ثلاثة مداخل للمتغير السردي

ثلاثة مداخل..

1ـ مدخل سياسى:

منذ منتصف التعسينيات، كان سؤال التغيير من أكثر الأسئلة إلحاحاً في الأدبيات السياسية، غير أنه ظل ـ حتى هذا الوقت ـ ملتبساً بمصطلح آخر هو: الإصلاح، وهو مصطلح أسبق تبنته السلطة السياسية نفسها ـ منذ منتصف الثمانينيات،نشأ في مواجهة تيارات العنف الأصولية، ليأخذ في البداية منحى اقتصادياً، نتيجة لتنبيهات الكتّاب والمثقفين إلى أن تردي الأوضاع الاقتصادية، سبب أساسي في انتشار العنف، وتزايد النزعات الأصولية المتشددة.

 لكن النخب الثقافية فعّلت الإصلاح إلى معنى سياسي واجتماعى شامل أخذ صبغة ثقافية. لقد بدأ الأمر كهامش صغير سمح به النظام عبر الصحافة الحرة، حتى انتقل الأمر من الوسيط المقروء إلى              وسيط مرئي عبر الفضائيات وشبكات الأنترنت، عندئذ، انفتح الباب على مصرعيه لحركات التغيير.

 ولم يكن من قبيل المصادفة، أن هذه الحركات أخذت طابعاً ثقافياً بالأساس، على نحو مانجد في حركتى: كفاية ومثقفين من أجل التغيير، اللتان قامتا على أنقاض اليسار القديم، غير أن جماعات الشباب من المثقفين الجدد فعّلت طرائق الاحتجاج، وغيرت من نمط خطابه الرديكالى عبر شكبات الأنترنت، وجدير بالذكر أن في مصر الآن، مئات من المدونات والمواقع الأليكترونية التي تتداول خطابها الاحتجاجي على نحو واسع وجرىء أجبر النظام على الاستماع إليه.  

 لقد صار التغيير مطلباً جمعيّاً ملحاً أكثر من كونه برنامج عمل حكومي. لهذا، بدا أن شعار الإصلاح الذي تبناه النظام في بداية الأمر، معنى متواضعاً، غير قادر على تجسيد الرغبة في تجاوز المأزق المصري منذ هزيمة67 وتداعياتها، وبدا أن الأمر يحتاج تغييراً كبيراً في بنية الوعى الاجتماعى السياسى، وبطبيعة الحال، كانت النظرة إلى التغيير في الخطاب الثقافي، بمثابة القاطرة التي يمكن أن تقود مصر إلى تغيير شامل منشود. وقد ترافق هذا، مع ظهور متغيرات حقيقية على الصعيد الدولي، فرضت نفسها عبر المنظومة الثقافية الدولية، صارت مكشوفة وممكنة التطبيق في مجتمعات أخرى بفضل وسائط التعبير التكنولوجية عبر الفضائيات والأنترنت وانتشار منظمات المجتمع المدني. وقد تجاوبت هذه المتغيرات في الكثير من بلدان العالم الثالث من بينها مصر.  

غير أن هذه المتغيرات الدولية، كانت لها شواهدها الأولية على نحو ماعبرت عنه حركة الطلاب في فرنسا ( 1968)، التي اُعتبرت ـ لدى كثير من المنظرين ـ تدشيناً لحقبة عولمية جديدة، تجسدت ثقافياً في نزوع مابعد حداثي غاضب على فشل المشروع الحداثي بالعبور إلى عالم أكثر إنسانية. لهذا، فإن صورة التغيير لم تظهر في شكل مشروعات كبرى بديلة لمشروعات الحداثة، بقدر ما اتسمت بطابع احتجاجي متعارض ومتناقض إلى حد التخريب لقيم الحداثة ذاتها.

هذه المقدمة، كانت ضرورية للإشارة إلى أن ما كان يحدث في مصر والمنطقة العربية في ذلك الوقت، كان متواصلاً مع مايحدث في العالم، وإن اختلفت أسبابه ومظاهرة، كما اختلفت أهدافه ونتائجه نتيجة للظرف الخاص بعد هزيمة يوليو67، فلم يكن من قبيل المصادفة، أنه كانت لنا نسختنا الخاصة من الحركة الطلابية ـ في نفس الوقت ـ الذي كانت فيه فرنسا تصنع النسخة العالمية، وفي ذلك يقول هاني الحورانى: ” فقد انتعشت بعيد هزيمة حزيران 1967 مباشرة، حركات الطلبة في مختلف العواصم العربية، من القاهرة إلى الرباط والدار البيضاء إلى بيروت، ولم تنظر هذه الى نفسها باعتبارها مجرد حركات مطلبية ونقابية للطلبة، وإنما فوق ذلك (والأصح قبل ذلك)، باعتبارها حركات لتحرير المجتمعات العربية من ذل الهزيمة الحزيرانية، ولتعبئتها سياسياً وثقافياً للرد على الهزيمة بالتغيير الاجتماعي والسياسي الجذري”.

وهكذا يمكن القول إن نزوعات التغيير كانت أبعد كثيراً من التسعينيات، غير أنها وصلت نضجها متأخرة، لأسباب ارتبطت بحرية التعبير، ومظاهر القمع السياسي التي مارستها الأنظمة الحاكمة، وما أن وجدت الظرف الثقافي المناسب حتى أعلنت عن نفسها بوضوح وفاعلية. وهكذا، فإن نزوعات التغيير كانت ذات صبغة ثقافية بالأساس، كما يمكن القول أنها اتسمت بطابعين:

ـ طابع ثقافي مرتهن بوسائط التعبير كافة، سواء كان على شاشات السينما و التلفزيون والأنترنت، أو على صفحات الجرائد والكتب، ومن ثم كان كان لللإبداع الأدبي نصيب كبير فيه.

ـ الثاني: أنه يتمتع بوعي احتجاجي معارض وناقد لمشروع التحديث المصري الذي بدأ مع ثورة يوليو، لم يظهر في شكل مراجعات فكرية له فحسب، بل في محاولات دؤوب لتفكيكه بنماذج مناقضة. غير أن هذا لم يعرب عن نفسه ـ وحتى الآن ـ فى صياغة كلية واضحة تجسد مشروعاً بديلاً، بقدر ما ظل، جهوداً ومحاولات فردية أو جماعية صغيرة تتناثر هنا وهناك.

2- مدخل الثقافى :

كانت المرجعيات الغيبية للمبدع بوصفه  فرداً ملهماً أو موهوباً، تكسبه درجة من الغموض والقداسة، لكن مع ظهور التكنولوجيا بوصفها وسيطاً لإنتاج المعرفة والفنون، ظهرت صورة جديدة للمبدع، ومن ثم الإبداع ذاته، حيث ارتبطت صورة المبدع بالقدرة على التعامل مع هذه الوسائط التكنولوجية الجديدة وما تتيحه من إمكانات، لم تسهم ـ فقط ـ في توسيع طاقة الفنون القديمة التي مثل فنون الأدب، بل أسهمت في إنتاج فنون جديدة لم تعرفها البشرية من قبل، وهى فنون منشأة ـ على نحو خالص ـ بالإمكانات التي أتاحتها التكنولوجيا مثل فنون الجرافيك، و((3dmax . كما أسهمت المعرفة بالتكنولوجيا في انحرافات كبيرة ومؤثرة في الفنون القديمة، مثل فن التصوير والمسرح بل والإبداع الأدبي.

 ولم يقتصر أمر تأثير الحاسوب الشخصي على الإبداع الأدبي الجديد، ليكون مجرد موضوع جديد يضاف إلى موضوعات الواقع المعيش، بل تجاوز ذلك إلى محاكاته والاستفادة من تقنياته وإمكاناته وتأثيره على العلاقات الإنسانية وعلى الوعي بالذات والآخر، وما تطرحه التكنولوجيا كإشكاليات جديدة تشغل المبدع مثل: الاستنساخ أو تداخلات الواقع الافتراضى وتأثيراته على الواقع المعيش على نحو مانجد في روايات: ” بابل مفتاح العالم لنائل الطوخى ـ لأن الأشياء تحدث لحاتم حافظ ـ الغضب الضائع لمازن العقاد ـ فى كل أسبوع يوم جمعة لإبراهيم عبد المجيد”.

 كما أتاحت التكنولوجيا مساحة للتعبير الفردي بعيداً عن شروط الأدبية التقليدية على نحو ما يحدث في المدونات والمنتديات الأليكترونية، ففي عصر تنهار فيه الأساطير والكيانات الكبرى، يستطيع كل فرد ـ مهما كان صغير الشأن ـ أن يصنع أسطورته الخاصة وأن يسمع كلمته لملايين الأشخاص في العالم، متجاوزاً بضربة أصبع عوائق الزمان والمكان واللغة.

لقد وضعت التكنولوجيا، الفنون القديمة في مأزق، عندما أطاحت بالكثير من قيمها التي اعتبرت فيما مضى هامة ونبيلة، فالموهبة لم تعد معيار تمايز أو تميز، إذ يستطيع أى فرد مهما كان شأنه ودرجة موهبته، أن يجد مساحة للتعبير الأدبي على الشبكة العنكبوتية، وأن يجد ـ في نفس ـ الوقت قراء يتجاوبون معه، ويحتفون به، بما يعني تفاعل حى ومباشر بين المبدع والمتلقى بلا وسيط رقابي أو طباعي أو نقدي على نحو ما كان يتم في النشر الورقي. لقد شجع اختفاء الوسيط على تفاعل المتلقي مع النصوص المنشورة بحيث أصبح المتلقي حراً وفاعلاً في إنتاج النص، وبطبيعة الحال، فقد عمل هذا على التقليل من أهمية دورالناقد، فـ ”  الذي يغلب على المشهد الثقافي المعاصر الآن في شتى مجالات النشاط الإبداعي والفكري، تزكية دور المتلقي ودفعه إلى ساحة المشاركة، عوضا عن وضع المتفرج السلبي الذي ينفعل بما يراه ويسلم به من غير أن يكون له دور فيه أو انتقاد له. تلك هي بلاغة العصر في مقابل بلاغة قديمة عملت على إهمال المتلقي ووضعه في دائرة الظل، على مدى عصور بعينها هي العصور التي سيطر فيها الوعي البرجوازي. كانت المراكز التعليمية قديماً تعلم أبناءها صناعة الإنشاء، أوبعبارة أخرى: كانت تعلمهم كيف يكتبون. والآن اتجهت عناية المعلمين في المعاهد العلمية في العالم المعاصر إلى تعليم جمهورها كيف يقرأون”(1)

ومن جهة أخرى تتعدد طرائق التعبير التي لاتطيح بفكرة النوع الأدبى فحسب، بل تطيح بشروط الأدبية ذاتها. فتعطي المبدع مساحات واسعة من التجريب المتحرر من معيار القيمة النقدي، إذ أن معيار القيمة الآن يأحذ طابعاً استهلاكياً، يدل عليه الانتشار الواسع والسريع للمنتج الأدبي وقوائم البيع (البست سيللر   ). لهذا يكتسب المبدع الجديد مهارات جديدة، تعتمد على التعامل التقني مع الوسيط، فهى بالنسبة له، أولى بالاهتمام مادامت تحق له العائد القرائي السريع، وهو ما يتوائم معنى المقرؤئية كما عرّفه ( رولان بارت ) بديلاً عن المكتوبية.

 إن إزاحة معنى المكتوبية بوصفها قيمة، عملت على نقل معنى القيمة من النص إلى القارىء، فلم يعد النص ـ بحد ذاته ـ قيمة إلا بقدر تداوله القرائي. ودرجات اشتغال الوسائط التكنولوجية الجديدة عليه، فعلى سبيل المثال، حققت رواية ( عمارة يعقوبيان ) نجاحاً كبيراً نتيجة لمقرؤيتها الواسعة من ناحية، ولتحولها إلى فيلم سينمائي من ناحية أخرى، وليس نتيجة لرأي النقد الأدبي فيها.   

كما أن المبدع، يدرك ـ منذ البداية ـ أن سلعته قابلة للاستنساخ والتقليد بسهولة، فالتفرد لم يعد متاحاً ولم يعد يمثل قيمة، وهذا المعنى ينسحب أيضاً على الكتابة الأدبية، ومن ثم تشيع ظواهر التناص على مدى واسع بين الأعمال الأدبية، ولم يعد تشابه عمل أدبي جديد بآخر قديم يلفت انتباه الكثيرين أو يثير امتعاض أحداً، حتى أن جارثيا ماركيز لايخفى رغبته في كتابة رواية على غرار الجميلات النائمات لكاوباتا وهاهو يفعلها. لكنه لايفعل هذا عبر استنساخ كامل لجميلات كاوباتا، بل يعيد أنتاجها على نحو خاص، وفي النهاية يحصل على مزيج مركب بين جميلاته وجميلات كاوباتا. يحفظ له خصوصيته، ولكنه ـ في نفس الوقت ـ لاينفى كاوباتا. هكذا تظهر أهمية المقرؤية ودورها الكبير في إنتاج النص الأدبي. وتتمتاهى المسافة الفاصلة بين الكاتب والقاريء، فقراءة النص تعني كتابة جديدة له، أو إعادة إنتاج له، ويستطيع القاريء أن يوثق قراءته، فنصبح أمام نص جديد، لكنه ـ في حقيقة  الأمر ـ ليس سوى إعادة إنتاج للنص الأصلي. وحين تمضي هذه العملية على نحو مطرد يضيع النص الأصلي بين ملايين النسخ المنتجة عبر المقرؤية، ويفقد فرادته.       

قد يشار إلى هذا ـ في الأدب ـ بوصفه اشتغالاً واسعاً للتناص. يمكن ملاحظته فى عدد كبير من الروايات الجديدة. وليست رواية عمارة يعقوبيان، سوى إعادة أنتاج لميرمار نجيب محفوظ، حيث البنية التحتية لللأصل ( المنتج السابق ) موجودة، ولاتحتاج سوى معالجة تلبى شروطاً واحتياجات جديدة. ثمة بناية عريقة يمكن أن تكون مصر، تجمع شخصيات، هى في صميمها نماذج اجتماعية ( تشير إلى قطاع من سكان مصر) لكنها، مختلفة، ذات رغبات ومصالح متضاربة. وهذا التضارب هو ما ينتج الحكاية كلها.

وعلى الرغم من كل هذا، فإن القاريء لايتوقف قليلاً أمام هذه الملاحظات النقدية، بل يقبل على تداول النص متخلياً عن القلق القديم للباحثين عن التفرد والأصالة، والأمر يتجاوز ذلك حين يصبح المنتج الجديد بعد إعادة تصنيعه ـ على نحو متقن يراعي احتياجات المتلقي المتغير دائما ـ هو نفسه أصلاً، يغرى بإعادة إنتاجه من قبل قراء/ كتاب آخرين. ففي الأسواق العالمية يتكالب الناس على شراء المستنسخات من الماركات العالمية في الملابس والعطور ولأكسسوارات وبرامج الكمبيوتر وأفلام السينما والروايات الأدبية أيضاً.

3- مدخل الجمالى

وحين نحصر الرؤية فى مجال الإبداع الأدبى، فإننا لا نراه ـ منذ البداية ـ منفصلا عن هذا الحراك العام، أو عما كان يحدث من نزوع إلى التغيير،برفض القيم القديمة التى رسمت ملامح الأدبية، غير أن هذا المعنى لم يعبر عن نفسه بوضوح إلا منتصف التعسينيات من القرن الماضي، كنتيجة مباشرة لثورة النشر الأليكتروني، والتمهيدات الأولى لها بظهور دور النشر الخاصة، والانفجار الإعلامى المصاحب لكل هذا، سواء على شاشات التلفزيون أو الصحف الورقية والأليكترونية. ونتيجة لهذا، بدا للبعض أن التغيير الإبداعي في الأدب، كان ظاهرة تسعينية حصرياً، ولاباس في هذا إذا ماوضعنا في الاعتبار أمرين :

ـ أن مظاهر التجديد تسارعت بقوة في نهاية التسعينيات، وبدت أكثر صخباً مع معطيات الألفية الجديدة.        

ـ أن المشهد التعسيني تشكل عبر تضافر أصوات متعددة، بعضها جديد تماما على المشهد، وهو ما نطلق عليه جيل التسعينيات، وبعضها له سوابقه التي لم تكن منظورة ـ بنفس الوضوح ـ قبل انفجار النشر.من كتاب بدأوا مسيرتهم الأدبية منذ منتصف السبعينيات مروراً بالثمانينيات، فضلا عن التماعات خاصة لكتاب من الستينيات، مثل: ( يحيى الطاهر عبدالله وعبد الحكيم قاسم ومحمد مستجاب وإبراهيم أصلان ) وغيرهم ممن حرصوا على مراجعة المشروع الأدبى القديم، ملتفتين إلى مظاهر إنسانية وهامشية تنغمس فى مفردات الحياة اليومية، وتهتم بالتجربة الذاتية وتعيد الاعتبار للإنسان المفرد، بوصفه ذاتاً مستقلة وليس بوصفه بنية صغرى في منظومة سياسية أو اجتماعية كبرى مهما كان لها من صفات النبل القومي.

ولا شك أن هذا الالتفات ابتكر طرائقه التعبيرية، التى اعتنت بشفافية اللغة، وشعرية المشهد، فضلاً عن حضور الذات الإنسانية بدلاً من الذات الساردة، و حيث الذات الإنسانية تحترم الخبرات والتجارب الخاصة واللصيقة بالكاتب، بمعنى أن الكاتب يكتب ما يعرفه، وليس ما يجب أن يكون موضوعاً نموذجيا للكتابة، كما تنازلت هذه الأعمال، عن كبرياء البناء الروائى المتماسك المحكم، واستبدلته بإفادات واضحة من آليات البناء القصصي فجاءت أقرب ـ في بنيتها ـ إلى نصوص قصصية قصيرة، فتوزعت بنية الرواية حول عدة مراكز قد تكون المكان أو الشخصية أو الحدث، تتواصل فيما بينها بروابط تقنية، بدلا من التمركز القديم للرواية حول وحدة واحدة.

 وسوف نرى أن هذا البناء يميز كثيراً من الروايات الجديدة فيما بعد، حتى أصبح أهم سمات الرواية المصرية الحالية. بما يفسر طبيعة العلاقة بين البناء القصصي والبناء الروائي، ويدعونا للنظر بكثير من الاحتراز إلى أن مقولة زمن الرواية، أسست لنفسها على أشلاء القصة القصيرة، إذ يبدو لى أن العكس هو الصحيح، فالقصة المصرية ألتي سادت عقدي الخمسينيات والستينيات بوهج خاص على يد أدباء كبار مثل : يحيى حقى ويوسف إدريس وغيرهم، قد ألهمت الرواية المصرية للخروج من مأزقها التاريخي الذي حاكت فيه نموذج الرواية الأوربية. ومن الجدير بالذكر أن نجيب محفوظ كان قد اجترأ على كسر النموذج الأوربي في محاولات عديدة لم يلتفت إليها جيداً. غير أن نماذج قدمها الجيل الأحدث، كانت  ملهمة لجيل جديد كان يتشكل للتو.

 وفى سياق آخر بدأ الانتباه إلى شيوع أشكال بينية فى السرد، فلم يعد الأمر حصرياً بين نمطي القصة والرواية، سنجد مثلا: النوفيللا، وحلقات السرد أو المتتاليات القصصية التي تنتظم عبر سردات صغيرة تتواصل فيما بينها بروابط أسلوبية أو تقنية أو موضوعية.

وفى هذا السياق يمكن الإشارة إلى نوازع التجريب التي يحققها مبدع متميز مثل محمد المخزنجى، الذي قدم مؤخراً نصوص: ” حيوانات أيامنا ” وهى بمثابة بحث سردى في عالم الحيوان يتخذ من البناء القصصي شكلاً له. وفي المقابل سنجد نصوصاً قصصية تتمركز حول موضوع واحد لترصد تجلياته وكأنها تدرسة من زوايا نظر عده، كما نجد عند ( محمد أبو الدهب ) في مجموعته القصصية ( نزهة فى المقبرة ) التى بدت ـ فى النهاية ـ نوع من التأمل السردى للموت.

***

خاتمة

بالإشارة إلى كل ماسبق يمكن القول إن مانطلق عليه الآن رواية جديدة، لم يكن نزوعا ثوريا إلا بقدر ما كان:

ـ حراكا يستجيب للمتغير الذي عاشته مصر بعد 67، بما يستوجب مراجعة طبيعة الخطاب الأدبي وطرائق تعبيره وتوجهاته بحيث ينشد قارئاً مختلفاً عن ذلك الذي تربى على مفهوم الرسالة المباشرة للنص الأدبي والانحياز المؤدلج لوعي المرحلة. كما أن هذا الحراك أفاد من إمكانات التكنولوجيا، وفرص النشر الواسع، وتغير نمط المتلقى بدخول شرائح غير نخبوية، فضلاً عن تراجع دور الناقد كوسيط بين المبدع والمتلقي، حيث يمكن للمبدع أن يتواصل مع قارئه مباشرة، ويشعر فى نفس الوقت بمردود مايكتب. .ز

ـ أن هذا الحراك كان مرحلياً وتراكمياً، مرتبطاً بالتجربة المصرية ـ ولأول مرة ـ بمعنى أنه لم يكن استجابة لتيارات أو اتجهات أدبية عالمية مثل تيارات: الواقعية بشقيها الاشتراكى والنقدى أو تيار الوعى أو الكابوسية الكافكاوية أو السوريالية وغير ذلك من الاتجاهات الأدبية التى كانت متداولة فى مصر فى الخمسينيات والستسنيات ولم نعد نسمع بها الآن. إذ كان التجديد نابعاً عن حاجات محلية، وعبر تجارب ومحاولات لمبدعين صغار الشأن لايتكلمون باسم اتجاه أو تيار أو أيدلوجيا كبرى.

ـ أن مفارقة النموذج الستيني شكلت جوهر النزوع التجديدي للرواية المصرية، غير أن ملامح هذا التجديد لم تتضح على نحو جلي ـ كما أسلفنا ـ إلا في التسعينيات. ففي التسعينات ظهرت مجموعة من الروايات التي أشارات إلى نفسها بسمات تجديدية واضحة، نذكر منها على سبيل المثال: ”  زهور سامة لصقر لأحمد زغلول الشيطى ـ كلما رأيت بنتاً حلوة أقول ياسعاد لسعيد نوح ـ فوق الحياة قليلاً لسيد الوكيل ـ  تصريح بالغياب لمنتصر القفاش ـ مطارح حط الطير لناصر الحلواني ـ كتاب التوهمات لخيري عبد الجواد ” وهى روايات توالى ظهورها من ( 95 ـ 98 ). وغير ذلك من الروايات التي أكدت على تفكيك مركزية الحدث. وتعدد مستويات السرد والاجتراء الواسع على التناص وهيمنة المتخيل السردي على الواقعي والحضور الشخصي للمؤلف داخل النص بما يحفز قابليته للتداخل مع أنواع أخرى مثل:  السيرة الذاتية، فضلاً عن طوابع التحليل السردي حيث يقوم صوت المؤلف الضمني بنوع من المراجعة والتحليل لصوت الراوي الخارجي أو للأصوات الأخرى داخل النص، في مكاشفة مع القاريء تسقط أقنعة الوهم القديمة التي كانت تراهن على محاكاة الواقع، فالواقع ليس سوى مجموعة من الاستعارات المتوالدة على نحو لانهائي.

 ولعل هذه المكاشفة بين المؤلف والقاريء كانت الخطوة الأولى نحو مفارقة الإيهام بواقعية مايحدث، لقد بدت صورة المؤلف كما لو كانت ذاتاً كلية مستقلة ومدعمة بسلطات غيبية تجعله أشبه بالكاهن. غير أن ميشيل فوكو يكشف لنا أن المؤلف نفسه يخضع لنظم معرفية متغيرة تزيح المؤلف من موقعه وتحيله إلى مجرد أداة، إن التركيز على حضور المؤلف في النص راوياً أو مروياً عنه يدعم هذا المعنى، فيحيلة من معناه كذات كلية مهيمنة إلى عنصر من عناصر السرد. ومن ثم يتراجع صوت السارد العليم بكل تجلياته في الرواية الجديدة. وتسقط  معه أقنعة الإيهام . بما ينتهي إلى تغير  كبير في نمط العلاقة بين ( المؤلف ـ النص ـ القاريء ) ولدينا في هذا السياق دراسة مهمة في ( أنماط البث والتلقي في الخطاب الروائي المعاصر )3 لمهدى صلاح. عاينت الدراسة صوراّ جديدة لأنماط هذه العلاقة التى غيرتها طرائق الكتابة فى الرواية الجديدة .

أضف تعليق