الجامعة والنتاج النقدي

                                    الدكتور محمد حسن عبد الله

1-                         توطئة

 في سياق محور “أسئلة النقد” لا يجوز إغفال دور الجامعة في إنتاج النقد،سواء على المستوى النظري أو في مجال التطبيق وتوجيهه، وحتى استعارة مدارسه، أو مبادئه، لتصنيف فنون الإبداع عندنا، تلك الفنون التي صنعها من بيننا مبدعون ليسوا بالضرورة على معرفة صحيحة بتلك المدارس أو المبادئ التي توافقت إبداعاتهم مع معطياتها أو بعض تلك المعطيات. هذا الكشف مهم جدا.ولكن دون القيام بهذا الكشف عوائق واحتمالات من الالتباس تؤثر على التصور المستخلص للمحاولة.  قد يبدو التفحص لمعطيات قرن كامل بحثا وتصنيفا ووصفا عملا يتجاوز قدرة شخص واحد مهما كانت طاقته وكان الزمن المتاح له، وهو كذلك بالفعل، والحقيقة أن ظاهرة الإنتاج النقدي تتجاوز القرن المحدد عمرا لإنشاء الجامعة المصرية(جامعة فؤاد الأول ثم جامعة القاهرة فيما بعد)-1908- 2007، ذلك إذا دخل في نطاق البحث كل ما يصنف في النسق التعليمي على أنه فوق التعليم المتوسط(الثانوي وما في مستواه) فالجامعة المصرية حين أنشئت لم يكن الهدف منها تأسيس مرحلة معرفية مفقودة أو مفتقدة في الهرم التعليمي المصري، الذي عرف قبلها مدرسة الطب ومدرسة المهندسخانة، ومدرسة الإدارة والحقوق، ومدرسة دار العلوم، كما كان”الأزهر” يمثل كيانا تعليميا مستقلا بمراحله بما فيها المرحلة العالية التي تمنح الأستاذية، أو العالمية. من ثم يمكن استعادة دعوة الزعيم مصطفى كامل إلى إنشاء الجامعة، وإعلان تكوينها عام رحيله، والأسس التي أقيمت من أجل تحقيقها، وتوجهات القيادات التي تناوبت على إدارتها(بصفة خاصة الأستاذ أحمد لطفي السيد)(1)- أشهر مديري الجامعة المصرية وأهم من حرص رسالتها وسيكون المعنى الكامن لدى هؤلاء جميعا الدعوة إلى تحديث المعرفة، ومواكبة المنجز الحضاري العالمي(الأوربي) الذي اقتحم أبواب القرن العشرين منفردا بصيغ التقدم العلمي والاجتماعي والفكري، ترتيبا على حرية مناهج البحث والتوسع في مفاهيم التجريب بصفة خاصة. ومن الممكن- دون حيف على الحقيقة- أمن نقول إن هذين الجانبين: حرية المنهج وحق التجريب هما الجانبان المفتقدان(بدرجات متفاوتة) في تلك المنشآت العلمية(العالية) التي أشرنا إليها من قبل، ولهذا أسبابه من سطوة الأفكار والمعتقدات(التاريخية) الدينية والاجتماعية وغلبة التقليد وخوف المغامرة، فضلا عن ضعف المخصصات المالية الموجهة إلى البحث العلمي، بحيث يبدو دائما هزيلا محدود التأثير. خلاصة ما سبق أن “الجامعة”- من حيث هي مصطلح ومؤسسة قد استكملت القرن عمرا بهذا العام، أما من حيث هي ذروة نظام تعليمي ذي مراحل فإنها كانت متحققة في صورة هذه المدارس”العالية”التي أسس بعض منها في عصر محمد علي، وبعض آخر في عصر حفيده إسماعيل، وفي الأزهر أيضا وإن آثر اسم”الجامع” على “الجامعة”، وزمنه- عند تأسيس الجامعة يقارب الألف من الأعوام. وإذا طرحنا احتمالا آخر يتجاوز “شكل” المؤسسة، إلى المنتج النقدي- وعليه المعول في اكتشاف الظاهرة ورصد نموها وتوجهاتها، فإننا سنجد بين أيدينا- وقبل تأسيس الجامعة- اسم الشيخ حسين أحمد المرصفي، صاحب كتاب:”الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية”، وقد حققه وقدم له الدكتور عبد العزيز الدسوقي، وفي التعريف بالكتاب ومؤلفه ذكر أن “الوسيلة” طبع الجزء الأول منه عام 1875، وطبع الجزء الثاني عام 1879(2)، وقد وصف الشيخ المرصفي بأنه ظاهرة باهرة من الظواهر العلمية والأدبية في مصر القرن التاسع عشر، إذ كان مكفوف البصر، أتقن فنون العربية، كما أجاد الفرنسية وترجم عنها، أما كتابه فإنه- كما يرى الدسوقي وكما يدل الكتاب نفسه، وكما تشهد أجيال ذات قدر قرأته وأخذت بتوجيهاته المنهجية- يعد نقطة تحول في مجال النقد والدراسة الأدبية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر واستهلال القرن العشرين. إن عبد العزيز الدسوقي الذي يذكر بالفضل ما كتب علي مبارك في “الخطط التوفيقية” عن الشيخ المرصفي، وأنه الوحيد من معاصريه الذي أشاد بجهده العلمي، ينبهنا الدكتور الدسوقي نفسه إلى كتابين آخرين مجهولين، أو أقرب إلى التجاهل ألفا على مقربة من زمن تأليف “الوسيلة الأدبية”، وهما كتاب: تاريخ آداب اللغة العربية، من تأليف محمد دياب، وقد طبع عام 1901، وكتاب: تاريخ آداب اللغة العربية من تأليف حسن توفيق العدل(3)، لا يزال مخطوطا، كتبه نساخ محترف عام 1904(4). كان الشيخ المرصفي(ولد نحو عام 1815 وتوفي 1890) ابنا لأحد شيوخ الأزهر، نشأ على أبيه، وتلقى دروس الأزهر، ونهض بالتدريس في دار العلوم، كان يدرس علوم البلاغة والنحو والصرف والمنطق والعروض والقوافي(5). أما “العدل” فقد ألقى دروسه في المدرسة الشرقية ببرلين خمس سنوات، ثم في كمبردج(انجلترا)- وبينهما في القاهرة، وكان موضع تقدير عظماء عصره حتى سار في جنازته مصطفى كامل ومحمد عبده، وكذلك كان محمد دياب(6)، فأثر هؤلاء مشهود له، واهتمامهم بصناعة الأدب وفنون اللغة تدل عليه عناوين كتبهم، وفي التكوين العلمي لكل منهم يذكر الأزهر ودار العلوم، وإذا كانت نجومهم قد توارت أو تراجعت عن المدار قبيل تأسيس الجامعة فليس هذا مما يقلل من قيمة الجهد العلمي الذي بذلوه في التأليف وفي التدريس، وأنه من الحيف ألا ينوه بجهوده حين نؤرخ للنقد الأدبي(العربي) الحديث .

    هناك أمر آخر يستحق أن نتبينه قبل أن نوغل في تلمس ملامح هذا النتاج النقدي الذي صنعته الجامعة(الجامعات) المصرية في مائة عام، وهو: هل يدخل في نطاق بحثنا الإنتاج النقدي الذي صنعه المتخرجون في الجامعات أيا كانت مواقعهم الوظيفية وأعمالهم التي يمارسونها؟ أم أن المعنى بعبارة “الجامعة والنتاج النقدي” أولئك الأساتذة من أعضاء هيئة التدريس في هذه الجامعات دون غيرهم؟

    إن ما أنتجه متخرجو الجامعات من النقد الأدبي، أولئك الذين لم تمكنهم شروط الالتحاق بالدراسات العليا، أو التوظف في مواقع التدريس بالجامعة، يمثل، كما ونوعا وتنوعا قدرا عظيما من هذا المنتج النقدي من العبث تجاهله أو التهوين من قيمته أو تأثيره في ترشيد الإبداع. نستطيع أن نقرأ هذه الأسماء، وأن نستحضر إلى الذاكرة بعض ما أنتجت، وسنجد بين أيدينا البرهان الساطع على أن هذا النتاج ضخ دماء الحياة في شرايين الإبداع عبر هذا القرن الذي شهد الجامعات أو شهدته الجامعات بحيث يصعب أن نتصور ماذا يمكن أن تكون عليه صورة النقد، وتوجهات الإبداع فيما لو أن هذه المؤلفات لم تكن؟ ونحن نذكر ما تيسر لنا من هذه الأسماء(الأعلام) دون تدبير أو ترتيب ودون تذكير بمؤلفاتها: محمد حسين هيكل- يحيى حقي- أنور المعداوي- محمود أمين العالم- أنيس منصور- محمد عودة- صلاح عبد الصبور- أحمد بهاء الدين- عبد الفتاح الجمل- فاروق عبد القادر- رجاء النقاش- محمود شاكر.. وغيرهم. مع هذا فإننا نفضل صرف عبارة “الجامعة والنتاج النقدي” إلى تخصيص العاملين في حقل التدريس الجامعي، لأننا لو توسعنا في محتوى العبارة فإن اتجاه البحث سيكون عن النتاج النقدي في مصر بشكل عام، من ثم لا ضرورة لتقييد البحث بذكر الجامعة، لأن النقد يحتاج إلى ثقافة منظمة، ومعرفة منهجية، وليس مجرد متابعة الإبداع بالتعليق كما هو شأن المقتحمين له قسرا في أعمدة الصحف، ومن الواضح أننا لو بحثنا عن النقد خارج التحصيل الجامعي(في مصر) لن نجد بين أيدينا غير عباس محمود العقاد الذي لم يدخل الجامعة،ومحمود شاكر الذي لم يكملها احتجاجا على بعض مقولات طه حسين.

    إيضاح أخير: لقد تخرج في الجامعات المصرية عدد غير قليل من نقاد الأدب، من أبناء الأقطار العربية، عادوا إلى أوطانهم ونهضوا بأدء وظائفهم النقدية، وتخطت جهود بعض منهم حدود الإقليم إلى المجال الحيوي للفكر النقدي(العربي) العام، وهم على تفرقهم في أركان الوطن العربي أبناء الجامعات المصرية، وقد أشرنا إليهم في غير هذا المكان ولهذا نؤكد ونصنفهم إجمالا بأنهم من المنجز النقدي المصري الجامعي الممتد إلى تلك الأقطار.

2-                        افتتاحية المنهج

    في عام 1914- أي بعد إنشاء الجامعة المصرية بست سنوات، نوقشت أول أطروحة دكتوراه تقدم بها طالب باحث في هذه الجامعة وهو (الشيخ) طه حسين. كانت دراسته التي أعدها تحت عنوان:”تجديد ذكرى أبي العلاء”. لا يفوتنا تصدير لفظ “تجديد” في العنوان، على أن التجديد في “الموضوع” ظل محملا على القديم، إذ هو بمثابة إعادة قراءة لنصوص مختارة من شعر المعري، أو تأويل لبعض مقولاته وبعض من مقولات القدماء فيه، أما “التجديد” في طريقة الكتابة، في منهج البحث فإنه كان التحدي الذي أفرد له طه حسين مقدمة أطروحته، فقد ندد بأسلوب التأليف السائد في عصره، أو: حتى عصره،وهذا الأسلوب يعد الاهتداء إلى مصادر بحث ما، ومراجعه بمثابة سر خاص لا يستبيح مؤلفه الكشف عنه، وبهذا كان الباحث يستطيع أن ينجز بحثه وأن يعرض أفكارا ويناقش أخرى ويرفض غيرها دون أن يدل على أماكنها، ودون أن يوجه إليه لوم أو نقد لهذا الإخفاء المتعمد، وكأن تحصيل المعرفة ملك خاص لمكتشفها، له مطلق الحرية أن يخفيها أو يبديها دون تثريب. إن طه حسين في مقدمة”تجديد ذكرى أبي العلاء ” يندد بهذا الفعل، ويناقضه عمليا، فيذكر مصادر أفكاره ونصوصه المقتبسة، ومراجع من سبقوه إلى بعض مقولاته، ويناقشهم، ويدعو من يتحداهم في مقدمته، ممن يتوقع اعتراضهم على آرائه وتفسيراته في أبي العلاء، أن يناقشوه في النور، فيكشفوا عن مصادرهم ومراجعهم، ويقارعوا الحجة بالمنطق والحجة وليس بتوجيه التهمة. إننا(الآن) نعد هذا الإجراء المنهجي أمرا واجبا من أسس وبدهيات الكتابة العلمية، ولا نزال- إلى اليوم- نحاسب باحثينا من الشباب حين يتقدمون برسائلهم لنيل الدرجات العلمية العليا(الماجستير والدكتوراه) على ضرورة استيفاء المصادر، والمراجع، مع الاهتمام بأن تكون شاملة القديم والحديث، والحرص على أمانة الأخذ عن هذه المصادر والمراجع، بوضع الأقواس على ما نقل بنصه، ووضع هامش دال على ما اختصرت فكرته، وفي كل الأحوال تسند الأقوال المقتبسة بلفظها أو بمعناها إلى المصدر أو المرجع الذي أمد الباحث بها، شريطة أن يكون “أصلا” وليس ناقلا- بدوره- عن مصدر أو مرجع آخر، هو بمثابة الوسيط(7). إن هذه الأمور التي تبدو لنا “بدهية” الآن- حتى وإن كنا نعاني من تجاهلها أو الجهل بها عند كثير من شباب الباحثين- لم تكن معروفة قبل 1914، ومن حق طه حسين علينا أن يظل صاحب هذا التوجيه الأساسي في تأصيل منهج البحث حتى وإن تجاوزه- هو نفسه- فيما بعد(8).

    كانت هذه إحدى دعائم بناء المنهج العلمي المؤثرة بقوة في توجيه الدراسات الأدبية والنقدية بصفة خاصة، ومادمنا بصدد طه حسين فإننا نضيف إلى إنجازه المنهجي أمرا آخر لم يكن أقل تأثيرا في توجيه المنجز النقدي(الجامعي)، فطه حسين- حين شغل منصب عميد كلية الآداب، ثم مدير جامعة القاهرة- الذي وجه سهير القلماوي إلى التخصص في الأدب العربي، وهي متخرجة في المدارس الفرنسية، وأقنعها بأن تدرس شعر الخوارج في الماجستير، وتدرس ألف ليلة وليلة في الدكتوراه. وكذلك آذن لمحمد مندور بأن ينتظم في دراسته الجامعية في كليتين من كليات الجامعة في آن واحد. كان الطالب مندور حريصا على دراسة القانون، وبدأ دراسته بالفعل بكلية الحقوق، ولكن طه حسين ببصيرته الثاقبة لمح الاستعداد الأدبي المميز لهذا الشاب، ورأى أيضا أن دراسة القوانين ليست نقيضا ولا عامل ضعف لدراسة الأدب، وإنما رأى العكس تماما، فكان أن تخرج مندور في كلية الحقوق، ثم تخرج في العام التالي في كلية الآداب، وصدق حدس العميد فرشحه لبعثة في النقد الأدبي إلى فرنسا.. وبصرف النظر عن التفاصيل فإن للدكتور مندور حق ريادة جيل ما بعد طه حسين، وهو للآن ومستقبلا أحد أركان بناء الموقف النقدي في الثقافة العربية.وقد يصح في هذا السياق أن نذكر اسم عبد القادر القط الذي حصل على “التوجيهية” من القسم العلمي، ثم درس في قسم اللغة العربية باستثناء خاص. فليس مصادفة أن هذه حالات ثلاث، لثلاثة من أصحاب الإنجاز النقدي المشهود لهم، جاءوا إلى مجالهم الذي تفوقوا فيه خارج إطار التأهيل التقليدي، برأي خاص من طه حسين.

    ليس مصادفة أن قضايا “المنهج” ظلت هما خاصا، أو اهتماما خاصا يرتبط بالعمل الأكاديمي ولا يكاد يجاوزه. لقد تكرر نمط الباحث ذي التكوين العلمي الذي يكتب في قضايا الأدب ونقده، ونجده في عبد العظيم أنيس- أستاذ الرياضيات- الذي شارك محمود أمين العالم في وضع كتابهما النقدي المهم في العقد السادس من القرن الماضي(كتاب: في الثقافة المصرية- صدر عام 1956- وطبع ثلاث مرات آخرها 1989) ولكن هذا التخطي- في حالة الدكتور أنيس- حدث بدافع الأيديولوجية(الماركسية) وليس في ضوء الهدف النقدي في ذاته، ودليل هذا أن المحاولة لم تتكرر بالنسبة لأنيس، في حين تكررت بالنسبة لرفيقه محمود العالم(9)!!

   إن قضية “المنهج” التي يثيرها الأكاديميون، وإن لم تنحصر فيهم، لا تزال مطروحة بينهم بقوة، وسنرى آثارها وتخريجاتها لاحقا، وهي لم تقف عند حدود أسلوب الكتابة البحثية، وإنما تجاوزته إلى الأسس النظرية المستلهمة، كما سنرى.

3- الغياب قبل الحضور

    إننا لم نكتب هذه الأوراق في مديح ما أنتجت الجامعات المصرية من نقد، ولا لندافع عن السلبيات التي نحسب أنفسنا الأقرب إلى إدراكها، لننتهي إلى صيغة: ليس في الإمكان أحسن مما كان!! إن الأمر على العكس، إذ من الممكن- دائما- أن يكون الأمر على صورة تتجاوز هذا الممكن المفروض، ولا يتم هذا بفعل الزمن، أو باستثناء المصادفة، أو بالتمني، وإنما بالنقد، وقياس النتائج، وتقويم الخطط والتجارب وحين نرصد أوجه الغياب أو مواطن الضعف قد تبدو ضحالة مستوى بعض ما ينتجه القائمون على تدريس النقد في الجامعة مثيراً، وربما فاضحا لسوء التكوين وتخلف المنهج وضعف الحساسية المطلوبة، ولكن هذا الأمر- وأعني وجود عناصر ضعيفة- ليس مما تختص به الجامعة، وليس مما أصيب به النقد الأدبي وحده، وفي مقابل”الأستاذ ” الضعيف أو المستضعف أستاذ آخر استحق لقبه بجدارة.

     فيما نرى،فإن عنصر الغياب الأشد تأثيرا سلبيا- هو غياب التصور الكلي للنشاط النقدي(العلمي) في الجامعة، كما في الجامعات. إن القاعدة المسلمة أنه لا يجوز اختراع ما سبق اختراعه، ومحاولة البحث العلمي  في جامعاتنا لتجنب هذا تثير الإشفاق حقا، وهي سلبية تماما، لأنها تقف عند حد مطالبة الباحث الراغب في تسجيل موضوع للدراسة العالية أن يحصل على “براءة” من الكليات المناظرة بأن هذا الموضوع- بنصه- لم يسبق تسجيله بدفاترها، وهذه “البراءة” هي إشارة البدء التي لا تخطئ. وهنا تبدو أخطاء إجرائية وعلمية معوقة ومفسدة لروح المغامرة البحثية وضرورة المراجعة والتطلع إلى التجديد، ففضلا عن أن شهرا أو أطول يضيع على الباحث في النقد- وهو الذي يشغلنا الآن- في ملاحقة كليات الآداب ودار العلوم على طول مصر وعرضها(10)، لتقديم الدليل على أن موضوعه المقترح لم تسبق دراسته،فإنه- وحتى الآن(نهاية عام 2007) لم يتمكن، أو لم يفكر المجلس الأعلى للجامعات في القيام بهذا الجهد التجميعي وإيداعه في جميع مراكز البحث العلمي(الدراسات العليا) ليكون جاهزا للمشورة في أي وقت. على أن القصور(الشنيع) يبدو في التمسك بمطابقة العنوان مطابقة حرفية، من ثم يمكن بتحريف محدود إعادة كتابة ما سبقت كتابته وبهذا يصبح الحرام حلالا، والباطل حق مكتسب، فبحث  بعنوان: الفتوة في شعر أبي فراس الحمداني- يختلف عن آخر بعنوان: البطولة، أو وصف المعارك الحربية في شعر..، ولكن هل يعد هذا الاختلاف جوهريا صادرا عن كشف وإضافة، أم أنها “مماحكة” تهدف إلى تحصيل الدرجة العلمية من أقرب سبيل وبغير جهد(بحثي) حقيقي؟ ومثل هذا يمكن أن يحدث في موضوعات حاضرة(غير تاريخية)، فالمسرح الذهني عند توفيق الحكيم-إلى أية درجة يختلف عن: توظيف الأسطورة في مسرح الحكيم؟ وكذلك الأمر في الريف في القصة المصرية وهل يختلف عن: صورة الفلاح في الرواية المصرية؟ إن هذا المثل الأخير- عن الفلاح- وهو عادة صاحب أمثال- يفتح مساحة لإعادة الفهم(11)،لقد أجيز تسجيل الموضوعين: الأول في جامعة القاهرة، والآخر في جامعة عين شمس، وطرفا الموضوع حاضران، وهذا يغري باقتراب من نقد النقد، وهو عادة أشد من النقد ذاته.إن التقارب في العنوان بين الدراستين كان يستلزم أن يطلع الآخر على ما كتب سابقه، وهذا من أصول المنهج حتى وإن رفضه جملة وتفصيلا، أو تجاوزه، ولكن المعنى(الإيجابي) فيما ذكرته أن دراسة الدكتور مصطفى الضبع عن الفلاح تحمل من سمات التجديد المنهجي وتنظيم المعلومات، وفتح آفاق أخرى(محتملة) للبحث، لم تكن متاحة لجيلي، أولى بصفة شخصية، وهذا يعني أن اعتماد التطابق أو التقارب الشديد في العناوين فيه كفاية للاعتراض، يعد عملا غير منصف، وغير علمي، وينطلق من تصور خاطئ، بل شديد الخطأ، وهو أن كل عنوان يفي بالغرض منه في دفعة واحدة، وأن الموضوع نفسه لا يحتمل اختلاف المنهج وتجديد الرؤية وإعادة الكشف ومناقشة جوانب القصور. إن عقلية “الأرشيف” الجامدة لا يصح أن تكون صاحبة الكلمة الفاصلة، وينبغي إخضاع البحوث المقدمة إلى أقسام الدراسات العليا للفحص من ناحية المنهج، فيكون للمنهج القول الفصل في القبول أو الرفض.

    العنصر الثاني الغائب، الذي لا يقل أهمية عن سابقه، هو”أسلوب البحث الجماعي”. وينبغي أن نوضح هنا ثلاثة أمور: أن غياب أسلوب البحث الجماعي في مؤسساتنا العلمية(وهنا نخص الجامعة). مترتب على غياب التخطيط من الأصل، فحيث لا خطة مرسومة، ولا خطوات متراتبة تنظم الأداء، ولا أهداف محددة يتجه العمل إلى إنجازها، لا يبقى إلا أن يعمل كل فرد(باحث) في حدود ما يستطيع أو ما يؤذن له بعمله. هذا أول،أما الأمر الثاني فهو أن جماعية العمل ليست اختيارا أو ترفا، إنها أسلوب حضارة التقدم وكلمة السر في إنجاز المشروعات الكبرى، وليس لها من بديل، قديما كانت “السخرة” تتولى هذا المستوى من الإنجاز، مثل سور الصين، أو الأهرام، مثلا، أما وقد ألغيت السخرة فليس للعمل الجمعي من بديل، ولن يتحقق هذا بغير التخطيط، المعلن، المتفق عليه، الذي يمثل مصلحة عليا للأمة، ولا نريد أن نستبق فقرة آتية في نهاية هذه الورقة، فإننا- إلى اليوم- لا نملك نظرية في النقد الأدبي، والذي أطمئن إليه أن هذا يرجع إلى غياب التخطيط وأسلوب العمل الجماعي، وحضور رغبة الأستئثار الفردية، وهي رغبة يمكنها أن تبني، ولكن يمكنها أن تهدم بنفس القوة . أما التوضيح الثالث فهو أن العمل الجماعي ليس هو:”التأليف المشترك”، قد يشترك مؤلفان أو أكثر في تأليف كتاب أو ترجمة موسوعة، وهذا شيء مفيد ولا يخلو من دلالة فكرية ونفسية، ولكنه يختلف عن البحث الجماعي، لأن هذا الأخير يصدر عن تصور استراتيجي بعيد الرؤية أو شامل في حين يصدر المؤلف المشترك بين عدة أشخاص عن رغبة في تحقيق هدف قريب(غالبا أو عادة).

     لا نستغرب المطالبة باستراتيجية ثقافية، يكون أحد محاورها الإنتاج النقدي، فلو أن هذا المعنى كان حاضرا في التخطيط البحثي لما كنا، إلى الآن، وبعد مرور قرنين كاملين من التواصل مع الآداب العالمية واتجاهات ومدارس النقد الغربي، لا نزال نرمي بأنظارنا عبر البحر أو عبر المحيط لنتنسم الرياح القادمة من الشمال(12)، بل إن درجة من التراجع- وليس التقدم في طريق البحث عن نظرية خاصة- قد لصقت بنا إذ اتجهنا إلى مترجمي المغرب وتونس، ورحنا ننقل عنهم تعريبهم للمصطلحات والمناهج الفرنسية التي سبقونا إليها، وما هذا إلا لأننا تكاسلنا في مجال البحث الجماعي الذي لا ينهض إلا على تبني استراتيجية وتفكير كلي، وأداء تكاملي، هو وحده القادر على استيعاب جوانب التجربة الغربية الفنية، ومنجزات التراث العربي في أزمنته الناهضة، واستشراف مطالب المرحلة(العربية) الراهنة وتطلعاتها المستقبلة، واستخراج خصوصيات تكويناتها الحضارية التاريخية في مختلف أقاليمها، ومن ثم التوصل إلى مجموعة المبادئ الجمالية والإنسانية والحضارية التي تؤدي واجب الذوق(العربي) وتشبع أهداف وجوده، وتسمو- جماليا- بإدراكه ووعيه الإنساني.

    العنصر الثالث الغائب- وهو بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير- هو أن لجان الترقية في الجامعات المصرية تستبعد من بين الأبحاث التي تؤهل عضو هيئة التدريس للترقية إلى الدرجة العلمية الأعلى(أستاذ مساعد- أو أستاذ): تحقيق النصوص التراثية، والترجمة عن اللغات الأجنبية،والتأليف في شكل كتاب. والذي أعاين نتائجه القريبة، وأتوقع سلبياته على المدى القريب أيضا، أن هذا الاستبعاد قد أفقد الدراسات النقدية- بصفة خاصة- جانبا من توازنها، والقدرة على تجديد مناهجها. إننا لا ننكر على الإطلاق أن سعي بعض الباحثين إلى تحقيق المخطوطات التراثية قد تحول إلى المظهر والإدعاء، وأنه ليس لكل مخطوط قديم من القيمة ما يستحق به أن يكون موضوعا للتحقيق والدراسة وإنفاق السنوات والجهد في تدقيق نصه وتقديمه في صورة طباعية حديثة. ولكن معالجة هذا السلوك السلبي لا يكون بإغلاق الباب أمام تحقيق المخطوطات؛ لأن التهوين من قيمتها- من حيث هي جهد علمي- وعدم إدراجها في بحوث الترقية، قام على افتراض خاطئ أو افتراضات قاصرة: أن “التحقيق” ليس جهدا ابتكاريا ينم على الأصالة، وأن عيون التراث قد حققت وانتهى أمرها، وأن الاستمرار فهي التحقيق لنص قديم يصرف عن العناية بالحديث والمستقبل. وكل هذا مردود، ولم يعمل به في غير الجامعات المصرية، ويمكن أن نلاحظ حركة التحقيق للتراث في العراق، ولبنان ، ونرى كيف نشط فن تحقيق النصوص وأخذ مكانا رحيبا في الدراسات العربية كان المحققون المصريون الأكاديميون وغير الأكاديميين من رواده ومؤسسيه. وقد ألحقت “الترجمة” بالتحقيق، بذات التهمة، وكأن هذا  التضييق على الترجمة ينطوي على دعوة للتظاهر(ولا أقول الغش والتدليس) فبدلا من أن يرتبط المترجم بنص وجد فيه فائدة أو جمالا، ويعد نفسه مسؤولا عن تقديمه إلى القراء المتخصصين في صيغة أمينة مدققة، فإنه (قد) يلجأ إضافة بعض العبارات، ويتخلل سياقه ببعض الاقتباسات، ويختمه بما يدعوه: خلاصة أو توصيات، تتحول بها “الترجمة” النصية المرفوضة في الترقية، إلى بحث مبتكر يؤهل صاحبه للترقي! ليست الصورة المتحققة بهذه القتامة بالطبع، وهناك “شرفاء” يعملون لما يمثل العمل من كرامة وجدارة، ولكن الوجه الآخر يحدث أيضا، والخلاصة أن استبعاد بحوث الترجمة من استحقاق الترقية لم يكن مفيدا بالنسبة للترجمة في ذاتها، ولا للحركة البحثية. لقد غاب عن المستبعدين للترجمة أن أثرها(العلمي) يتغذى عليه باحثون في مجال التخصص قد لا يجيدون- أو لا يعرفون بالمرة- اللغة الأجنبية التي كتب بها الأصل الأجنبي. ولماذا لا نتذكر(ولا نريد أن نعترف) بأن عددا من نقادنا(الكبار) الأكاديميين وغير الأكاديميين، حتى وإن قرأ الانجليزية لم يعرف الفرنسية، ولم ير كتابا بالروسية، أو الإسبانية، أو اللاتينية، ومع هذا تأثر في فكره النقدي بمبادئ وأفكار استنبتت في نقد وإبداع تلك اللغات!! فمن المستفيد من إغلاق هذه الروافد المهمة المنشطة التي لا يجوز إغفال أثرها الإيجابي على الأستاذ الجامعي، وعلى الآلاف من تلاميذه المتتابعين عبر الأعوام؟

    أما تراجع مكانة “الكتاب” وجدارته في الترقية، لصالح المقال- البحث المركز(المختصر) الذي تنشره مجلة محكمة، فإن مستند تفضيله أنه لا يحتمل الثرثرة ولا التوسع دون فائدة وأنه ينهض على قضية مستفزة أو مقترحة، في حين يحتمل الكتاب الثرثرة، كما يتسع للاستطراد وتعدد الموضوعات. وردنا على استبعاد  التحقيق والترجمة يصلح هنا أيضا، بل يضاف إليه- إيجابا- أن “الكتاب” يتطلب خطة تتشعب عن مركز أو أصل، لتنتهي إليه، وهذا المستوى من النظر المستوعب لا يتاح بلوغه في ترتيب البحث المختصر مهما كانت كثافته(13)، فعلى افتراض أن البحث المقالي يمثل العمق، فإن البحث في صيغة كتاب يمثل المدى، والاتساع، وكلا المطلبين من السمات الأساسية للمفكر الأكاديمي، وبخاصة في مجال العلوم الإنسانية، ومنها النقد الأدبي.

    هذه أهم جوانب الغياب(السلبية) في مجال بحوث الترقية، وهي لا تشمل جميع مستويات الغياب التي لا يختص بها النقد الأدبي، مثل حرية البحث، وحق الاختلاف، وكسر النمط التدريسي القائم على الإلقاء، بإيثار الحوار،واستخدام الوسائل(الوسيطة) الحديثة، كالسينما، والانترنت، وتداول المعلومات بين الطلاب، والبحث(الطلابي) الجماعي. وهذه الأمور- رسميا وعلميا- غير ممنوعة، ولكنها غير ميسرة، كما أنها تعرض الأستاذ الذي يمارسها إلى كثير من الاحتمالات.

 4 – انفـــــرادات 

     لم نرد أن “نعادل” أو أن “نرد” على الغياب السلبي، بالانفرادات الإيجابية التي قدمتها وتقدمها الجامعات في مجال النقد الأدبي، ويعجز عنها، أو يقصر فيها الجهد الخاص غالبا، لأسباب موضوعية سنذكرها، بقدر ما نريد أن ننتقل من الظل إلى الضوء لنحيط بجانبي الصورة فيبدو المشهد أقرب إلى الاكتمال قدر المستطاع، وموقفنا- على آية حال- وصفي يعّرف ولا يقوّم أو يصدر أحكاما، فإذا حمل الوصف ما يمكن أن يعد انحيازا فإن هذا من أثر قوة التواصل ووهج الحضور، ويمكن تقبله في هذه الحدود.

    وإنني لأرى أن أقوى ما ينفرد به النتاج النقدي الجامعي هو أنه صادر عن الجامعة نفسها، فالجانب المؤسسي هنا غير قابل للتكرار أو المنافسة، وذلك في مصدره، كما في مآله؛ فالأستاذ- وبخاصة إذا كان يملك خصوصية وتفوقا في تكوينه العلمي وأسلوب أدائه- يهيمن على مفاهيم طلابه بما لا يمكن لوسيلة أخرى أو موقع آخر أن ينافسه. يمكن لناقد شهير في مؤسسة صحفية، أو في أجهزة الثقافة، أن يملك القدرة ذاتها(في ذاته) ولكنه لن يملك الهيبة والهيمنة(الروحية والعقلية) التي يملكها الأستاذ بوجوده في المؤسسة وانتسابه إليها، ولقاء طلابه(مريديه) في رحابها. يضاف إلى هذا أنه بهذا الانتساب نفسه يتمكن من بناء ما يمكن عده “وحدة” في إطار المؤسسة تتبنى أسلوبه وتدافع عن أفكاره، ولنتذكر الآن: طه حسين، وأمين الخولي، ورشاد رشدي، ومحمد مندور، ولويس عوض، وشكري عياد، وعبد القادر القط، لا نريد أن نقول إنهم كونوا مدارس فكرية، ولكنهم- في الحد الأدنى- تمايزوا فيما بينهم، وكان لكل منهم من يؤثرون الالتفاف حولهم، وتبني مقولاتهم، ولعل هذا لم يتحقق لغيرهم- خارج الجامعة- باستثناء العقاد الذي جعل من صالونه الأسبوعي ما يشبه المؤسسة. إن هذه التكوينات المحدودة ذات كيان روحي هو ما يطلق عليه”الشمائل الجامعية” وفيها يتشرب المريد قيم أستاذه ويحتفظ بما يلائمه من أفكاره ومبادئه، أو منهجه إذا كان من دعاة المناهج، وهذا بدوره يعمل على الاحتفاظ بالذاكرة النقدية في حالة حضور واستعداد للبناء على  السابق الذي استوعبته في ممارساتها إبان التلقي الأول. إننا نستطيع أن نميز مريدي ذلك الرعيل بإنتاجهم النقدي، كما أنهم ينقلون خبراتهم إلى مريديهم مشفوعة بأقوال معلميهم، وهذا ما لا نجده بهذه الدرجة من الوضوح والتحدد لدى أصحاب القامات المشهود لها، ولكنها كانت منفردة بذاتها بعيدا عن المؤسسة الجامعية، من مثل العقاد ويحيى حقي، مما يؤكد أن “المؤسسة” هي الإطار المقنع الذي يضفي النظام والاستمرار على الظاهرة النقدية.    

    ويمكن أن ننظر إلى علم “الأدب المقارن” على أنه أحد انفرادات النتاج النقدي الجامعي، إن بداية هذا العلم كانت خارج الجامعة، إذ لم يكن قسطاكي الحمصي(1858- 1941) صاحب كتاب “منهج الوراد في علم الانتقاد” منتسبا إلى مهنة التدريس في أي من مستوياته، وإنما كان تاجرا جمع ثروة واسعة تجول بفضلها في أنحاء أوربا، فأجاد الفرنسية، وألف خير كتبه وهو هذا الكتاب الذي عرف فيه بالمنهج المقارن، وأجرى دراسة حول الكوميديا الإلهية للشاعر الإيطالي دانتي اليجيري- وليس من المتوقع في هذه المحاولة المبكرة الفريدة، أو المنعزلة، أن تكون أجريت على أساس منهجي يدرك مطالب الدراسة المقارنة ويلتزم باصطلاحاتها(14). لدينا إضافة أخرى في هذا السياق وإن كانت مسبوقة بجهود الجامعيين الأوائل، يمثلها فخري أبو السعود(1909- 1940) الذي أجرى عددا غير قليل من الدراسات المقارنة بين الأدبين العربي والانجليزي نشرتها مقالات مجلة “الرسالة” بين عامي 1934 و 1937 (15)- مع هذه البواكير واضحة التأثير في توجيه الاهتمام العلمي إلى أحد فروع الدراسة النقدية المهمة(وهو الأدب المقارن) وتفوق هذه البواكير على دراسات أجراها الأكاديميون الأوائل في ذات الفترة(مثل دراسات الدكتور أحمد ضيف والدكتور عبد الرازق حميدة) فإن هذا العلم لم يستكمل أدواته المنهجية، ولم يأخذ امتداداته الموضوعية، ولم يلبس شارته العربية الإسلامية إلا حين اتجهت إليه جهود أساتذة الجامعة، وهذا أمر متوقع، ليس من باب المغالاة أو جاهزية الأفكار، وإنما لأن هذا العلم(الأدب المقارن) يحتاج التخصص فيه إلى إعداد علمي طويل وجاد، في بلاد أجنبية، لا يحتمل نفقتها، ولا يتمسك بدواعيها غير من تتولى الدولة الإنفاق عليه وتتولى جامعته توجيهه العلمي. لعلها ليست مصادفة أن ما كتبه قسطاكي الحمصي في مجال المقارنة لم يتجاوز فصلا، وما كتبه فخري أبو السعود، بعد إقامة عامين في انجلترا، جاء في شكل مقالات قصيرة، بلغت حجم كتاب متوسط، متعدد الموضوعات والمحاور، في حين تولى أساتذة الجامعات المشتغلين بالأدب المقارن تأصيل المنهج(النظري)، والاجتهاد في نقده وتطويع مفاهيمه ومبادئه، وتنويع موضوعاته. لقد قدمت كلية دار العلوم(جامعة القاهرة) وحدها- عددا من أساتذة هذا العلم المشهود لهم، في مقدمتهم: محمد غنيمي هلال(16)، وعبد الحكيم حسان(17)، والطاهر أحمد مكي(18). إن أسماء غير قليلة تسبق هؤلاء الثلاثة أو تأتي بعدهم، لها الأثر القوي في تأصيل المنهج وتوسيع أفق الدراسة النقدية، مثل عبد الرحمن بدوي(الديوان الشرقي للمؤلف الغربي) وإبراهيم سلامة(تيارات أدبية بين الشرق والغرب) ومحمود مكي(أثر العرب والإسلام في النهضة الأوربية) وصلاح فضل(تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي- ملحمة المغازي الموريسكية: دراسة في الأدب الشعبي المقارن). إن الظاهرة ممتدة عبر حامد أبو أحمد وجهده في التعريف بأدب أمريكا اللاتينية، ومحمد جلاء إدريس واهتمامه بالمقارنات في إطار اللغات السامية، وأمل إبراهيم وعملها في مجال التأثير العربي في شعراء الفرس: سعدي خاصته- وأحمد عتمان وجهده الدؤوب في مجال الكلاسيكيات . .

     إننا لم نقصد أن نعرف بالجهود، ولا أن نرتب المنازل، ولا أن نكاثر بالعدد، وهناك غير هؤلاء من يماثلهم أو يتقدم بعضهم مثل لويس عوض، ومجيب المصري، ورمسيس عوض، ورشاد رشدي، وفيما قدمنا الدليل على أن هذا الرافد النقدي الشديد الأهمية ماضيا وحاضرا ومستقبلا، هو نتاج جامعي خالص، للأسباب التي قدمنا..

    هناك انفراد ثالث لا يقل أهمية، ويتجلى في المساحة الواسعة(الموضوعية) المتاحة لإجراء الدراسات النقدية. بعبارة أخرى: إن مجال الاختيار للباحث خارج المؤسسة- عادة- يكون نتيجة لأحد مؤثرين: إما الصلة الشخصية المباشرة التي تمت تحت ظرف خاص، مثل من يكتب عن شعراء السودان، أو القصة المغربية، لأنه كان يعمل هناك وقتا محدودا أراد أن يستثمره، أو أن موضوع الدراسة كان يمثل- وقت إجرائه- حالة استثنائية من الرواج لدى الجمهور القارئ، وقد رأينا مثلا للأول فيما كتب يوسف الشاروني عن القصة في عمان، ومثلا للآخر فيما كتب بعض نقاد الخمسينيات عن الأدب الوجودي، ونقاد الستينيات عن يونسكو وأدب العبث. ليس معنى هذا أن البحوث الأكاديمية بمعزل عن هذين المؤثرين، ولكنها لا تضعهما في مقدمة مغريات البحث أو مرشحاته، بل ربما كان الأمر على العكس- دون أن يعد هذا اتهاما جاهزا بالعزلة عن الحياة، والغرام بالنبش في الحفائر. ليس هذا صحيحا، فالابتعاد عن الموضوعات المثارة هو ابتعاد عن الإثارة ذاتها، التي تفسد الموضوعية وتسطح الرأى وتطرح تصورات ناقصة؛ لأن الظاهرة موضع البحث لا تزال تزيد في الرؤية وتنقص بفعل ما يتكشف منها، وما يقال عنها. إن موضوعا نقديا مثل: شعراء الستينيات، وشعراء السبعينيات، وقصيدة النثر، وما إلى ذلك من موضوعات لا تزال جذورها تحتاج إلى جهد الكشف،وثمراتها تحتاج إلى احتواء المشهد عن بعد.. مثل هذه الموضوعات شديدة الإغراء خارج المؤسسات الأكاديمية، ويمكن أن يقبل عليها الباحث- من خارج المؤسسة، بفعل الرواج المتوقع بعدها قضايا مثارة ولا تزال ذات علائق حية، ولقد تسلل بعض منها، أو كلها، ومثلها كثير إلى الدارسين في المؤسسة الجامعية، ولكنهم- غالبا- ليسوا ممن يتم إعدادهم لتحمل أعباء التدريس. لنتأمل هذه العناوين(المفترضة)، وقد تكون عناوين لكتب أو بحوث بالفعل: الأدب البويهي- الأدب العربي في صقلية- أدب الحركة القرمطية- أدب الثورة العرابية- أدب الحروب الصليبية. هذه خمسة موضوعات، وفيما نرجح فإن الموضوعين الأولين أقل حظا في الاختيار، إن لم يحدث رفض لإجرائهما من الناقد غير الأكاديمي، ذلك لأنه يجري بحثه وعينه على ما في الموضوع من إثارة، وما يمكن أن يحقق من رواج مادي ودعائي، من ثم سيتحمس لواحد من الثلاثة الأخيرة مستجيبا- بالإضافة لعاملي الإثارة والرواج- لنزعته الخاصة، وتكوينه الثقافي والمعرفي. إننا نعطي هذا الفرق في الاختيار انفرادية تناسب أهميته في خدمة الأدب في عصوره، وصوره، وتجلياته، وأهدافه.. بصرف النظر- تماما- عن الإثارة، وعن الرواج.. فلن يكون من الصواب أن نترك للإثارة، أو للرواج المادي أو الأدبي أو الدعائي أن يرسما لنا حدود المعرفة الأدبية أو معالم الوعي النقدي بآداب العصور. وإن هذا كما يحدث عبر الزمان فإنه يتحرك مجتازا حدود الوطن ليتعقب الإبداعات باللغة أينما كانت، وهكذا سنجد بين الرسائل الجامعية ما يختص بالثقافة العربية في نيجيريا، وبالشعر المعبر عن الحركة السنوسية(في ليبيا) والحركة المهدية(في السودان). وكما يحدث الاختراق في الزمان، والمكان، فإنه يحدث في الموضوع أيضا، كأن نجد مثل هذه العناوين: الاتجاهات الأدبية في تفسير السخاوي- الأثر القرآني في الصورة الأدبية- الأساطير العربية قبل الإسلام. فإذا تأملنا- وهذا مجرد مثال- ما ألف عن موضوع القصة في القرآن الكريم، في إطار البحث الأكاديمي، وفي المستوى الثقافي العام، سنجد فروقا في المنهج، واختلافا في النتائج يجعل من كل من الطريقين عالما قائما بذاته، وكأنهما في موضوعين مختلفين كل الاختلاف(19)!!

    يبقى أخيرا أن نقول إن أحد الانفرادات المهمة، التي تعود بنا إلى ما أشرنا إليه في صدر هذه الفقرة عن هيمنة المؤسسة وأهمية التراتب والنظام في اتخاذ السياسات العلمية(ولو نسبيا) أنها تبقى الأقدر على تصحيح مسيرتها من خلال القدر المتاح من حرية البحث العلمي، وأنها الأقدر على اقتحام الموضوعات المستحدثة برؤية موضوعية وتعامل في حدود المصطلح. ولأننا بصدد الإنتاج النقدي فإن اختيارنا سيكون في هذا الفرع من الدراسات العربية، ولأن وصف “الأكاديمية” ينظر إليه- في كثير من المواقف والسياقات- على أنه وصف سلبي يدل على التقليدية وربما الجمود ومخاصمة التطور، فإننا نختار من الرسائل التي أعدت في الجامعة هذه العناوين:

–         التمثيلية الإذاعية في أدبنا الحديث- أعدها طه مقلد، وأشرف عليها عبد الحميد يونس(1967).

–         التمثيلية التلفزيونية في جمهورية مصر العربية- أعدها محمد أمين توفيق، وأشرف عليها مصطفي الشكعة(1971).

    وفي مجال الحكايات الشعبية كتب عبد الحميد يونس عنها في اللاذقية(1970)وكتبت نبيلة إبراهيم عنها في فلسطين(1972) ولطفي عبد البديع في الأردن(1974) وأحمد مرسي في مركز العياط(1988) وأشرف محمد مصطفى هدارة على دراسة بعنوان: “الفنون الأدبية وتوظيفها إذاعيا” عام(1996)- ونحن نعرف أن هؤلاء الأساتذة الأعلام، كان أكثر عملهم في التراث العربي، بخاصة لطفي عبد البديع ومصطفى الشكعة، وهدارة، ومع هذا تقبلت عقلياتهم المتفتحة، ووعيهم المنهجي، ما دلت عليه الرؤية العلمية الموضوعية من تطور أساليب الأدب، وأشكاله، وصوره، ووسائل إبلاغه.   

    

  

فكان تقبلهم لهذه الدراسات

5- المشروعات النقدية

    باستثناء عباس محمود العقاد، قد يصعب أن نعثر على كاتب(ناقد) خارج المؤسسة الجامعية يبني تصورا شاملا يدأب على إنجاز مراحله في منظومة متسقة متكافئة ومتكاملة. لقد كتب العقاد مجموعة “العبقريات”(20) وهي تنتمي إلى فن السيرة، أو الترجمة، وإن لم تخل من حس الناقد وبصيرته. أما في مجال الدراسة الأدبية فقد سبق أحمد أمين بأن أصدر سلسلته في دراسة الحضارة الإسلامية، وكانت المصادر الأدبية ودواوين الشعر والوثائق الفكرية من أهم ما اعتمدت عليه تحليلاته، فكتب: فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام، في تتابع منهجي وتاريخي، ولكن الجهد البارز في هذا المضمار صنعه شوقي ضيف الذي صنع موسوعة كاملة خاصة بالأدب والأدباء(الشعر والشعراء خاصة) في متتابعة: العصر الجاهلي- العصر الإسلامي- العصر العباسي الأول- العصر العباسي الثاني- عصر الدول والامارات(ثلاثة أجزاء عن الجزيرة العربية والعراق وإيران- ثم عن مصر والشام- ثم عن الأندلس)- وهو بمثابة العصر العباسي الثالث. أما كتابته خارج السياق الزمني فقد أخذت اتجاهين: القضايا والفنون، والشخصيات، فكتب عن: الفن ومذاهبه في الشعر العربي- الفن ومذاهبه في النثر العربي- التطور والتجديد في الشعر الأموي- الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية البطولة في الشعر وطوابعه الشعبية على مر العصور، وابن زيدون، وبالنسبة للعصر الحديث كتب عن أحمد شوقي، والبارودي، كما كتب في النقد التطبيقي: فصول في الشعر ونقده- دراسات في الشعر العربي المعاصر- الأدب العربي المعاصر في مصر، الفكاهة في مصر- وعن النظرية والمنهج في الأدب والنقد: البحث الأدبي- في النقد الأدبي، كما وضع تعريفا وتوصيفا لعدد من الفنون الأدبية: فن الرثاء- المقامة- الرحلات- الترجمة الشخصية.

    قد ينظر بعض المبدعين وحتى قطاع من الدارسين إلى جهود الدكتور شوقي ضيف من خلال منظور ضيق، أو- في أحسن الاحتمالات- عملي، إذ كان شوقي ضيف ضنيناً بوقته، شديد التمسك بالنظام في إنجازه وأدائه العلمي، لا يرفض حضور الندوات والمؤتمرات ولكنها لا تستهويه ولا تخرجه عن خطته، ويمكن أن يقال أيضا إن المادة التاريخية(الساكنة) تبعث الطمأنينة في نفسه وتغريه بالإقدام على بناء تصورات جديدة حولها أكثر مما تغريه المادة الحية المتداولة بين الناس، إن محتوى كتاب: “دراسات في الشعر العربي المعاصر”- وقد صدرت طبعته الأولى عام 1953- لم يتطرق إلى قضية أدبية حاضرة، بمعنى أنها تشغل الناس، أو المجتمع الأدبي- حين صدور الكتاب(21). أما كتابه الآخر:”فصول في الشعر ونقده”- وقد صدرت طبعته الأولى عام 1971- فقد تضمن ثلاثة موضوعات تقترب من شواغل النقد المتزامن لتأليف الكتاب، ففي”موسيقى شعرنا العربي”(22)تطرق إلى تطور الموسيقى في الشعر الحديث، والشعر المرسل، والشعر المنثور، والشعر الحر. وفي”تطور الشعر العربي الحديث”(23) لمس جوانب من فن الشعر عند المشار إليهم سابقا أو أكثرهم، مضافا إليهم إبراهيم ناجي، ومتوقفا في فقرة ختامية قصيرة عند”الشعر الحر الجديد”. وقد فصل في موسيقى الشعر في موضوع اتخذ عنوانا:”نواقص الإيقاع في الشعر الحر”، ودون أن ندخل في تفصيل هذا الموضوع- كما طرحه ضيف- فإن الصفحات المتاحة له لا تتسع لطروحاته المهمة، وقد يكفي- في جانب من دلالة هذه الدراسة- أنها تكشف عن الأساس”الأيديولوجي” الذي ينطلق منه شوقي ضيف ويشكل مادة دراساته كما يحدد مسارها ونتائجها، هذا الأساس خلاصته أن أي تطور حادث، أو سيحدث- هو بالضرورة، أو ينبغي أن يكون- مرتكزا بقاعدته على أطوار سابقة، محكومة بمنطق ومستجيبة للوفاء بحاجات، ويجب ألا نطلق لها عنان الجموح لتخل بالنسق أو تنشر الفوضى في النظام. لقد عقد الدكتور ضيف فصلا أو موضوعا تحت عنوان:”حاضر الشعر العربي متصل بماضيه”(24)، ونحسب أنه لم يكن يقرر حقيقة بقدر ما كان يصدر عن رؤية تتلمس أوجه التواصل وتقولب مراحل وتلم شعت شطحات، وأنه بهذا كان يعبر عن رؤيته المنظمة- في صرامة واضحة- للظاهرات الأدبية عبر العصور. إننا قد نختلف مع الدكتور شوقي ضيف في بعض آرائه ومقولاته، بل قد نختلف حول”جدوى” المسيرة التي اتخذتها بحوثه الأدبية النقدية عبر خمسين عاما من الكتابة، ولكننا لن نختلف في أنه صنع بناء موسوعيا مستغنيا بنفسه لمن يرغب في امتلاك تصور موضوعي تحكمه الأسباب والنتائج التي تؤدي إلى أسباب فنتائج، تمتد من عمق العصر الجاهلي، وتتفرع بامتداد الإبداع العربي حتى في إيران والأندلس، وتشق مسارها حتى تصل إلى عصر شوقي ضيف. إن تقصي الأسباب، وترتيب الآثار، وتحديد النتائج، والقدرة على الاستيعاب، مع اتساع المصادر وشمولها وأمانة التعامل معها.. كان وراء هذا البناء الموسوعي الشامخ الذي صنعه شوقي ضيف بمفرده، أو لنقل بإرادة من حديد وتصميم وتضحية يستحقان التقدير العظيم، وتتقاصر عنهما كلمة”الإعجاب” وما يجري مجراها من إحسان الظن(25). فإذا أضفنا إلى هذا ما بذل من جهد في تحقيق عدد من المخطوطات في الأدب، وفي التفسير، وما اجتهد به في مجال تيسير النحو ومحاولة “بعث” آراء ابن مضاء القرطبي، وعشرات الرسائل الجامعية التي أشرف عليها إشرافا علميا، أو ناقشتها.. سنرى كيف يمكن لمثقف واحد أن يكون حاضرا في أكثر ما يبحث عنه طلاب العلم في مجالات الأدب والنقد والتراث والنحو والبلاغة والتفسير.. إلخ بفضل قدرته على تنظيم المعلومات والدأب على العمل.

6- حـــوار الروافـــد

     ونعني بهذا العنوان ما يلاحظ في السلوك العملي الجامعي أنه حين يسبق واحد

 من أعضاء الجامعة إلى قضية أو تصوير ظاهرة فإن كتابه هذا يعد وثيقة تسجل موقفا ورأيا،ولكنها لا تفرضه على زملاء المؤسسة كقول أخير في الموضوع، من ثم يحق لكل من لا يقر هذا القول أن يعارضه بكتاب آخر، مصرحا باسم سابقه وداحضا مقولاته، أو معلنا افكاره الخاصة(المختلفة أو المناقضة) دون أن يقابل بين الآراء ويحدد أوجه الاختلاف. لقد أصبح هذا من أدبيات الأداء الجامعي لا يثير ضيقا ولا يورث ضغينه، وهذا من شأنه أن يثرى الموضوع ويغني مناهج البحث ويفتح سبلا مختلفة أمام باحثين في أزمنة تأتي. حين ألف طه حسين كتابه المهم “في الشعر الجاهلي” تصدت له أقلام، ودافعت عنه أقلام أخرى. كان الفريقان في ذاك الوقت المبكر(1927) من خارج الجامعة، وكان الهجوم الذي قاده مصطفى صادق الرافعي يحاول أن يبدو علميا يعتمد على أسانيد من التراث، أما الدفاع عن رأي طه حسين فنادرا ما اتكأ على بسط المصادر ومناقشة الحجج، لقد كان في الأعم الأغلب دفاعا عن حرية الرأي وحق الاجتهاد. وقد اختلف الأمر فيما بعد حين تعددت روافد المؤسسة وأصبحت الجامعات في غير موقع من البلاد. فحين ألف الدكتور شوقي ضيف كتابه:”التطور والتجديد في الشعر الأموي”-1952- ثم ألف كتابه الآخر في سياق موسوعة تاريخ الأدب العربي بعنوان”العصر الإسلامي”- ومن بعده ألف كتاب:”الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية”- كان من الواضح- ظاهريا- أنه استكمل منظومة بحثية عن العصر الأموي، ومع هذا فإنه يمكن إحصاء عدد غير قليل من المؤلفات صدرت عن زملاء أو تلاميذ شوقي ضيف في ذات المؤسسة تعارض آراءه، كما فعل الد كتور محمد عبد العزيز الكفراوي في كتابه:

 “الشعر العربي بين الجمود والتطور”(26)، وكان الكفراوي مدرسا عاد حديثا من بريطانيا، وكان شوقي ضيف أستاذا لامعا تعددت مؤلفاته،- وهو أيضا تلميذ طه حسين- ومع هذا ظهر كتاب الكفرواي، وقام بتدريسه في بعض كليات الجامعة ذاتها التي يدرس بها ضيف دون أن يخدش هذا مبدأ الأستاذية أو حق الاختلاف العلمي. ولقد ترادفت مؤلفات- من داخل المؤسسة، وإن تكن من عدة جامعات- عن الموضوع أو العصر(الأموي) أو تجتزئ من الموضوع أو العصر بما يمكن أن يعد تحفظا أو إضافة أو تنمية أو تفريعا على الجهد السابق؛ فيكتب محمد مصطفى هدارة(عام 1963): اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري، ومن قبله كتب أحمد الحوفي عن”تاريخ الشعر العربي آخر القرن الثالث الهجري”، وكتب محمد حسن عبد الله عن”صورة المرأة في الشعر الأموي” وكتب عبد القادر القط:”في الشعر الإسلامي والأموي” وكتب محمد فتوح أحمد:”الشعر الأموي”: دراسة في التقاليد والأصالة الأدبية” .   

    هذا موضوع من موضوعات لا يسهل إحصاؤها، اخترناه لوضوحه فيما بين أيدينا من مؤلفات(الآن) ولم نقصد إلى تعدد المؤلفات حول الموضوع الواحد، فهذا متيسر تجاه موضوعات كثيرة، وإنما قصدنا أن المؤسسة- في ذاتها- تملك وعيها المميز بحق الاختلاف، والتعدد، والانتقاء المنهجي الذي يسفر عن تكامل، وهو ما ليس مستقرا في خلد الناقد الذي تشغله المتابعات الراهنة وملاحقة الموضوعات النافقة عند القارئ الراهن عن إمعان النظر في تحولات الأدب وأطوار الفكر. وإن هذا المسلك هو التقوية الداعمة للكيان الثقافي، وليس في مجال النقد الأدبي وحده، فالنقد الأدبي ليس تخصصا عازلا أو معزولا، ولكنه وعي بخصوصية الأدب التي تنتجها مطالب عصر وطبائع موهبة في سياق الظاهرة الإبداعية. ويمكن أن نستعيد بعض ما سبق من القول عن”الأدب المقارن” فنجد أن بداياته المبكرة كانت بعيدة عن التحدد المنهجي، وأنها بهذا لا تفرق بين”المقارنة” و”الموازنة” ثم كان محمد غنيمي هلال، المنفذ الدقيق للمنهج الفرنسي، وكأنه بهذا الالتزام يعيد ترتيب الوعي المقارني بدءا من الأصل في مهاده، إذ بدأت طروحات المقارنات الأدبية في فرنسا(27)، ولكن هذا التأسيس المبكر لم يكن بحاجة إلى الهيمنة المنفردة(كما حدث في فرنسا) لعدة عقود، حتى يزاحمه المنهج الأمريكي والروسي، بل إن هذه الضفاف توسعت لتأخذ مداها في الامتداد المكاني، واللغوي، لتطرح قضايا المقارنات(من منظور أدب الأقطار الإسلامية)ما بين المنتج العربي، والمنتج الفارسي، والتركي، والأوردي وحتى العبري. وهذا الحوار الذي تجريه”الروافد” مع البداية المؤسسة هو أحد معطيات النتاج الجامعي، الذي يصعب أن نتلمس له نظائر خارج النسق الأكاديمي، وحتى مع امتداد الزمن.

    من الأمثلة الطريفة التي تستحق التنويه بها ترجمات كتاب”الشعر” أو “فن الشعر” لأرسطو، ولسنا بحاجة إلى تبيان أهمية هذا الكتاب الذي كان من أوائل ما نقل إلى العربية من اللسان السرياني، وكان ولا يزال له تأثيره في النظرية النقدية مهما تعددت مداخلها. لقد ترجم هذا الكتاب في النصف الثاني من القرن العشرين-(في مصر) ثلاث مرات، وهذه المرات الثلاث نهض بها أساتذة من الجامعة. أولهم الدكتور شكري عياد(28)، وقد قدم لترجمة النص الأرسطي بالتعريف بمخطوطة الكتاب وتاريخ نشره في أوربا، وبعد التعريف بأرسطو ثم بمتى بن يونس وحدود معرفته بالشعر وتعامله مع المصطلحات عقد بابا عن الفلاسفة العرب والمسلمين الذين شرحوا الكتاب واختصروه: ابن سينا، وابن رشد، ثم توقف عند البلاغيين العرب وأثر كتاب الشعر فيهم. أما الترجمة الثانية فنهض بها الدكتور عبد الرحمن بدوي(29). الذي بدأ نسخته بتصدير عام، شمل أربع فقرات(1) فن الشعر لأرسطو في النقد الأدبي الأوربي،(2) النقد الفيلولوجي وكتاب فن الشعر،(3) تحليل كتاب فن الشعر لأرسطو(4) فن الشعر لأرسطو والفلاسفة العرب- ليبدأ الدكتور بدوي ترجمته. ثم تأتي الترجمة الثالثة، قام بها الدكتور إبراهيم حمادة(30) صدر ترجمته بمدخل إلى الكتاب، وتعريف بشخص أرسطو رجلا، فمؤلفا، فناقدا، ثم يسلط الضوء على أهم ما يحتوى الكتاب وهو التنظير للدراما، وبعد ذلك تبدأ الترجمة متسلسلة تحت عناوين فرعية متتابعة. هذا الكتاب(ذاته) قد تولى ترجمته ثلاثة من الأساتذة، وربما كان في جهد أحدهم  ما يكفي، ومع هذا لم يلتقوا على هذا مع أنهم متعاصرون، وقد ترجم مرتين عن اليونانية، والثالثة عن ترجمة(وسيطة) إنجليزية وليس همنا أن نوازن بين هذه الترجمات وأيها أهدى سبيلا، وإن من يتعرض لهذا لابد أن يكون مالكا لناصية هذه اللغات على درجة عالية من الكفاءة، ولكن: هل كان إقبال المترجم الثاني، ثم الثالث على إعادة الترجمة يعني أنه غير راض عن محاولة سابقه أو سابقيه؟ لا نجزم بهذا ولا نرجحه، وقد تدل الموازنة على أن الفروق جد ضئيلة، وهنا نتذكر أن عبد الرحمن بدوي مشتغل بالفلسفة، في حين كان شكري عياد أستاذا للبلاغة والنقد، وكان إبراهيم حمادة أستاذا للدراما، ويمكن- بمراجعة فهارس الطبعات- أن نرى توجه الاهتمام في تشريح محتوى الكتاب، والتقديم له، والتعقيب عليه ينحو نحو:”التخصص” الفلسفة- البلاغة والنقد- الدراما وفن المسرح، وهذا التعدد القرائي وإن لم يخل من التداخل أو التشابه والتكرار في بعض مواضعه، قدم خدمة جليلة لا نقول للنص الأصلي وغنى احتمالاته واتساع تأويلاته، وإنما الخدمة الجليلة موجهة إلى الباحث العربي الذي يستطيع أن يجد غنيته في الكتاب، مستفيدا من مقولات أرسطو، ومن تعقيبات شراحه من القدماء، وشراحه من أساتذة الجامعة المحدثين في نفس الوقت.  

7- المسيرة تصحح نفسها

     لا تنفصل حالة الاستكمال المشار إليها سابقا عن حالة التصحيح، وهنا سيكون الموضوع ضيقا جدا لأنه عن “النقد الأدبي” مفردا عن الدراسات الأدبية، وهو ما حاولنا تجنب إجراء الفصل بين جناحيه طوال خطوات هذه الورقة، ليس لصعوبة ذلك، فهو ممكن ومتحقق، ولكن في غرف الدراسة وتشقيقات المنهج، أما من ناحية الممارسة الفعلية، ومن ناحية التلقي “الحر” فإن أحدا لا يرغب في فرض هذه القطيعة بين الدراسة الأدبية، والنقد، وقد لا يستطيعها كذلك، إلا تعنتا وإدعاء، أو يدخل هذا المدخل. إن النقد الجمالي نفسه، وهو أقرب المناهج النقدية إلى التجريد والفلسفة، لا يستغني عن استدعاء عناصر من خارجه؛ لأن مرده إلى الذوق، وهو بالضرورة مرتكز على الدلالة اللغوية، والاستخدام. لقد كان هذا واضحا عند جيلين من النقاد يمكننا أن نعود إلى كتاباتهما النقدية المبكرة في عشرينيات القرن العشرين عندما راح العقاد يوجه سهامه الجارحة إلى شوقي وشعره في كتاب “الديوان”- 1921، وإلى بزوغ نجم محمد مندور في الآربعينيات، وإلى أن تسلم الجامعيون زمام الكتابة النقدية: محمد غنيمي هلال، وعبد القادر القط، وشكري عياد، ونجيب البهبيتي، ورشاد رشدي، ومصطفى ناصف وغيرهم من هذا الرعيل الذي أمسك بميزان النقد وأقام توازنا بين جماليات الإبداع(في المطلق) وإمكانات الإبداع(في المتحقق)- وهو ما أخل به- نسبيا- الحضور الطاغي للدولة بالشعارات الاشتراكية، التي طوعت جماليات الإبداع والتوت بالمتحقق منه ليكون ظهيرا للأيديولوجية، وقد حدث هذا أولا خارج الجامعة من مثل سلامه موسى، ومن بعده محمود أمين العالم، وأحمد عباس صالح، وغيرهم، وقد تبعهم- في الجامعة- عبد المحسن طه بدر، وتلاميذه ومع إقبال السبعينيات حدث اختلاف في التوجه السياسي لمصر، ولحق به التوجه الاجتماعي، وبدأت “مترجمات” الحداثة تصل تباعا عبر المغرب وتونس نقلا عن الفرنسية،لنتعرف على رولان بارت و جاك دريدا، وفوكو، وجوليا كريستيفا، الذين أتخذوا مكان سارتر والالتزام، ولانسون والتحليل اللغوي. وهنا نقول إنه ليس في محاولة إحداث توازن أو تجاوب بين الإبداع الأدبي والواقع السياسي خطأ قاتل، إنه خطأ يمكن قبوله أو تطويعه، ولكن لا يمكن اتخاذه عقيدة ومنهجا، لأن الواقع السياسي بالضرورة، في مثل بلادنا، وما دلت عليه تجاربنا واقع متغير. إنه- في أحسن أحواله- نوع من فلسفة التبرير، نوع من الذرائعية، وهي تصلح للسياسة العملية، قصيرة المدى، ولا تصلح لبناء كيان دولي يفترض أن له استراتيجية ممتدة.إن للأدب استراتيجيته الخاصة، لا نقول المعزولة عن واقع الحياة، ولكن نقول المعزولة عن واقع السياسة الذرائعية المتغيرة، فالأدب ثمرة الحياة الاجتماعية والتجربة الخاصة والثقافة الممتدة في التاريخ، وهذه هي العناصر الأساسية التي نراها جديرة بالتفاعل الحي الذي لا يحول دون التنوع، وإن حال دون الانفلات وتهميش الواقع أو مجافاته وإنكاره إعمالا لنوازع أخرى.

    هذا تلخيص لما جرى في حقل النقد الأدبي خاصة في ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها إلى مشارف هذه الفترة التي نعيشها، ونقول- تحديدا- ما جرى في حقل النقد الأدبي، لأن هذا التحول النقدي لم يكن مترتبا ولا مواكبا لتغير في أساليب الإبداع، وهذا معناه، أو في بعض احتمالاته أن النقد الحداثي أصبح يخاطب نفسه، ويقرؤه صناعه إلا فيما ندر، في حين ظل الإبداع المصري محتفظا بسياقه، متراتبا في مراحله على سوابقه، فلو قرأنا قصص أو روايات أو أشعار أولئك المبدعين الذين امتد نتاجهم قبل سطوة موجة الحداثة النقدية، واستمروا معها لا نلحظ تغيرا يذكر يمكن إسناده لتأثرهم بنقاد هذه الموجة أو بنقدهم، قد يحدث أن يغاير كاتب كبير مثل نجيب محفوظ في أسلوبه، إذا ما وضعنا تحت الفحص رواية مثل”ثرثرة فوق النيل” مثلا في مقابل “ليالي ألف ليلة” أو “قشتمر”(31). إن فروق الصناعة- إن كان ثمة فروق- إنما حدثت بفعل نزعة التجريب ورابط المعاودة، وتأثير المرحلة الزمنية- وليس النقدية. ومثل هذا يمكن أن يقال عن شعر فاروق شوشة أو محمد إبراهيم أبو سنة، وإن اختلف الأمر- بعض الشيء- مع شاعر مثل حسن طلب، ازدهر فنه في زمن ازدهار الحداثة. لم يكن هذا هو الجانب السلبي الوحيد في حركة الحداثة حين راحت تصول وتبرق في سماء الثقافة المصرية، وهو كونها- صورة ثقافية من هيمنة العولمة وإضعاف الهوية وإقرار القطيعة مع الجذور والتراث، فهناك سلبيات أخرى مستبطنة في المنتج الحداثي بطبيعة تكوينه في موطنه الأصلي، وهي التي أزالته عن مكانه وأوسعت الطريق لما بعد الحداثة، لكن السلبية التي أساءت حقا للنقد الأدبي في مصر عامة، وطال رذاذها الجامعة، هو حالة من رغبة الانفراد، واضطهاد المناهج الأخرى، والإزراء بها، وتجهيل الجهد المبذول في نطاقها، وبذلك ناقضت الحداثة سر وجودها حين انكفأت على نفسها واستعلت على الواقع الذي أنتجها وتنكرت لديمقراطية الثقافة، وإنتقائية المنهج، وتقادح الأفكار، وتعدد الأدوار، وإيجاد منظور مشترك بين المبدع والناقد، لا يحول دون وجود ناقد آخر له منهجه الخاص، ولكنه لا يبطل مبدأ الكتابة النقدية بالحبر نفسه الذي كتب به الإبداع(32). لقد أدى هذا التصلب والانغلاق إلى سلبيات طالت البحوث الأكاديمية في مجال النقد، ففضلا عن السلبية الكبرى وهي انصراف المثقف العام عن قراءة المقالات والدراسات النقدية لأنها لم تعد تقوم بدور الوساطة المستنيرة بين المبدع والمتلقي، فتجعل هذا المتلقي أكثر وعيا بجماليات الإبداع، وفهما لمحتواه وأهدافه، بل على العكس، ساقها الإعجاب بذاتها إلى ضرب من الاستغلاق والتعالي فأصبحت “دودة” في داخل شرنقة صنعتها لنفسها حتى كتمت أنفاسها وحالت بينها وبين الحياة الواسعة. أما السلبية التي أصابت البحث النقدي الجامعي فقد تجسدت في تكرار العناوين، ونقل خطوات المنهج، التي لم تعد تتجاوز موضوعين تقريبا:”قراءة أسلوبية في …” أو”شعر الستينيات أو السبعينيات، أو الثمانينيات.. إلخ”، وكأن الشعر يغير طريقه بواقع كل عشرة أعوام!! لقد أثمر هذان الموضوعان القليل من البحوث النقدية الناضجة، والكثير من الأداء السطحي المكرر الذي لا غناء فيه.

    لا نستطيع أن نزعم أن أحدا من الباحثين في إطار الجامعة، قد تصدى صراحة لهجمة النقد الحداثي وادعاءاته التي تصنع من محو المناهج والمدارس النقدية السابقة أساسا لإقامة بنائها، ولكن هذا لم يحل دون وجود محاولات جادة رفضت أن تبتلعها موجة الحداثة، كما رفضت تجاهلها، بعبارة أخرى لم تقبل التعامل مع التجديد بمنطق: إما القبول المطلق أو الرفض المطلق، لقد تفاعلت مع ما تراه قادرا على اكتشاف جماليات كانت خافية في تراثنا العربي، وهي مطلوبة بهذا المعنى ولأداء هذه الوظيفة. وهنا يتميز موقف ناقدين كبيرين: الدكتور مصطفى ناصف، والدكتور شكري عياد، الذين بشرا في دراساتهما المبكرة بإقبال زمانها، دون أن يرتبطا بتصاعد موجتها الهادرة.   

    إن مصطفى ناصف الذي بدأ مسيرته العلمية مقلا جدا في التأليف، وشحيحا جدا

في الاتصال بالمجتمع الثقافي المصري، ما لبث حول نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين أن تعددت مؤلفاته، مبتدئا بالقراءة الجديدة، في الشعر، ثم في النثر، تبعتهما محاولة للتنظير، ولعل في كتابيه:”قراءة ثانية لشعرنا القديم”(33) ثم”النقد العربي- نحو نظرية ثانية”(34) ما يؤدي حق الجانب الذي نتفحصه الآن. في القراءة الثانية عودة إلى نصوص من الشعر الجاهلي خاصة، مسبوقة بطرح لبعض المفاهيم المستقرة التي يراها ناصف تمثل عوائق للفهم الصحيح، وتحول دون إعادة القراءة، بزعم أن الماضي قد تم صنعا،لم يبق إلا أن نقبله أو نرفضه. إن التراث- كما يراه الدكتور ناصف بحق- من وجهة الإدراك هو عملية خلاقة مستمرة، من ثم من حقنا أن نعود إليه، بل من واجبنا أن نعود إليه بوعي قرائي لا يتقيد بالأنساق المعرفية المتوارثة- بدعوى النظام والتقاليد- في الشروح القديمة. إن الطريقة التي دخل بها مصطفي ناصف في تضاعيف ما اختار من نصوص، هي دعوة إلى تحديث القراءة بقدر ما هي رفض أن تكون مناهج الحداثة بالطريقة التي مورست بها على أيدي دعاتها- صالحة للتعامل مع التراث العربي. وفي كتابه الثاني:”النقد العربي، نحو نظرية ثانية” يبدو الحرص على الأساس اللغوي في إجراء النقد، والحرص على إبراز الجماليات، بل قد يسعى إلى اكتشاف أنساق بنائية تقترب إلى طرائق البنيوية، ولكنه لا يلتزم بالوقوف عند حدود البنيوية أو غيرها من مقولات الحداثة، إنه يكتب عن”المغزى الثقافي للأسلوب”، وعن”الإحساس الأخلاقي”، كما عرض لأشعار اختارها عبد القاهر للمتنبي، وأشعار أخرى اختارها ناصف وقرأها قراءة انطباعية. لقد عزف الدكتور مصطفي ناصف على جميع أوتار “آلة” النقد الأدبي، بالصورة، وباللغة في مستوياتها التي تبدأ بالصوت، وتمضي إلى الجملة، فالأسلوب، دون أن يكون ملتزما بحدود الأسلوبية، وفي هذا السياق يخترق السياج ليتحدث عن العرف والذوق والمجتمع الخاص والعام، وانعكاسات الزمن على الإبداع، وفي هذا المسار يقارب البنيوية التوليدية ولكنه لا يسلم قياد عقله النقدي لها، ولا يختار نماذجه للبرهنة على مقولاتها(وهو ما يحرص عليه البنيويون)، ولقد تجنب تماما صراعات النقاد بحكم سبقه الزمني ومزاجه الانفرادي المعتزل، ولعله بهذين الجانبين صاغ “نظرية ثانية” للنقد العربي، فأخذ من كل المداخل النقدية: الأسطوري والاجتماعي، والفلسفي، واللغوي، والسيكولوجي، وقادته سياحته في الشعر القديم إلى نماذج طريفة جعل منها علامات على مشارف نظرية، دون أن تكون- بذاتها- مستطيعة أداء هذا الدور، لأن النظرية إذا افتقدت التفسير الكلي، ولم تستطع أن تستوعب جملة الإبداع في زمن أو أزمنة، فإنها لا ترتقي إلى هذه التسمية.

     أما  شكري عياد فقد كان يشارك في حركة النقد من جانبين: أنه لم يأخذ في كتابته النقدية طابع الحجاج واصطناع الخصوم التاريخيين أو المنظورين وتفنيد مقولاتهم انتصارا لرأيه، وأن وعيه النقدي استوعب كل المنجز النقدي القديم والحديث، الغربي والعربي، ليؤكد لنا- نحن معاصريه- أن الإبداع إن كان لا يعرف التأثر بحركة الزمن فينقسم إلى قديم وحديث، فكذلك النقد، الذي ينبغي أن يكون حاضرا في قراءة الإبداع، دون وقوف عند حد تاريخي، وهذا يعني أن إضافات النقد الحديث يمكن أن تكون كشفا أو إعادة كشف للإبداع القديم،وهذا معنى من معاني تأثير الحاضر في الماضي. ولعل عناوين المقالات الأربع التي قامت عليها مادة كتابه:”المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين”(35) تعطي هذه الخلاصة التي أجملنا بها رؤيته النقدية:

المقالة الأولى: في أن مناقشاتنا حول المذاهب الأدبية المعاصرة تعكس موقفا تاريخيا من ثقافة الغرب.

 المقالة الثانية: في أن اقتباس المذاهب الأدبية الغربية ملازم لاقتباس الأشكال الأدبية.

المقالة الثالثة: في أن المذاهب الأدبية تعكس خصوصية تاريخية للثقافة الغربية.

المقالة الرابعة: في معنى المذهب عند النقاد العرب القدماء، واختلاف مذاهب الشعراء.

    إن كتابه بعنوان:”دائرة الإبداع- مقدمة في أصول النقد”(36) هو المكمل لما حدده في المقالات الأربع السابقة، أو هو استخلاص لموقف منهجي بحثي من ركام الأقوال المتداولة حين ألفه في الثمانينيات، نقول هذا لما نلحظه من رغبته في تصحيح(ولا نقول الرد على) بعض المبادئ النقدية المستدعاة من الحداثة الغربية، مثل القطيعة مع التراث، وموت المؤلف، وتجنب أحكام القيمة اكتفاء بالوصف..إنه يتحدث عن المنشئ، كما يدخل استجابة القارئ في التقييم، كما يربط بين الذوق والقيمة. ينفرد شكري عياد عن مصطفى ناصف- وإن اجتمعا على تجنب الجدل حول المناهج النقدية- أنه كان مندمجا في أجيال النقاد والأدباء بعده، حتى سعى إلى تأسيس مجلة متخصصة في النقد تملكها شركة مساهمة(37)، وكان له “صالون” أدبي أسبوعي مفتوح للحوار مع جميع مستويات النقد ومناهجه. وأنه كان مبدعا، كتب القصة القصيرة، والسيرة، وله في القصة إنجاز مقدر، وفي كتابته النقدية، ربما في “دائرة الإبداع” خاصة تتجلى هذه الخبرة “الجوانية” بأسرار الإبداع وضروراته.

8-              محاولة للتصحيح      

    أشرنا إلى ناقدين كبيرين كان لهما حضورهما النظري، والعملي، لم يتقولبا في أحد مناهج الحداثة، وإن لم يرفضا الأخذ بمقولات ومبادئ رأيا أنها توسع من آفاق القراءة لتراثنا الإبداعي(الشعري) خاصة، ولدور النقد في تشريح النصوص عامة، لم يكونا وحدهما في هذا الاتجاه، ولكنهما كانا الأكثر وضوحا في إحلال البديل للتمذهب الحاد الذي أخذ به فريق آخر(38)، والأبعد في رفض القطيعة مع التراث النقدي(العربي) القديم، والاعتماد على المنهج القديم- إبداعا ونقدا- في التدليل على ما يدعوان إليه من مبادئ النقد. إلا أن حدثا نقديا أخذ شكل المفاجأة، إذ صدر من حيث لا يتوقع صدوره، وفي زمن كانت زوبعة الحداثة فيه أوشكت أن تعطي كل ثمراتها لمن أثاروها، فهدأت ثورتهم شيئا ما، أو اتخذت مسارات عملية محكومة بالممكن. المفاجأة صنعها صدور كتاب الدكتور عبد العزيز حمودة:”المرايا المحدبة- من البنيوية إلى التفكيك”(39)(1998)، ربما كان مصدر المفاجأة أن مؤلف الكتاب أستاذ في الأدب الإنجليزي، بعبارة أخرى: من المفترض أنه ينتمي- ثقافيا باللغة- إلى صناع الحداثة، وقد دل العنوان، الذي مهد لكتابه بشرحه، على ما يضمر من تهم بالتسرع ومجافاة الصدق والاستسلام للعيوب، وقد جمع بين النقيضين: البنيوية: حيث صرامة الأنساق ومزاعم علمية النقد، والتفكيكية: حيث التأويل المفرط، وغياب اليقين، والنهايات المفتوحة. وقد استخدم عبارات هجومية ساخرة وموجعة، فالمرآة المحدبة، بطبيعة تكوينها لا تدل على الحقيقة ولا تعكس الواقع،ولكن مدمن النظر إليها سيتعود تصديقها، وفي هذا المعنى يقول: لقد طاردنا الحداثيون- أعمانا البريق- المراواغة المقصودة والغموض المتعمد- أصبحت الحداثة ناديا لنخبة النخبة- و”يرجع فشل المشروع البنيوي في إنارة النص وتفسيره وتحقيق معناه إلى سببين: الأول هو تلك المحاولة الصوفية لرؤية العالم من خلال حبة فاصوليا واحدة”، والثاني أن البنيويين تحولوا إلى سجناء للغة- فضلا عن أنهم انهكوا في تحد يد الأنساق والأنظمة وكيف تعمل، وتجاهلوا: ماذا يعني النص(40)؟ أما التفكيكية فإنها تقوم على رفض عملية النقد، والشك في كل الأنظمة والقوانين والتقاليد، والتحول إلى لا نهائية المعنى، وذاتية القراءة، والتمرد على إغلاق النص(41). يعرف الدكتور حمودة ردود الأفعال المتوقعة لكتابه ولكنه يعلن أنه ليس ضد الحداثة في ذاتها، فالتقدم الذي نسعى إليه بحاجة إليها، ولكن: أية حداثة تلك التي توسع لنا آفاق التقدم؟ وهكذا عرض للمقولات العربية- كما فهمت الحداثة- في الفصل الأول، ليتابعها إلى مهدها(الغربي) ناقدا منطق ما أطلق عليه نسختها الأصلية- في الفصل الثاني، ومبرزا ما ذكر من قصور البنيوية والتفكيكية في الفصلين الأخيرين.

    لسنا بسبيل رصد ما تبادل المؤلف ورفضوا أفكاره من طروحات علمية، أو عبارات غامزة أو لامزة، ولم يختلف المر كثيرا عن آثار كتابات أخرى سبقته إلى طابعه الهجومي في قضايا أخرى قد تكون أشد حساسية من النقد الأدبي، وأمس بالعقائد والأعراف،إذ ما لبث الصدى أن خفت ثم توارى، ولكن هذا لم يقلل من شعور ذلك الفريق من النقاد، الذي لم يأخذ بالتقولب البنيوي خاصة، وأصر على منهجه الانتقائي، بأن”عنصرا” لا يستهان به، كان محسوبا على الفريق الآخر، ها هو ذا يفعل فعلة واصل بن عطاء(42) في علم الكلام، فيهز القسمة وينال من مزاعم الغلبة، ثم هدأ الغبار، ولا مناص من أن يهدأ، ولكن عبد العزيز حمودة بعد زمن ليس بالطويل، ما لبث أن عاد وقد قلب مراياه التي تحولت من محدبة إلى “المرايا المقعرة”- ومع أن التقعير مسخ للواقع كالتحديب فإنه ألحق بهذا العنوان الذي قصد به الربط واستعادة التأسيس السابق- عنوانا شارحا:”نحو نظرية نقدية عربية”(43)، وكأنه بهذا ينتقل من الهدم إلى البناء، ويقدم ما يراه مقبولا أو مطلوبا، ليحل في مكان ما رآه مرفوضا وضارا، وقد ساقه هذا إلى التراث البلاغي العربي- كما يقرر- ما بين جهود الجاحظ وحتى حازم القرطاجني، وهو يصف عمله هذا بأنه إنصاف للبلاغة العربية والعقل العربي، من ثم يخالف الحداثة في أن يرفض القطيعة مع التراث، ويبدأ طرح ما يعده نظرية بالإشارة إلى افتقاد “مشروع ثقافي عربي”، يقرأ واقع الثقافة القومية وما تهدف الأمة العربية إلى تحقيقه، ليكون سبيلا إلى المراحل ووضع الآليات الكفيلة بتحقيق ذلك. لقد تحركت مادة هذا الكتاب بين التشكيك في استيعاب المتكلمين عن الحداثة(عندنا) ما قصد إليه المتحدثون عنها(عندهم) وشفع هجومه بما لا يدخل في نطاق معرفته، ولا تتسع له المدة لاستيعابه، ولكنه حاول أن يركب من هذه المصادر والمراجع التي سبقه إليها مصطفى ناصف، وشكري عياد، وعبد الله الغذامي، وجابر عصفور، وعز الدين إسماعيل، ومحمد مندور..الخ معالم تعين على وضع ما كتب الجاحظ وعبد القاهر وحازم القرطاجني- خاصة، في شكل نظرية نقدية أو مقدمات لما يمكن أن يسفر عن نظرية، فيما نرى. إنها- على أية حال- مجرد محاولة تنتمي لجهود سابقة أكثر مما تتشكل بجهد المؤلف الذي يبدو أنه أصبح أقرب إلى الطموح بأنه يملك زمام مشروع يتجاوز حدود الفكر التراثي العربي، ولعله استعاد إدانته- في المرايا المحدبة- للناقلين من العرب، التي أعقبها بنقده للمبتدعين من الغرب ووصف مبادئ نظريتهم(البنيوية أو التفكيكية) بالتناقض والإحالة والعدوان على الفردية.. الخ وتطلع إلى”شهوة إصلاح العالم” التي تستولي على طموح المفكر إذا ما وجد استجابة أو وجد معارضة، وهذان العاملان- فيما نحسب- أوصلاه إلى كتابه الثالث الذي أكمل به الدورة، وهو بعنوان “الخروج من التيه”(44)، وله عنوان شارح هو: “دراسة في سلطة النص”، وكان قد تعرض لمفهوم سلطة النص في كتابيه السابقين(45)، ولكن ” التيه” لم يكن مقصورا على غياب النظرية في النقد العربي، بقدر ما هو خوض في أسس الحضارة الغربية، ودور الفكر في تأسيس انطلاقتها وتبرير هيمنتها، وما أدى إليه هذا من تراجع سلطة النص، بمعنى غياب وثوقيته، هذه الوثوقية التي لا تقف عند السلطة السياسية أو الرقابية كما يوهم ظاهر المصطلح، وإنما تستدعي الموقف والرؤية ومصدر التجربة وتشكيل الأسلوب.. ومهما يكن من أمر فإننا لسنا بصدد التعريف بالكتب الثلاثة أو بصاحبها، ونرجح أنه- حين نشر كتابه الأول لم يكن يفكر في الثاني، فضلا عن الثالث، وهذا يردنا إلى المقولة الأساسية، وهي أن النسق المؤسسي بطبيعته قادر على مواجهة سلبياته وتصحيح قصوره أو انحرافه المعرفي.

      وبعد

    نقول في ختام هذه الورقة عن الجامعة والنتاج النقدي عبر قرن من الزمان، إنه كان ولا يزال يشكل التيار الرئيسي بتشعباته وتعدد مناهجه وقدرته على إدارة الاختلاف واستثمار إيجابياته، وإن هذا حدث ويحدث بالنسبة للنظرية النقدية التي تسترفد الغرب والشرق وتنفتح على كل الاتجاهات حسب تداعيات المرحلة وتوجهات البحث عن المعرفة، أما النقد التطبيقي ومتابعاته في المجلات الدورية والصحف ووسائل الإعلام. فنادرا ما يهتم البحث الأكاديمي بالإثارة والجري وراء الرواج الوقتي،من ثم قد لا يحظى بالرضا في كثير من العيون، وهو أيضا لا يبالغ في إزجاء الإعجاب، ليس لأن الإعجاب يجافي حقيقة النقد، وإنما لأن الإعجاب يظل نسبيا، وموقوفا على أقوال تأتي في زمن لاحق. دور النقد الأكاديمي في تقديم التراث الأدبي العربي، وجلائه وتقويمه، لا يضاهيه جهد آخر، وكذلك أمره في إقامة اتصال متواتر ومنظم مع مصادر النقد الأدبي في الغرب، منذ العصر الإغريقي والكلاسيكي وإلى اليوم. على أن الدراسات النقدية التي اختارت مدارس ومذاهب وظاهرات فنية كانت- في الأعم الأغلب- ثمرة لجهد الأكاديميين، وبهذا يمكن أن نقول إن النظام وتكوين التصور التعاقبي لخطوط الفكر هو ثمرة المنهج، وهذا أمر لا تتوقف فوائده على حدود النقد الأدبي، إنه بالأحرى يصبح استعدادا عقليا وإمكانية فكرية وأسلوبا في استيعاب الظاهرات النظرية وحتى قراءة عمل إبداعي مفرد.

    لقد شغل الأكاديميون بالبحث عن نظرية نقدية، ونلاحظ أن هذا التوجه امتزج بقراءة التراث، فكان البحث عن نظرية وجهت النقد القديم غالبا على البحث عن نظرية نقدية حديثة. أما ما استجد في هذا المضمار وتتضح ملامحه فيما كتب شكري عياد وعبد العزيز حموده فهو أن تكون النظرية شاملة للقديم والحديث، وفي هذا جانب له بريق، هو وحدة الرؤية واتجاه الفكر العربي وخصوصيته، وجانب سلبي أو هو أقرب إلى تعطيل النظرية ودفعها نحو التعميم أو القصور، وهو صعوبة إيجاد نظرية(ماستر) قادرة على التعامل مع المنتج الأدبي وتفسيره وتأطيره في كل العصور وكافة أقطار اللغة العربية. ولعل هذا بعض ما أحبط جهد الكاتبين المشار إليهما، وغيرهما ممن رمى إلى هذه المساحة الطامحة. إن التفكير في “نظرية نقدية عربية” طموح مشروع، وهو لا ينتمي إلى مبدأ “شهوة إصلاح العالم”، ولعل الأقرب مبدأ “الخروج من التيه”، كما عبر الدكتور حمودة، بوضع علامات خاصة بنا تميز طريقنا وطريقتنا دون أن تجافي المبادئ الأساسية لجماليات الإبداع وخصوصية المبدع.

ولكن هذا حديث آخر، يحتاج العمل في اتجاه مختلف.

 الهوامش

ــــــــــــــ

1- أحمد لطفي السيد(باشا) أبو علي(1870- 1963) لقب بأستاذ الجيل، ترأس الجامعة المصرية مرتين واستقال في: الأولى لإسناد الحرس الجامعي إلى وزارة الداخلية، وليس إدارة الجامعة، والثانية حين استبعد طه حسين من الجامعة بسبب تأليفه كتاب”في الشعر الجاهلي” مما عده لطفي السيد تدخلا في حرية البحث. أسس حزب الأمة(1908) وهو أول حزب مصري ليبرالي، وأصدر “الجريدة”، وعمل بالمحاماة، وكان وزيرا للمعارف، والداخلية، والخارجية. كما كان رئيسا للمجمع اللغوي حتى زمن رحيله. عند تحول نظام الحكم في مصر من الملكية إلى الجمهورية عرض عليه جمال عبد الناصر أن يكون رئيسا، ولكنه اعتذر. تأثر بفكر الأفغاني، وبمبادئ أرسطو وترجم عددا من مؤلفاته.

2-  نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، في جزءين عام 1982.

3-  أنظر مقدمة الوسيلة الأدبية التي كتبها عبد العزيز الدسوقي.

4- يذكر الزركلي في “الأعلام” أن العدل(1862- 1904) تعلم بالأزهر ودار العلوم، وعلم العربية وآدابها في المدرسة الشرقية ببرلين فتخرج على يده عدد من المستشرقين، كما علم في كمبردج وأصبح عضوا في الجمعية الملكية الأسيوية. ويذكر من مؤلفاته- غير المخطوط المشار إليه: أصول الكلمات العامية، وسياسة الفحول في تثقيف العقول، وهما مطبوعان.

5-  مقدمة الوسيلة الأدبية- ص 14.

6- محمد دياب بك إسماعيل- المنوفي(1852- 1921) تعلم في الأزهر ودار العلوم، وعمل بالتربية والتعليم، وله غير الكتاب المشار إليه: معجم الألفاظ الحديثة، وقلائد الذهب في فصيح لغة العرب، وهما مطبوعان- الزركلي: الأعلام.

7- يقصد بالمصدر: الكتاب المؤلف الذي يعبر عن صاحبه مباشرة دون وسيط، فديوان المتنبي مصدر وحيد لأشعاره، ولا يجوز نقلها عن طريق ناقل لها، وكتاب “البيان والتبيين” مصدر لآراء الجاحظ في البلاغة، أما المرجع فهو الكتاب الذي أفاد من أقوال الآخرين، فأكثر ما يؤلف في الجامعات يدخل في “المراجع” إلا أن يكون أصيلا معبرا عن أفكار تخص صاحبه. وفي جميع الحالات لا يقبل النقل عن الناقل، كأن تعجبنا عبارة منسوبة لعبد القاهر الجرجاني، قرأناها في كتاب لشوقي ضيف.. فلا يصح- علميا- أن ننقلها عن كتاب ضيف، ولا بديل عن العودة إلى المرجع الأصلي وهو مؤلفات عبد القاهر تجنبا لاحتمال خطأ الناقل أو تحريفه أو توهمه.

8- بعد ثلاثة عشر عاما من “تجديد ذكرى أبي العلاء المعري”- ألف طه حسين كتابه الذائع/ المؤثر/ الصدمة: “في الشعر الجاهلي”، وأورد نصوصا منسوبة للقدماء استدل بها على اختلاف لغة أهل الشمال عن لغة أهل الجنوب في الجزيرة العربية، وهنا لجأ المعارضون لمحتوى كتابه ودعاواه فيه إلى ما دعا إليه من قبل من ضرورة توثيق النصوص المقتبسة والعودة إلى المصدر الأصلي، وقد أدى هذا إلى اعتراضات علمية منهجية على طريقة اقتباس طه حسين من المصادر القديمة.

9- أما تشريح الكتاب ونقد منهجه(من منظور نقد النقد) فقد تم بجهود أكاديمية،أو جهود”مؤدلجة” من النوع  الأول ما كتبه الدكتور أيمن تعيلب، ومن النوع الآخر ما كتبه نجيب سرور، وللدكتور سيد البحراوي مشاركة في هذا الاتجاه، وهو يجمع بين الأكاديمية والماركسية.

ينظر في هذا كتاب: عبد العظيم أنيس.. عطاء لا ينضب- مركز المحروسة للنشر- المقطم- القاهرة 2007.         

10-      نذكر بالفضل هنا جهد الدكتور محمد أبو المجد علي- الأستاذ بكلية دار العلوم- جامعة الفيوم- الذي أعد ببليوجرافيا بجميع عناوين الدراسات الإنسانية التي درست في الكليات المصرية طوال القرن العشرين ومن أهمها الموضوعات الأدبية والنقدية والبلاغية. الببليوجرافيا نشرتها مكتبة الآداب بالقاهرة 2001.

11-      اخترت هذين العنوانين الأخيرين عن الفلاح قصدا، فالعنوان الأول هو ما أجريت تحته دراستي لدرجة الماجستير في  كلية دار العلوم عام 1962- والعنوان الآخر هو ما اختاره مصطفى إبراهيم الضبع لدراسته لدرجة الماجستير- في جامعة عين شمس بعدي بثلاثين عاما. ليس بين الدراستين أي نوع من التشابه أو التشابك، ولم يطلع الدكتور الضبع على بحثي(المخطوط) ولم يضعه بين مراجعه. ومن جانبي لم أعمل على نشره، وحين عدت إلى موضوع الريف في كتابي: الريف في الرواية العربية(سلسلة عالم المعرفة- الكويت 1989) فإنني آثرت الامتداد القومي(العربي) على التمركز(المصري) من ثم لم آخذ من دراستي السابقة غير ثلاث صفحات!!- أما رسالة الدكتور الضبع فقد نشرها تحت عنوان: رواية الفلاح- فلاح الرواية- نشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1998.

12-                 من طريف ما حمله ديوان حافظ إبراهيم، قصيدة بعنوان:”الشعر- ومطلعها:

              ضعت بين النهى وبين الخيال          يا حكيم النفوس يا ابن المعالي

           وبعد أن يفصل في أوجه التقليد التي جثمت على صدور شعراء جيله يرسل أمنيته بتحرير القصيدة من سطوة الموروث فيقول في ختام قصيدته:

                    آن يا شعر أن نفك قيودا            قيدتنا بها دعاة المحال

                    فارفعوا هذه الكمائم عنـا          ودعونا نشم ريح الشمال

       انظر: ديوان حافظ إبراهيم- المطبعة الأميرية بالقاهرة 1956 جـ 1 ص 185     

13-      أعيد هذه اللفتة الذكية لصاحبها الذي أنسيت اسمه الأول، ولقبه “العبيد”- وكان أول عميد كويتي لكلية العلوم بجامعة الكويت بعد عميدها المصري: عبد الفتاح إسماعيل مؤسس جامعة الكويت- رحمه الله، جمعتني مناسبة بالدكتور العبيد، فعرفت أنه حصل على الدكتوراه من جامعة أمريكية، تأخذ بنظام البحوث الصغيرة المتعددة، وليس الأطروحة التي تأخذ بها الجامعات المصرية، فأثنيت على الأسلوب(الأمريكي/ الأوربي) متعدد الأبحاث، وكنت قريب عهد بالانتهاء من أطروحتي للدكتوراه، وكنت صادقا مع نفسي حين قلت: إنني جمعت مادة مترامية المساحات عندما انتهيت من مرحلة الجمع وبدأت التحرير كنت نسيت لماذا جمعت هذه المادة الواسعة جدا، وظللت أكتب وأحرر نحو عامين، كان بحثي فيهما أصبح قديما قبل أن يظهر. أما كتابة بحوث صغيرة، متعاقبة، ففيها إيقاع السرعة، وتنشيط المتابعة .. الخ. فقال الدكتور العبيد: ولكن الطريقة المصرية(الأطروحة) أجدى وأكثر فائدة، والباحث الذي لم يتعلم كيف يخطط لبحث في حجم كتاب سيقضي عمره مترددا أمام الأفكار المتشعبة عاجزا عن النظر الشامل.. لقد ردني إلى الثقة ببحثي وكنت مللته.  

14-      ألف قسطاكي الحمصي كتابه في مصر، عام 1904، ولم يرتفع إلى مستواه في كتبه الأخرى التي ألفها بعد عودته إلى مسقط رأسه(في حلب) بسورية.

15-      ولد فخري أبو السعود في بنها، وتفوق دراسيا فأرسلته وزارة المعارف إلى بريطانيا في بعثة، عاش عامين، وعاد إلى وطنه ومعه زوجته الإنجليزية، وبدأ يكتب في الأدب المقارن، بل تذكر مقدمة الكتاب الوحيد الذي جمع مقالاته أنه صاحب مصطلح “الأدب المقارن”  وأن مدرسة دار العلوم حين قررت إرسال بعثات لدراسته كانت بإيحاء من مقالاته(1938) ولكن هذه المدرسة لم تسند إليه تدريس الأدب المقارن، بل استدعت غيره. أطلق فخري أبو السعود على نفسه الرصاص حين يئس من عودة زوجته من بريطانيا بسبب الحرب العالمية، وعلم بوفاة ابنه الطفل غرقا.

ينظر كتاب: في الأدب المقارن- إعداد جيهان عرفه- الهيئة المصرية العامة للكتاب(الألف كتاب الثاني- 1997).   

16-      محمد غنيمي هلال(1916- 1968) يعد بجدارة مؤسس علم الأدب المقارن في الجامعات المصرية(ومن ثم العربية) وإن لم يكن الأسبق في التأليف. حصل على دكتوراه الدولة في الأدب المقارن من السربون، وكان يعرف من اللغات- غير العربية- الفارسية والفرنسية والانجليزية والإسبانية واللاتينية. من أهم مؤلفاته في الأدب المقارن: الأدب المقارن- الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية- الرومانتيكية- النماذج الإنسانية في الدراسات الأدبية المقارنة- دراسات أدبية مقارنة- هذا بخلاف كتابه الموسوعي: النقد الأدبي الحديث- وترجماته عن الفارسية والفرنسية، وبخاصة أشعار عبد الرحمن الجامي، وكتابات سارتر النقدية(الوجودية).

17-      عبد الحكيم حسان(ولد 1924) حصل على الدكتوراه من جامعة لندن، ومن أهم مؤلفاته في الأدب المقارن: كليوباترا بين شكسبير وشوقي- الأدب المقارن والتراث الإسلامي- حدود الأدب المقارن(ترجمة)- كولردج: سيرة ذاتية(ترجمة) دراسات مقارنة.

18-      الطاهر أحمد مكي(ولد 1923) حصل على الدكتوراه من جامعة مدريد- من أهم مؤلفاته: الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه- الأدب المقارن الإسلامي..

19-      يمكن- في إطار موضوع القصة في القرآن الكريم الرجوع إلى أطروحة الدكتوراه التي كتبها محمد أحمد خلف الله، وكتاب ثروت أباظة تحت العنوان نفسه.

20-      هي مجموعة من الدراسات التي اتخذت من بعض الشخصيات التاريخية الإسلامية موضوعا لدراسة حيواتها والتعريف بأهم أفكارها النظرية والعملية التي ترفعها إلى مستوى العبقرية، كتب العقاد عبقرية محمد، وعبقرية الصديق، وعبقرية عمر، وعبقرية خالد، ولكنه كتب عن الحسين بن علي تحت عنوان:”أبو الشهداء”، كما كتب عن معاوية تحت عنوان”معاوية بن أبي سفيان في الميزان” وهذا الاختلاف يعطي مؤشرا لمعنى العبقرية وحدودها.

21-      من موضوعات: دراسات في الشعر العربي المعاصر ما يتصل بشعر حافظ إبراهيم، وإسماعيل صبري، وأحمد محرم، والرصافي، والزهاوي، والعقاد، ومطران، والشابي، وأبي ماضي، وأبي شبكة، وعلي محمود طه، وميخائيل نعيمه- وأبي ريشة، ولعل هذا الأخير كان أصغر الشعراء سنا، وأحقهم بوصف المعاصرة، وإن كان مصطلح المعاصرة يتسع لجميع من استقدم أشعارهم إلى كتابه.

22-                 شوقي ضيف: فصول في الشعر ونقده- ط ثالثة- دار المعارف بمصر 1971- ص 28- 53.

23-                 السابق- ص 281- 300.

24-                 السابق- ص 301- 319.

25-                 السابق- ص 320- 330.

26-      ذكر الدكتور شوقي ضيف في ترجمته الذاتية التي نشرتها دار المعارف في جزءين تحت عنوان: “معي”، أن إحدى عينيه منذ صباه الباكر كانت عديمة الإبصار، كما ذكر لي أنه مصاب بمرض السكر، ومع هذا بلغ إنتاجه ما بلغ، وقارب عمره التسعين من الأعوام.

27-      أذكر أنني كنت طالبا بالسنة الثانية بكلية دار العلوم عام 1958، وكان الدكتور الكفراوي طوال الفصل الدراسي مشغولا بعرض آراء شوقي ضيف، وتفنيدها وإثبات عكسها، وهو ما كون مادة كتابه المشار إليه. وكذلك كان الدكتور علي الجندي(غير الشاعر علي الجندي) مشغولا طوال أول فصل دراسي بالسنة الأولى، بالرد على آراء طه حسين، في كتابه”في الأدب الجاهلي” وتفنيدها، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاما- حينها- عل صدور كتاب طه حسين.

28-      من المعروف أن المقارنات بدأت بعلوم النبات والحيوان، ثم ما لبثت أن تطرقت إلى الدراسات حول المجتمعات، والقوانين، ثم توسعت فأخذ بها الباحثون الفرنسيون في الأدب ووضعوا لها شروطا محددة صارمة، شرحها فانتيجم في كتابه الشهير “الأدب المقارن”.

29-      نشرت رواية ثرثرة فوق النيل 1966، ونشرت رواية ليالي ألف ليلة 1982، ونشرت رواية قشتمر 1988.

30-      هذه العبارة تطويع لعبارة للناقد الفرنسي سانت بوف(1804- 1869): يجب أن يؤخذ من دواة كل مؤلف الحبر الذي يراد رسمه به.. فالنقد.. يعلم الآخرين كيف يقرؤون- ينظر: الأدب المقارن- لمحمد غنيمي هلال- ط ثانية- مكتبة الانجلو المصرية 1961- ص 44، يعقب الدكتور غنيمي علي هذا بقوله: ولذلك كان على النقد أن يتجاوز القيم الجمالية العامة إلى بيان روح العصر من خلال نفسية المؤلف.

31-                 الناشر: دار الأندلس- بيروت(د . ت).

32-                 سلسلة عالم المعرفة- الكتاب رقم 255- المجلس الوطني للثقافة(الكويت)- مارس 2000.

33-                 الناشر: سلسلة عالم المعرفة- الكتاب رقم 177- المجلس الوطني للثقافة(الكويت) سبتمبر 1993.

34-      نشرته دار إلياس العصرية- القاهرة 1987- فهو- حسب تاريخ النشر- سابق على “المذاهب الأدبية والنقدية”، ولكنه من منظور طرحنا يبدو استخلاصا من مجموعة الثوابت التي طرحتها المقالات الأربع وإعادة نظر فيما كتبه، وألح عليه، دعاة البنيوية والأسلوبية في الفترة ذاتها.

35-      أعلن شكري محمد عياد عن تأسيس جمعية “النداء” ومجلة أدبية فكرية تحمل اسمها، ولكن اعتراضات قانونية(أو عراقيل) وضعت في طريقها، فلم يتم تكوينها.

36-      من هؤلاء الدكتور عز الدين إسماعيل، الذي أسس مجلة فصول(أكتوبر 1980) لتتبنى أصوات الحداثة، ولكن خلافات ما لبثت أن أفسدت ما بينه وبين بعض من رفاقه، فشق طريقا آخر يعلن به عن استمرار وجوده، إذ عقد ثلاث مؤتمرات(أنهاها رحيله) عن تجديد البلاغة والاتصال، كما ترجم كتاب روبرت هولب عن “نظرية التلقي”- الناشر: النادي الأدبي الثقافي- جده 1994.

37-      جاء على غلاف الكتاب: كتاب أرسطو طاليس في الشعر. نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي حققه مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثيره في البلاغة العربية الدكتور شكري محمد عياد- الناشر: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر- القاهرة 1967- وهو في 293 صفحة من القطع الكبير، وقد طبعت نسخة متى بن يونس على الصفحة اليمنى، ونظريتها من ترجمة شكري عياد على الصفحة اليسرى (المقابلة).

38-      جاء على غلاف الكتاب: أرسطو طاليس- فن الشعر- مع الترجمة العربية القديمة، وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد- ترجمه عن اليونانية وشرحه وحقق نصوصه عبد الرحمن بدوي- الناشر: دار الثقافة- بيروت 1973- وهذه النسخة في 261 صفحة من القطع المتوسط(في المقدمة ما يحدد عام 1952) لتأليف الكتاب.

39-      جاء على غلاف الكتاب: كتاب أرسطو- فن الشعر، ملحق به أوثق ترجمة إنجليزية للعلامة إنجرام باي ووتر- قام بالترجمة العربية وتقديمها والتعليق عليه دكتور إبراهيم حمادة- هذه النسخة في 258 صفحة من القطع المتوسط، يتبعها النص الإنجليزي في 83 صفحة- الناشر مكتبة الانجلو المصرية-1989(كان إبراهيم حمادة عميدا للمعهد العالي للفنون المسرحية، وأول رئيس تحرير لمجلة القاهرة التي أسستها وزارة الثقافة.

40-       صدر عن المجلس الوطني للثقافة(الكويت) ضمن سلسلة عالم المعرفة- الكتاب رقم 232- إبريل 1998- وهو في 421 صفحة من القطع الصغير.

41-                 المرايا المحدبة ص 8- 10 .

42-                 السابق نفسه- ص 10 .

43-      واصل بن عطاء الغزالي(80- 131 هـ) رأس المعتزلة، من أئمة البلغاء والمتكلمين، وهو صاحب مقولة: المنزل ة بين المنزلتين.

44-                 المرايا المقعرة- سلسلة عالم المعرفة- رقم 272- المجلس الوطني للثقافة- الكويت- أغسطس 2001.

45-                 الخروج من التيه- سلسلة عالم المعرفة- رقم 298- المجلس الوطني للثقافة- الكويت- نوفمبر 2003.

46-      انظر مناقشته لجاك دريدا ص 291 من المرايا المحدبة، والهامش رقم 6 ص 416 وفيه شرح مفهوم سلطة النص- وانظر أيضا في المرايا المقعرة ص 128.

   عودة

أضف تعليق