أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها

طارق إمام

الحياة

كلما انتقلتُ إلى شقة جديدة، أرى نفس الجار.

أخاف في البداية، أستغرب، لكنه يطلب التعرف إليَّ بترحيب الغرباء بينما يمد بالمصافحة يداً لا تعرفني، وكأننا في تمثيلية مُحكمة من صنعه.

كل مرة، نفس الشخص، لكن باسمٍ جديد، بمهنة مختلفة، بمزاج مغاير، بأُسرة حلَّت من العدم لتحط على كتفي حياته: حياته التي تنتهي للأبد كلما تركتُ بيتاً، وحياته التي تبدأ على عجل مع كل بيت جديد أدخله، فقط ليظل جاراً لي.

______________________

في كل مكان خانته المدينة

دائماً، هناك رجلٌ عجوز، عجوز لدرجة أن أحداً لا يصدق أنه كان طفلاً يوماً ما، وبلا فم، بعد أن سرقت يدٌ قديمةٌ كلماته للأبد.

 رجلٌ عجوز، يعيش في كل الشوارع الجانبية، الأزقة المظلمة، في الليل وفي المناطق المعتمة من النهار، يوجد في كل نور محبَط وفي كل مكان خانته المدينة، خلف حوائط الخرابات، تحت شواهد المقابر التي لا يزورها أحد وخلف صخرة البحر الكبيرة التي تخشاها العائلات، يوجد بين أشجار الحدائق الضخمة ووراء أبواب العقارات التي بلا حراس.
في أي مكان يلوذ به اثنان لكي لا يراهما الجميع، يوجد ذلك الرجل العجوز، لكي يُفسد القُبل.

رجل عجوز يقطع طريق الهمسات واللعاب، كأنه بنى بيتاً أخيراً في تلك المسافة_ التي لن يقبل أبداً أن تتقلّص_ بين شفتين.

_______________________

التلويحة

مع كل تلويحة، كنت أفقد يداً. تذهب مع المغادر، لتُدس في جيب معطف ثقيل بمدينةٍ بعيدة، لتتقي لطمة الجلاد في زنزانة،  لتسيل على جسد امرأة في غرفة متعة، أو لتعانق التراب في مقبرة.

كل من ودعتهم مضوا بخمس أصابع زائدة، كأن الوداع لا يكتمل إلا بمعصمٍ مبتور على الجانب الآخر.

كنت أعتقد أن التلويحةَ كف في الفراغ، ثابتة ووهمية، تنهض فقط لتحتجز الهواء من خلفها كي لا يُحرِّك خصلة الشعر الأخيرة التي يجب أن تظل في مكانها. لم أكن أعرف أن أصابعي المفرودة ستكون دائماً قبضة غيري.

لم أسترد يداً من تلك التي أعرتها للمغادرين، ولم يمنحني أحدٌ يداً حين احتجتُ أن أغادر.

حتى هذه اليد التي تبقت لي. اليد التي أشهرها الآن للا أحد، والتي أكتب بها هذه الكلمات عوضاً عن أن ألوّح. حتى هذه اليد الأخيرة: ذابت في اللغة، لتكتب شخصاً آخر.

____________________

محض رجلٍ في مُلصق

كان يُطل على المدينة الكبيرة من سجن صورته، محض رجلٍ يبتسم في ملصق.

 رأى ما رأى، رأي أكثر ممن رأوا. كانت مصابيحُ المدينة تنعكس على وجهه فتضئ ابتسامتُه بالتساوي لجميع من يملكون الثمن. عاش كثيراً على نفقة مدينةٍ تضيؤها ثقاب السجائر الرخيصة. ثم، عندما أظلمت المدينةُ تماما، عندما أطفأتها الحروبُ الخاسرة ونطفات قصص الحب في أكياس الأرصفة، عندما أصبحت الشمسُ قطعة عملة وتوسطت أعمدة الإنارة بيوت اللصوص، أصبحت المدينة تستدينُ ضوءها من صورته، لترشد السيارات والتائهين، لتمنح الشرطيين الإضاءة اللازمة لتجريد العابرين من ملابسهم، لتعري الشحاذين وتفضح تجاعيد اليد الممدودة. حتى القمر، قمر السماء، أصبح دائرةً فضية في سماء سلعته.

محض رجل في ملصق، كم أحيا هذه المدينة، كم أماتها، كم تمزق كلما اقترب منه طفلٌ عابثاً بجسده، وكم تمزق كلما غادره طفلٌ، محبطاً، وقد فطن أنه، كجميع من يبتسمون هنا، ليس شخصاً حقيقياً.

Top of Form


______________________

الموت

ذات يوم قررتُ أن أستبق يومياتي، بحيث لا أضطر لتحمل ذلك العبء الممل بكتابتها بعد أن تقع.

بدأتُ بمستقبل قريب، كان غداً ما، من السهل تذكره. كان يوماً أقرب لماضٍ منه لمستقبل. وقع بالضبط ما كتبته، كأن اليوم أجهد نفسه بإخلاص ليحاكي ما كتبت، كأن كل ما لم يحدث صار ذاكرتي.

عندما مر الاختبار بنجاح، شجعني على تأمين يومياتي لفترة أطول: أجلس يوماً في الأسبوع، لأكتب ستة أيام قادمة، شاحذاً ذاكرتي، ذاكرتي المستقبلية.

في أي لحظة سأموت فيها، ستكون هناك بضعة أيام قادمة عرفتها حياتي: أيام زائدة، وُجدت بالفعل، ولا ينقصها سوى أن أعيشها.

فكرة واحدة بشأن "أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها"

أضف تعليق