الطوق والإسورة ..سمات أسلوبية وقصصية

مصطفى فودة

تعتبر رواية الطوق والأسورة من أبرز وأشهر أعمال القاص يحيى الطاهر عبد الله المولود عام 1938 بقرية الكرنك بالأقصر وتوفى عام 1981 فى حادث سيارة أليم عن عمر يناهز 43 عامًا

عنوان الرواية يشير إلى دلالات رمزية عديدة فالطوق هو ما يحيط بالرقبة والأسورة هوما يحيط بالرسغ وكلاهما لهما دلالة القيد والذى يشير بالرواية إلى الفقر والمرض والجهل والعادات والتقاليد التى تخنق المجتمع وتشل حركته ، ، وقد ذكر بهامش الأعمال الكاملة أن الجزء الأول من هذه الرواية من قصتين قصيرتين هما الشهر السادس من العام الثالث ، الموت فى ثلاث لوحات فى مجموعة الدف والصندوق ، وهى رواية قصيرة و تسمى نوفيلا من ص 305 الى 356 الاعمال الكاملة أى ما يقرب من خمسين صفحة وسأحاول رصد بعض السمات الأسلوبية والقصصية بالرواية للقاص يحى الطاهر عبد الله نلخصها فى ما يلى

أولًا /الإنشاد

ذكر د.جابر عصفور بمقدمته على الأعمال الكاملة بأن يحيى الطاهر عبد الله استبقى من صديقيه أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودى صفتي الحفظ والإنشاد فكان لا يكتب قصصه القصيرة على ورق وإنما فى رأسه ويحفظها ليقرأها على الآخرين من الذاكرة دون نسيان شيء، وتظهر بالرواية كثير من الصيغ الإنشادية، بدأت الرواية ( مع الرجال رحل مصطفى إلى السودان وهو بعد صبى مر عام والعام الثانى يطوى شهره الأخير وما من خبر عن الغائب الغالي .. عقل حزينة مع ابنها هناك فى البلاد البعيدة وأذنها اليمنى التى تسمع هنا مع الحمام الذي يهدل الملك لله .. الملك لله ) وكأنه راوي ربابة بالقرية يبدأ فى نشيد القصص والملاحم ومن الصيغ الانشادية على لسان الجد بخيت البشارى ( المصباح شح زيته والليل الطويل الأسود قادم آه من الوجع نومي قليل وبولى لا أتحكم فيه ) ص307 ويلاحظ إكثار الكاتب من الجملة الاسمية وشبه الجملة والتى تعبر أكثر عن الغنائية والإنشاد .

الطوق والإسورة فيلم

ثانيًا / شعرية اللغة

أطلق الروائي المعروف إدوارد الخراط على يحيى الطاهر عبد الله بأنه شاعر القصة وهذا صحيح إلى حد بعيد حيث يسود فى سرده الأسلوب الشعري وتظهر بالرواية كثير من التراكيب والفقرات والأوصاف الشعرية الخالصة على سبيل المثال ( نجمة مشتعلة هوت من السماء الزرقاء العالية واحترقت قبل أن تبلغ الأرض لو مست البشر أو الحيوان أو الزرع وحتى الجن لتحول فى التو رماد) وكذلك (خشية أن يغرق أو أن تخطف قلبه جميلة من بنات الماء فينساق خلفها إلى الأعماق البعيدة الزرقاء) ص 308 كذلك مناجاة فهيمة مع نفسها (عريسى قادم على حصانه …عريسى راكب فوق سرجه .. عريسى يطرق بابنا وأنا التى ستفتح الباب … إن لم يكن اليوم فغدا … إن لم يكن اليوم فغدًا وتلك مشيئة الله … يا فرحتي لوجاء غنيًا … ولو جاء فقيرًا فها نصيبي) ص 313 وهكذا نشعر بنوع من الموسيقى الداخلية في العبارات وكذلك تكرار لبعض العبارات وكأننا أمام شعر منثور كذلك فى وصفه صدر الحفيدة نبوية) يمامتان فزعتان حطتا على صدر البنت نبوية فرحت بهما البنت فرحًا شديدًا واختلت بنفسها ونظرت الى صدرها) وسيرد كثير من شعرية اللغة في الاستشهادات التي سترد في باقي سمات الأسلوب والقص .

ثالثًا / الولع باستخدام الصفات والألوان فى الوصف

يلاحظ أن الكاتب مولع باستخدام الصفات والألوان فى وصفه للأشخاص والأشياء وعلى سبيل المثال (مليحة الصبية كالقمر لما يكتمل – بنت هى عين العقل ووجه القمر- بنت الصياد بيضاء الجلد / العينان واسعتان سوداوان بغير كحل – نبوية ذات الشعر الاسود / الأنف الشامخ كبرج حمام / العينان السوداوان ليلة شتاء ، رمت الأم بجسدها القليل اللحم – رمى بالجسم الذى يبتغيه الرجال – شعر مصطفى أنه يعوى فى خواء / وشحر مصطفى كالذبيحة) وهكذا نرى هذه العبارات اعطت للقارئ قوة تخيلية فى العبارة ونرى أن تلك السمة أى استخدام الصفات فى وصف الأشخاص قد ورد بكثرة فى الالياذة فقد كان هوميروس مولعًا أيضًا بهذه الخاصية ونورد بعض الأمثلة على ذلك من ترجمة الالياذة لهوميروس الصادرة من المركزالقومى للترجمة

– أحضر خريسئيس ذات الخدود الجميلة

– بينما صعد أوديسيوس الواسع الحيلة

– حتى يعيدوا الفتاة ذات العيون البراقة

– وكانت الآلهة هيرا ذات الذراع الأبيض

– وتعرف فى التو على أثينة ببريق عينيها الرهيب وتحدث إليها بكلمات مجنحة .

– عندما أجابته الإلهة أثينة ذات العينين الزرقاوين .

وهكذا نرى ذلك التشابه العجيب فى تلك السمة بين هوميروس ويحى الطاهر عبدالله وربما يرجع ذلك إلى استعمال كل منهما لأسلوب الإنشاد المعتمد على الأسلوب الشفهي فيه فلا نشك في أصالة استخدام يحى الطاهر عبد الله فى تلك السمة وذلك لارتباط تلك الصافات ببيئته وليست مجلوبة من خارجها .

رابعًا / الوصف الحسي للمرأة والتعبير الجنسي

كان تعبير يحى الطاهر عبد الله عن الفتيات الصغيرات حسيًا ولكنه كان موظفًا بطريقة فنية باهرة  ومن أمثلة ذلك وصفه لصدر نبوية والذي سبق ذكره من قبل، كذلك فى وصف بنت الصياد التي سعى الحداد إلى الزواج منها ( بنت الصياد بيضاء الجلد ، كالبطة دهن ولحم ، العينان واسعتان سوداوان بغير كحل ، شعر رأس الأسود الطويل كرموشها الطوال يلمع . لو كشفت بنت الصياد عن صدرها سيرى الحداد الثديين المشرعين ..وبياض اللحم .. والحلمة السوداء ) ص330 ، ولكنه كثيرًا ما يلجأ إلى الكناية عند التعبير عن الجنس ولا يلجأ إلى الوصف الصريح والمباشر للجنس فعلى سبيل المثال حين تأخذ حزينة ابنتها فهيمة إلى المعبد بغية حدوث حمل وانجاب حتى تحتفظ بزوجها الحداد يعبر عن هذا الأمر هكذا (ها هو الظلام يطبق كثيفا ..انطفأ كليا نور العينين ، وسقطت الروح فى الكعبين ، والعقل ضاع ، أما السمع فحى مازال يلتقط دبدبة الأقدام الحجرية الكبيرة على الحجر ، أسلمت فهيمة ظهرها لمن فتح الباب وغابت عن الدنيا ) ص324 كذلك لجأ الكاتب إلى الكناية عندما أخذت الجدة حفيدتها إلى الداية لتكشف عن عذريتها قالت ( كان الله فى عونك الإناء مشروخ ) ص353 وهكذا هناك أمثلة كثيرة عن ذلك الأسلوب الفنى الرائع فى التعبير عن الجنس فى هذه الرواية الباذخة .

خامسًا / الموت والقتل والعنف

تعددت مشاهد الموت في الرواية وصاحب استخدام العنف في بعضها إلى حد القتل بدعوى الشرف وقد ورد أربعة مشاهد للموت في الرواية

– مشهد موت الجد (سمعت حزينة وسمعت فهيمة وسمع الشيخ الفاضل صوت الباب الذى انغلق خلف ملاك الموت الحامل روح بخيت البشارى وتمتم الشيخ الفاضل ” إنا لله وإنا له راجعون ” )

– مشهد حرق الحداد نفسه وعروسه الثانية عند فشله فى الدخول بها لعنته (سيهم الحداد .. ويقاوم .. ويضم الجسد ..ويخاف الفضيحة المقبلة فيعض ويمزق اللحم .. ويسكت الصرخة برش الجاز وحرق الجسد .. ويرش الجاز على نفسه ويموت محترقا بسره ..

– مشهد موت فهيمة بالحمى

– مشهد قيام السعديى بقطع عنق الحفيدة نبوية بالمنجل وهو من أشد المشاهد عنفا وقسوة ( أخرج من بين طيات ثوبه الممزق المنجل القاطعة الحادة الأسنان وقبض على لمة الشعر الأسود المعفر المهوش كما يمسك بحزمة برسيم وحصد العنق الشامخ فمال البرج وطار الحمام وعوى الذئب ) والمشهد يصور العنف البشع فى تلك القرية فى جنوب مصر والتى هى مثال لكثير من القرى ويصور أيضًا مدى العنف والقسوة ضد المرأة فى صعيد مصر ولا أظنه قد تغير ورغم حياد الكاتب فى وصف ذلك المشهد البشع ألا إنه يدفع بالقارئ إلى إدانته .

سادسًا / الخرافة والمعتقدات الشعبية

حفلت رواية الطوق والأسورة على تصوير كثير من الوقائع التي تحمل الخرافة والمعتقدات الشعبية كانعكاس لمجتمع قريته بجنوب مصر وعلى سبيل المثال

– عنة الحداد وفشله فى الدخول على زوجته فهيمة ووصفه بأنه مربوط     ( واحدة من بنات الانس تريد الحداد لنفسها فاستعانت الشريرة ببنات الجن القادرات ) وتلجأ الى الشيخ العليمى الذى يصف لها قلب هدهد أبيض وزجاجة بها سائل عكر .

– تماثيل الكباش بالمعبد (تلك الكباش كانت بشرا فى الزمن القديم وغضبة الله هى التى حولت بشر ذلك الزمن القديم الى حجر عقابا لهم على كفرهم) ص324

– عندما مرضت فهيمة بالحمى جاءوا بالمدكلم حلاق الصحة وحلق شعر رأسها وفصده بالموسى ولما استمرت الحمى أوقد نارا وحمس مسمار وكوى رأس فهيمة ثلاث مرات ثم قال ( بذلك أكون قد قتلت الدم الفاسد العكر والامر بعد ذلك لله وحده يفعل ما يشاء ) ص 334 والتى ماتت وأسلمت الروح شاهدة على جهل تلك البيئة الى أودت بحياة الأبرياء ولا شك أن الرواية ثرية وغنية بسمات أسلوبية وقصصية أخرى وتظل شاهدة على موهبة ونبوغ القاص القدير يحى الطاهر عبدالله رحمه الله .

بقلم مصطفى فودة

رأيان حول “الطوق والإسورة ..سمات أسلوبية وقصصية”

أضف تعليق