طارق إمام يكتب : زبيدة والوحش ” لسعيد الكفراوي ..المهد والكفن

 ( 1 )

“مقدَّر عليّ أن آتي بالماضي وأثبته على صفحات هذه الحكايا.. هل هو الصوت الذي يأتي من الآماد البعيدة، عبر الحلم وكهف الذاكرة؟؟ أم أنها طفولة ما مضى من أيام؟” هكذا يُصدِّر سعيد الكفراوي سِفره القصصي “زبيدة والوحش”، والذي يضم مجموعاته القصصية الست الأولى، كأنه سيزيف المحكوم بصخرةٍ هي الحكاية.

حسناً فعل الكفراوي، باقتناصه عنوان “زبيدة والوحش”، إحدى قصص مجموعته “ستر العورة”، ليكون عنواناً للكتاب كله، كونه يلخص الثنائية الرئيسية التي تمسك بتلابيب العالم القصصي لذلك الكتاب الشاسع والمترامي _ الذي أصدرته “الدار المصرية اللبنانية” بالقاهرة _ ملتحماً بتجربة عضوية تشكيلية لعمر الكفراوي في حوارية خاصة بين تدوين الأب وتشكيل الابن، ربما تحتاج قراءةً مستقلة. المجلد يضم ثلاثاً وثمانين نصاً قصصياً ضمتها من قبل ست مجموعات قصصية هي: مدينة الموت الجميل، ستر العورة، سدرة المنتهى، مجرى العيون، بيت للعابرين، دوائر من حنين. يعكس العنوان الذي اختاره الكفراوي للكتاب المجمع جدلية الإنسان وقوى الطبيعة، فالوحش هنا يحتمل المعنيين المزدوجين: الطبيعة في بريتها، والوجود الحيواني الذي ينهض على الدوام متقاطعاً مع المصير الإنساني. ثمة إدانة واضحة لآلة الثقافة التي تلتف حول الوجود الغريزي لتحبسه في سجنها، نفس السجن الذي حبس فيه الصبي (بطل قصة بورتريه لكلب العائلة)  الذئب الذي عثر عليه وحبسه في عشة: “الصبح فتحت باب العشة.. كان ابن البراري الصغير ممدداً بطوله وقد مات. شفته المجروحة تنزف، ومخالبه ملطخة بدم، فيما يبرز رأسه الصغير من الفتحة الصغيرة بالعشة، تحدق عيناه المفتوحتان عن آخرهما، تتطلعان بأمل الفرار ناحية البراح، حيث الغيطان والبراري البعيدة”.  

بقراءة شمولية لعالم سعيد الكفراوي القصصي، نجد أنفسنا أمام مروية واحدة شاسعة الأركان، يمكن التعرف على أبطالها في أركان الحكاية الكبيرة، وتحديد أدوارهم، وتلمس تجليات ظهورهم واختفائهم.. وهم يؤطرون وجود شخصية رئيسية، تتعدد وجوهها، وقد تتغير أسماؤها، لكنها تظل الشخصية نفسها: “عبد المولى، الذي نتلمس خطاه منذ طفولته، نطالع صور صباه، ونصحبه حتى تجاعيد الرجل العجوز الذي يصيره، بينما يتذكر. “عبد المولى”، وهو الاسم الذي يمنحه الكاتب لبطله في عدة نصوص، مؤكداً على وجوده الذي يتجاوز حدود القصة الواحدة  ليصير “شخصية” تتحرك في عالمه، يحضر كذات هي جماع أزمنة، تستشرف وتتذكر في الوقت ذاته، تستبق وتسترجع، فيها من صفات الأولياء، القدرة على كشف حجب الواقعة العادية، والحياة بعد الموت ” أليس عبد المولى، من تحدى القدر المكتوب، وذهب إلى تلة الغجر، حيث أخرجوا قلبه وأعادوا كتابة اسمه قبل أن يردوه للحياة، في قصة تل الغجر؟”.. يصير الوجود كله ندبة ولد بها  الطفل وصارت تكبر كلما تقدم في سيره.. إنه جرحه المقيم، ألمه الداخلي الذي يستعذبه كمتصوف.

وبينما نتأرجح مع تلونات العمر نتنقل، بسلاسة، مرة بعد أخرى، بين ريف ومدينة، حيث خضرة تنفتح على شوارع إسفلتية، سماء بطيور تحيل إلى سماء تحتلها سحابات دخان، بيوت من طوب لبن تتمدد لتصير بنايات شاهقة من الأسمنت.. أحلام تتحول إلى وقائع وذكريات تتجول بحرية.

“عود أبدي”.. ربما كان هذا أول ما تبدى لي، دورة الوجود، حسب الوعي الأشمل الذي تعكسه هذه القماشة الواسعة، تنتهي لتبدأ وتزول لتُجدِد حيواتها، وذلك لا ينسحب فقط على الموجودات المُغلِفة للكائن البشري، لكنه يخضعه هو نفسه لسطوته.. الذات الإنسانية هنا تموت لكي تولد، تختفي لكي تعاود الظهور، وكأننا في زمن دائري لا يعترف بالزمن الخطي الضيق، المحكوم بنقطة بداية ونقطة نهاية. ربما يفسر ذلك، الطريقة التي تبدأ بها نصوص عديدة، بأحرف عطف، وكأنها بدأت قبل ذلك، مثلما ستنتهي بعد نقطة النهاية الوهمية.

القراءة الأشمل للكتاب، قادرة على إبراز عدد من السمات الجوهرية في سرد الكفراوي، ولعل أبرز ما تبدى لي هو احتشادها بالاشتباكات، بين ما يعتبره البعض “ثنائيات” حققت خصامها سلفاً، بما فيها من حدية. الريف هنا يجادل المدينة، وعي الطفولة يجادل وعي النضج، التذكر يجادل الاستشراف، السرد يمتزج بالشعر، عامية اللسان تجادل مؤسسة الكتابة، والأسطورة تلقي بثقلها على حركة الواقع. يبدو عالم الكفراوي حريصاً على الإنصات لهذه التقابلات، في جدليتها الموارة من دون أن يؤكد تحيزه لمنحى دون الآخر.

(2)

يتميز عالم سعيد الكفراوي بسرد متدفق، لا تغيب عنه الحكاية، كعمود فقري، ويبدو واضحا فيه اتصاله بنبعه الشفاهي القادم من الوجدان الجمعي.. فلغة السرد معجونة بلغة الكلام، ولغة الحوار بدورها محتشدة بموروث اللسان من أمثلة وصياغات قارة في وعي الجماعة. لكن الكفراوي، بالرغم من ذلك، لا يركن للسرد الكلاسيكي للحكاية، أو للمنطق التعاقبي السهل في تقصي زمنية القصة، فسرده أيضاً حافل بالتجريب، واللعب مع البنية القصصية، وخلخلة الزمن، منفتح في الوقت ذاته على طاقة شعرية هائلة، تتبدى في استخدام خاص للغة، واختبار لأكثر من مستوى سردي في لحمة النص الواحد.

تنفتح الحكاية “الكفراوية” على عالمين كبيرين، الريف، والمدينة. ليسا منفصلين تماماً، فثمة حالة من الجدل تتحقق بينهما، كنموذجين معرفيين بالأساس وكطريقتين لإنتاج الأفكار، خاصة في القصص التي تجمع بينهما، والتي يغادر فيها السارد الريف للمدينة، أو يعود من المدينة للريف.

وبداءة، فمفردتي “الريف” و”المدينة” كثيراً ما تحضران في تعميم مخل.. لأن علينا أولاً أن نحدد: أي ريف، وأي مدينة؟.. الريف هو، وعبر دلائل وعلامات شتى، ريف الدلتا.. والذي يتمايز بالتأكيد عن ريف الصعيد مثلاً، ليس فقط على مستوى اللهجة، رغم أن الكفراوي يلتقط عمقها كوعاء للوجدان، لكن أيضاً على مستوى شكل العلاقات. هو في النهاية ريف الشمال، الأقل قسوة وعنفاً وغلظة، هو اليابسة الأفقية السردية الممتدة المنبسطة، وهو الريف الذي تتمتع فيه المرأة بقدر من المركزية والسطوة والإعلان عن الجسد قد لا تتوفر للمرأة ربما حتى لو انتمت ثقافياً لشفرة الريف نفسها. المدينة أيضاً، هي المدينة الكبيرة، بطابعها الجدلي وهيمنة القيم الفردية عليها، وانغمارها في التشيؤ والوجود الاصطناعي، والتي لا يمكننا العثور عليها في مصر بهذا الزخم إلا في القاهرة حتى لو وردت غير مسماة في عديد القصص. وفي النهاية، ثمة مشترك لا ينبغي أن نغفله بين العالمين، هو “النهر”، الخلاص الأخير، والذي يمثل الميلاد والزرع في الريف، بقدر ما يمثل الخلاص الوحيد في المدينة، كأن الغرق فيه عودة للالتحام بأصل التكوين المفتقد. النهر في عالم الكفراوي جسرٌ بين المهد والمقبرة.

“سألت البنت فرجينيا: ماذا يحدث عندما نموت؟. أجابتها: نعود للمكان الذي جئنا منه….تتجه الآن ناحية النهر ـ بمعطفها الرمادي وفستانها المزهر ـ لتلاقي مصيرها، وحين تكون على الشاطئ تجمع الأحجار الصغيرة وتدسها في جيب معطفها، حتى يقاوم طفو جسدها ويكون أثقل على الماء ويهزمه”. وبالرغم من أن القصة التي اقتطعت منها هذا المجتزأ ” ساعة فرجينيا الأخيرة”، تتمثل مدينة مفارقة عن عالم الكفراوي، هي “لندن” مثلما تتمثل بطلة مفارقة هي “فرجينيا وولف”، إلا أنها تبدو واحداً من الأقنعة التي يمكن الخروج منها بدلالات أبعد من اغترابها الظاهر.

يفرض كل من العالمين نفسه على الوعي بشكل مختلف، فبينما يرتبط الريف بالأفكار الكلية في ذهن الشخوص، الحياة والموت، الزمن، الخصوبة، وحدة الموجودات، ما وراء الوجود الماثل، مع حضور واضح للأسطورة والخرافة، وتداخل حر بين الواقع والخيال.. فإن المدينة تتبدى كلوحة مفتتة من العناصر الصغيرة، البطل فيها هو العالم اليومي والمؤقت للأفكار المجزأة والواقع العملي بغية إشباعات مؤقتة. يتخلق الحوار الرئيسي فيها بين البشر والأشياء، أكثر مما هو بين البشر والبشر. ربما لهذا السبب نلاحظ هيمنة الحوار في القصص التي تدور في الريف، وثراؤه وسيولته.. بينما يختفي أو يكاد في قصص المدينة، حيث الحوار التلغرافي، المتحقق في أقل عدد من الكلمات، والذي يكاد في جوهره يكون مجرد “مونولوجات” متبادلة تكشف عن توحد الأشخاص أكثر مما تعمق اشتباكهم الحقيقي في نسق مشترك. الملحوظة الثانية تخص الغاية من الحوار، فالحوار في نصوص الريف يبدو مقصوداً لذاته، ليس مكرساً لغاية عملية، بل هو الغاية.

في قصة “بيت للعابرين” يبدأ الحوار بين السارد وحبيته الأولى، بعد سنوات طويلة من الفراق، بمكالمة تليفونية، إنها مكالمة تفقد الكثير من وهج الحب الذي كان، الحوار المباشر، والرؤية العينية، اللذين يُستبدلان بصوتين نصف معدنيين. وعندما يعود للبيت القديم، يغرق في مونولوجه الخاص، حتى وهو يواجه شبح ماضيه.. ويكتشف أن البيت الذي كان رمزاً للإقامة والسكن أضحى مكاناً للعابرين، وكأنه فقد الحوار المأمول إلى الأبد. وفي قصة “الملكوت”، وهي أقصر قصص الكتاب لكنها من أشدها دلالة، يجلس رجل وامرأة في انتظار قطار. لا يكاد حوارهما يكشف سوى عن انتظارهما للقطار، يتمحور حول الآلة التي تلخص في هذه اللحظة حياتهما بالكامل. ويغدو الحوار المقتضب محض استفسارات متبادلة، تقطعها دهور من الصمت، حول الكائن المديني الذي يحتل وعيهما.

ثمة ملحوظة أخرى ملفتة، فالعلاقة في عالم الريف تتحقق غالباً بين الطفل الصغير والرجل العجوز المشرف على النهاية، عالم من الأطفال والعجائز، مبتدأ الحياة الغض ومنتهاها العامر بالحكمة.

يلوح جدل لا يتوقف بين وعي السارد بالعالم، كطفل تارة وكرجل عجوز تارة أخرى. بين أول العمر وآخره يتحرك قدر غير قليل من النصوص، كاشفاً عن هوة سحيقة بين منحيين في رؤية العالم وتفسيره. من هنا يصير عنوان المختارات “شفق ورجل عجوز وصبي” أبعد من مجرد لافتة، فهو يجمع العنصرين المتباعدين، في ظل “الشفق”، ذلك الوقت المخاتل في أول الفجر، أول الدنيا.

ولعل من اللافت، ذلك الحضور الطاغي للطفل باعتباره محركاً للوجود، وهي الرؤية التي أعتقد أن الكفراوي تفرد في تعميقها. من المدهش أن الطفل يحضر كسارد، ويمثل الغريزة، المطلقة، في توحده بالطبيعة وقدرته على الإتيان بما يحب، كذلك فإن الطفل يقف دائماً على تخوم عالم آخر، عالم ما ورائي ميتافيزيقي، يعبر إليه بسلاسة، في خصام عميق لوعي “العجوز”، الخائف بطبيعته من المجهول. في “تل الغجر” مثلا، ينتقل الطفل “عبد المولى” من العالم الواقعي للقرية إلى “تلة الغجر” المرهوبة، في رحلة إسراء جديدة، حيث يتورط، باختياره، في عالم سحري، كأنه العالم الآخر، ويستسلم للرجال الذين ينزعون قلبه. هذا المزج بين الواقع والخيال، هو نوع خاص من “الواقعية السحرية” الحاضرة في كتابة الكفراوي، التي تُضيق المسافة بين الواقع والحلم، بين ما يدركه العقل وما تتصوره المخيلة. لكن هذا المنحى يشتد عندما يتولى الوعي الطفولي السرد. “عبد المولى” نفسه سيظهر من جديد، في قصة أخرى هي “زبيدة والوحش”، يخترق صوته السرد كاشفاً عن رؤيته الباطنية لطقس ريفي مألوف هو تخصيب الثور للبقرة. الطفل يكتشف جانبا من غريزته من خلال المراقبة المباشرة للوجود الحيواني، حتى يصبح الطقس برمته استعارة للشوق الإنساني الكامن والمرجأ. المشهد الواقعي “الحيواني” بالنسبة له لحظة حلم، قائمة بين الواقع والخيال، ومعبأها بعمقها الصوفي، حيث المعنى الأعمق للاتصال.

الحلقة المفقودة في الريف، يمثلها الرجل الذي في عمر النضج أو أواسط العمر، لكنها تتجلى بشكل أكبر في عالم المدينة، وهذا ما يجعل من العالمين مكملان لبعضهما في رسم الصورة النهائية للشخصية. رجل المدينة هو ذات بين الطفل والعجوز، لذلك فهي ممزقة بين طفولتها المندثرة وعجزها القادم لا محالة. هذا ارتباك يلائم منطق المدينة، ووعي شخوصها الممزق. الرجل في المدينة إما باحث عن بقايا حب قديم، أو متردد في الإقدام على علاقة جديدة، مشتت بين واقعه الغريزي وحيرته الفكرية واغترابه عن مجمل السياقات التي يحياها مضطراً: “من سنين عدة والمسرات قليلة في هذه الأنحاء. فذاكرتي المشوشة لم تعد تعي أنني ضحكت من قلبي طوال تلك السنين، فمنذ ارتفع نجم اللوطي، والجزار، ومالك العقار، وراقصة الملهى، وكاتب السيرة، والمؤرخ الكذاب، والبانكير، في سماء الوطن السعيد، تأكدت من تغير الأحوال وقلت في نفسي: انتبه عليك بالبحث عن الشئ المغاير”. ( قصة قصاص الأثر).

إنه “عبد المولى” من جديد يفسر لنا طبيعة الرحلة، فهو طفل الريف ورجله العجوز، وبينهما، هو رجل المدينة الذي ارتحل.

(3)

المرأة في عالم “سعيد الكفراوي” ليست ذلك الكائن المهيض، “مكسور الجناح”، وسواء كانت المرأة في الريف أو المدينة، فهي دائماً محركة، محفزة، قوية.. لذلك فمن اللافت أن المرأة على الدوام هنا تقف على الجانب الآخر من “التصور الذكوري” الذي يراها موضوعاً للمتعة، مثلما يرى فيها الهامش المقموع، وهو تصور سيطر طويلاً على السرد المصري.

تحضر المرأة دائما كدال على الغريزة المنفلتة، وهي بذلك تبدو مناقضة لكل الأعراف. ليست الكائن الراضخ المستسلم، لكن الباحث عن مصيره، سواء كان ذلك في الريف أو المدينة. في “تلة الغجر” تعدل الأم لابنها ما يشاع عن الغجر، مانحة إياه رؤية جديدة تناقض الرؤية الذكورية التي يتبناها الجد ويترجمها في أمر” لا تذهب لتلة الغجر”، وفي “سيدة على الدرج”، تغوي المرأة الرجل وتستدرجه، وفي “بيت للعابرين” تكون المرأة هي المبادرة بالبحث عن عشقها القديم، والنماذج كثيرة.

أفق المرأة أيضاً مفتوح دائماً على المستقبل. المرأة هي القادم، هي محرك الزمن.. والزمن في عالم الكفراوي السردي هو السلطة المطلقة التي لا فكاك من أسرها سوى بالحكي. يترك الكفراوي سؤاله مفتوحاً على عشرات الإجابات المحتملة، حيث لا إجابة، في حضرة الحكي، سوى السؤال نفسه، وحيث ليس سوى الصخرة، التي كلما شارفت ذؤابة الجبل، ارتدت لما تحت الأرض.

أضف تعليق