمة المجتمع.وبغض النظر عن أن هذا النزوع هدد الأدب بتفريغه من المعنى  الفلسفي للوجود في كثير من الأحيان، فإنه أيضًا تسامى على صورة الفرد في واقعه النفسي، ونوازعه العاطفية الغامضة، ومن ثم، استبدلت الأسئلة الوجودية، بأسئلة أيديولوجية، وكأن البشر جميعًا شيء واحد اسمه المجتمع.

في كتابه هذا سعى الوكيل إلى أن يؤكد  أن لنجيب محفوظ وعيًا متفردًا بالنوع الأدبي، أُنتج على مهل، اتخذ سمتًا تجريبيًا، وتطبيقيًا، فذاب في مجمل أعماله، ثم انتهى إلينا بإضافات حقيقية، تقنية وأسلوبية، توسع مفهوم السرد شكلاً ومضمونًا.

العنف النقدي

الوكيل الذي يكتب هنا عن العنف النقدي في قراءة نجيب محفوظ، عن واقعية نجيب محفوظ، عن اضطرار المبدع للتفاعل مع مفردات عصره، عن النص الأدبي غير الوفي لصاحبه حتى، عن تقسيم النقاد لإنتاج نجيب محفوظ إلى مراحل، يرى  في عالم نجيب محفوظ، أن الرحلة هي مدعاة التراجيديا الإنسانية على نحو ما عاشها أوديب في الأسطورة، هكذا الرحلة قديمة قدم الإنسان، لكن الحياة نافذة ولا عاصم للإنسان من تراجيديا الحياة، فحتى الذين يخشون الخروج، تأتيهم التراجيديا حتى عندهم، وعندئذ يبدأ السؤال الوجودي في الإلحاح عليهم، وتبدأ الرحلة، فالرحلة هي الحقيقة على نحو ما أدركها ” مرى مون ” في العائش في الحقيقة.

  على هامش حديثه عن أحلام نجيب محفوظ يكتب الوكيل قائلًا إنه عبر التراث الإنساني، كانت الأحلام وتفسيراتها هاجعة في ظلال التفكير الميتافيزيقي، حتى جاء ” سيجموند فرويد ” الذي نشر في العام “1900”  أولَ محاولة علمية لدراسة الحلم بوصفه نشاطًا آليًا في عمل الدماغ للإنسان.وبهذا، تدخل الأحلام في سياق التفكير العلمي، وتنتج نظرياتها حول تشكل الحلم، وأنماطه، وآليات إنتاجه، ومرجعياته، بل وسيرورته لاستقراء دوره في التركيب النفسي للإنسان عبر تاريخه.ومع ذلك، فقد أكد فرويد، على أن الحلم، مرتبط بالحياة الواعية؛ أو بمعنى آخر بالواقع المعيش، ومن ثم فهو يكشف عن المقموع في الوعي، ولا علاقة له بالنبوءات. هكذا يصبح الحلم خلقًا خياليًا مرجعه الواقع كأي نص أدبي، وفي نفس الوقت، تعبيرًا عن المكبوت في اللاوعي، بتأثيرات الواقع المعيش.

هنا، وفي حضرة نجيب محفوظ، يحلل سيد الوكيل ويناقش بعض كتابات محفوظ القصصة، ذاكرًا مدى تأثيرها فيه منذ بدايته، وكيف حاول الخروج من هذه العباءة. هنا أيضًا تساؤلات أخرى تبحث عن إجابات خاصة وأن أعمال نجيب محفوظ ستظل معينًا لن ينضب ينهل منه القراء والنقاد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

خالد عبدالغني

رادوبيس بين نجيب محفوظ ومحمود قنديل

د.خالد محمد عبدالغني

    نسج نجيب محفوظ رواية رادوبيس مستلهماً أسطورة نرجس، فرادوبيس الغانية التى تأسر قلوب الرجال بجمالها وفتنتها، وقصة رادوبيس تُحكى فى كتب التاريخ القديمة، فهيرودوت ذكرها وإن كان قد نفى عنها أنها بنت هرما كما شاع عنها فى عصره. أما روجر لانسلين جرين فقد ذكر عنها فى كتابه عن أساطير مصر القديمة أن رادوبيس يونانية سباها القراصنة وباعوها لرجل غنى فكانت ضمن عبيده وكان رفيقها فى هذه الفترة إيسوب صاحب القصص الشهيرة. ثم باعها الرجل إلى تاجر يونانى مقيم فى مصر اسمه كاراكسوس وهو أخو الشاعرة سافو (وهذه التفاصيل ذكرها هيرودوت)، ولكن كاراكسوس عامل رادوبيس بنبل ودللها كابنته، حتى اختطف نسر ما صندلها وهى تستحم وحلق عالياً ثم ألقاه فى حضن فرعون مصر أماسيس، الذى بحث عن صاحبة الصندل (على طريقة سندريلا) وعندما وجدها جعلها زوجه، وعاشا فى سعادة حتى نهاية حياتهما بالطبع محفوظ أسقط كثير من هذه التفاصيل ووضع تفاصيله الخاصة ، فهى عند نجيب محفوظ مصرية ريفية هربت مع عشيقها إلى الجنوب حتى هجرها العشيق، ثم استطاعت بجمالها أن تتزوج من كهل ثرى فأصبحت غنية بفضل موته، فأقامت صالون تستقبل فيه الضيوف وتسلم جسدها كل ليلة لرجل فيهم، ويذكر نجيب محفوظ ذلك على لسان امرأة قائلاً :” ما هي إلا راقصة تربت في بؤر الفساد والمجون ووهبت نفسها منذ الطفولة للخلاعة والغواية وأجادت فن المساحيق فتبدت في هذا المظهر الخلاب الكاذب([1]).

ثم يصفها سوفخاتب باطمئنان فقال :

– هي الجمال عينه يا مولاي ، هي فتنة قهارة ، وعاطفة لا تقاوم([2]).

ثم يقول لها الشاعر رامون حتب :

  • إن رؤيتك في الماء عارية تهيج الطيور الكاسرة!

وقال عانن بحماس :

  • –        أقسم بالرب سوتيس على أن النسر كان يتمنى لو يخطف صاحبة الصندل ([3]). 

كل ذلك الوصف لرادوبيس وجمالها وفتنتها من جانب الرجال والنساء على السواء لهو من دواعي تأجيج النرجسية في أعماقها مما يجعلها تشعر بحب الذات وبالعزلة ونفي الآخر ومن ثم يكون الموت في النهاية كما كان الحال عند نرجس.

    ومما يؤكد ذلك أنها أمام رغبتها في استمرار حبها للفرعون لعبت بالفتى بنامون وبقلبه ولم يشغلها ما قد يصيبه من جراء فعلها معه حيث أوهمته بأنها تحبه وعندما قالت له كلمة رقيقة كان حاله كما قال نجيب محفوظ :”  فتورد خداه ، ولمعت عيناه بنور الفرح ، وغمرته سعادة دافئة ، … أحست (رادوبيس) بارتياح إلى الأثر الذي تركه الشاب الساذج في نفسها ، ولعله أثار في قلبها عاطفة جديدة لم تدب بها الحياة من قبل، هي عاطفة الأمومة وسرعان ما أشفقت عليه من عينيها وسحرهما الذي لم ينج منه إنسان([4]).

     ولكن رؤيتنا لتلك المشاعر تخالف من ظنه نجيب محفوظ فرادوبيس لا تلقي بالاً لآلام الشاب بقدر ما تستمتع في أعماقها بعذابه لأن ذلك من معالم النرجسية أيضاً ، ويطالعنا نجيب محفوظ بعد ذلك بما يؤكد نظرتنا تلك حيث يذكر الحوار التالي بين رادوبيس وبنامون :

رادوبيس :

  • ألا يلحقك التعب أوالسأم ؟
  • فابتسم الغلام بفخار وقال :
  • هيهات..
  • كأنك تندفع بقوة شيطان.
  • فأشرق وجهه الأسمر بابتسامة وامضة ، وقال بهدوء وسذاجة:
  • بل بقوة الحب ..
  • وارتجف قلبها لوقع هذه الكلمة التي توقظ في قلبها أشهى الذكريات ، وتنادي إلى مخيلتها صورة حبيبة محاطة بالبهاء والجلال([5]).

ثم تستمر رادوبيس في خداع الشاب فتلقته بضحكة عذبة ، وقالت له:

  • إن لك صوتاً عذباً فكيف أخفيته عني طوال هذه الأيام؟ فتصاعد الدم إلى وجنتيه قانياً ، وارتجفت شفتاه ارتباكاً ، وقابل تلطفها بدهشة، وأدركت المرأة ما يدور بخلده ، فقالت تستدرجه :
  • أراك تلهو بالغناء وتترك العمل([6]).

وتكمل خداعها له :” فوضعت كفها على رأسه وقالت بحنان:

  • هكذا عرفت سر قلبي ، وإني لأعجب كيف لم أعرف هذا منذ أجل طويل .
  • فقال بنامون ، وكان يتيه في غمرات الذهول :
  • –       – مولاتي أقسم لقد شهدني الليل وأنا ذوب عذاب .
  • سأفعل ما تريدين بروحي وقلبي([7]).

وعاد بنامون من رحلته فقابلته رادوبيس :” فغمرته سعادة إلهية وارتمى على قدميها كالعابد ، ولف ذراعيه حول ساقيها بحنان ووجد، وهوى بفمه على قدميها..

 وقال :

  • معبودتي
  • فداعبت شعره بأناملها ([8]).

ونتسائل ما يفعل الشاب الساذج أمام غواية هذه المرأة الغانية ؟ لابد أن يستجيب لها بكل قوة وصدق تجعله كما يصفه نجيب محفوظ بالعابد.    انتهت الرواية بنهايات مأساوية للملك الذى أصابه سهم رماه به أحد الثائرين جراء نزعته للمتعة واللهو بلا حساب، ولرادوبيس التى قتلت نفسها بالسم، وهكذا يُفترض أن يموت طاهو بعد أن يفضح أمره، وبنامون من المؤكد أن يقتل نفسه بالسم مثلما فعلت رادوبيس، وهذه النهاية تأتي على هذا النحو من تأثير الروايات ذات النهايات المأساوية مثل الملك أوديب وانتيجون وعطيل وروميو وجولييت.

    وهذا الموت الذي حلَّ برادوبيس بالتحديد ما يجعلنا نستكمل عناصر الأسطورة الثلاثة ” حب الذات ونفي الآخر (العزلة) والموت” ورأينا فيما سبق كيف أحبت رادوبيس ذاتها وكيف نفت الآخر في كل الرجال الذين أحبوها وتحديداً الشاب بنامون (فشعرت بالعزلة والوحدة والحزن وأخيراً سنرى الموت الذي لا مفر منه في الأسطورة (النرجسية) حيث طلبت رادوبيس من الشاب بنامون أن يأتيها بقارورة السم من معمل والده وفعلاً أحضر لها السم وأعطاها إياه ، ويصف نجيب محفوظ ذلك بقوله :” وسرعان ما اتجهت أفكارها إلى القارورة العجيبة ، وأحست بشوق إلى النهاية فبحثت عيناها الموضع الذي شغله الهودج (الذي كان به الفرعون أثناء موته) منذ حين وصرخ قلبها أن ها هنا ينبغي أن تختم حياتها … وسمع بنامون صراخها وقال لها :

  • لماذا انتحرتِ… يا مولاتي؟ ([9]).

    وهكذا تحققت الأسطورة بأبعادها الثلاثة الحب والعزلة والموت لدى رادوبيس والفرعون الشاب الذين  أحبا نفسيهما – رادوبيس والفرعون – ثم تحقت العزلة عن الآخر حيت يتم الاكتفاء بعشق الذات ، وبالتالي يتم الموت سواء المعنوي أو المادي .

وفي رواية أجواء المدينة لمحمود قنديل ([10])  لقد أحب الفارس الأسير في اللاشعور رادوبيس. تلك الفتاة الفرعونية وأسطورتها التي شكلت جزءً من الخيال الأدبي العالمي في حكاية سندريلا فالتاريخ المصرى القديم مليء بالقصص والحكايات الأدبية والتى أُخذ عنها العديد من القصص والروايات العالمية، ومن هذه الأعمال قصة “رادوبيس” الجميلة، والمعروفة فى الآداب العالمية باسم “سندريلا” وهى نموذج لأدب القصة فى الدولة الحديثة، وقد وردت ضمن برديات شستربيتى بالمتحف البريطانى، والتي وجدت فى مقبرة ” قن حرخبشف” والذى عاش فى عصر الأسرة التاسعة عشرة ..وأبطال القصة هم رادوبيس، ووالدها التاجر سنفرو وأم رادوبيس، وزوجة أبيها وبناتها والأمير ([11]). فيقول سامي : ويمتقع وجهي، ويرتجف جسدي، وترتعش شفتاي، وتضيع مني الحروف، وأنا أشاهد فارسكِ الأسير، يهبط من فوق فرسه ويقترب منكِ، يدعوكِ إليه فترفضين، كان يبدو متعبًا، وعلى وجهه آثار سفر، يشدك من ذراعكِ فتقاومين، وأجذبكِ من يدكِ فتخور قواي وتضعف قواكِ، وتصرخين.

– رنا، لا تتركيني .

تحملقين في عينيّ بنظرة مذعورة مقهورة .

– رنا، لا تتركيني .

وينتزعكِ الفارس ـ عُنوة ـ من بين يديَّ، يضعكِ فوق صهوة جواده، وينطلق بكِ بسرعة الريح ـ بين سماء وأرض ـإلى أن يعلو ويعلو ويعلو …

تماهي رنا ورادوبيس:

         تعد رادوبيس – فعل اللاشعور –  وكانت رنا – فعل الشعور – وكان الفارس الأسير – فعل اللاشعور – وكان سامي – فعل الشعور -.

– رنا، أأميرة أنتِ أم مليكة ؟

– لا هذه ، ولا تلك .

– إذن فأنتِ رادوبيس تعودين إلينا بثياب تليدة .

ويستمر المؤلف في عرض التماهي بين رادوبيس ورنا “ويقف الفارس على مقربة منكِ، يمسح بيمناه على صهوة جواده، ويرمق عند التخوم بنايات المقابر، ويطالع في ملامحكِ قسمات “رادوبيس” ويبتسم:

– فارسنا الأسير، لِمَ تحدق فيَّ هكذا؟

– لأنكِ “رادوبيس” .

– رادوبيس أم رنا ؟

– أحبكِ أنتِ، وأعشقكِ .

– لعلك نسيتَ اسمي.

– اسمك محفور على جدران معابدنا القديمة.

– لكني لا أعرف.

– رادوبيس، الوقت يهرول، وقد آن ميعاد المغادرة .

    حتى التبس على سامي الأمر فلم يعد يدري من هي فيقول : “وتارة أخرى أرى فيكِ

رادوبيس برقتها ورقيها، تضعين التاج الذهبي فوق رأسكِ، وتشيرين ناحية المعابد والمسلات، تنددين بتعاليم الكهنة وأكاذيب السَّحرة، وتشجبين مراسم الدفن وتشييع الجنائز.

والآن أراكِ رنا بنقاء طفولتها، وطيبة صباها، ورصانة شبابها، تبشين في وجوه المارة، وبائعي الحلوى، وقائدي السيارات، فيولوحون لكِ وكأنهم يعرفونكِ منذ أعوام وأعوام.

        وهنا كان التناص والتماهي بين رنا ورادوبيس واستدعاء الأسطورة الفرعونية يؤكد في لاشعور المؤلف أن رنا بها ملامح نرجسية وأثرة وأنانية مثل رادوبيس إلى جانب جمالها وفتنتها أيضا فقد كانت بمثابة الغانية التى تأسر قلوب الرجال بجمالها وفتنتها، وقصة رادوبيس تُحكى فى كتب التاريخ القديمة، فهيرودوت ذكرها وإن كان قد نفى عنها أنها بنت هرما كما شاع عنها فى عصره. أما روجر جرين  فقد ذكرها فى كتابه عن أساطير مصر القديمة بقوله أن رادوبيس يونانية سباها القراصنة وباعوها لرجل غنى فكانت ضمن عبيده وكان رفيقها فى هذه الفترة إيسوب صاحب القصص الشهيرة. ثم باعها الرجل إلى تاجر يونانى مقيم فى مصر اسمه كاراكسوس وهو أخو الشاعرة سافو (وهذه التفاصيل ذكرها هيرودوت)، ولكن كاراكسوس عامل رادوبيس بنبل ودللها كابنته، حتى اختطف نسر ما صندلها وهى تستحم وحلق عالياً ثم ألقاه فى حضن فرعون مصر أماسيس، الذى بحث عن صاحبة الصندل (على طريقة سندريلا) وعندما وجدها جعلها زوجه، وعاشا فى سعادة حتى نهاية حياتهما بالطبع محفوظ أسقط كثير من هذه التفاصيل ووضع تفاصيله الخاصة ، فهى عند نجيب محفوظ مصرية ريفية هربت مع عشيقها إلى الجنوب حتى هجرها العشيق، ثم استطاعت بجمالها أن تتزوج من كهل ثرى فأصبحت غنية بفضل موته، فأقامت صالون تستقبل فيه الضيوف وتسلم جسدها كل ليلة لرجل فيهم([12]).

     وظل سامي طوال الرواية يستدعي رادوبيس ويعود للحديث إلي رنا وأحيانا عن أصدقائهما الثوار الذين تقلبت بهم الحياة وراح كل إلى غايته ولكنه فجأة يكتشف غياب رنا وكأنها رحلت وأن هاتفها مع فتاة أخرى هي رادوبيس ، ولا يخفى أن تلك الآلية كانت لمواجهة ألام الفقد والإحباط وهي عمل اللاشعور في مواجهة الواقع فحين فقد سامي رنا – الحلم – استدعى من التاريخ المصري القديم رادوبيس .

وبلهفة أفتح الخط لأتحدث إليكِ وأستفسر منكِ عن أمور كثيرة وأحوال شتَّى، فإذا بصوت فتاة يأتيني:

– هذا الرقم اتصل بي عدة مرات، مَنْ أنتَ ؟

– أنا، أنا، أنا سامي .

– لا أعرف شخصًا بهذا الاسم .

– هذا رقم رنا .

– رنا ؟

– نعم رنا، وهذا رقمها .

– هذا الخط معي منذ عام .

– ألستِ رنا ؟

– لستُ رنا، ولا أعرف أحدًا بهذا الاسم .

– هل لي أن أعرف اسم صاحبة الخط .

– أنا رادوبيس .

– مَنْ ؟

– قلتُ لكَ : رادوبيس

       ولكن دلالة استبدال رنا برادوبيس تشير إلي أن كلتيهما متمتعتين بالكثير من معاني الجمال والفتنة و النرجسية التي مثلت حبا عميقا للذات فمعروف عن رادوبيس – فيما سبق ذكره –  ذلك ولهذا استحضرها نجيب محفوظ في روايته رادوبيس وهى الرواية الثانية التى كتبها نجيب محفوظ بعد (عبث الأقدار) وهى واحدة من الروايات الثلاث التى تستدعى القصص والأساطير المصرية القديمة لاستخدامها – غالباً – من أجل الإسقاط على الواقع المعاصر فصالون رادوبيس يشبه فى جانب منه صالونات الأربعينيات الثقافية، ولفظ رئيس الوزراء، وخلاف رئيس الوزراء (المحبوب من الشعب) الدائم الخلاف مع الملك، كل هذه ليست سوى دلالات وإسقاطات واضحة على العصر وحزب الوفد ورؤسائه، والشخصيات الرئيسية هى الملك مرنرع الثانى، الملك الشاب القوى الذى لا يخلو من تهور وعناد وحب للنساء ثم مساعدا الملك وهما سوفخاتب كبير الحجاب صاحب الحكمة التى تنقصها القوة المرجوة ، ثم طاهو رئيس الحرس الملكى بقوته الظاهرة التى لن تخلو من نزوة ستؤدى إلى كارثة ثم نيتوقريس زوجة الملك المخلصة التى تُجرح فى كرامتها ومع ذلك تظل بجانب زوجها إلى النهاية وخنوم حتب رئيس الوزراء وكبير الكهنة وهو الشخصية المقاومة التى تواجه الملك وتنتصر عليه. هذه الرواية في جانبها الاجتماعي والإسقاط على الواقع السياسي في مصر ([13]). ، وتقول رنا عن نفسها ” أنا جميلة غصبًا عنكَ .. أنا أجمل من كل النساء” .  وظلت رنا هي حلم المدينة الذي يأبى النزول من عليائه فيقول سامي في جملته الختامية في الرواية “والآن يا رنا أراكِ في السماء شارة مضيئة تأبَى الهبوط” .

ويعبر سامي عن مصير رنا ومصيره في مشهد ختامي يكفي للدلالة على مصيرهما المأساوي ككل أبطال التراجيديا فيقول :

“لكن أسراب النسور تجتاح المدينة، تأكل الجيف الملقاة في الشوارع والميادين، وتنبش رؤوس الحراس، وأنتِ يا رنا بجواري ذاهلة، تهرب الأفراح من أعماقكِ، وتغادر البشاشة مُحيَّاكِ، فأضمكِ إليَّ مؤكدًا لكِ أن النسور لا تأكل غير المَيْتَة، وتتراءى لنا جثة المَلِك تتابع بعينين جاحظتين تحليق النسور، والصبي في قاع البحيرة نجح في نبذ القاع ليعانق المَلِك . ويمتقع وجهي، ويرتجف جسدي، وترتعش شفتاي، وتضيع مني الحروف، وأنا أشاهد فارسكِ الأسير، يهبط من فوق فرسه ويقترب منكِ، يدعوكِ إليه فترفضين، كان يبدو متعبًا، وعلى وجهه آثار سفر، يشدك من ذراعكِ فتقاومين، وأجذبكِ من يدكِ فتخور قواي وتضعف قواكِ، وتصرخين.

– رنا، لا تتركيني .

وهكذا كانت مصائر الشخصية الموت أو الهروب والضياع والعزلة ولكن ظل حلم الثورة والتغيير والحق في العيش والحرية والعدالة هو الباقي لدى نجيب محفوظ ومحمود قنديل.


[1]– نجيب محفوظ : رادوبيس . مكتبة مصر. القاهرة. 1977.

[2]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[3]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[4]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[5]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[6]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[7]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[8]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[9]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 1977.

[10] – محمود قنديل :  أجواء المدينة . دار السعيد . القاهرة . 2018.

[11]– رضا سليمان : فتاة من نور ” رادوبيس الفرعونية” (موقع ديوان العرب). ٢٠٠٨.

[12]–  خالد محمد عبد الغني : سيكولوجية الإرهاب والعدوان والنرجسية والجسد الممزق “قراءة في الثقافة العربية” .مجلة تحديات ثقافية .الإسكندرية. العدد  35 صيف .2008.

[13]– خالد محمد عبد الغني : الشخصية المحورية في الرواية العربية . الهيئة المصرية العامة للكتاب . القاهرة . 2018.

بهاء الدين حسن

بروفايـل “بهـاء الـدين حســن

تحتاج شخصيـة الأديب العالمى نجيب محفوظ إلى تحليل يجلى حالـة الهــدوء والسلـم الذى كان يعيش فيهمــا ، بعيــدا عن ملاحقــة السلطـة لــــه ، وأعين راصـدى كتابات الأدبـــاء من رافعى التقــارير ومنتهكى حريـة وآدمية الكُتّاب من زبانية الأنظمة الديكتاتورية !!

فعلى الرغم من سنـوات عمره المديد ( 95 عاما ) التى عاشها نجيب محفوظ يبــدع ويهندس فى معمار الرواية ، إلا أنه بالقياس لما تعرض له من مواقف وصدامـات تعـد شيئــا لايذكر، لو قيست بما تعرض لـه غيره من حملة الأقلام آن ذاك من أبناء جيله من الأدباء من مهازل واهانات وانتهاكات لأدميتهم !!

فعلى الرغـم من أنــه يوجــد بكتابات محفـوظ ” مايـودى الليمـان ” كما قــال الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل ردا على سؤال الرئيس جمال عبدالناصر أثنـاء افتتاح المبنى الجديد لجريـــدة الأهرام فى 1969 م عندما سأل الرئيس عبدالناصر محفوظ عن آخر كتاباته ، وكان هيكل يقصد رواية ” أولاد حارتنا  ” التى شرعت جريدة الأهرام فى نشرها إلا أنه ـ محفوظ ـ لم يرح الليمان !!

وعلى الرغم من أن محفـوظ لم يجرب كغيره من أبنــاء جيلـه السجن ، إلا أن كتاباته عن المعتقلات خاصة السياسية ومايحدث فيها من تجاوزات لاانسانية فى زمن عبدالناصر ، والتى تناولهـا فى روايتــه ” الكرنك ” تلك التى استقى أحداثها  من الأخبـــار التى كانت تأتيه على مقهى ريش دون أن يعيش تجربة السجن ، إلا أنـــه أبــدع فى الوصف والتصويــر ، أحسن ممن عاش تجربـــة السجن !!

 حتى أن القــرار الذى أصـــدره المشير عبدالحكيم عامـر بالقبض على نجيب محفوظ بسبب روايتــه ” ثرثرة فــوق النيــل ” والتى اعتبرهـا المشير عامر تلسن عليــه وتتعرض لشخصــه أفشلــه الدكتــور ثروت عكاشه وزير الثقافة وقتها ، بعد أن توسط عند عبدالناصر لإلغاء قرارالقبض !!

كان محفوظ رحمة الله عليه مسالمــا لأبعد الحدود لايحب الصدامات ولايسعى إليهـا ، ولايحب الدخـول فى معــارك من عينــة تلك التى كان يخـوضها بعض الكتاب مع السلطة،فمايكون نصيبهم إلا الزج بهم فى غياهب السجون !!

حتى أن الحملــــة التى شنها عليــه يوسف إدريس عنـد حصـول محفوظ على جائزة نوبـل عـام 1988 وكان يوسف إدريس وقتها قاسيـا فى نقـــده ، حتى أنـــه ـ إدريس ـ لم يستثن شخص محفــوظ من التجريح على غير عادة النقاد وأصحاب الفكر والرأى عند تناول الشخصيات بالنقد ، الأمر الذى جعل هجوم يوسف إدريس كان بمثابـــة صدمــة لـــدى الكثير من الكتاب والمثقفين الذين فرحـوا بفوز كاتب عربى بنوبل ، إلا أن محفوظ لم يستخدم القسوة نفسها فى الرد على يوسف إدريس !!

ولم يدخل الرجـل فى معارك أومهاترات ، وإنشغل وقتها باللقاءات والأحاديث التى كان يدلى بها لوكالات الأنبـــاء والاعلام والصحافة عن الرد على يوسف إدريس الذى استخسر فيه جائزة نوبــل ، وكان يرى أن ـ محفوظ ـ ليس أهـلا لها !!

حتى عندمـا أتيـح لمحفوظ أن يرد كان مسالما فى رده ، ففى حوار أجراه معه الاعلامى مفيـد فوزى قال بالنص عندما سأله مفيد عن رأيه فى الهجوم الذى شنه عليـــه يوسف إدريس … ” أتصــور أن إدريس فى السنوات القادمـه قد يحصل على نوبل فى القصة القصيرة ” !!

منتهى التسامح والنبـــل ، فقد كان رحمة الله عليـه يحمل بداخله روحا شفافة مسالمة ، ويحسب لــه موقفه الرافض لنشر روايـــة ” أولاد حارتنا ” إلا إذا وافق عليها الأزهر الشريف تجنبا للصدام مع رجال الدين وطلبا للسلامة !!

والسؤال الذى يفرض نفسه هنــا ، هــل مشــروع محفوظ الأدبى هــو مادفعه للإبتعــاد عن الصدامــات فى سبيل إنجاز مشروعه الأدبى مما جعله يسير فى إتجاه واحد هـــو إتجاه الإبــداع ، الإبــداع ولاشىء غيــره ، أم أنه ضعف فى شخصيته جعله يستخدم ذكائه ويتستر خلف شخوصــه تاركا لهم مهمة البوح والفضفضة نيابة عنه ؟!

حتى لـو كان ذلك كذلك فإن الشخصيات من صنــع كاتبها ، وهو مسئول عنها وعن أفكارها وآرائها !!

فى إعتقــادى أن الإجابــة لابد أن تكون بنعم لصالح مشروع محفوظ الإبداعى فالمشرع الأدبى لــدى محفـــوظ كان همــه الأساسى وشغله الشاغــل ، والآن وبعــد أن رحــل محفــوظ فى 9 / 2006 نستطيــع أن نقـول بأنه إستطاع فى هــدوء ودون ضجة أو صدام ، أن يقـــول لنا عن طريـــق مشروعــــه الأدبى العملاق كل شىء عن تـــارخ مصر ، قديمها وحديثها وعن الحيــاة السياسية والإجتماعية ، وعن الحارة المصرية !!

إن حالــة التعايش السلمى والتصــالح مع النفس ومع الآخـــرين التى عاشها محفوظ على مدى سنـوات عمره المديد ، تستحق الوقوف عندها كثيرا ، فمن يـدرى ربمــا تكـون سلميتـه هى سـر عظمته كمبدع ، إستطـاع من خلالها أن يحصـل عن جـدارة على جائـزة نـوبــل !!

شريف الوكيل

“الأستاذ”

بقلم :شريف الوكيل

قالت مؤسسة نوبل عند تنويهها بالكاتب المبدع نجيب محفوظ، عند تتويجه بجائزة نوبل أرفع وسام  في مجال الإنجاز الأدبي في العالم ، وهو الأديب العربي الوحيد الذي حصل على هذه الجائزة  “إن إنجاز نجيب محفوظ العظيم والحاسم يكمن في إبداعه في مضمار الروايات والقصص القصيرة، ونتج عن إنتاجه ازدهار للرواية كنوع أدبي كما أسهم في تطور اللغة الأدبية في الأوساط الثقافية في العالم الناطق بالعربية، ولكن إنتاجه أوسع وأغنى بكثير ذلك أن أعماله تخاطبنا جميعا، كما أن إنتاج نجيب محفوظ أعطى دفعة كبرى للقصة كمذهب أدبي يتخذ من الحياة اليومية مادة له”.

وقد استمر الأديب والروائى العالمى نجيب محفوظ في نشاطه الأدبي لأكثر من سبعين عامٱ منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى مطلع القرن الواحد والعشرين، كان خلالها غزير الإنتاج حيث كتب عشرات الروايات يدور أغلبها حول الحياة في أحياء القاهرة الشعبية، مدينته التي قضى حياته في حاراتها ومقاهيها ولم يغادرها طوال عمره المديد. ، ومنها خرجت روائع أعماله الأدبية ، التى تحدثت عن الحياة الإجتماعية والسياسية فى مصر…ومن خلال هذه الأعمال الرائعة خرجت لنا أعمالٱ سينمائية وتليفزيونية كانت عاملا مهمٱ فى تشريح الحياة بشقيها السياسي والإجتماعى،  التي طبعت ثقافة أجيال كاملة فى كل آرجاء المنطقة العربية ، وكانت الثلاثية واللص والكلاب وخان الخليلى وزقاق المدق وثرثرة فوق النيل وعشرات الأعمال الأخرى .

لقد مر نجيب محفوظ بمراحل عديدة في كتاباته،  من المرحلة التي ركز فيها على رومانسية التاريخ الفرعوني ودلالات الانتقال من تعدد الآلهة إلى التوحيد وعلاقات الحاكم بالرعية، “وفجأة  إذ بالرغبة فى الكتابة الرومانسية التاريخية تموت فى نفسى وأجدنى أتحول إلى الواقعية بلا مقدمات وظللت غارقا فيها حتى أنهيت الثلاثية”  إلى المرحلة التالية التي انتقل فيها إلى الواقعية الاجتماعية لمصر بين الحربين والنضال المصري في سبيل الاستقلال وتأثير العامل الاقتصادي على العلاقات الإنسانية وعلى المرأة تحديدا، وهذا يعنى أن السمة الغالبة على الإنتاج الروائى لنجيب محفوظ فى هذه الفترة المبكرة هى الواقعية النقدية “فالأدب وثيقة تسجيلية للأديب لا للتاريخ أو الواقع يخيل إلى أن الأدب ثورة على الواقع لاتصوير له” ، ثم دخوله إلى مرحلة جديدة من الواقعية من خلال الملاحم في ثلاثيته الشهيرة على مستوى الأدب العربى والعالمى”بين القصرين، قصر الشوق والسكرية”والتي اعتبرها اتحاد الكتاب العرب أفضل رواية في تاريخ الأدب العربي ، وقد علّق عليها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين : فقال “أتاح ‘نجيب محفوظ للقصة أن تبلغ من الإتقان والروعة ومن العمق والدقة ومن التأثير الذي يشبه السحر ما لم يصل إليه كاتب مصري قبله”.

ليبين لنا الكاتب وجهة نظره فى أعماله الروائية “وأستطيع أن أضيف أنه لايوجد مؤرخ بلا وجهة نظر، فى حين أنه يوجد فنان بلا وجهة نظر ، فيكتفى بالتعبير المباشر عن التجارب دون أن يكون وراء هذا التعبير فلسفة معينة”…يقول(كمال عبد الجواد) فى السكرية وهى الجزء الأخير من الثلاثية 

يقول” إنى سائح فى متحف لاأملك فيه شيئٱ، مؤرخ فحسب لاأدرى أين أقف”،أى أنه فى مفترق الطرق، وليس لهذا  سوى دلالة واحدة، وهى أن وجهة النظر فى الأعمال الفنية عامة والروائية خاصة لا يمكن العثور عليها إلا من خلال خط السير المعين للأحداث، وموقف الشخصيات الروائية منها…أى من خلال العقدة أو الحبكة الروائية ذاتها .

هذا وأعقبها محفوظ  برواية أولاد حارتنا ثم ملحمة الحرافيش، التي عملت على نقل الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي في مصر لعدة أجيال، وفي المرحلة الأخيرة انتقل إلى الرمزية التي عكست رؤيته الفلسفية أو رحلته في البحث عن معنى للوجود.

يقولون كلما غاص الكاتب عميقا في النفس البشرية كلما وصل إلى القواسم الإنسانية المشتركة بين مختلف الشعوب، وانتقل أدبه إلى العالمية وصار من الممكن قراءته فى كل انحاء العالم، وفي كل اللغات وهذا ينطبق تماما على نجيب محفوظ…حيث نال على كتبه العديد من الجوائز توجت بجائزة نوبل للآداب…وكان محفوظ دائما مايحافظ في كل مراحله الأدبية على انتقاده للسلطة والقمع الفكرى والمجتمعى فى كتاباته التى تطورت فتخطت حدود الوصف والرمز، ليصل بنا إلى رائعته (أولاد حارتنا) ، التى كانت سببٱ فى فتح النيران عليه من كل جانب وخاصة جانب الإسلاميين ، بدأت اعتراضات رجال الدين على محتواها، وقيل عن الرواية إنها إلحاد وعبث بتاريخ الديانات وإنها تقول إن الله خرافة وطالبوا بمصادرتها ، وظهرت بعض الكتب  تهاجم الرواية لأنها نزعت القداسة عن الأنبياء وجعلتهم مصلحين اجتماعيين، على حد قولهم ، كما هوجم القائمين على جائزة نوبل لأنهم كرموا نجيب محفوظ “لما يحملون من حقد دفين على الإسلام”.

لتتوالى الفتاوى العديدة ،  التي اتهمت نجيب محفوظ بالكفر والإلحاد والزندقة، حتى وصل الأمر بوجوب قتله ، لكونه من وجهة نظرهم مرتدٱ … ولم  ينته تحامل الإسلاميين على نجيب محفوظ حتى اليوم، ويظهر ذلك إلى العلن كلما سنحت الفرصة .

لا شك أن نجيب محفوظ يعد واحد من أهم كتاب اﻷدب المصري المعاصر وأكثرهم إنتاجٱ وانتشارٱ محليٱ وعالميٱ،  إذ تعدت أعماله المائة، ما بين الرواية والقصة القصيرة وسيناريوهات السينما المتنوعة

تأتى كتابات الأستاذ فى المجمل منتمية للمدرسة الواقعية ، يتخللها بعض ملامح الوجودية والرمزية كما إستطاع أن يصور الأحوال السياسية والإجتماعية والإقتصادية لمصر ، من خلال الحارة المصرية التى تجسد مصر، فى فترات مختلفة من تاريخها القديم والمعاصر …فقد إستطاع أن يخلق فنه وأنشاءه، بمعنى أنه جعل الرواية فنا قوميٱ، فالفضل يرجع له فى وصول الرواية لمكانها الذى تستحقه .

طرق محفوظ أبواب السينما قبل أن تتعرف على رواياته ، حيث قدّم للشاشة الكبيرة مجموعة من الأفلام، أثرت تاريخ السينما المصرية، وبرغم ما عرف عن عمقه في الأفكار، عُرف أيضًا ببساطته في الطرح، وبهذا استطاع تقديم المجتمع المصري بكل مكوناته وتفاصيله وتعقيداته ، كتب للسينما أكثر من عشرين سيناريو، مازلنا نتذكرها حتى يومنا هذا، منها فيلم الفتوة والوحش وبين السماء والأرض والمنتقم ولك يوم يا ظالم ، وريا وسكينة، وجعلوني مجرمًا ومجرم في إجازة ، وإحنا التلامذة ،  وأنا حرة المأخوذ عن رواية كتبها الأديب إحسان عبد القدوس ولكن فى الواقع فإن قيمة نجيب محفوظ ٠ الأديب أكبر بكثير من قيمته ككاتب سيناريو.

فهجر محفوظ كتابة السيناريو ليتجه بكل ثقله لكتابة رواياته ، ليلتقط المخرج صلاح ابوسيف اولى رواياته ويحولها إلى فيلم رائع ألا وهو بداية ونهاية ، ليفتح الباب أمام عدد كبير من المخرجين ،  وتتوالى روايات الأديب الكبير لتتحول إلى أعمال سينمائية متميزة .

ويصبح المكان لدى محفوظ هو البطل الرئيسى فى معظم إبداعه إذ لم يكن كلها، ورغم ذاك ينصهر المكان والإنسان ليصبحا مزيجاً واحدا يصنع أحدهما الآخر…لتحمل لنا أسماء رواياته وقصصه، أسماء هذه الأماكن، فكانت رواية خان الخليلى وزقاق المدق والثلاثية بأسماء أماكنها …كذلك ميرامار والكرنك .

وإستطاع محفوظ بذكائه الفنى أن يجعل المقهى مسرحٱ لأحداث رواياته وملتقى أبطاله من كل الفئات وأيٱ كانت مراكزهم ، فنجد المعلم كرشه وزيطة والشيخ درويش من رواد المقهى فى زقاق المدق 

خان وثرثرة نجيب محفزظ

مثاما نجد فى خان الخليلى المعلم نونو واحمد عاكف وغيرهم يجمعهم المقهى…حتى فى ثرثرة فوق النيل نجده يحبس ابطاله بداخل عوامة ، لتكون بمثابة مقهى خاص يجتمع فيه الأصدقاء، وقد حبس نجيب محفوظ أبطال رواياته فى هذه الأماكن، ولكنه خرج ببعضهم  إلى حيز أوسع من المقهى وخرج من هذا العالم الضيق، بل وتغيرت أيضا الشخصيات من أمثال رواد مقهى زقاق المدق ، ليضيف لنا شخصيات من فئات أخرى جديدة من أبناء الطبقة البرجوازية، وذلك فى القليل من رواياته مثل السراب والمرايا والحب تحت المطر …وقد ظل الإنسان والزمان والمكان محور محفوظ الأساسى فى كل ماكتبه، فكان مشغولا بشئون الوطن وشجون الإنسان، ناهيك عن التداعيات السياسية والتجليات الصوفية كما فى “أصداء السيرة الذاتية” والفلسفة الوجودية  فى”أحلام فترة النقاهة” 

ويعد نجيب محفوظ من أقدم الروائيين إرتباطا بالسينما منذ بدايته سنة ١٩٤٧ ككاتب للسيناريو( وكان معلمه فى هذا المجال المخرج صلاح ابو سيف)، حتى أن تم الإنتباه لرواياته سنة١٩٦٠ وحتى الآن، وأظن أنه لايوجد أديب آخر ظلت له هذه العلاقة طوال هذه السنوات ، حتى اتخذ  قرارًا بعدم كتابة السيناريو مرة أخرى، لكنه تراجع بعد ذلك بشكل جزئي، وفي نفس الوقت لم يعد لسابق نشاطه في كتابة سيناريوهات خصيصًا للسينما، كما أعد بعض القصص التي كتبها غيره من الكتاب حتى تصلح لتقديمها سينمائيًا، ومن بين الأعمال التي قدمها بعد التراجع بعيدًا عن نصوصه الأدبية: أعد قصة “شيء من العذاب” للسينما، كتب قصة وسيناريو وحوار فيلم “الاختيار” إخراج يوسف شاهين، ووضع إعداد سينمائي لروايتى إحسان عبدالقدوس بئر الحرمان و”مبراطورية ميم.

يطول الكلام ولايقصر عن الأستاذ ومها كتب أو بالأحرى مهما كتبت عنه فلن أصل لمصاف كتاب ومفكرين كبار قالوا وكتبوا عن نجيب محفوظ ولكنى سأتحدث عنه من الناحية السينمائية، ليس نقدا ولكن حبٱ وإعجابٱ بهذا الكاتب العبقرى الذى أخرج للعالم جل مافى جعبته ولم يبخل على قرائه برواياته وعصارة فكره،  ولم يخل يوما بأصول المهنة فكانت جائزة نوبل .

 قدم لنا محفوظ روايات رائعة كانت علامة من علامات الأدب القصصى العربى، وقد تحول منها الكثير لأعمال سينمائية كبيرة فتكون ركيزة أساسية  فيما بعد لكثير من المهتمبن بصناعة السينما ، كانت أول أعماله بداية ونهاية والتى قدمها المخرج صلاح ابوسيف للسينما مع مجموعة منتقاة ومميزة من الممثلين سنة ١٩٦٠، وهذه الرواية بصفة خاصة قد ألهبت حماس مخرجى الأفلام وكتاب السيناريو لتتوالى أعمل محفوظ ، لتقدم لنا السينما أجمل الأفلام المأخوذة عن روايات كاتبنا العظيم سواء كانت من خلال رواياته الكبيرة (الثلاثية) من خلال شخصية السيد أحمد عبد الجواد الذى تربط بين الأجزاء الثلاث التي تتبع قصة حياة ابنه كمال من الطفولة للشباب والرشد. كما نجد أسمائها مأخوذة من أسماء شوارع حقيقية بالقاهرة. وتتناول الرواية ضمن موضوعات أخرى انسحاق المرأة المصرية أمام سطوة الرجل وسيادته وقيود المجتمع الشرقي المحافظ والمنغلق، كما تشير لازدواجية المعايير لدي الشخصية الرئيسية السيد احمد عبد الجواد الذي يظهر بقناع الملتزم، المتشدد، الصارم في البيت ويلبس قناع المنفلت المحب للملذات في صحبة الرفاق والراقصات والعوالم، أو من خلال قصصه القصيرة التى تحولت لأفلام جيدة وماأكثرها …إن نجيب محفوظ كان يحاول تقديم حلول لمشاكل المجتمع، من خلال ماقدمه من فكر وإبداع ،ففى كل أعماله كان واعيا بمشاكل الحارة والشارع المصرى، ليتربع على عرش الرواية العربية  بلامنازع…فقد أمسك محفوظ بتلابيب الحياة فى مصر/القاهرة قبل ثورة ١٩١٩ وحتى ثورة ١٩٥٢، ليتواصل مع جمهوره ومريديه بأجمل الروايات وأعمقها تشريحٱ للمجتمع اامصرى ،

كان محفوظ يرى أن أستوديو مصر، يمثّل البنية التحتية الأولى لصناعة السينما، وكان مدرسة التقنية في السينما المصرية، والبداية الحقيقية لمسيرتها. ويعتبر هو الذى حدد لهذه السينما أهم اتجاهاتها الفنية، ووضع بذور المدرسة الواقعية التي منحت السينما المصرية شخصيتها المستقلة…فقد قدّم نجيب محفوظ أول كتاباته السينمائية “مغامرات عنتر وعبلة وامتدت إسهاماته في ما بعد أكثر من نصف قرن، شارك فيها بكتابة القصة السينمائية أو الإعداد السينمائي أو السيناريو، وذلك فضلا عن قصصه ورواياته الأدبية التي نهلت منها السينما المصرية مجموعة من أفضل وأجمل أفلامها، وبلغ مجمل إسهاماته أربعة وستون فيلمٱ .

وقال عنه النقاد إن محفوظ في السينما كان له قلما مميزا، حيث كان يكتب السيناريو فقط أما الحوار فكان لآخرين، كما أشاروا إلى أن الحوار في أفلام نجيب محفوظ كان يقترب من الفصحى البسيطة، بالإضافة إلى إن كل ما خطة محفوظ سواء في السينما أو الرواية يحمل أبعادا فلسفية عميقة للشخصيات والأحداث مما يجعل المشاهد ومن ثم القارئ أمام حالة من العمق الشديد.

 وقد تمتع الأديب العالمي بخفة الظل وسرعة البديهة، ففى أحد مقابلاته التليفزيونية سأله مقدم البرنامج “لما كنت داخل على التسعين سألوك شايف مصر إزاي قلت عشنا وشفنا العجب، ودلوقتي وإنت داخل على الـ ٩٣شايف الدنيا إزاي ليرد الأستاذ مازحا: مش قادر أشوف العجب، ويكمل المذيع ضاحكا “إزاي تخرج مصر من معاناتها بعد الحروب، ليرد محفوظ: أنت فكرك أنا عارف تخرج إزاي ومقلتش”، مضيفا: “أمنياتي بسيطة حسن الختام وأن تخرج مصر من أزمتها لأتمتع بالسعادة”.


فتحي إسماعيل

” نجيب حارس حارتنا وترياق النسيان “

      فتحي أسماعيل

لن أحصِي ما قرأته في مراحل ارتباطي الأزلي بالورق، ولكن سألج إلى عالم نجيب مباشرة في عجالة، حين قرأت الثلاثية وكنت في المرحلة الإعدادية، قرأت كل جزء في يوم كامل على مدار ثلاثة أيام، وأذكر جيدًا أنني لم أتناول وجبة الغذاء وربما تناولت العشاء متأخرا، حتى أنني كنت أشعر بغصة تنتابني كلما ألحت عليّ حاجة فسيولوجية، غرقت في حواري وأحداث الرواية.. و شعرت أنّ كمال أحمد عبد الجوّاد هو أنا بصورة ما، ورغم أني كبرت وشاب الشعر وإن كان الظهر لم ينحن بعد، إلا أن انطباعي الأول ما زال، وكأني في طفولتي تنبأت أو تنبأ لي محفوظ

بخارطة عقلي ونفسي المستقبلية ..ثم كانت خان الخليلي التي وجدت بعضًا مني في أحمد عاكف رغم عدم إعجابي بشخصيته الخجول وحظه العاثر، ولكنني آمنت باستقراء نجيب، وخشيت أن ألاقي المصير نفسه.. صدق نجيب والقدر وكذبت أمنياتي.ثم مع الحرافيش والشحاذ ومسيرة قراءتي لرواياته.. وجدت فلسفة لا يحدها تاريخ، ولا تقربها هزلية النزق الفكري، كان يدرك الشعور، ويشعر ما يجيده وكان صادقًا دؤوبا في نقل عوالم أفكاره الفلسفية واستقرائه للوجود والأزل والإيمان والشك في تلبيسها شخوصًا وأحداثًا عاشت وستعيش وستبقى

إلى أن تخلص تجربة الإنسان في هذه الدنيا .عن نفسي.. عندما قرأت أولاد حارتنا لم أجد فيها هذا العمق الذي وجدته في الحرافيش من حيث الرمزية والسرد الساحر، ولم أجد فيها هذا الاقتراب الرمزي الخطر (تابو الدين) كما وجدته في روايته الصغيرة نسبيا قلب الليل.أحب صدق الكاتب في نجيب محفوظ وإخلاصه قبل حرفيته .لم يفرق أو يزيد أو يؤثر وجه نجيب محفوظ في ذهني حصوله على نوبل من عدمه ف تعرفي عليه كان قبلها، ومع مشاهداتي لحواراته الإذاعية والتلفزيونية أحببت الرجل إنسانًا مرحًا خفيف الظل سريع البديهة، أنيس المجالس.. متواضع.نجيب واحد ممن حاولوا أن يصلحوا العالم بفكرة، ممن تمثلت تعاليم كل الأديان السماوية فيهم، أليس هو من قال للمحقق عن قاتله :”أنا الحقيقة معرفش اللي ضربني، لكن أنا مسامحة على كل حال” واستأذن من المحققين أن يسمحوا له بإهداء قاتليه بعض كتبه قائلا: ” لابد وأن أحدهم يقرأ وكان أن أهداهم ثلاثة من كتبه قائلا لهم : ” إلى من يخالفني الرأي أهدي سطورا كتبتها لمصلحة مجتمع لن ينصلح حاله إلا بالثقافة”

نجيب محفوظ، التجربة الإنسانية قبل الأدبية، معلم عظيم، حين قال: ( الليالي حبلى بالعجائب

  • سألناك عند دخولك عتبات التسعين من العمر عن رؤيتك في ذكرى ميلادك، غنيت (عشنا وشفنا العجب) فماذا تقول وأنت على أعتاب الثالثة والتسعين ؟

فرد ساخرًا

  • مش قادر أشوف العجب

ولكنك يا سيدي  أريتنا العجب، وألجمال والسحر والفلسفة – أريتنا مصر والعالم والكون بحب وفكر وجمال.

                            

90548907_10158217364004136_2730598331142111232_o

محمد محمد مستجاب

                     المكان حينما يتواطأ مع المقهورين

بين «حادث النصف متر» و«الحب فوق هضبة الهرم

 

في هذه السطور محاولة لادراك خيط رفيع لا يري الا بالعين المدربة بين هذين العملين العميقين لعملاقين فى أدبنا العربي، “صبري موسي” صاحب الإنتاج القليل والمميز جدًا، وصاحب نوبل “نجيب محفوظ” المميز بكثرة إنتاجه وتنوعه. بين عامي 1962 وعامي 1978، خمسة عشر عامًا تقريبًا، هي الفارق بين العملين القصيرين.. الأول رواية قصيرة هي “حادث النصف متر” لموسى، والثاني قصة طويلة لمحفوظ، في مجموعة تحمل نفس العنوان “الحب فوق هضبة الهرم”.

 قراءة هذين العملين البديعين تظهر التشابه الكبير بين أبطالهما، ففي الأول حادث النصف متر.. نجد ذلك الشاب البطل الراوى الذى لم يختر له المؤلف اسما يبحث عن الجنس، كرغبة يريد أن يطفئها، فيصبح هو المحرك الاساسي له، سواء في أحلامه أو يقظته، وهو ما يحدث أيضًا مع “علي عبد الستار” بطل قصة “الحب فوق هضبة الهرم” فهو من أول سطر في القصة يعلن: أريد امرأة.. أيّة امرأة.

لكن الظروف الحياتية لا تجعل البطلين يستطيعان الوصول إلى تلك الأنثي التي يحلمان بها بطريق مشروع فخلف تلك الكلمة البسيطة “الزواج” كثير من المعوقات المادية كالأموال والشقة وتأثيثها، ومعوقات نفسية تلح عليهما وهي الشكل الاجتماعي بصفتهما شابين تخطيا مرحلة عمرية ولم يتزوجا، وبالتالي ينظر لهما المجتمع بنصف عين على عدم تحركهما لإتمام هذا المشروع.

وإذا كانت قوانين المجتمع ترمقهما بنصف عين، فلم يكن أمامهما إلا السخرية من تلك القوانين وذلك المجتمع وظروفه. لذا يلجأ كل منهما للتحايل على الواقع، بل والسخرية منه، ففي “حادث النصف متر” يقول الراوي وهو البطل أيضًا: كان طويلاً، فانحنى وهو يقدم لي نفسه، ثم طلب مني أن أبتعد عن حبيبتي لأنه سيتزوجها.. لنعرف بعد ذلك انه غريمه الطبيب الذى لجات اليه حبيبته فيقرر ان يصادرها لنفسه رغم علمه بعلاقتها بالبطل الراوى ثم في حديثه عن “الوكر”، وهو مكان اللقاء الجنسي مع أحدى الفتيات وهو صغير السن، وعندما ذهب لزيارته بعد فترة وجده وقد تحول إلى مسجد، حيث يؤكد البطل أنه لا شيء حقيقيا وثابتا ودائما، وهذه هي فلسفته التى يتحرك بها في مواجهة هذا العالم.

تلك السخرية يلقي لنا بها البطل طوال الرواية، بين فواصل الجمل، وبدايات الفصول وعناوينها، “التاريخ السري لرجل عادي”، “مفاتيح بيوت لا نملكها”، وهي نفس السخرية المرة التى يتعامل بها ” علي عبد الستار” في الحب فوق هضبة الهرم، خاصة في لقائه مع المفكر الكبير ” عاطف هلال” عندما لم يجد لديه  حلاً لمشكلته، وبالتالي فهو يسخر منه ومن كتاباته، حيث يمثل للبطل جيلا سابقا أخذ كل شيء ولم يترك شيئا إلا الشعارات.

ورغم أن الجنس هو المحرك الاساسي، إلا أنه جنس عقيم لدي بطلى العملين، فلم يصل بهما إلى شيء، غير المتعة الوقتية أو النشوة اللحظية، وهذا ما نراه بوضوح في عقم المدينة حولهما، في الزحام وموت الاحلام والضجيج وعدم الوصول إلى أي هدف، كسل دواوين الحكومة ومكاتبها ومواصلاتها العامة ومقاهيها. فالاثنان موظفان عاطلان عن العمل، وبالتالي طاقة معطلة تبحث عن منفذ أو متنفس يحققان فيه رغبتهما.

والمكان هنا/ المدينة، يضغط بقسوة  فى كلا العملين، فالقاهرة هي ذلك البطل القاسي الذي تجري على ترابه أحداث القصتين، وخاصة منطقة وسط البلد، حيث يتم إختزالها فى شوارع ومقاهي وكازينوهات وسط البلد، وفنادق الدرجة الثالثة.. في “حادث النصف متر” يتم التعارف بين البطل والبطلة في أتوبيس نقل عام، بينما اللقاء فى “الحب فوق هضبة الهرم” يحدث في مكتب بمصلحة حكومية.

أربعة أقدام تتحرك على أرض المدينة، ولا تترك لها أثرًا، تنغرز فيها وتريد أن تتركها مما يجعل المكان يحوطها، ليصبح هذا المكان سجنا كبيرا لا يستطيعان غير التقافز في أرجائه، أو غرفه أو شوارعه. المكان هنا علاقات اجتماعية وفقر شديد ونظرات بشر لهذين الكائنين اللذين يريدان شيئا بسيطًا هو: الجنس.

لكن تلك العقبات وهذا العقم، يجعلهما يلجأن إلى كل ما هو ضد الواقع، بل إنهما يدهشان، عندما يجدان هذا الواقع يساعدهما في طرق تحايلهما من أجل الوصول إلى هدفهما، وما كانا يفكران  فيه أنه “عيب” يصبح هو الحقيقة والاساس. يذهب البطل في “حادث النصف متر” إلى الفنادق وشقق الاصدقاء والغرباء أيضًا، بل يصبح له تاريخ محدد لزيارة تلك الأماكن مع حبيبته. تتحول المدينة إلى وكر وأهلها خادمون في هذا الوكر ومساهمون فيه ايضًا.

وهذا ما يحدث بالضبط مع بطلى قصة “الحب فوق هضبة الهرم”، عندما يفشلان في العثور على مسكن لاتمام الخطوبة، فلم يكن أمامهما إلا أن يتزوجا سرًا، ثم البحث عن أماكن لم تكن في بالهما ذات يوم في تلك المدينة، فيبدآن في التردد على أماكن مثيرة وفنادق رخيصة وشقق للأصدقاء حتي يتم اللقاء. وعندما يراهما أحد أصدقاء العمل يضطران إلى إعلان زواجهما، في تحد واضح لهذا المجتمع الكاسر، وكأنهما يقتنصان تلك الرغبة من بين فكيه، فلا ينفصلان بل يصران على استكمال مشروعهما وهو البحث عن مكان.، هذا المكان الذي يكرهما ويكره أفعالهما في الظاهر، يوافق في الحقيقة على هذا التحايل وتلك الحياة في الخفاء، وبالتالي يسهل لهما اللقاء، حتي ولو كان على أرض التاريخ أسفل سفح الهرم.، فالمجتمع هنا يغض الطرف عن فعلتهما تماما بل ويتواطا معها كما فعل السيد زينهم الذى كان يؤجر غرفته للبطل وحبيبته في حادث النصف متر. وكما وجد على عبد الستار وحبيبته مكانا فى سفح الهرم للقائهما.

هذا التواطؤ الذي تقدمه المدينة وأهلها من أجل أن يتم اللقاء للبطل وحبيبته طوال الأحداث هو نفسه التواطؤ والبساطة التى تغلف به المدينة أفعالها في ختام العملين، فلم تنفجر المدينة ولم تثر عليهم، بل كان الختام بسيطًا وواقعيًا وهو ما يدهشنا – نحن القراء- وهو أيضًا – أحد الخيوط القوية التي تربط العملين. ففي كليهما تصبح المدينة، غرفة ذات سقف وأربعة جدران، يذيب فيها البطلان توترهما اللا نهائي ومتعتهما العاطفية، بينما تصير الشوارع والمقاهي والفنادق والأركان المظلمة، عالمهما بأسره.

الأبطال في كلا العملين يعيشون عزلة نفسية، فلا يعنيهم شيء مما يحدث حولهم في العالم، وبالتالي إذا كان هذا العالم الكبير يسحقهم، فهم أيضا يسحقونه أو يتمردون عليه بطريقتهم، فهذا العالم وما يمثله من حضارة، لا يقدم لهم إلا قضبانا وقيودا. ويضاف إلى الخيط الرفيع بين العملين، هذا الراوي العليم، ذو النبرة الساخرة المرحة فى حادث النصف متر فهو يخبرنا منذ أول سطر عن الختام، وبنظرته الفلسفية في الحياة. وعلى نفس المنوال يسير بطل “محفوظ”، الذي يريد أن يفلسف الحياة والظروف حوله، حتى عندما يلتقي بالكاتب الكبير “عاطف هلال” مرة أخري، فلا يقتنع بفلسفته بل ويحتد عليه ويسخر منه ويسبه، لأنه استطاع أن يقفز من السفينة – الوطن – مثل الجرذان قبل أن تغرق، بينما يحاول أن يخفي ذلك في مقالاته البائسة.

وإذا كان “محفوظ” قد لجأ للحوار في معظم أجزاء القصة، وهذا أحد أسباب تفرده وافلاته من التماهي مع “حادث النصف متر”، فإنه مع ذلك لم يجد مفرًا من تلك الفلسفة التي يتحدث بها الراوي أو البطل الراوي، حيث لجأ محفوظ إلى تلك الفلسفة على لسان بطله، وخاصة في الحوار المتنامي طوال القصة.

نحن إذن أمام عملين متفردين، يربط بينهما أشخاص ومكان ورغبة واحدة، وكل منهما استخدم اساليبه ووضع بصمته، لكن تبقى في النهاية، إحدى متع الأدب الكبرى، هي أن تزرع في منطقة  “حادث النصف متر” ويتذوق آخر طعامك، فيهضمه ليخرجه عملا ابداعيًأ كبيرًا مثل “الحب فوق هضبة الهرم”.

نجيب والحرافيش

أعمال خالدة

حرافيش نجيب محفوظ .. البحث عن العدل المنشود

محمد سيد بركة

نشر نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911 – 30 أغسطس 2006) درة أعماله الأدبية روايته الحرافيش عام 1977 قبل 12 سنة  من فوزه بجائزة نوبل عام  1989 .

الحرافيش.. نص أدبي سطر فيه نجيب محفوظ  واحدة من أروع الروايات العربية وأكثرها بلاغة وواقعية في وصف الظلم والعدل، الصبر واليأس، الحنين والجفاء، سطر محفوظ في هذه الرواية كل معاني الحياة المؤلمة والمبهجة التي نعيش فيها يومياً.

العدل المنشود

تتناول رواية  الحرافيش الحارة كنموذج مصغر للكون وتجعل منها الصورة المصغرة للعالم الأكبر، وترى فيها الماضي السحيق والحاضر القريب والمستقبل المرجو. وﻳﺼﻒ ﻧﺠﻴﺐ ﻣﺤﻔﻮﻅ في ملحمته ﺳﻌﻲ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ إﻟﻰ ﺍﻟﺨﻼﺹ ﻭﺗﻤﺮﺩﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﺭﺗﻀﺖ ﺑﺎﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻤﺮﻳﺮ، ﻓﺘﺤﺜﻬﺎ ﺩﺍﺋﻤﺎ إﻟﻰ ﺍﻟﺨﺮﻭﺝ ﻣﻦ ﻧﻔﻖ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺍﻟﻤﻈﻠﻢ، ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺼﻄﺪﻡ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﺑﺤﺐ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭإﻏﻮﺍءاﺗﻬﺎ ﺍﻟﻼ ﻣﺤﺪﻭﺩﺓ ﻭﻫﻨﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻔﺘﺮﻕ ﺍﻟﻄﺮﻕ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺨﺘﺎﺭ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﻨﻔﺲ إﻣﺎ ﺍﻟﺴﻴﺮ ﻋﻠﻰ ﺧﻄﻰ ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﻴﻦ ﺍﻷﻭﺍﺋﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﺤﻴﺎﺩ ﻋﻦ الطريق الذي سلكوه ﻭإﻳﺜﺎﺭ ﺷﻬﻮﺍت النفس ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻴﺔ، ﻛﻤﺎ ﻳﺼﻒ ﻟﻨﺎ ﺍﻟﺨﻨﻮﻉ ﻭﺍﻟﺬﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺼﻴﺐ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻣﻦ ﺟﺮﺍﺀ ﻳﺄﺳﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼﺻﻬﺎ، ﻭﺟﻬﻠﻬﺎ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﺨﻼﺹ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻫﻮ ﺍﻟﻨﺎﺑﻊ ﻣﻦ ﺩﺍﺧﻠﻬﺎ ﻻ ﺍﻟﻤﺴﻠﻂ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻓﻬﻮ ﺧﻼﺹ ﺯﺍﺋﻒ ﺳﺮﻋﺎﻥ ﻣﺎ ﻳﺘﺒﺨﺮ ﻭﻳﺬﻫﺐ ﺭﻳﺤﻪ ﻭﺗﺒﻘﻰ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻓﻲ ﻇﻠﻤﺎﺗﻬﺎ ﺗﺒﻜﻲ ﻋﻠﻰ ﻣﺎﺽ ﻗﺪ ﺗﻮﻟﻰ ﻭﺫﻛﺮﻳﺎﺕ ﻟﻦ ﺗﻌﻮﺩ.

يناقش نجيب محفوظ في روايته الحرافيش قضية  العدل المنشود ومفهوم كلمة العدل. أوجه كثيرة للعدل أخذت شخصيات نجيب محفوظ تبحث عنها معتبرين أن ليس كل العدل ما يخص الناس فقط، وأن هناك عدلهم مع أنفسهم وهو أهم وأبقى. ومن هنا ظهر إصرار عاشور الناجي الأكبر وشمس الدين على حياة التقشف وإغلاق الأبواب أمام جميع أنواع الهوى. فهل يكون سبيل الدراويش هو الطريق الأوحد للعدل؟! يثير بذلك نجيب محفوظ جدلًا فلسفيا قديما حول طبيعة الإنسان بالفطرة هل هي الخير أم الشر، يتجلى ذلك الجدل في التساؤل عن سبب انتصار الظلم في معظم الأحيان.

الحرافيش ، كانت تسمية للطبقة المتدنية أثناء العصر المملوكي الذين كانوا يعيشون في القاهرة ..إنهم العوام المستضعفون الذين يعيشون حياة أدنى من مستوى حياة الحيوان ومع ذلك يظل ذلك الجوهر جوهر الإنسانية المكرمة من لدن الله سبحانه وتعالى يومض داخل أجسادهم الواهنة يجعلهم يحلمون بالعدالة والحرية ويضعون حلمهم هذا في صورة جسد بانتظارهم الدائم لعاشور آخر يملأ الأرض عليهم عدلا كما ملئت ظلما وجورا

عشر حكايات

تتألف رواية الحرافيش الضخمة ( تقع في 563 صفحة من القطع المتوسط، طبعة مكتبة مصر ،603 صفحة من القطع المتوسط طبعة دار الشروق السابعة 2016) من عشر حكايات طويلة تمثل الهيكل الأساسي للرواية، وتبدأ كل حكاية منها باسم صاحبها أو بطلها، فالحكاية الأولى تبدأ كالتالي: (عاشور الناجي، الحكاية الأولى)، ثم تتوالى الحكايات بالترتيب الآتي:

[الحكاية الثانية/ شمس الدين الناجي- الحكاية الثالثة/ الحب والقضبان (سليمان الناجي)- الحكاية الرابعة/ المطارد (سماحة الناجي)- الحكاية الخامسة/ قرة الناجي- الحكاية السادسة/ شهد الملكة (زهيرة الناجي)- الحكاية السابعة/ جلال صاحب الجلالة – الحكاية الثامنة/ (الأشباح) – الحكاية التاسعة/ (سارق النعمة)- الحكاية العاشرة/ التوت والنبوت (عاشور الناجي)]

ونلاحظ أن الحكاية الأولى وبطلها عاشور الناجي الأب والجد المؤسس، والحكاية الأخيرة وبطلها عاشور الناجي الحفيد أيضا الذي انتهى إليه سلسال أسرة الناجي، أطلق محفوظ على الحكاية اسم بطلها الذي من نسله يأتي أبطال الملحمة، وهذا يتفق والتقليد السائد والمتعارف عليه في السيرة الشعبية، بأن تسمى السيرة باسم بطلها صاحب السيرة.

الحكاية من أولها لأخرها

الحرافيش

تجري أحداث الحرافيش في أحد أحياء القاهرة القديمة، و تتعامل مع حياة الناس العاديين، و إن بشكل أكثر تحديداً مع زعماء العصابة أو العشيرة الذين أداروا شؤون الحي جيلاً بعد جيل. أول زعماء العشيرة كان سائق عربة متواضع اسمه عاشور. في أحد أحلامه يرى عاشور وباءً يوشك أن يصيب القاهرة، يلجأ للصحراء مع زوجته و طفله، و عندما ينتهي الوباء يعود عاشور للمدينة المدمرة، و يستولي على قصر مهجور معيداً توزيع الثروة بداخله لإنعاش اقتصاد الحي. و بعد عام في السجن زاد من شهرته بين الفقراء يعود كعاشور الناجي وسط استقبال الأبطال، و يتولى رئاسة العشيرة مؤسساً لعصر ذهبي، يكبح القوي و يحمي حقوق صغار الحي و يخلق جواً من الإيمان و التقوى. و ليلة الاختفاء الغامض لعاشور يفرح التجار و لكن ارتياحهم لم يطل، فبعد سلسلة من المعارك مع العشائر المجاورة يستطيع ابن عاشور: شمس الناجي أن يؤسس لتفوق عشيرة الناجي، و استمر الحرافيش بالازدهار و بالعيش العادل تحت قيادتهم الجديدة.

و لكن الأسرة تبدأ تدهورها مع سليمان، ثالث عائلة الناجي، فهو يحول نقود الحماية إلى أعضاء العشيرة بدل توزيعها على الفقراء كما كانت الحالة من قبل، يزداد ثراء العشيرة و تزداد معاناة أهل الحي. و أما أبناء سليمان فيعجزون عن فهم أن الرخاء الذي تمتع به العشيرة و الحي يعتمد على قوة و مكانة العشيرة، لذلك يكرسون أنفسهم لجمع المال، فتفارق الزعامة عائلة ناجي و تصبح العشيرة مستغلة بدل أن تكون حامية للناس العاديين. و لثلاثة أجيال أخرى يستمر انحدار العشيرة و الحي، و يعيش الحرافيش في فقر و عجز، يائسين من عودة أيام عاشور. ثم تنتقل الزعامة إلى جلال الطاغية الكئيب الذي يستخدم الرشوة و البلطجة ليبني لنفسه قصراً ضخماً مليئاً بالتحف ثم يستأجر ساحراً و يكرس نفسه لنيل الخلود، و يتمتم الحرافيش – الذين يلعبون دوراً آخر كنوع من الكورس الإغريقي الذي يعلق على أفعال القوي- : لقد تمت خيانة عهد عاشور، نظام العشيرة أضحى كارثة قديمة.

ثم تضرب المجاعة القاهرة، يخزن التجار الطعام و يثور الحرافيش، ترد العشيرة بمعاقبتهم لحماية الأغنياء، و في ظل هذا الجو المشحون يأتي حفيد متواضع لعاشور هو فتح الباب و يشعل شرارة تطلق انفجار الغضب الشعبي. تهزم العشيرة و يطرد زعيمها و ينصب فتح الباب زعيماً جديداً، يحاول فتح الباب أن ينهي جور العشيرة و يعيدها لطريق الخدمة، لكن أتباعه يقتلونه، و يعود الحرافيش إلى سباتهم العميق.

في تلك الأثناء، و في ركن دفين يترعرع شاب اسمه عاشور و هو الابن الثالث لابن أخ فتح الباب ، يتأمل سيرة جده الأسطوري و طرق تمكنه من التوفيق بين القوة و الفضيلة و يأتيه الإلهام، يتحدى العشيرة، و بشكل لا يصدق تسير الحرافيش عفوياً خلف رايته.

و عندما حدث هذا و تجمع الحرافيش و هم يشكلون الغالبية العظمى من العامة و سيطروا على النبابيت و العصي الطويلة فقد انقطع الخيط الذي يمسك كل شيء في مكانه و أصبح كل شيء ممكناً.

عاشور الزعيم جديد للحرافيش يحولهم من متشردين و نشالين و شحاذين إلى أعظم قبيلة عرفها الحي، و هو يفرض ضرائب ثقيلة على الأغنياء و يؤسس ميليشيا شعبية، يخلق فرص عمل و يؤسس مدارس. و بهذا تبدأ مرحلة في تاريخ العشيرة امتازت بالقوة و الاستقامة.

قالوا عن الحرافيش

خيري شلبي

وأستطيع الآن أن أقول وبثقة أن الحرافيش هي أعظم رواية في تاريخ الأدب العربي، وأن موهبة نجيب محفوظ لا نستطيع مقارنتها سوى بموهبة ديستوفسكى.

علاء الديب

لأول مرة أشعر أني أمام بناء فرعوني خالص في الأدب .. بناء يستحضر عظمة المعابد ونقوش الجدران، ويستحضر كذلك روح العدل والتوازن، بل والتحدي المباشر لفكرة الزمن وجوهره .. إنها أكمل وأنضج ما قدم فكر نجيب محفوظ وفنه

في السينما

 ضربت ملحمة الحرافيش رقماً قياسياً في عدد الأفلام والمسلسلات المأخوذة عنها  وقد حظيت حكايات الحرافيش بعدة أفلام  منها :

1985

المطاردعن الحكاية الرابعة من ملحمة الحرافيش إخراج سمير سيف بطولة نور الشريف.

شهد الملكة عن الحكاية السادسة من ملحمة الحرافيش إخراج  حسام الدين مصطفى بطولة نادية الجندي.

1986

الحرافيش عن الحكاية الثالثة من ملحمة الحرافيش بطولة محمود ياسين وصفية العمري..

الجوع عن الحكاية التاسعة من ملحمة الحرافيش بطولة محمود عبد العزيز وعبد العزيز مخيون.

التوت والنبوت عن الحكاية العاشرة من ملحمة الحرافيش إخراج  نيازي مصطفى بطولة عزت العلايلي.

1988

أصدقاء الشيطان عن الحكاية السابعة من ملحمة الحرافيش إخراج أحمد ياسين ، بطولة نور الشريف ومديحة كامل

ومن وحي عالم الحرافيش قدم المخرج يحيى العلمي فيلم فتوات بولاق..

2002

السيرة العاشورية 1  .. عن الحكاية الأولى من رواية الحرافيش عاشور الناجي.. بطولة نور الشريف

2005

السيرة العاشورية 2  .. عن الحكاية الثانية من رواية الحرافيش شمس الدين بطولة هشام سليم وكمال أبو رية

2006

السيرة العاشورية 3 عن حكاية الحب والقضبان بطولة كمال أبو رية و وفاء عامر .

2012

السيرة العاشورية 4 بطولة نور الشريف و غادة عبد الرازق.

نجيب محفوظ

أول كاتب عربي يحصل على جائزة نوبل للأدب عام ١٩٨٨. وهو ليس فقط قامة أدبية مصرية رفيعة بل قامة عالمية استطاع من خلال كونه سيد الحارة المصرية أن يصل إلى العالمية برواياته.

بدأ في الكتابة منذ بداية الأربعينيات من القرن الماضي واستمر حتى 2004.

ولد نجيب محفوظ في 11 ديسمبر 1911

سمي نجيب محفوظ باسمٍ مركب تقديراً من والده عبد العزيز إبراهيم للطبيب المعروف نجيب باشا محفوظ الذي أشرف على ولادته التي كانت متعسرة.

في أكتوبر 1995 طُعن نجيب محفوظ في عنقه على يد شابين قد قررا اغتياله لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل.

وتوفي في 30 أغسطس 2006 .

من أهم أعماله :

بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية،  أولاد حارتنا ، الحرافيش ،  اللص والكلاب، السمان والخريف، الطريق ، ميرامار ، المرايا،  الحب تحت المطر،  الكرنك، ..

زينب ومحفوظ

حوار من القلب مع  نجيب محفوظ

زينب عفيفي

مفتتح

مرفت يس

  زينب عفيفي كاتبة صحفية وروائية أجرت الكثير من الحوارات في بداية مشوارها الصحفي مع العديد من عمالقة الأدب في مصر جمعت هذه الحوارات في كتابها الأول الذى صدر ضمن إصدارات دار المعارف سلسلة اقرأ بعنوان ” هؤلاء يعترفون “

 يمكننا القول بأن هذا الكتاب  هو كتاب لكثير من الأساتذة: نجيب محفوظ ، وتوفيق الحكيم، وإحسان عبدالقدوس، وفتحي غانم، وبيكار، وصلاح طاهر، ويوسف فرنسيس ، ومنير كنعاني- فهؤلاء هم أصحاب هذا الكتاب الحقيقيون – كما تقول عفيفي، لذلك افتتحت  كتابها باعتراف  تقول فيه :” أعترف أننى لم أتعود أن أذهب إلى فنان أو أديب أو كاتب وأنا أحمل مجموعة من الأسئلة العويصة تبرر عضلات المحاور، كما يحدث في معظم الحوارات الصحفية، وإنما أكتفي بأن أحمل في ذهني فكرة واحدة تنفجر منها الأسئلة، وقد أشترك فيها، وقد تفرضها لغة الحوار، وقد يصنعها المتحاور بنفسه، لتكون النتيجة حوارًا يشبه الاعتراف أو حوارًا ذاتيًا بصوت عال”

لذلك نرى تلك التلقائية والعفوية التي تحملها حوارات هذا الكتاب وعن أديب نوبل قالت عفيفي : “من حسن حظى أن وجد   المتحاور الكبير في أسئلتي التلقائية راحة نفسية فتحدث معي كأب أو صديق كبير يحكي لي وينسي أنني أسجل حوارا للنشر كان ابنهاري بالكاتب نجيب محفوظ أعلي من إجابته علي أسئلتي البسيطة .

وبعد أن  مرت السنوات وفكرت  أن أشارك بهذا  الحوار في ملف خاص عن صاحب نوبل لموقع صدى ذاكرة القصة، شعرت بحزن شديد كيف كان هذا الرجل يعاني من ضعف البصر والسمع وسمح لي باجراء هذا الحوار الذي يحمل الكثير من معاناة كاتب كبير، ورغم ذلك لم يرفض الحوار معة ولم يستهن بأسئلتي البسيطة التلقائية، بل كان بمثابة الأب الذي لا يرفض لابنته طلبا، هكذا كان الكاتب الكبير المتواضع الأب الحنون .وهكذا كانت شيم الكبار

118439278_1231026747242420_1809691429634674651_n

نحن في حاجة إلي إعادة النظر في كل شيء

إلي قراءة الواقع قراءة صحيحة

إلي مواجهة الحقائق بشجاعة

إلي بناء سفينة تصلح لمواجهة أي طوفان

نجيب محفوظ

لم أكن أتوقع أن يمتد الحوار مع الكاتب الكبير نجيب محفوظ إلي خمس وخمسون دقيقة يتحدث فيها معي عن أشيائه البسيطة، وأحلامم الصغيرة، وعاداته في الكتابة، يبوح لي بما يسعده وما يحزنه في لقاء ودي، خرج عن سياق الحوارات التقليدية المرتبة، كانت الأسئلة بسيطة والأجوبة عميقة.

للوهلة الأولي نسيت أنني أجلس أمام كاتب حاصل علي جائزة نوبل، بساطته وتواضعه وحنانه الأبوي جعلني أشعر بأنني أتحدث مع أحد أقاربي، لذا لم أجد أي خجل أو تردد في طرح أسئلتي البسيطة البعيدة عن القضايا الفكرية والثقافية ” العويصة” وتركت العنان للحوار ليكون تلقائيا .

في البداية سألت كاتبنا الكبير عن وجه الشبه بينه وبين النيل؟ فنظر لي متسائلا : ماذا تقصدين؟ كررت السؤال بصيغة أخري وسألته: أقصد ما وجه الشبه بينك وبين الأهرامات؟  واستمع لي ولم يجب أيضا  قلت موضحه سؤالي : ما هو وجه الشبه بينك وبين مصر؟

رد باسما : لا أعرف؟

قلت : بل أنا أعرف !

قال في دهشة : ماذا تعرفين ؟

قلت : الأصالة، أصالة الكاتب الذي لم يتغير أو يتلون  ولم تضطره الظروف لتبديل جلده وفكره، وظل قلمه يقظا صامدا كالأهرامات، عريقا كالنيل، شامخا كمصر.

ضحك قائلا: أنت إنسانة كريمة القلب .

وبدأ الحوار بيننا .

قلت :لقد أضأت بفكرك وأدبك عوالم كثيرة من الفن والأدب والسياسة والحياة ، كيف تتابع الآن الحركة الثقافية والفنية ؟

قال باقتضاب : عن طريق الأخرين؟

قلت : من هم الأخرين في حياتك؟

قال : الأصدقاء، ومن نعم الله عليّ أن لدي أصدقاء كثيرين، هناك من يقرأ لي جريدة الصباح، ومن يخبرني بأحدث الإصدارات، ومن يحكي لي مناقشة أدبية نشرت في أحدي الصحف والمجلات وهكذا ينقل لي الأخرون أحداث العالم التي انقطعت عنها إجباريا لضعف سمعي وبصري.

قلت : ماهو احساسك وأخرون ينقلون لك أخبار العالم الخارجي؟

قال: إنها خسارة كبيرة أن الواحد – منذ مدة لا يستهان بها- قد أصبح عاجزا علي أن يقرأ كلمة في جريدة  أو مجلة أو كتاب أو يشاهد تليفزيون، لكن الحقيقة وجود الأصدقاء في حياتي خفف عني الوطأة.

قلت : كيف يسير يومك؟ أقصد ماهي تفاصيل يوم من أيام حياتك؟

  • في الصباح يقابلني أحد الأصدقاء ، يقرأ لي الجريدة لتظل الصلة بيني وبين الأحداث متصلة، وفي المساء يمر عليّ صديق أخر يأخذني بسيارته، ونتكلم معا بدون رسم خطة حتي لا تكون جلسة مقصودة، وفي وسط الكلام يتحدث معي عن كتاب جديد أو مجلة أو مسلسل شاهده
  • ثم صمت كاتبنا الكبير قليلا، وقال: وشيء أفضل من لا شيء

حاولت أن أغير نبرة الحزن التي علت صوته قائلة : ما هو أخر فيلم شاهدته المأخوذ عن رواياتك بنفسك؟

قال: لا أذكر، أفلامي الأخيرة كلها لم آراها ، منذ عام 1987 انقطعت صلتي بمشاهدة الأفلام.

  • هل تذكر أخر مسرحية شاهدتها؟
  • لا أذكر ، هذه الأشياء أصبحت تاريخا، أخر فيلم وأخر معرض زرته ، عام 87 انقطعت علاقتي بالأحداث الخارجية بشكل حاسم؟
  • هل مازالت تكتب في مواعيد محددة؟
  • كل صباح أخصص ساعة لقراءة الجريدة، وبعد الظهر من كل يوم أجلس لأكتب وجهة نظر أو تأملات أو خواطر، وإذا ربنا فتح عليا قد أكتب قصة قصيرة.
  • هل توجد أعمال جديدة في الطريق للنشر؟
  • كان لدي مجموعة قصصية قصيرة محتفظ بها، أقدم منها قصة كل شهر لنشرها في مجلة نصف الدنيا ، لكن أخر رواية كتبتها كانت رواية ” قشتمر” وبدأت أتحرك للكتابة منذ شهر يناير الماضي بعد انقطاع عن الكتابة منذ 87 ، أكتب حاليا قصصا قصيرة
  • ما الذي أثارك للعودة للكتابة.؟
  • كنت أظن أني لن أكتب مرة ثانية بعد أن توقفت عن الكتابة 87 ، وأن الكتابة أصبحت أمرا مستحيلا، وخاصة هذا التوقف ليس مثل توقف زمان إنه توقف إجباري، لكن – الواحد- كبر لدرجة أنني اعتقدت أن هذا التوقف هو التوقف الأخير، هذا ليس معقولا! وإنما لن أخفي عليك أني بدأت أكتب قصصا قصيرة جديدة، حقيقي بكتبها بصعوبة لأني لا أدري ما أكتبه، نظرا لاستخدامي “العدسة” لا أري ما أكتبه،  فأكتب سطرا، ثم أحضر العدسة لأري ما كتبته .. توجد معاناة ، لكني متمسك بها مثل الغريق الذي يتمسك ” بقشة”.
  • هل مازلت تواظب علي عادة المشي وجلوسك علي المقهي كل صباح؟
  • كل عاداتي تغيرت كما قلت لك، لأنها كانت عادات مرتبطة بالعمل، وثاني شيء بالصحة، لم أعد أستطيع  السير من القهوة إلي مكتبي مثلما كنت أفعل. لم يعد في إمكاني أن أفعل ذلك
  • هل لديك عادات خاصة تقوم بها قبل الشروع في الكتابة؟
  • قال بحسم: لا أفكر في الكتابة إلا في لحظة إحساسي بها. لكن هناك فراغ مسبق أفكر فيه، وقبل الكتابة مباشرة لا أفعل شيئا سوي الكتابة أنا لا أدون أفكاري. أكتب مباشرة في حالة رغبتي للكتابة
  • ما هي النصيحة التي تقدمها للكاتب الشاب ؟ الذي يحلم بأن يكون كاتبا؟
  • كل يوم جمعة نجتمع مع الأصدقاء ويكون في شباب ونناقش كل هذه الأمور لكن في الحقيقة أنا أخاف من النصائح لأن كل زمن له إيقاعه وطرقه ، ماذا أقول لشباب اليوم، سأقول له الطريقة التي تكونت بها، وأحيانا يأتيني شاب ويقول لي : أريد أن أكون أديبا بماذا تنصحني؟

أقول له : كيف اشتغلت .. كان زماننا مستقر وهاديء وطويل، وكنا نعد أنفسنا للثقافة المتخصصة فمثلا: في الأدب نقرأ التراث المعاصر والمؤلف والمترجم، إلي جانب ذلك كنا نقرأ في الثقافة العامة، تاريخ الحضات، وتاريخ البشرية وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والفنون ثم نبدأ الكتابة، وقد تطول بنا المسافة لأنه ليس وراءنا ” كرابيج” حتي نصل إلي النشر والتقنية بعد عشرين عاما، ولو نصحت أي شاب بهذه النصيحة ربما تكون نصيحة مدمرة.

قلت : إذن من أين يستمد الأديب الشاب ثقافته؟

  • الأديب الشاب يعيش في عصر سريع، والأذواق فيه تتغير بسرعة غريبة. في هذه الأيام نسمع في الصباح عن مطرب معين فما نكاد نسمعه حتي يظهر مطرب غيره، فإذا كان يعد نفسه علي طريقتي يكون هناك أكثر من مذهب وأكثر من تيار واتجاه وفكر، فلابد بغريزته، وتفكيره بزمانه، يعرف كيف يثقف ثقافة خاصة وعامة، ويختار وسيلته دون أن أفرض عليه أنا طرقا تكون قد أصبحت غير صالحة لزمنه.

فهل يمكن أن ينتظر خمسة عشر عاما حتي يقدم نفسه للناس؟ والنصيحة التي يمكن أن أقدمها لأديب اليوم هي نصيحة الثقافة العامة مهمة

  • انتهزت فرصة الحديث عن الشباب والمطربين الجدد وسألت كاتبنا هل تسمع الأغاني الجديدة؟
  • سمعت منها قليلا عندما كنت باسمع.
  • واستطرد سؤالا : هل مازلت تستمع لأم كلثوم التي نعرف مدي حبك لغنائها إلي حد تسمية ابنتك علي اسمها؟
  • –         لم أعد أسمع أم كلثوم بعد ما صار صوتها يصل لاذني ضجيج ، وعبد الوهاب افتقده هو الاخر من ضعف السمع طبعا، السمع عندي وصل لدرجة صعبة بالسماعات، واعتقد أن الذي حدث لي أن الشعيرات التي كانت تتلقي السمع في أذني ضمرت مثل ضمور الشبكية في عيني، وأصبحت اسمع الغنوة كضجيج مزعج
  • لقد تابعت أغاني الشباب لفترة لكن منذ أربع سنوات لم أعد اسمع ، إن أجمل ما سمعت كانت أم كلثوم وعبد الوهاب وأحب سيد درويش في كل أغانيه ، وأغنية الاطلال لأم كلثوم، أما عبد الوهاب فصوته جميل للغاية، وكما قلت فقد أسميت ابنتي علي اسم أم كلثوم
  • قلت: هل كانت لك علاقة صداقة مع أم كلثوم ؟
  • لا، ولكن عندما أقام لي الاهرام حفل تكريم لبلوغي سن الخمسين ، سأل الاستاذ هيكل أم كلثوم إذا كانت ترغب في حضور حفل تكريمي ، ووافقت علي الفور، وجاءت أم كلثوم في عيد ميلادي الخمسين، وكان لقائي الأول والأخير معها، ولم تغن في عيد ميلادي، ولكنها حضرت الحفل فقط وسط ناس كتير من أهل الفن والثقافة.
  • أما عبد الوهاب كان معي في المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب وقد دعاني د. مصطفي محمود للتعارف، وتناولنا العشاء معه في بيته.
  • قلت للكاتب الكبير : بعيدا عن عالم الفن والثقافة وفي داخل منزلك كيف تتعامل مع بناتك؟
  • قال ضاحكا: الطريق الذي اتبعه في حياتي : الديمقراطية، أقول الرأي والتوجيه وأترك للإنسان حريته، ولم تنشأ مشاكل تدلني علي أن هذا الطريق خطأ
  • سألته بسذاجة التجربة: هل أنت زوج ناجح ؟ وما هو في رأيك أساس نجاح الزواج؟ وهل هناك صفات خاصة لزوجة الكاتب؟
  • قال بصدر رحب: أساس الزواج الناجح أن يحترم كل منهما الآخر ويعتبره شخصا مثله تماما له حقوق مثلما عليه واجبات ويحترم كل منهما هذه الحقوق . أما دور الزوجة فهو الاهتمام بزوجها ،  وكل زوجة تختلف عن الزوجة الاخري ، بالنسبة لمهنة زوجها ، فهذا أمر لا مفر منه. فهناك رجال يعودون لبيوتهم بعد انتهاء عملهم ثم يذهبون ليجلسوا علي المقهي، هذا النوع من الرجال لهم علاقة معينة مع زوجاتهم تختلف عنه زوجة الحارس ، وبالتالي زوجة الطبيب ولذا كل زوجه يختلف دورها في حياة زوجها حسب مهنته وما يتطلب ذلك بحكمة حتي تسير الحياة دون ظلم طرف علي الطرف الاخر
  • قلت : هل هناك أمور معينة يطلبها الرجل من زوجته أو بمعني أخر ما الذي يريده الرجل في زوجته؟
  • يكفي الحد الأدني من الثقافة. فالزوجة الجاهلة كارثة.
  • هل التقارب الفكري هام لإنجاح العلاقة؟ أم التقارب الإجتماعي؟
  • لا أريد أن أقول لازم، لكن يصح أن يكون هناك تقارب فكري واجتماعي، وأن كان ذلك ليس من أسباب السعادة أو التعاسة ! لماذا؟  لأن السعادة موهبة في الإنسان، هناك ناس تسعدك، ولديها قدر من الحكمة وحسن المعاملة لاسعادك وهذه موهبة تضمن الحياة المعقولة، فإذا كان بين الرجل والمرأة تقارب في الثقافة تكون علاقة مثالية، والذي ليس لديه هذه الموهبة لن تتحقق له هذه السعادة سواء بالثقافة أو بغيرها إنما تزيد التعاسة ؛ السعادة ليست بتقارب الثقافة وحدها السعادة أن يكون الإنسان لديه استعداد أن يسعد الأخر والتعايش معه.
  • قلت : ما الذي يسعدك اليوم؟
  • أشياء كثيرة ثم لاذ بالصمت
  • قاطعت صمته الذي كاد أن يصل لدقيقة: مثل ماذا؟
  • الذي بقي أولا، ثم قدرتي علي إقناع نفسي بالسكوت للواقع ، ” ولا أقول لنفسي كان زماني بقرأ أو كان زماني باسمع”، فهذا لن يجلب لي غير التعاسة، لكن في ظروفي العادية لأي أصدقاء وأولاد وأسمع عن الثقافة من ناس مثقفين فبماذا أطمع بعد ذلك؟
  • قلت هل تتابع الثقافة خارج مصر؟
  • إنني أعرف عنها بقدر ما يعرفه أصدقائي بها. والذين اتقابل معهم ، ولكن هناك شيء مهم هو أن الحركات الثقافية خارج مصر أصبحت قليلة جدا .. أيام شبابي كان الرواد هم النوافذ للفكر العالمي والحضارة العالمية، كنا نعرف كل الحركات الثقافية في العالم ، لكن هذه الأيام المجلات المحلية لا تعرف ما الذي يحدث في البلاد العربية وما الذي يحدث في أوربا الآن! فمثلا نجد ناسا كثيرة تتكلم عن مذاهب نقدية ، وعندما نسألهم هل هذه المذاهب جديدة؟ يقولون: إنها انتهت منذ عشر سنوات! أو منذ خمسة عشر عاما، فأقول لهم وتطلقون عليه الفكر المعاصر! كيف؟
  • قلت لكاتبنا: ماهي أحلامك الخاصة وهل لديك أحلام عامة؟
  • أحلامي لمصر أن تتغلب علي مشاكلها وتخرج من عنق الزجاجة .. بمعني : نجاح التنمية الشاملة في السياسة لتصل بنا إلي الديمقراطية وفي الإقتصاد الذي يصل بنا إلي التوازن، وفي الثقافة التي تصل بنا للتعليم الصحيح والتنوير والفهم .. فضلا عن الدورين العربي والإسلامي.
  • وماذا عن العالم الخارجي؟
  • عالمنا الخارجي لم يعد بالصفاء الذي كان، الوفاق العربي يحتاج إلي ترميم طويل وإعادة بناء ، وما حدث من توتر في العلاقات بين مصر والسودان وإيران يحتاج إلي حكمة ثاقبة ومساع حميدة. نحن في حاجة إلي  إعادة نظر في كل شيء، إلي قراءة الواقع قراءة صحيحة ، مواجهة الحقائق بشجاعة، إلي بناء سفينة تصلح لمواجهة أي طوفان.
  • قلت وماذا عن مصر ؟
  • قال: ثمة بوادر تدعو للأمل، فأقلام رصينة تحبذ التغيير، وأخري تتحدث عن ائتلاف، وثالثة عن حوار ووساطة رشيدة ، هذه بشائر تسر،  نرجو لها التوفيق، وأن تتسع لتشمل كل شيء ، وأن تفسح المجال أمام المخلصين من أبناء هذه الأمة ليدعوا إلي نهضة حقيقية تجمع بين أسمي المباديء الخالدة وأحدث أساليب العصر.

أما علي المستوي الشخصي أحلامي قليلة لا يوجد أكثر من الختام المسك ، وربنا يحسن ختامنا ويرعي أولادي وأطمئن عليهن .

وساد الصمت مجددا بيننا ثم نظرت إليه فوجدته ينظر إلي علبة سجائره فقلت له : هل أنت مدخن ؟

قال بأسف: مسموح لي بثلاث سجائر في اليوم ولكني اتناول خمسا وضحك.

قلت :هل كنت مدخنا شرها؟

قال: نعم .. كنت أدخن بشراهة.. سبحان من جعلهم خمس سجائر فقط .. إنه مرض السكر

  • هل تلتزم بتناول الطعام الخاص بمرضي السكر؟
  • طبعا ؛ إنني اتناول طعام خاص بمرضي السكر
  • كيف تتعامل معه ؟
  • بالدواء والرجيم والباقي علي الله.
  • قلت : كم فنجان قهوة تتناوله يوميا؟
  • قال مبتسما : شفطة في الصباح وشفطة في المساء  والقهوة سادة
  • وماذا عن أحوال عينك هل هناك أدوية خاصة بها؟
  • قال : الدكتور علي المفتي يتابع حالة عيني ، ومدير مركز السمع بإمبابة يتابع حالة أذني
  • قلت هل مازلت تسير علي النيل ؟ وهل النيل يعكس بداخلك شيئا خاصا؟
  • النيل أجمل وأجل شيء في مصر وإنني أحبه جدا ، وأخذ يدور بعصاه علي الأرض مستندا عليها بيديه
  • سألته إذا كان يحتاج مساعدتي في تعديل قعدته معي ؟

ولكنه قال لي : أكملي

قلت : ما هي حكاية هذه العصاه التي تستند عليها ؟

قال منذ عاميين أهداها لي صديقي الفنان أحمد مظهر ، هذه العصا قام بصنعها لي بنفسه في عزبته ، ومنذ ذلك اليوم ، ووهي لا تفارقني ، إنهم الأصدقاء كما قلت لك الذين أتكأ عليهم حاليا

وساد صمت قليل وقد علت علي وجه كاتبنا ابتسامة تعني أنه قال كل ما لديه وأنني عليّ أن أجمع أوراقي وأرحل ، لكنه قال لي : لقد سعدت بك وبحديثك معي  وفي أي وقت يمكن أن تأتي للحديث حول ما تشائين من أسئلة

شكرته علي كرم تواضعه وأخلاقه واتساع صدره لأسئلتي الساذجة التي أضفي عليها عمقا يضاهي قامته الثقافية .. 

نجيب مع ابنته

نجيب محفوظ مع ابنته

حـــــــــــوار مع ابنة نجيب محفوظ

منه الله الأبيض

نجيب محفوظ  (11 ديسمبر 1911ـــ 30 أغسطس 2006) لم يكن مجرد أديب عابر في تاريخ مصر لكنه كان بل وسيظل رمزا مصريا وقامة أدبية وفكرية شامخة على المستوى الإنساني بعطائه الأدبي المميز، والذي توج بحصوله على جائزة نوبل في الأدب ورغم الأضواء التي سلطت على حياته باستمرار.


ظلت عائلته بعيدة عن المشهد قبل رحيله وبعد رحيله إلى درجة العزلة، فلم يستسيغوا أبدًا الظهور الإعلامي، وفضول الصحفيين ذوي الأسئلة المتطفلة، حفاظًا على حرمة حياتهن الشخصية، شاء القدر أن تجري الزميلة منة الله الأبيض هذا الحوار التليفوني مع    أم كلثوم نجيب محفوظ  (أو هدى كما أسمتها والدتها الراحلة   عطية الله إبراهيم )، فجاء أقرب إلى المودة والمساندة القلبية والفضفضة الإنسانية مارست فيها الزميلة دور المستمع، وحاولتُ ألا تتخطى حدود الحياة الخاصة، واتفقنا على نشر الحوار في الحدود المسموح بها، مع الالتزام بعدم ذكر الأسماء التي ورد ذكرهم في الحوار، وقد كان.

صُدمت عندما قرأت خبر  رحيل فاطمة نجيب محفوظ (الابنة الكُبرى) يوم الأحد 7 مايو، وصدمت أكثر عندما علمت أن الوفاة قد حدثت منذ ثلاثة أسابيع، وهى نفس المدة التى استكملت فيها هذا الحوار مع   أم كلثوم بالمكالمات التليفونية، واستغربت حين سألتها عن   فاطمة وصحتها ودوركن فى كتابات الوالد فقالت أم كلثوم دون أي انفعال: أن فاطمة  هى التي اختارت اسم رواية «حارة العشاق»، لذلك انتابنى الشك عندما سمعت بخبر الوفاة حاولت التأكد من الخبر الذي نشر بعد تكتم وغموض كبير، فقد توقفت ” أم كلثوم ” عن استقبال أيّة اتصالات، كذلك تعلل محامي الأسرة السيد عمار بانشغاله حتى لا يؤكد أو يُنفي حقيقة الوفاة، لكن باستدعاء تاريخ 3 سنوات مضت أي عام 2014، ربما يحل لغز التكتم المبالغ فيه، وهو تاريخ وفاة السيدة   عطية الله إبراهيم ، التي رحلت في صمت مثلما عاشت هي وبناتها في صمت وعزلة، ولكننى فى هذه المرة شعرت أن أسرة الراحل العظيم ربما تتعرض لموجة جديدة من الظلم تحت ستار التكتم والخصوصية التي اعتادت الأسرة التعرض له ولا أعرف ما الذي دفعني للذهاب إلى مقابر الأسرة في طريق الفيوم ووجدت فعلاً قبر فاطمة   ، وبعد أن قرأت الفاتحة على روحها الطاهرة أكد لى الحارس أنها ووريت الثرى من عشرين يوما ..

وابتعاد ابنتي الأديب عن الظهور الإعلامي، واستسلامهن للعزلة، لم يصدهن عن تلقي الطعنات، وكأنه كُتب على عائلة الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ  أن تتلقف الطعنات في الجسد والذات، فُمنذ أن تعرّض  نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال على إثرها طُعن في عنقه على يد مجرم ينتمى لتنظيم اتهم أديب نوبل بالكفر في أكتوبر 1995، ورغم نجاته من محاولات الغدر لم تتوقف الطعنات حتى بعد مماته جاءتهمن الطعنات بالتجاهل والهجر ممن كانو أقرب للأديب الكبير فى حياته بل أقرب الناس إليه، آخر هذه الطعنات هى تهمة الكفر و«الخروج عن الملة» للأديب الكبير بسبب روايته «أولاد حارتنا»، وأخطرها هى توجيه هذه الطعنة لبناته باتهامهن بتبني أفكار «داعش» وجماعة  الإخوان  في مزاوجة غريبة ومريبة بين من حاول قتل والدهن وبين المطعون فيهن وهما بنتا الأديب الكبير.لتؤكد هذه الطعنات على أن آفة حارتنا لم تكن أبدا النسيان كما قال : نجيب محفوظ في روايته «أولاد حارتنا»، بل باتت آفة حارتنا الجهل والتشويه والجحود والنكران واطلاق التُهم جزافًا واختراق حيوات الناس الخاصة، وآخر طعنات نجيب محفوظ   كانت من النائب البرلماني أبوالمعاطي مصطفى، الذي أثار ضجة واسعة بتصريحه خلال اجتماع لجنة الشئون الدستورية والتشريعية، لمناقشة مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات الصادر رقم 58 لسنة 37، الخاص بقضايا النشر، ووصف فيه أعمال  نجيب محفوظ بأنها «خادشة للحياء»، وقال النائب أنه كان يجب معاقبة نجيب نوبل أثناء حياته لخدشه «الحياء العام»

وفي 14 مارس الماضي، نشر الصحفي أيمن الحكيم في جريدة «الدستور» مقالًا بعنوان « داعش يحكم بيت   نجيب محفوظ.. زوجته ترفض نقل رفاته وبناته: أولاد حارتنا «حرام»، اتهمهن فيه بأنهن تريان أن رواية «أولاد حارتنا» معصية أدبية، وتبنيان أفكارا متطرفة كونهما ترتديان الحجاب، كذلك اتهم زوجة  ـ يرحمها الله ـ بأن رفضها نقل رفات الأديب وراء تأخر إنشاء المتحف الذي كان من المُقرر إنشائه مُنذ سنوات، في تكية محمد بك أبو الدهب، بالقاهرة الفاطمية، وليس كما هو ثابت ومعروف أن أسباب التأخير هو النزاع بين وزارتي الثقافة والآثار، حيث تنتظر وزارة الثقافة إخلاء المبنى من الموظفين، ليكون الدور الأول والثاني مخصصين لمتحف الأديب الراحل، والدور الثالث يخصص لموظفى التفتيش.

 في حوارها لــ”الأهرام”، طرقت أم كلثوم نجيب محفوظ   أبرز المواضيع التي تؤرّقها، وكان «الأهرام» قلبا حنونا وآذانا صاغية لها ولشكواها، بالضبط كما كان ومازال وسيظل «الأهرام» صوت كل الضمائر الحية من الأدباء والمثقفين.

بداية تقول  أم كلثوم أنا وأختى فاطمة  : أن عدم الظهور الإعلامي والعيش في العزلة كان باختيارنا، وليس برغبة والدنا كما أُشيع، وحتى ظهورهما الإعلامي الذي كان على استحياء، كان لدفع الضرر والرد على المغالطات التي زادت عن حدها، والاتهامات التي تنال من سمعة العائلة، وللأسف – كما تروي « أم كلثوم  » في حوارها لـ«الأهرام» – هناك الكثيرون ممن اقتربوا من نجيب محفوظ  واستفادوا منه ومن اسمه، من الألف إلى الياء، لم يدافعوا عن الأسرة بل وصل الأمر بهم إلى إطلاق الشائعات، دون آن يحفظوا جِميل والدها  نجيب محفوظ.

تقول :«خاب ظني وصُدمت في كثير من المثقفين، فقد تصورتهم على درجة من الوعي والشهامة والمروءة لدفع الظلم عنا، تمنيت ولو أن يدافعوا عن والدي ويردوا الجميل، من المؤسف ألا يكون هناك فرق بين المثقف وغير المثقف، فأين ثمرة القراءة والكتابة إذن؟».

وبعضهم ربط ارتداء هن الحجاب بادعاء أنهن يتبنين أفكارا متطرفة وإخوانية، أمر تعتبره « أم كلثوم  » يؤذيها نفسيًا، متسائلة: «معظم نساء الشعب المصري يرتدين الحجاب، فهل يعني ذلك أنهن إخوانيات؟ لو صح هذا القول غير المنطقي لاستمر محمد مرسي في حكم مصر باعتبار أن الشعب المصري إخواني، والأهم من ذلك كيف اتهم بتبنى أفكار من يفجرون مصر وينشرون الإرهاب في البلاد».بل وحاولوا قتل والدى؟!

كذلك استنكرت ادعاء أن ابنتي الأديب يعتبرن أدبه «معصية»، وتساءلت فى استغراب: «كيف أعتبر أدب والدي معصية؟ لا أجرؤ ولا أقبل أن يصفوا أدب والدي بهذا الاتهام، فقد وقعت في عشق كل ما كتب والدي، أحببُت الثلاثية في جزءيها الأول (بين القصرين) والثاني (قصر الشوق)، بالرغم من أن التحويل السينمائي للثلاثية أعطى مساحات واسعة للغناء والرقص، وكأن الثلاثية كلها عن العوالم وهي في الحقيقة جزء من الرواية وليس الكل، لذلك أُفضّل المسلسل (بين القصرين) للسينارست محسن زايد، والأفلام: «ميرامار» بطولة شادية وعماد حمدي ويوسف وهبي،.. و»بداية ونهاية» بطولة فريد شوقي وعمر الشريف وسناء جميل،..، و»أهل القمة» المأخوذ عن إحدى قصص  نجيب محفوظ بطولة عزت العلايلي ونور الشريف وسعاد حسني وعمر الحريري،..، وكذلك مسلسل «حديث الصباح والمساء»، ومسلسل «أفراح القبة» الذي عُرض في رمضان الماضي. 

ولم يكن اعتراض « أم كلثوم » على مشاهد الرقص والغناء في فيلم «بين القصرين»، أو تحفظها على بعض المشاهد في فيلم «ثرثرة فوق النيل»، من فراغ بل كان هذا هو رأي نجيب محفوظ  نفسه، فعندما شاهد فيلمي بين القصرين وقصر الشوق، ضحك كثيرًا، فسألته لماذا تضحك؟ فأخبرها أن الفيلم أظهر الناس في الحارة سوقيين، وكأنه لا فرق بين البسطاء والعوالم، وقال لها: «البساطة لا تعني السوقية». حتى إن  نجيب محفوظ رفض نشر اسمه كمؤلف لأحد الأفلام لأن المخرج قد شوه النص الأدبى.

فالحارة التي يعرفها   نجيب محفوظ كما شهدتها صفحات رواياته، عاش فيها الفقراء والتجار الأغنياء، وكان الاحترام والنُبل دستور وميثاق الحارة، حتى أنه بعد أن ترك  نجيب محفوظ الحارة، وبُني بيتا أخر غير البيت الذي عاش فيه بحي الجمالية، صُدم عندما زارها وحزن حزنًا شديدًا لما وصلت إليه الحارة وتهدّم البيوت الأرابيسك الجميلة. ومع ذلك لم يتخذ والدها أي موقف تجاه أي فيلم لم يكن راضيا عنه 100 %، لأنه مؤمن بأن المعالجة السينمائية مسئولية المخرج بينما الرواية فهي تؤول إلى المؤلف وبالتالي من يريد أن يحكم على الرواية يجب ألا يتكئ على العمل الفني فقط.

سألت» أم كلثوم  » عما إن كان هناك رغبة لدى الأسرة في تحويل «أولاد حارتنا» إلى عمل فني من عدمه، وعن مخاوفها من ذلك، قالت: « أولًا الجامعة الأمريكية باعتها بكل اللغات، بالرغم من أنه ليس من حقها أن تبيع العمل فنيًا باللغة العربية، لكنها فعلت ولا يجوز قانونيًا أن أبيعها مرتين، ولكن حتى وإن لم تكن «أولاد حارتنا» تم بيعها، سيُقلقني تحويلها لأسباب كثيرة، أبرزها خوفي من أن يسئ الناس ويخطئوا في فهمها ويُخطئ المخرج في فهم رؤية والدي».

وتستطرد أم كلثوم  :سألت والدي هل مات الجبلاوي في الرواية؟ أخبرني أن الجبلاوي لم يمت، فقد دخل الرجل البيت وكان مُظلماً وشاف شخص فقتله» وخرج وأشاع بين الناس أن الجبلاوي (رمز الإيمان وإله الحارة) أنه مات، فالرواية قصدت أن تقول إن العلم هو رمز الإيمان، لذلك كان تخوفى ـ كما كان تخوفه ـ من أن تتحول الرواية إلى عمل فني فيفهمها الناس خطأ بناء على وجهات نظرهم المسبقة حول الرواية أو يُخطئ المخرج في إيصال المعنى».

وردت « أم كلثوم  » على مسألة رفضهما نقل رفات والدها من عدمه وقالت: «أن الدعوة لنقل رفات والدي إلى المتحف، هي بمثابة دعوة إلى الجاهلية».

وعود كثيرة وتصريحات مطمئنة من المسئولين ووزراء الثقافة حول متحف نجيب محفوظ  ، المُقرر إقامته في تكية أبو الدهب، لكن جميعها وعود بلا جدوى وأقوال بلا أفعال، فمنذ أن أعلن الفنان فاروق حسني، عندما كان وزيرًا للثقافة قرارًا بإنشاء متحف للأديب مقره تكية أبو الدهب بالمنطقة الفاطمية في 2006، ولم تنفرج الأزمة حتى الآن، حتى فقدت « أم كلثوم  » الأمل في إقامة متحف أو استرداد المقتنيات التي أهدتها لوزارة الثقافة لوضعها في المتحف، فقد سلمت الأسرة قبل ثورة 2011 بأشهر قليلة، أكثر من ألف كتاب، وصوره ومستلزماته الشخصية مثل السماعة والنظارة والبايب والجوائز التي حصل عليها. ومنذ شهرين تقريبًا، تقدمت الأسرة بطلب لوزارة الثقافة ممثلة في الوزير حلمي النمنم باسترداد المقتنيات التي سلمتها للوزارة، لكن لا حياة لمن تُنادي، ولم ترد الوزارة حتى الآن.

وقالت : «لا ألوم وزارة الثقافة أو وزارة الآثار، أعلم أن لديهما أزمة، ومن الواضح أنها لن تنفرج، لذلك أريد استرداد ما سلمته، حتى أتمكن من إقامة متحف لوالدي في مكتبة الإسكندرية». بيروقراطية الوزارة، كانت سبب أساسى ورئيسى في عدم تسليم أسرة الأديب كامل المقتنيات لضمها للمتحف، فعند التسليم – كما تقول « – «حدثت أشياء غير مقبولة، فلم ترض اللجنة التي كانت مخولة باستلام المقتنيات أن توقع كتابة على كل ما أخذوه، فهناك مقتنيات فضة وذهب، كانت تحتاج إلى ميزان وتحديد معلوم، لكنهم لم يوافقوا أن يحضروا خبيراً، ورفضوا كذلك أن نحضر خبيراً، الأمر الذي دفعنا إلى عدم تسليم كامل المقتنيات».

وبعيدًا عن حديث الأزمات ابتسمت « أم كلثوم » حين سألتها هل كان الأستاذ نجيب محفوظ ، يستشير الأسرة فيما يكتب ؟ فأجابت : في مرة واحدة فقط ، حين كتب رواية «حارة العشاق»، واحتار في الاستقرار على اسم الرواية، فخيّرنى أنا و فاطمة ، بين اسمين أو ثلاثة – لم تذكرهم أم كلثوم في الحوار – فاختارت فاطمة الأسم الحالى للرواية «حارة العشاق».

وعن حكاية نبوءة نوبل قالت: في 31 مايو 1980 قبل حصوله على جائزة نوبل بثمانية أعوام بعث صديق نجيب محفوظ الإسكندرانى سعيد سالم، بخطاب أخبره بأنه التقى بصحفي سويدي وزوجته التي تترجم رواية «زقاق المدق» وأعلن الصحفي السويدي أن نجيب محفوظ سيحصل على جائزة نوبل في خلال عامين على الأكثر، وأخذ يمتدح فيه وفي إبداعه.

ومنذ أن التقطت أسرة الأديب تلغراف نبوءة نوبل، تحولت النبوءة إلى إيمان تام عند السيدة عطية الله إبراهيم  زوجة الأديب رحمها الله، وظلت تذكره يوميًا بأنه سيحصل عليها، لكنه لم يصدقها ولم يكترث لتلك النبوءة، حتى أنها يوم إعلان حصوله على نوبل في 13 أكتوبر 1988، كان نائمًا عندما حضر السفير السويدي إلى بيته ليعلنه الخبر، دخلت «عطية الله» تخبره، فظن أنها تمزح وتكرر التنبؤ بالجائزة كالعادة، لكنها فى تلك المرة لم تكن كما توقع، بل كانت حقيقة، فخرج يقابل السفير بالبيجاما من صدمة المفاجأة الجميلة التى عم الفرح بعدها فى البيت وفى مصر كلها.

أم كلثوم نجيب محفوظ التي احزنها الاتهامات بالفكر المتطرف والأخونة، تخرّجت من كلية الإعلام بالجامعة الأمريكية، وتخصصت في العلاقات العامة، وعملت في كُبرى الشركات الأجنبية، وتهوى الرسم لما تمتلكه من موهبة الابداع وهو جانب في شخصيتها لم يعرفه عنها كثيرون، فقد وقعت في غرام الرسم وكان هواية وغواية الطفولة والشباب، فابدعت في رسم البورتريهات على الورق والكمبيوتر، حتى تصوّر الأستاذ  نجيب محفوظ أنها ستلتحق بكلية الفنون الجميلة .. وهذه بعض من رسومها.

ماذا تبقى من نجيب محفوظ   ؟

مكتبة  نجيب محفوظ فى منزله لا زالت تحتوى على الجزء الأول و الثاني من رواية “المثقفون”، للكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوا، و”معجم أعلام الفكر الإنساني”، و”المليون سنة الأولى من عمر الإنسان”، و”الوصايا”، و”الفكر المصري” للدكتور لويس عوض، و”على إمام المتقين” لـ عبدالرحمن الشرقاوي، و”ثمار الشتاء” لـ برنار كلافيل، و”المدن العربية الكُبرى في العصر العثماني”، لـ أندريه ريمون، و”ضباط يونيو يتكلمون” لعصام دراز، و “الألف كتاب- لورد جيم”، لجوزيف كونراد، و”تراث والتجديد” للدكتور حسن حنفي، و”وعود الإسلام” ل «روجيه جارودي»، و”مصر لمريين- مائة عام على الثورة العرابية”، و”الأدب الفرنسي الجديد”، غايتان بيكون. وأعمال محمد يوسف نجم، ومنه “هارون نقاش”، و”الشيخ أحمد أبو خليل”، و”يعقوب صنوع”.

سيد9

( آفة حارتنا النسيان)

 سيد الوكيل

مقولة لنجيب محفوظ وردت في روايته أولاد حارتنا وصارت مثلا نردده في مناسبات شتى.

إن تحول مقولة من سياقها السردي لتدخل فضاء اجتماعيا أوسع وأكثر عمومية لهو أمر لا يمكن الاستهانة به. لأن تاريخا كاملا قد يمر بالبشر، قبل أن يقتنص الوعي الجمعي مقولة تجرى مجرى الأمثال، أو ترتفع إلى مقام الحكمة لتصبح دارجة على أللسنة الناس.

لكن أمر التحول من الفضاء السردي، إلى الفضاء الاجتماعي المعاش عند نجيب محفوظ، لم يتوقف عند المقولات على أهيمتها وما تحتويه من بلاغة. فبعض شخصيات نجيب محفوظ أيضا تحولت إلى نماذج وأنماط إنسانية نشير إليها كلما رأيناها في الحياة من أشهرها وأقربها إلى الوجدان الشعبي: الست أمينة، والسيد أحمد عبد الجواد، الذي أطلق مقولة: بضاعة أتلفها الهوى.. ومحجوب عبد الدايم الشهير بطظ، والذي أصبح نموذجا لشخصية الانتهازي في الواقع المعاش.

هذه الظواهرة المحفوظية لفتت انتباه بعض النقاد، فتوقف بعضهم عند البراعة التصويرية للافتتاحيات ( الاستهلالات ) على نحو ما نجد في: ميرمار، وحضرة المحترم، كما توقف البعض الآخر عند النهايات. وبين البداية والنهاية ثم ما هو جدير بالنظر المتأمل والتفكير الفلسفي والديني والسياسي. فقد يقودنا ذلك إلى مراجعة بعض أحكامنا وتصوراتنا عن نجيب محفوظ

*****

الشيطان يعظ:

“لدى ظهور الإنسان انعقدت عليه آمال كبار، ألم يئن الأوان لإعادة النظر؟ رائحته تفسد جو الأرض وفعاله يندى لها جبين الحيوان”.

 السكرية:

تعاليم الإسلام وأحكامه شاملة تنظيم شؤون الناس في الدنيا والآخرة، والذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية الروحية أو العبادة دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف.

همس الجنون:

“كلما عضنا الندم، هرعنا إلى ذكريات الماضي الجميل”.

أولاد حارتنا:

“من الحكمة نسيان الماضي، لكن ليس لنا من زمن غيره “.

“ومن عجب أن أهل حارتنا يضحكون! علام يضحكون؟ إنهم يهتفون للمنتصر أيًا كان المنتصر، ويهللون للقوي أيًا كان القوي، ويسجدون أمام النبابيت، يداوون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم، غموس اللقمة في حارتنا الهوان، لا يدري أحد متى يجيء دوره ليهوي النبوت على هامته”.

حكاية بلا بداية ولا نهاية:

“تفحصها بنظرة عميقة بقدر ما سمح الموقف الخاطف. لمح قسمات غير غريبة كنغمة قديمة عزفت بعد نسيان، ونظرة حركت باطنه بقوة مذهلة”.

رواية الحرافيش:

“عليه أن يرتفع، أن يرتفع دائمًا، فلا سبيل إلى النقاء إلا بالارتفاع. وفوق القمة تسمع لغة الكواكب، وهمسات الفضاء، وأماني القوة والخلود، بعيدًا عن أنات الشكوى والخور و روائح العفن، الآن تشدو ألحان التكيّة بأغنيات الخلود، ،تعرض الحقيقة العشرات من وجوهها الخفية، وينكشف الغيب عن شتى المصائر. من هذه الشرفة يستطيع أن يتابع الأجيال في تعاقبها، أن يؤدي لكل جيل دورًا، وأن ينضم بصفة نهائية إلى أسرة الأجرام السماوية “.

القاهرة الجديدة:

“الشرف قيد لا يغل إلا أعناق الفقراء “.

 خان الخليلي:

“الحياة مأساة والدنيا مسرح ممل، ومن العجب أنَّ الرواية مفجعة ولكن الممثلين مهرجون، ومن العجب أن المغزى محزن، لا لأنه محزن في ذاته ولكن لأنه أريد به الجد فأحدث الهزل، ولما كنا لا نستطيع في الغالب أن نضحك من إخفاق آمالنا فإنَّنا نبكي عليها فتخدعنا الدموع عن الحقيقة، ونتوهم أنَّ الرواية مأساة والحقيقة مهزلة كبرى “.

بين القصرين:

 “الثورة وأعمالها فضائل لا شك فيها مادامت بعيدة عن بيته، فإذا طرقت بابه، وإذا هددت أمنه وسلامته وحياة ابنائه، تغير طعمها ولونها ومغزاها، انقلبت هوسا وجنونا وعقوقا وقلة أدب “.

زقاق المدق:

“أيُّ واحد منا تستقبله الدنيا كملك من الملوك، ثم يصير بعد ذلك ما يشاء له نحسه، وهذا خداع حكيم من الحياة، وإلا فلو أنَّها افصحت لنا عما في ضميرها منذ اللحظة الاولى لا أبينا أن نفارق الأرحام “.

 اللص والكلاب:

“أيُّ هزة فرح كانت تسكر جوارحك عند بزوغ طلعتها، هزة شاملة متغلغلة مطربة مسكرة، تشدك من أطراف أصابعك إلى السماء السابعة فيها الدمعة والضحكة والاندفاع والثقة والفرحة الجامحة “.

المرايا:

“علينا أن نوطن أنفسنا على قبول الضرب أو السجن أو حتى المشنقة، فلا قيمة للحياة بلا حرية، ولا حرية بلا تضحية “.

خمارة القط الأسود:

“على الذين يعيشون للرصاص والدم ألا يمرضوا أو يحلموا، وعليهم ألا يبحثوا عن راحة إلا في الموت، عليهم أن ينتحروا قبل أن يقتلوا “.

شهر العسل:

“ما الأمل الذي تشقى من أجله؟ وظيفة حقيرة! ثم إنك عبد مضطهد، الاضطهاد يطبق عليك في بيتك، ويطاردك في الخارج، وكلَّ عام أو عامين يتصدى لك دكتاتور كالكلب الأرمنت يلتهم لحمك ويهشم عظامك “.

الشحاذ:

“لا شيء في الوجود عبث

لكل شيء نهاية

إن تكن تريدني حقا، فلماذا هجرتني”

“يوجد نوعان من الحكومة، حكومة يجيء بها الشعب فهي تعطي الفرد حقه من الاحترام الإنساني ولو على حساب الدولة، وحكومة تجيء بها الدولة فهي تعطي للدولة حقها من التقديس ولو على حساب الفرد “.

دنيا الله:

“ماذا جنى من حياته الماضية؟ ماذا جنى غير الفراغ والدوار؟ قدّمتُ من الجهد فوق ما يطيق البشر، ولكنه جهد مضى باسم الطموح الجنوني، باسم الجشع، باسم الأنانية، باسم الكراهية، باسم الحقد، باسم العراك، ولا عمل واحد باسم الله!”

أفراح القبة:

“إنِّي أدمنُ الحُلم كما يدمنُ أبي الأفيون، بالحلمِ أغيِّر كلَّ شيءٍ وأخلقُهُ “.

السيد شليل

نجيب محفوظ الذي قرأته

السيد  شليل

حين يكون الحديث عن نجيب محفوظ تتضاءل كل الكلمات التي يمكن أن تصف بها إبداعه.

نجيب محفوظ كان حالة خاصة للغاية في عيون عشاقه.

بالطبع الحديث عن أروع ما كتب محفوظ ليس سهلًا، بل من الصعوبة أن تستخرج عملاًً أروع من الآخر إذ أن كل أعماله حتى بداياته في الكتابة رائعة ومميزة، لكني سأحاول جاهداً استخراج بعض روايات بلغ فيهم محفوظ من العظمة والمجد الأدبي ما لم يصل إليه أي أديب عربي آخر.

الثـلاثــية

بدون أدنى مبالغة فثلاثية نجيب عن القاهرة هي أفضل ما كُتب في الأدب العربي من روايات في القرن العشرين. هي الثلاثية الخالدة التي صُنفت في المركز الأول لقائمة اتحاد الكتاب العرب لأفضل 100 رواية عربية على الإطلاق.

تحكي الثلاثية عن السيد أحمد عبد الجواد الذي يعيش مع أسرته في قلب القاهرة بحي الحسين وله ثلاثة أبناء من الذكور: ياسين ابنه البكر وفهمي الطالب المولع بحب الوطن ومقاومة الاحتلال الإنجليزي وكمال الذي تعيش الثلاثية معه من طفولته وحتى كهولته. وله من الإناث خديجة وعائشة اللتين جسد فيهما محفوظ مع أمينة والدتهما معاناة المرأة المصرية مع رجل شديد الانغلاق مع أهل بيته كالسيد أحمد وكثير الانطلاق مع لذات نفسه وشهواتها خارج البيت.

الثلاثية تتناول مراحل حياة هذه الأسرة وكل ما يمر بها من أفراح وأحزان.

 إذا لم تقرأ لنجيب محفوظ من قبل فلن تجد أفضل من الثلاثية كي تبدأ بها رحلة ممتعة

ملحمة الحرافيش

تحكي الرواية عن عشرة أجيال متتالية تنحدر من عائلة واحدة لشخص واحد هو عاشور الناجي الذي يعيش في مكان وزمان مجهولين لم تذكرهما الرواية بدقة وإن قيل إنها بمنطقة الحسين في بداية فترة الأسرة العلوية بمصر.

الرواية تتنازل معنى مقاومة الظلم وعدم الاستسلام والخنوع للظالم لمجرد أنه أقوى عتاداً وأشد قوة وسلطاناً. عشرة أجيال متتالية لكل جيل منهم حكايته في الحياة بكل ما فيها من شر وظلم.

الحرافيش رواية تقرأ ثم تقرأ ثم تقرأ ثم تغير بداخلك شيئاً ما، تكره بعدها الظلم والظالمين، وتتركك في حالة من الانبهار بقدرة العم نجيب على نسج خيوط روايته بهذه الطريقة، اقرأها وستدرك بعد ذلك أنها بالفعل نص مقدس في محراب الأدب

ثلاثية مصر القديمة.

 

لوحة عن محفوظ

لوحة عن نجيب محفوظ مع شخصياته في الحارة ..للفنان صلاح عناني

كانت بدايات نجيب محفوظ في الكتابة على عكس كل المتوقع كضيف جديد على عالم الأدب يحبوا بخطواته الأولى إلى عالم الرواية، لكن نجيب فاق كل التوقعات وقدم ثلاثية رائعة تعتبر من أبرز أعماله الخالدة التي برع في رسمها بقلمه رغم صعوبة حبكها روائياً نظرا لموضوعها عن مصر القديمة وحياة الفراعنة في قديم الزمان.

عبث الأقدار رواية تحكي تلاعب القدر بفرعون مصر وكيف أن نبوءة قديمة بأن طفلاً من غير أهله سيتولى مكانه الحكم تتحقق بعد عشرات السنين رغم كل ما فعله الفرعون لوقف حدوثها.

أما راد وبيس فهي تتحدث عن الفاتنة النوبية راد وبيس وكيف أن تواجدها بمصر أبهر الجميع بما فيهم الفرعون الذي يحاول التقرب منها رغم زواجه من الملكة وكيف أن حال مصر كلها سيتغير بسبب امرأة واحدة هي رادو بيس!

أما كفاح طيبة فهي ملحمة فرعونية تجسد معاناة الشعب المصري مع الهكسوس الذين احتلوا مصر زهاء 200 عام أذاقوا فيها البلاد الويلات واستعبدوا أهلها. حتى يأتي الطفل الصغير أحمس ليحرر البلاد من شرهم إلى الأبد لكن تقابله عقبة كبيرة هي حبه لابنة زعيم الهكسوس التي أنقذت حياته قبل ذلك.

الثلاثية الفرعونية باكورة أعمال نجيب سوف تمهد لك فكرة كبيرة عن قلم محفوظ ورواياته التي أبدعها فيما بعد.

خان الخليلي

أحمد أفندي عاكف موظف مصري بالدرجة الثامنة في وزارة الأشغال يعول أسرته المكونة من الأب والأم وله أخ واحد هو رشدي الذي يسافر لأسيوط ليعمل في أحد البنوك هناك ثم يعود بعد ذلك ليستقر مع الأسرة في خان الخليلي.

تدور أحداث الرواية عام 1941 حيث اشتد قصف الألمان للقاهرة التي كانت تحت الاحتلال البريطاني آنذاك.

تتقلب الأيام بأحمد الذي بلغ الأربعينات من عمره ولما يتزوج بعد ويعجب بجارته نوال الفتاة ذات الستة عشر ربيعاً، يعود رشدي من أسيوط ليغرم بنفس الفتاة التي أحبها أخوه وتدور الأحداث سريعة ومتلاحقة لتنتهي بعد ذلك بترك الأسرة لخان الخليلي بعد أن ذاقت مآسي الحياة والموت والمرض والخوف والحب!

ملحمة إنسانية تحكي آلام الحياة في رواية واحدة.

ثرثرة فوق النيل

الفنان العظيم عماد حمدي، من فيلم ثرثرة فوق النيل المقتبسمن رواية لنجيب محفوظ تحمل نفس الاسم، وهو يهذي بخواطر كل مصري ألجمته الدنيا بالكفاح والتعب حتى استحالت الحياة مع كل ما فيها من متاعب فتحول للإدمان والسُكر للهروب من الواقع.

الرواية تحمل معاني فلسفية عميقة للغاية، كيف تحول هموم الحياة شخصاً عاقلاً إلى مسخ ليس له من الدنيا غير اللذات والشهوات.

تحكي الرواية عن بضعة أشخاص قرروا الهروب من الواقع إلى عالم الهذيان، اعتادوا على الهرب من ضغوط الحياة في قلب عوامة فوق النيل بدلا من مواجهتها، برغم نمطيتهم إلا إنهم اتفقوا على الجبن.. الخوف من مواجهة الحياة كان هو الدافع للجوء لتلك العوامة.

كانت هذه 5 روايات من روائع نجيب محفوظ الخالدة، وبالطبع لن يسعنا المجال لذكر كل روائعه،

أولاد حارتنا

لا أظن أنّ أحداً حتى لو لم يكن مهتماً لم تستقبل أذناه كلمتي أولاد حارتنا. تعتبر هذه الرواية واحدةً من أشهر مؤلّفات نجيب محفوظ، وربما أكثرها إثارة للجدل، فهي لم تدخل موطنها الأصلي مصر إلّا في عام 2006، علماً أنّها صدرت للمرة الأولى في كتاب في عام 1962 من الميلاد؛ حيث تم اعتراضها من قبل مشايخ الأزهر الشريف والأوساط الدينية المصرية، وذلك نظراً إلى أنّها تناولت المعتقدات الإسلامية بالسوء وبطريقة مستفزة بحسب نظرتهم هم

اللص والكلاب

استوحى نجيب محفوظ أحداث هذه الرواية من أحداث واقعيّة وحقيقية؛ حيث تدور أحداث هذه الرواية حول بطلها اللص الذي يخرج من سجنه فيبدأ برحلة الانتقام من الّذين صعدوا على أكتاف الآخرين، إلى أنّ الضرر يلحق بالأبرياء وينجو منه الظلمة. يشار إلى أنّ عدداً كبيراً من روايات نجيب محفوظ كانت قد تحوّلت إلى أعمال سينمائيّة وتلفزيونية نالت استحسان الجمهور وجعلتها مشهورة بشكلٍ أكبر ممّا كانت عليه.



برلمان نجيب محفوظ

برلمــــــــان نجيب محفوظ

  سعيد سالم

من منا يتصور نجاح مناقشة شبه يومية على مدى أشهر الصيف، يشترك فيها مجموعة متباينة الميول متناقضة الاتجاهات ، دون أن يعلو صوت أو تنطلق كلمة سباب أو تتبادل اتهامات حقيقية أو زائفة؟.. يحدث هذا فقط فى برلمان نجيب محفوظ !..

   حول المائدة تلتف كل يوم مجموعة من الأضداد تتحاور فى موضوعات شتى تتعلق بالفكر والدين والفن والثقافة والسياسة وأحيانا تتبادل النكات والقفشات..حول المائدة يجلس ملحد وأمامه مسلم متشدد وآخر معتدل وبجواره مسيحى متحرر وآخر متعصب، ومعهم يجلس من لا لون له ولا طعم ولا رائحة..كما يجلس شيوخ وآخرون كهول وغيرهم من مختلف الأجيال، من بينهم الكتاب والصحافيين ورجال القانون وأصدقاء الأستاذ القدامى، وقد يندس من بينهم أحيانا بعض المتطفلين ..وبين هذا الجمع الفريد فى تنوعه يجلس نجيب محفوظ ، ذلك الجبل الشامخ من الفكر والمعرفة ، مشاركا فى الحوار الدائر كواحد من أطرافه، لاكمدير له أو كناصح أو موجّه..قمة عظمته فى تواضعه الجم وبساطته الشديدة.

   كنت أتمنى بينما أتأمل سلاسة الحوار الدائر بلا  كدر ،  مهما بلغ الانفعال من حدة فى بعض الأحيان ، أن يتعلم الحزبيون المعارضون والمؤيدون فى برلماننا التعس معنى حرية الفكر وديموقراطية المناقشة واحترام الرأى الآخر من برلمان نجيب محفوظ.

الكلمات التى تطرق أذنيك بصفة دائمة هى : من فضلك..اسمح لى..انى اختلف معك..دعه يكمل رأيه..أرجو ألا تقاطعنى..آسف..أكمل أنت أولا حتى النهاية وسوف أعقب من بعدك ..هذه وجهة نظره يا أخى..هو حر..هذه وجهة نظرك ، قل ماشئت وسوف أعترض كما أشاء.. ماهى أدلتك الموضوعية على صدق ادعائك؟..مارأيك يافلان فيما يقول الصديق بصفتك من المتخصصين فى هذا الموضوع؟..وغير ذلك من العبارات الرقيقة المهذبة التى هى بمثابة صمام الأمان لاستمرار النقاش والجدل والأخذ والعطاء، فى مناخ معطر بالحب تداعبه نسمات الحرية.

بيرسا كومتسي

الكاتب اليونانية بيرسا كوموتسي

كاتبة يونانية تعيش مع شخصيات نجيب محفوظ              

أحمد رجب

الكاتبة اليونانية بيرسا كوموتسي اتخذت من نجيب محفوظ وأعماله رمزا للجزء المصري في هويتها المزدوجة.

التشريح في الظلام لأعماق الذات المجهولة

القاهرة -في حياة كل إنسان تأتي مثل تلك اللحظة، التي تقول عنها الرواية ”لحظة الذكريات وإعادة تعريف الأشياء.. لحظة الاعتراف الكبير”، تؤكد الكاتبة اليونانية بيرسا كوموتسي على أنها لم تخطط لروايتها ”في شوارع القاهرة.. نزهة مع نجيب محفوظ”، تلك اللحظة لا تجيء عمدا، ”كيف زحفت هذه الفكرة إلى عقلي من حيث لا أدري؟ أن أنبش في الذكريات المدفونة من عشرات السنين، وقد غطاها ركام النسيان”.

هكذا انبثقت ذكرياتها فجأة لتشكل فصول الرواية التي تستدعي فيها أحداث طفولتها وصباها وشرخ شبابها، وقد عاشت هذه المراحل كلها في القاهرة كطفلة تنتمي إلى الجالية اليونانية في مصر، وكما نبشت في الذكريات فتشت عن الدافع لكتابتها فتوصلت إلى أن الكتابة عن سيرتها الذاتية وخصوصا عن فترتي طفولتها ومراهقتها كانت بمثابة التشريح في الظلام لأعماق ذاتها المجهولة، كما مثلت الكتابة لها وسيلة للتعامل مع حزنها تأسيا بقول نجيب محفوظ “عندما يعاني المرء اليأس أو الحزن، عادة ما تكون الكتابة غايته وملاذه”.

وهكذا تبدأ، ومنذ العنوان ثم مفتتح الرواية، في المزج بين سيرتها الذاتية وبين سيرة موازية تكتبها لنجيب محفوظ، وعمدت على أن تفتتح كل فصل من فصول روايتها السيرية بمقتبس من إحدى الروايات التي ترجمتها لنجيب محفوظ إلى اليونانية، ولم تكن الاختيارات عشوائية، بل كان كل مقتبس منها بمثابة المفتاح للفصل الذي بدأ به، فمثلا بدأت الفصل الذي حكت فيه عن عودتها إلى اليونان بعدما تخرجت في جامعة القاهرة، وكانت تعتبر مصر وطنها وليس اليونان، بجملة من إحدى روايات محفوظ هي ”تغير مفهوم الوطن ومضمونه، فلم يعد أرضا ذات حدود معينة، ولكن بيئة روحية تحدها الآراء والمعتقدات”، فكانت مقولات الكاتب بمثابة الروابط التي وصلت بين السيرتين، لتشكلا معا رواية، هي لوحة فسيفساء تجمع بين الشخصيتين، وقد رسمتها الذكريات بريشة التداعي.

وُلدت بيرسا كومتسي في مصر، والتحقت بكلية الآداب، قسم اللغة الإنكليزية بجامعة القاهرة، فظروف الحرب العالمية الأولى وسوء الأوضاع الاقتصادية في قبرص، دفعت عائلتها إلى الاستقرار في مصر. ولا تبدو بيرسا كوموتسي كيونانية عاشت في مصر بقدر ما تبدو كمصرية من أصل يوناني، ففي روايتها “في شوارع القاهرة.. نزهة مع نجيب محفوظ” التي ترجمها إلى العربية خالد رؤوف، وصدرت ضمن سلسلة الجوائز عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، تصف مصر كثيرا بأنها “الوطن” أو “وطن قلبي”.

مصر “الوطن”

أما الحدث الأكبر الذي زلزل هويتها المزدوجة وكاد يشرخها، فهو ما تلا اغتيال الأديب يوسف السباعي في قبرص في فبراير من عام 1978، فالقتلة اختطفوا عددا من الرهائن واستقلوا طائرة قبرصية رفضت كل المطارات استقبالها فعادت إلى قبرص، وأمر الرئيس السادات بإرسال كتيبة من الصاعقة المصرية لتحرير الرهائن وأسر المختطفين، لكن الحرس القبرصي دمر الطائرة ومات عدد من أفراد كتيبة الصاعقة، وتم قطع العلاقات بين الدولتين، هنا لا تصف كوموتسي القتلى بالشهداء كما وصفت شهداء 67، بل قالت “لقوا حتفهم”، وفي اليوم التالي واجهت ما وصفته بالرفض، لأول مرة في حياتها، فبعض زملائها من طلبة جامعة القاهرة رأوها للمرة الأولى كيونانية تنتمي إلى من قتلوا الجنود في قبرص، ووصفها أحدهم بأنها دخيلة، وكاد الموقف يتأزم لولا أن تدخل أحد الأساتذة الذي أمر الطلبة بالانصراف وسمح لها بالدخول، الغريب أن كوموتسي نسيت اسم الدكتور الذي أنقذها ودرّسها لعامين، لكن لم تنس الشبه الذي وجدته بينه وبين شخصية الدكتور إبراهيم عقل في رواية المرايا، وهي تفعل ذلك دائما، “أضاهي الشخصيات التي أعرفها في حياتي في مصر مع شخصيات من روايات محفوظ، فقد كانت جميعها مرآة للحقيقة”.

والحقيقة أنها اتخذت من نجيب محفوظ وأعماله رمزا للجزء المصري في هويتها المزدوجة، ربما لذلك لم تذكر اسمه إلا في العنوان بينما أشارت إليه في الفصول كلها باعتباره “المعلم الكبير”، بما يتلاءم مع الصورة الأسطورية التي رسمتها له فبالرغم من ظهوره النادر كشخصية في الرواية إلا أن مقولاته وأثره النفسي عليها شكلا مسار حياتها وروايتها، حتى أنها تصفه بأنه أبوها الروحي.

يبدو نجيب محفوظ في الرواية كطيف، مما يدفع القارئ إلى التساؤل عن وجوده في حياة صاحبة السيرة وهل هو حقيقي أم متخيل؟ وهي في نصها تعترف “عندما كان يوجه إلي هذا السؤال بالتحديد: هل عرفته؟ كنت أصمت أو كنت أجيب تقريبا وأنا أتلعثم بكلمة نعم، عندما قابلته”.

أما قصة اللقاء فترجع إلى انتقال أسرة كوموتسي للسكن في شارع مراد بالجيزة بعدما كانت تسكن بشارع الهرم حيث ولدت، سكنوا شقة في بناية ذات خمسة طوابق، تواجهها بناية أخرى تصفها بأنها أسطورية، كانت تتبع وزارة الثقافة، وتشهد اجتماعات للأدباء والمفكرين، وهناك رأت نجيب محفوظ، لم تكن تعرفه لكن رفيق صباها وحبها الأول كان يعرفه، فـأخبرها عنه وأهداها كتبه ذاكرا الأفلام والمسلسلات المأخوذة عنها.

الطيبة والتواضع دفعا محفوظ إلى تحية البستاني ومداعبة الطفلة ورفيقها، “كان يمد يده لنا ليصافحنا بمودة”، فكانت تنتظر موعد الاجتماع الأسبوعي لتصافحه وتبادله ابتسامات المودة، وذات مرة سألها عن اسمها فعقب بأنه ليس اسما مصريا وكان يظنها مصرية، فكشفت له بخجل عن سرها، وأنها يونانية. وبعد سنوات يحضر محفوظ بشكل واقعيّ عندما تتذكر الندوة التي نظمتها كلية الآداب مع محفوظ وكانت بيرسا طالبة بالكلية، تقول عن ذلك اليوم “اخترقتني كلماته وتركت روحي في تأثر غير مسبوق”.

بيرسا كوموتسي

محفوظ بلا حدود

حوار مع  بيرسا كومتسي

الكاتبة اليونانية: نجيب محفوظ “فيلسوف الشرق”.. ولا يوجد موعد نهائي لعمر كتابته

40 كتاباً فى الأدب العربى، أغلبها لكتّاب مصريين، نقلتها المترجمة اليونانية بيرسا كوموتسى من اللغة العربية إلى اليونانية، من بينها 15 رواية لأديب نوبل نجيب محفوظ الذى كان نقطة انطلاقتها فى الترجمة، والتى أكدت فى حوار لـ«الوطن»، أنها «زارت كل الأماكن التى تحدّث عنها نجيب محفوظ وسارت فى هذه الشوارع فى طفولتها»، مشيرة إلى أن كل عملها فى حقل ترجمة الأدب هو رد جميل لهذا البلد، على حد قولها.. وإلى نص الحوار:

متى بدأتِ الترجمة لـ«نجيب محفوظ»؟ ولماذا؟

– وُلدت فى مصر، وعقب انتهاء دراستى للأدب الإنجليزى فى جامعة القاهرة، سافرت للعمل فى أثينا، وفى بداية التسعينات قرأت «بين القصرين» لنجيب محفوظ مترجمة من الإنجليزية إلى اليونانية، لكنى شعرت أن الترجمة لم تنقل روح أدبه كما أعرفها من قراءتى ودراستى للأدب العربى، فذهبت إلى الناشر، وقلت له وجهة نظرى، واقترحت عليه أن أترجمها، فقال: «سأجربك فى نص من قصر الشوق»، وأعجبته ترجمتى، فأعطانى العمل كاملاً، وعملت عليه لمدة عام، ولما نُشرت الترجمة، قارنت دار النشر بين ترجمتى والترجمات السابقة، وأسندت لى مهمة ترجمة أعمال أخرى لـ«محفوظ»، فترجمت نحو 40 كتاباً، منها 15 رواية له، وأنا عملت كل ذلك حباً لمصر، التى أتمنى العودة إليها قريباً.

ما أبرز الأعمال التى قمتِ بترجمتها؟

– من أبرزها «ليالى ألف ليلة» «زقاق المدق»، «خان الخليلى»، «حب تحت المطر»، و«قلب الليل» منذ 5 سنوات، كما ترجمت «واحة الغروب» لبهاء طاهر، و«عزازيل» ليوسف زيدان، و«عتبات البهجة» لإبراهيم عبدالمجيد، ومؤخراً ترجمت «اللجنة» لصنع الله إبراهيم، و«دعاء الكروان» للدكتور طه حسين، كما ترجمت كتاباً يضم أشعاراً مصرية وعربية بعنوان «أنطولوجيا الشعر العربى» ويضم قصائد لأحمد شوقى ورفعت سلام وغيرهما، والكتاب حصل على الجائزة الأولى للترجمة فى اليونان.

ما معايير اختيارك للكتب؟ وما الصعوبات التى واجهتك؟

– فى البداية كنت أترجم حسب ترشيحات دار النشر، وبعد ذلك أصبح بإمكانى اختيار الأعمال لترجمتها، فبعد مجموعة أعمال «محفوظ»، والأعمال الحاصلة على «البوكر»، أصبحت دار النشر تطلب منى ترشيحات، ورغم أن دور النشر تميل إلى ترجمة الكتب المعاصرة، فإننى حين رشحت طه حسين تحمسوا له، واللغة لم تشكل عندى عائقاً، وأعتبرها «اللغة شبه الأم»، وقد تعلمت نطقها بشكل جيد من أصدقائى، وتجولت فى الأمكنة التى كتب عنها «محفوظ»، وحبى للأدب العربى والمصرى بالذات سهّل علىّ كثيراً من الصعوبات.

كيف يستقبل اليونانيون أدب نجيب محفوظ؟

– جائزة نوبل سهّلت شهرته ووصوله إلى أماكن لم تكن تعرف الأدب العربى والمصرى بالذات، لكنه كان كاتباً كبيراً من قبل الجائزة، وأحدثت ترجمته ضجة فى أوساط القراء والنقاد فى أثينا، واليونانيون أحبوا الأدب العربى والمصرى من خلال ترجماتى، وأسمع تعليقات من قبيل «أنتِ نقلتِ لنا الأجواء المصرية الجميلة»، وكان مثل هذا الكلام أكبر جائزة لى رغم أنى حصلت على 8 جوائز عن الترجمة، منها جائزة «كفافيس الدولية».

وماذا عن محلية كتابات «محفوظ» وفلسفته الخاصة؟

– الكتابة جيدة حتى لو كانت تعبّر عن محلية، حيث إنه يتكلم مثلاً عن «الزقاق»، لكن هذا المكان ما هو إلا صورة مصغرة من العالم، و«محفوظ» فيلسوف الشرق، وقد ترجمت «أولاد حارتنا» التى تطرح أسئلة يحملها البشر جميعاً فى لحظات من حياتهم، كمحاولة لفهم أشياء فى الحياة، واليونانيون يحبون قراءة الفلسفات، والترجمة ليست نقل لغة، وإنما هى ترجمة روح الكاتب والأمكنة التى كتب عنها.

“متحف أديب نوبل” أعجبنى لكن أزعجنى صعوبة الوصول إليه واكتشافى أن كثيراً من الناس لا يعرفون مكانه

هل زرتِ متحفه؟

– نعم، ورغم أننى تعبت فى الوصول إليه لأن كثيراً من الناس لا يعرفون مكانه و«ده زعّلنى أوى»، فإن المتحف أعجبنى كثيراً، كما كنت أتمنى رؤية مكتبه ومكتبته، لكنى لم أتمكن من رؤيتهما.

بيرسا كوموتسى: أتمنى ترجمة “اللص والكلاب” و”أحلام فترة النقاهة”

وما الأعمال الأخرى التى تخططين لترجمتها؟

– أحب كل كتابات نجيب محفوظ، وأتمنى ترجمتها كلها، لكن المشكلة حالياً فى أن حقوق الترجمة عند الجامعة الأمريكية، وهى صعبة ومكلفة مادياً على الناشرين اليونانيين، لكنى أُجرى محاولات، كما أتمنى ترجمة «اللص والكلاب»، و«أحلام فترة النقاهة»، وأفكر كذلك فى الترجمة لشباب الكتّاب.

نُسب لأحد الكتّاب أن إيقاع بعض أعمال «محفوظ» غير ملائم للعصر.. فما رأيك؟

– لا أوافق، فليس هناك موعد نهائى لعمر كتابة نجيب محفوظ، لأنه كان يكتب عن الإنسان الذى لا يتغير مع الزمن، كما أنه ملائم للقراءة فى بيئات مختلفة.

منقول: بوابة الوطن الإليكترونية


[1] يحي الرخاوي:عن طبيعة الحلم والإبداع ( دراسة نقدية في أحلام فترة النقاهة)، دار الشروق، القاهرة، 2015

[2]  حمدي النورج: مقدمة (ظل ممدود) نصوص صوفية لكمال عبد الرحيم، دار إبداع للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015م

[3] يحي الرخاوي: السابق ص27

[4] يحي الرخاوي: السابق، ص29

[5] يحي الرخاوي: السابق ص31

[6] إشارة إلى كتاب (التحليل النفسي للنار) لجاستون باشلار، ومن الممكن أن يكون باشلار، قد اتخذ موقفًا بينيًا لكل من فرويد ويونج، فهو يرجع الحلم إلى معنى جنسي كما يذهب فرويد، إذ أن النار عنده رمز ذكوري، في مقابل الماء التي ترمز إلى الأنوثة، غير أنه يستند إلى تفسيرات أسطورية أنتجها العقل البدائي للإنسان ( الهو) عند فرويد، أو (الظل) عند يونج، وهو نفس التعبير الذي استخدمه شيسكبير على لسان (هاملت) في مقولته الشهيرة: (وما الحلم نفسه إلا ظل). وتظل النار عند باشلار هي كل ما يتغير بسرعة، في مقابل كل ما يتغير ببطء، ومن العلاقة بين الماء والنار يأتي الرماد، الذي يرمز إلى رحلة الوجود الإنساني، فالرماد مستودع الحياة والموت.    

رأيان حول “الأستاذ….” ملف خاص “عن نجيب محفوظ (2)”

أضف تعليق