إحسان عبد القدوس بين المشهد المصوّر، والموضوع الروائي، وأفكاره الجاذب.

مختار أمين.

  كثير من الناس يتعرفون على كثير من الروائيين من خلال رواياتهم التي أخذتها السينما وحوّلتها إلى أفلام، ولعل من أبرز الروائيين المصريين على وجه التحديد الذين تحوّلت أغلب رواياتهم إلى أفلام سينمائية نالت نجاح ومشاهدات منقطعة النظير، كلٌّ من نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس..

   إذ أن التنافس السينمائي على مستوى المشاهدة كان بين الاثنين حتى تساوى بينهما على مستوى النقد السينمائي، وخاصة في مرحلة الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، ولكن كرأي خاص يخصني، أرى أن محفوظ نال التعاطف الوجداني عند صناع السينما أكثر من عبد القدوس، حتى ذهب هذا التعاطف على مستوى الكتاب المقروء _ومازلت في حيرة من هذا_ ولم أصل في بحثي عن هذا السبب إلى نتيجة ترضيني كناقد أدبي، ورجل درس التمثيل والإخراج المسرحي (يعني مغموس بالفن) ولي بحث بعنوان: (نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس بين كفتي الميزان السينمائي، والرواية المطبوعة) به إحصاء كامل بالتواريخ وحركة التوزيع..

141371366_748932205755185_4563074216490204000_n

ولكن دون النظر في اعتبارات الهوى والميول، والانحياز المسلّم به من المسيطرين على صناعة السينما والإنتاج بعد منتصف القرن الماضي وصولا إلى تسعينيّات القرن نفسه، نجد أنَّ الإنصاف البحثي في النظر إلى تاريخ إحسان عبد القدوس الأدبي وحده يحتاج إلى وقفات قيّمة، تفيد الباحثين والدارسين في الأدب والفن، وأيضا تفيد في المجال السينمائي كتاريخ، وفي الأدب الروائي كأثر اجتماعي فاعل، من خلال وقفات نقدية منصفة بالعلم على بعض أعمال إحسان، وعلى مستوى الرؤية التحليلية التي تؤكدها العين على المستوى البصري، وتحيلها إلى الذهن لتستوجب التفكير، وتولد الرأي الاجتماعي المؤثر..

على مستوى الموضوع الروائي والفكرة:

كتب إحسان عبد القدوس أكثر من ستمئة رواية وقصة، وكان لإحسان عبد القدوس دورا بارزا في صناعة السينما ليس فقط عن طريق الأفلام التي أُعدَّت عن قصصه ورواياته، ولكن بالكثير منها التي شارك في كتابة السيناريو والحوار لها، حيث أنَّ له 49 رواية تحوّلت إلى أفلام، و5 روايات تحولت إلي نصوص مسرحية، و9 روايات أصبحت مسلسلات إذاعية، و10 روايات تحولت إلى مسلسلات تليفزيونية، إضافة إلى 65 من روایاته ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأوكرانية والصينية.. كما أكد ذلك كتاب “إحسان عبد القدوس..بين الأدب والسينما” للناقد السينمائي سامح فتحي، ونقل إحسان في أعماله فساد المجتمع المصري وانغماسه في الرذيلة والشهوات، ولهذا نجد أن إحسان كان مهموما بقضايا ذات أثر إيجابي تصرخ بداخله وفي تكوينه، مثل قضية الحرية بتعريفها العام، الذي هو نفسه كان يعاني منها في حياته، وفي قوامها الجلي الصارخ في الصورة والمعنى عند إسقاطها في المرأة، كما نكتشف في أعماله أن المرأة حجر أساس، وزوايا الرسوخ والثبات، حتى في أعماله التي تناقش منظور سياسي بحت مثل “في بيتنا رجل” وبالنظر في العنوان تجده مقولة على لسان امرأة، ولم يخف على من شاهد الفيلم

116542081_388128288823453_633805621313472102_n

الإسقاط المرعب على المرأة المسجونة في قفص العادات والتقاليد السائدة في هذا المجتمع، وهي تصرخ بالحاجة إلى الحرية التي يتمتع بها الرجل وهي في عتمة سجنها، وإن كانت تؤمن بنفس قضيته، ولها مثل رأيه في الأمور السياسية، ويسري في داخلها التعبير، ولا يتعدى حدود جدران سجنها، وهنا لا بدَّ أن ننوّه عن شيء حدث أثناء تحضير هذا الفيلم على إصرار إحسان على اختيار زبيدة ثروة كبطلة بجوار عمر الشريف، نجد أنه اختار ممثليّن لهما عيون خاصة لها أثر كبير على المُشاهد من خلال التعبير، أراد إحسان في هذا الاختيار، أن يلتصق في ذهن المُشاهد نظرات عيون زبيدة ثروت في المشاهد الصامتة، وأيضا نظرات عمر الشريف في نفس المشاهد، بما أراد أن يوحي به على مستوى الصورة البصرية الفاعلة، التي تساعده على نقل الأفكار غير المطروحة على مستوى الحوار، وهنا نوع من الاختزال الإيجابي الذي يتحلى به في معظم كتاباته، وللعلم كان المقرر أن يقوم رشدي أباظة بدور عمر الشريف والعكس، ولم يكن اختيار الأدوار على قدرة كل منهما كإبداع تمثيلي، ولكن الفضل يرجع في تسكين كل منهما في دوره، عيون عمر.  

لا يمكن لأحد أن يغفل الأثر الفاعل لإحسان في تاريخ السينما المصرية على مستوى حقوق المرأة في هذا العصر على وجه التحديد، كما أنه لا يغفل في طياته رأيه السياسي أبان هذه الحقبة بجرأة لها الأثر _الرأي المعارض الشريف_ الذي يجعله في مصاف النزيهين في جانب، وعين الرحمة التي تبعد عنه اليد الغاشمة من رجال السلطة، على مستوى النقل الديمغرافي، والسيكولوجي اللذان بين تلابيبهما ينطوي الرأي المعارض المباشر، وهذا هو حرفة الروائي الحصيف في عصر غشيم، براعة نقل الصورة الحية النابضة للمجتمع، في حجاب امرأة لعوب تتخفّى في حجابها أثناء النهار عن أعين سكان الحارة، وفي الليل أمام من يهمه الأمر تفشي ما يجب ستره، ولم يكن هذا على مستوى الروايات التي تناولتها أيدي السينمائيين ليشاركونه المهمة كأفلام سينمائية، أو مسلسلات تليفزيونية، ولكنه بنفس البراعة على مستوى الكتاب المقروء كروايات في أيد القرّاء.

على مستوى الصورة الفاعلة المتحركة:  

نقرأ مقطع من رواية “أنا حرة” (كانت تريد أن تنطلق.. وقد انطلقت عدة مرات.. كانت تذهب إلى الحقول في شارع بين الجناين.. وكانت في كل مرة تعود من انطلاقها لتستقبلها عمتها بالشبشب، وكان أحياناً يتولى استقبالها زوج عمتها، وكانت في بادئ الأمر تبكي وتصرخ وتستغيث وهي تحت الصفعات وضربات الشبشب، ثم بدأت تدافع عن نفسها وتصرخ وتصد الضربات بذراعيها وتجادل عمتها وزوج عمتها، وقد صاحت في وجههما يوما: – أنا حرة.. أعمل اللي أنا عايزاه.. ما حدش له دعوة بيّه. وأخرسها كفّ زوج عمتها بصفعة على شفتيها، وردَّت عمتها:

141919177_408316013765637_461097506104956661_n

  • حرة!! حر لما يلهفك، قليلة التربية!.. وعندما هدأت أخذت تكرر بلهجة ساخرة: أنا حرة.. أنا حرة!! ثم انطلقت دموعها مرة أخرى.. هل هي حرة، وهل يقدّر لها يوما أن تكون حرّة تفعل ما تريد؟.. متى ستخرج من هذا البيت؟ وإلى أين؟) نجد في هذا المقطع تصوير كامل لمعانة البطلة أمينة، مجرّد مقطع حكى القصة كاملة، نقل الفكرة من خلال صور وعدة لقطات تلتقطها العين وتتخيلها مجرد قراءة الأسطر، فنرى:

1ـ تصوير الفكرة: ” كانت تريد أن تنطلق.. وقد انطلقت عدة مرات”.

2ـ الصورة الفاعلة (الصورة مع الحركة): ” كانت تذهب إلى الحقول في شارع بين الجناين” صورة أخرى: “وكانت في كل مرة تعود من انطلاقها لتستقبلها عمتها بالشبشب” صورة أخرى: “وكان أحيانا يتولى استقبالها زوج عمتها، وكانت في بادئ الأمر تبكي وتصرخ وتستغيث وهي تحت الصفعات وضربات الشبشب” وصورة أخرى: “ثم بدأت تدافع عن نفسها وتصرخ وتصد الضربات بذراعيها وتجادل عمتها وزوج عمتها” وصورة الحركة مع الفعل والتعبير بكل أدوات الجسم: “وقد صاحت في وجههما يوما:

  – أنا حرة.. أعمل اللي أنا عايزاه.. ما حدش له دعوة بيّه” ثم صورة التعبير عن الألم البدني والنفسي: “وأخرسها كفّ زوج عمتها بصفعة على شفتيها”.

3ـ تأويل الصورة ليتولّد الصراع، واتخاذ القرار: “عندما هدأت أخذت تكرر بلهجة ساخرة: أنا حرة.. أنا حرة!! ثم انطلقت دموعها مرة أخرى”.

4ـ نقل الفكرة في رأس المتلقي ليفكر معه في القرار من خلال الصورة: “هل هي حرة، وهل يقدّر لها يوما أن تكون حرّة تفعل ما تريد؟.. متى ستخرج من هذا البيت؟ وإلى أين؟”.

هذه براعة إحسان عبد القدوس على الورق في رسم الفعل وتجسيده من خلال الصورة والامتلاء البصري، ولذلك قال عنه الناقد الفني محمود عبد الشكور: (إنَّ المخرجين لم يجدوا مشقة في تحويل رواياته إلى أفلام لأنه كان يكتب بأسلوب سينمائي).

ولإحسان العديد والعديد من مئات المشاهد على الورق تجعل المتلقي كأنه يشاهد فيلما سينمائيا، ولذلك استعان به كثير من السينمائيين ليكتب السيناريو والحوار لأعمال لم تكن من تأليفه، حتى استحق أن يكون أكثر مبيعا للروايات المطبوعة في جيل الستينيّات والسبعينيّات متفوقا على الكثير من الروائيين في جيله.    

فكرة واحدة بشأن "إحسان عبد القدوس بين المشهد المصوّر، والموضوع الروائي، وأفكاره الجاذب."

أضف تعليق