في التفاعلات الثقافية وعملية تذويب العالم عند سيد الوكيل

كتب: د/ حمدي النورج

  الخطوة الأولى : منذ خمس سنوات كان كتاب عملية تذويب العالم لمثقف مصري راسخ خبر فنية الكتابة ودينامية  الفكر . منذ  خمس سنوات فاتت شهد العالم سيلًا من الأحداث المتشابكة والكلية. نظرة واحدة تدلك  على أن الحدث عندما يضرب في الغرب تلمح تأثيره في الشرق  في وعي لإحكام  بنية الترابطية والتراتبية .

في الإمكان أيضا أن يبقى عامل التأريخ خافيا غير محدد، ذلك أن سنوات خمس  من عمر الحضارة الآن يوازي أعمارًا منصرمة منذ زمن. يقول المثقفون المتشدقون إن المائة عام في عمر الأمم والحضارات قليلة، بدافع حجم قياس التأثير والتغيير ، لكنها واضحة بينة على ابن الحضارة ومنشئها الإنسان…

من اليسير أن تقدم أمثلة على حالات السيولة عندما تتحرك بفعل الذوات أو التشيئ . الشيء بكينونته يسهل رصده وكتابة تاريخية ،لكن الذهاب إلى قراءة علاقته بابن الحضارة أمر بالغ الصعوبة، الأصعب أن تلجأ لفعل الكشف المبني على التجريد والذهنية ،وبخاصة الحالة الثقافية الكبرى ، وهذا ما فعله سيد الوكيل في كتابه المسافر عملية تذويب العالم الصادر منذ خمس سنوات والذي سيستمر وفي التحديد فعل من الإجحاف عند القراءة ،هي مشاكسة ثقافية سائرة ومظهرة ولن يقلل من فعل الجدة والتجدد فيها سلوك التأريخ وسنة الإصدار، ذلك أنه كتاب في الحضارة التي تأبى على فعل التزمين كما أوضحت. لماذا؟

هناك كتب مسافرة يشابه موقعها موقع رباط الشد بين عربات القطار تعزز فعل الترابط والتماسك وعلى بينة من سلوك كل عربة .في هذا السياق يأتي كتاب هويات قاتلة لأمين معلوف، وكتاب عملية تذويب العالم لسيد الوكيل، وكتاب ضد العنف لحنة أرنندنت والربيع الصامت لراشيل كارسون وما قلة التمثيل بسبب قلة المنجز وإنما للتوضيح.

عملية تذويب العالم لم يتخذ المتن عرضًا ثابتًا في حدود التفصيل وبناء الهيكلة، لكنه اتخذ الهامش طريقًا مستقيمًا لفعل القراءة عبر لعبة الدوران والتقليب الماكرة حيث تستمر رحلة الأنساق متشابكة ومستمرة ،أعجزت الكاتب نفسه عن وضع سياق للبدء وجملة للانتهاء، سيرورة الذوبان والتآكل مستمرة بلا حدود أو تشكيل، فعل سينتج اعجوجًا في أماكن حضارية ، ويولد أمتا في أماكن أخرى ويصرح بتأكل أجزاء كانت فاعلة ثم هي أصبحت في خزينة التاريخ التي قطعا ستضعف حتى تختفي بفعل التراكم المستمر للحدث. قال الذين وقفوا على شاطئ النهر إن البطل ألقى بنفسه  في النهر وحمل معه غصن شجرة وواصل العوم حتى وصل للشاطئ الآخر ،وهناك التقى حبيبته التي ظلت أياما تنتظره بلا طعام.كانت المائدة كريمة وبها أصناف شتى .. هذا البطل وبهذا السلوك ستختفي قصته وستختفي حبيبته ،وسيظهر أنه كان لصا أو بطلًا أو مقاومًا أو قاطع طريق أو ضحك على فتاة وغرر بها ،وأنه ما ترك شيئًا، وأنه لا يملك ملامح ،وأن لديه حكايات أخرى وأنه ترك ثيابه خوفًا .. من هنا يبدأ فعل التاريخ والتفسير والتحليل حتى يختفي البطل نفسه، وسنظل نقول ونقلب دون أن نصل لشيء داخل هذه الحلقة .. هذا هو التاريخ بكامل صروفه، لكن فعله في الحضارات وقدرته على إحداث التداخل والتأثير والتغلغل ثقافيا هو الفعل الأرقى عند القراءة.

في إحدى الندوات الثقيلة المفتعلة حيث استعلاء المتحدث وتبرم المستمع قلت إن فعل القراءة الآن تخلص من زخم المعرفة التي ظلت تحكم رغبته عند ممارسة الفعل ،لقد انطلق عالميا إلى فعل التجزئة الدقيقة الحادة عندما يلمح الأشياء، ويبني حولها سيرها وعالمها، كتب الناس عند الحرب العالمية العديد تأريخا وتأثيرًا، وهو حدث لا يزال ملهما حتى تاريخه، لكن إلهامه سيكون أكثر عندما نتجاوزه إلى الحديث عن حركة الأشياء وتاريخها داخل هذه الحرب ،وكيف تحول القلم مثلًا إلى كاميرًا للتوثيق وسلاح للقتل، وكيف استخدمت اللغة التي جاءت لغرض البناء والتعبير عن الرغبات والحاجات إلى استخدام مخادع عبر تحليل شفري لبعض حروفها وتضليل العدو، بل كيف انطلقت الشخليلة من سلوك إنذار إلى لعبة نهدهد بها الطفل الآن. هذا هو ما يشغل العالم الآن السعي وراء سيرة الأشياء وكيف تتحرك فاعلة في داخل الحلقة الملقاة في عالم الأكوان. وهذا فعل يستتبع حالة من المتابعة المستمرة لحركة الشيء وكيف يقع وكيف يتغير وما حجم تأثيره يوميا، وما موقعه بين طائفة كبرى ومتنوعة من مجتمعات شتى تعيش وتتفاعل وترفض وتحب . سلوك الوردة وحركتها داخل المجتمعات بيان تمثيلي.

الظن أن هذا الفعل لن يعطي لابن الحضارة حقه ولكن يعطي للأدوات الحضارية حقها، وسنكون نحن أبناء الحضارات في دائرة الطنين الكبرى حول هذه الأشياء التي بدأت من سنوات ربما بعد حالة الصدام المفتعل والمؤرخ حقا بأحداث سبتمبر الأمريكية في الانتشار والبحث والتنقيب ، سيرة الأشياء الصغرى الدقيقة وربما المهمشة المنسية .

السابق معناه أن تكتب بلا انقطاع مع قياس فعل التأثير والتأثر في صورة مدونات ثقافية كبرى تبدأ ثم يستمر فعل التدوين بلا انقطاع .. حركة الشيء اليومية المستمرة. وكلما مات شيء اتخذت مكانه أشياء والظن أن الأشياء لا تموت ففعل الحفريات ودراستها سيكون مسعفا في التوثيق والتدوين والاستمرار،ومثل السابق نجده في سلوك الهوية ودراستها عند أمين معلوف، وسياق العنف ثم سلوك التشظي عند سيد الوكيل الذي فتح الباب ثم ألقى قفله على باب الحضارة.

يكتب الوكيل بدءًا إن المعرفة تخلت عن تمحورها الذاتي حول نظرياتها الكلية الصلبة ثم تجزأت وتحولت إلى فضاء شاسع من المعلومات المختلفة حد التناقض والتهافت أحيانًا، لكنها تتشابك وتفضي إلى بعضها البعض وإلى ما لا نهاية .. وهذا قول استتبع تبريرًا مباشرًا عندما يصور هذا التحول إلى انطلاق الأفكار حتى لو كانت بسيطة إلى حلقات بحثية وربما هذا هو المدخل الذي  حاولت توضيحه في العرض السابق .لكن كيف وقع فعل القراءة عنده، يبدأ الوكيل في تناول فعل التغيير كمفردة بدأت منذ التسعينيات في التباس بمفهوم الإصلاح، والظن أن مصطلح التغيير يعني حالة انقلاب كبرى وشاملة وبصورة أوسع من فعل الإصلاح، الذي يبدو متواضعا غير قادر على تجسيد الرغبة في وقف مظاهر التدهور السياسي والاجتماعي الذي استمر منذ هزيمة 67 وتداعياتها. وعند هذه النقطة ينطلق الوكيل من البحث في الشيء إلى قراءة فعل الذوبان والتشظي ومطارحة فعل الإصلاح عالميا وسط سياق أكثر تعقيدًا وهو سياق التكنولوجيا الذي حول العالم إلى درجة أكثر تعقيدًا واشتباكا بحيث لا يمكن لقوة واحدة فهمه والتحكم فيه.

وعملًا بمبدأ النظر في شيء الحضارة لا في ابنها سنلمح في سلوك التوطئة حديثا عن تقاطعات شتى متداخلة . لن يتم فعل الإصلاح إلا بها وهنا تحديدًا ستجد أن الكاتب ذهب إلى سلوك الهامش لا إلى سلوك المتن. لا ليدشن نظريات ويعرض أفكارا بقدر وضع الإحالات وربطها وصولًا إلى رصد حالة الذوبان التي لا يتبناها بقدر الحذر منها ، وإن كانت واقعة لا محالة.

لم يكن الوكيل يعلم أن الشباب الفرنسي سيقوم بثورة أخرى بزي أخاذ فسفوري بكر. ولم يكن يعلم أن فرنسا تعاملت بكل حزم وقوة ورعونة مع سلوك هذه الثورة، وأن الذي حرك المسعفين بدءًا ماذا نأكل وبكم؟ لم تكن الثورة خروجًا عن المركزية الأدبية وانحيازًا لنضال الجزائريين والفيتناميين كما وقع سنة (1968) لكنه رغبة في الحياة الضيقة داخل الحلقة المطحونة في الفلاة الواسعة ، لقد اختفى خطاب الإصلاح أو التصحيح وظهر خطاب التغيير الذي أحدث فجوة واسعة بين الدول الفقيرة والأخرى مالكة التكنولوجيا . وهذا الفعل ولد طموحات عديدة في الكثير من الدول وربما أحدث هذا المبتغى فوضى عارمة عند البعض .لقد أصبح مصطلح الإصلاح هشا خاويا ووقفنا جميعا نعلن بصوت فردي وربما هامس وربما ثوري التغيير . كيف يقع وما رحلة أنساقه؟ هذا ما قدمه الوكيل في بقية هوامشه المستمرة التي لاشك سنسير معها لاحقا في مقالات قادمة . 

أضف تعليق