أطياف محفوظية…عبير سليمان

دعيت لإحدى الاجتماعات ، وعندما بدأت بالجلوس ضمن الحاضرين وجدت من ترأسه أفعى برأس سيدة من المقربات للقيادة العليا للجامعة ، وقد نبت لجسدها ذراعان في كف إحداهما سيجارة ، تنفث دخانها في وجوه الجالسين ، وكلهم من أصحاب اللحى الكثيفة ، سخرت من نفسي وتساءلت :” ماذا جاء بي وسط هؤلاء ؟” ظللت صامتة أتابع حديثهم ، غمرتني السعادة لما رأيتهم أعينهم لا تنظر إلي ، ظننت أنهم معميون عني . في ختام الاجتماع توجهوا كلهم لتقبيل يد السيدة ، حاولتُ التخفي والهروب ، لكنها لسوء حظي لمحتني فنادت علي بإسمي ، وهددتني بالسجن إن لم أفعل مثلهم ، مكشرة عن صفي أسنان سوداء ونفسٍ كريه انبعث في أرجاء الغرفة على اتساعها ، ارتعدتُ خائفة لكني خرجت مسرعة وأحد أتباعها السمان يركض خلفي ، وعندما أوشك على الإمساك بي خانه جسده ، ظللت أركض بينما سمعت من خلفي دوي ارتطام هائل على درجات السلم الرخامي!

**

بعدما أجلسني بجواره وحاول وضع يده على كتفي ، وجدتني أنفر منه وأبعد يده عني نافضة إياها كأني أنفض عن جسدي قذارة أو نجسا علق به ، حاولت الابتعاد والخروج من باب الشقة ، وجدت أمي تصرخ في قائلة :” عودي إليه ، إنه في حكم زوجك وله حق عليك ” ، نظرت لها بدهشة وصرخت ” لا ليس زوجي ، ولن يكون حتى لو دفعت حياتي ثمنا للهروب ” ، نظرت لوجهه المتجمد وابتسامته اللزجة ، فأصريت على الخروج ، فتحت الباب ، حاول منعي فجذبني من القميص ليتمزق وليكشف عن كتفي وأعلى صدري ، دفعته بقوة لأبعده عني رغم ضعفي وضآلتي مقارنة بضخامته.

ثم خرجت وركضت  بكل ما أوتيت من قوة  ، تسارعت أنفاسي وتلاحقت فاخترق صوت نبضات قلبي العالية سكون الليل ، و كأن قوة جبارة تدفعني دفعاً للأمام ، ظللت أركض ، حتى انقطعت أنفاسي و هدني التعب ، توقفتُ بجوار سورحجري ، رسم عليه رأس الإله حورس، جلست إليه وانهمرت الدموع من عيني ، وأخذ جسدي كله يرتجف لا أعلم من برودة الليل ، أو من الإجهاد والضعف ، انتبهت للقطع في قميصي فشبكته بمشبك شعري ، وبكيت كثيرا حتى غفوت من فرط التعب والإرهاق، افقت لأجدني في أول ساعات الشروق ، وشاب ذو وجه مليح بشوش يقف بجانبي يمد لي يده ، وفي يده فستانا ورديا ، رفضت أن أمد يدي خوفا منه وقلت له” أنا لا أعرفك ، من أنت ” ، أرجوك ابتعد عني ، لو أن أحدا من عائلتي رآك هنا سيقتلك “

رد علي وهو يضحك ” كفي عن جبنك ، تعالي معي ، لن يجرؤ أحد على المساس بك بعد اليوم” ، وأخذني معه لمكان ابدل فيه ملابسي ، فنزعت القميص الممزق البالي ، وأخذت منه الفستان الجديد وارتديته ، ثم أكملنا طريقنا سويا ، متعجبة من ذهاب الخوف عني .

**

في غرفة العمليات ، وجدتني راقدة  جسدي مستسلم تماما لأيادي الجراحين ، عقلي يعي كل شيء وعيني ترى أكفا كثيرة مخضبة بدمائي ، يعبثون بأياديهم في قلبي المفتوح ، كان أحد الأطباء رجلا تخطى الستين طويل القامة ونحيلا ، رأيته يخرج من قلبي دمىً وصورا صغيرة اختفت ملامح أصحابها بفضل بقع الدماء المتجلطة التي أخفت الملامح فلم يتبقى إلا آثار من وجوه مطموسة تشبه المسوخ ، بالكاد لمحت إحداها ولم يبد من وجه صاحبها إلا عينا واحدة وفما قذرا بأسنان تعلوها طبقة سوداء ، تكاد تنبعث منها رائحة كريهة لفم لم يُغسل منذ شهور ، جمعها الطبيب بأصابع رفيعة ماهرة وألقى بها في برطمان زجاجي ، تعجبت كيف لهذه العضلة الصغيرة أن تحمل كل هذه الأشياء !

بعدما أفقت جاءني الطبيب المسن فإذا به نجيب محفوظ بنظارته وشامته المميزة ووجهه المبتسم الجذاب ، لولا الجرح في صدري كنت أود النهوض لتقبيل راسه ، قلت له :” لا أقدر على وصف سعادتي لرؤيتك ، لكن طمني ماذا وجدت في قلبي؟”

ضحك قائلا وهو يمسك في يده البرطمان “ما كل هذا الذي كنت تحملينه بداخلك ، هل أنت ممن يتلذذون بتعذيب أنفسهم ويحملونها ما لا تقدر على حمله ؟ لقد أتعبنا انتزاع كل هذه الأشياء الملتصقة بالجدار الداخلي للقلب ، لكننا نجحنا في النهاية ؟”

كان رأسي يؤلمني وعينيّ تعلوهما غشاوة من ضباب فقلت” لا أتبين ما كل هؤلاء “

رد قائلا :” لدي مريضات كثيرات غيرك ولا وقت لدي للثرثرة مع كل واحدة ، فقط أنصحك بعد الخروج من هنا بأن تعاملي قلبك كأنه شقتك التي تعيشين فيها ؟ والمسكن لا بد من تفريغه كل فترة من الأشياء القديمة والبشر الذين لافائدة منهم ، امنحي قلبك فرصة كل شهرين أو ثلاثة للراحة ليتطهر من كل ما يؤذيه ، افتحي الشبابيك ونظفيه واسمحي للهواء أن يتجدد باستمرار حتى لا يبلى ويظل جديدا “

ثم ناولني كشاف ضوئي وأتم حديثه ” خذي هذا الكشاف سيساعدك فهو مزود برادار يرصد قلوب المحيطين بك ويعطي إنذارا ضوئيا بحقيقة من تتعاملين معهم ، سيريحك كثيرا ويكشف لك من أصحاب القلوب البيضاء وأصحاب القلوب السوداء”.

فكرة واحدة بشأن "أطياف محفوظية…عبير سليمان"

أضف تعليق