الحــــلم والشيــــفرة الســريّـــة للمعرفــة والــوجود

 بقلم: فدوى العبود/ سورية

فدوى العبود
فدوى العبود

ربما يبدو قبول هذا المقال ذو النفحة الميتافيزيقية غير مضمون العواقب بين يدي العقلاني والواقعي لكنما يغفر له(أمران)الأول أنه يتناول منطقة تنتمي إلى مجال غامض. والثاني أن أهم انجازات العقلانية تعود في أساسها إلى حلم!

صحيح أنه يتناول منطقة غير مأهولة –وأشدد على غير مأهولة-لكنكل المحاولات التي جرت من فرويد حتى أدلر وفروم لا تعدو تلصصاً من الباب الموارب للنفس أو بأسوأ الاحول من النوافذ المغطاة بالستائر.

 تبدو الأحلام مثل منشور زجاجي له عدة مستويات ويعكس ألواناً واسعة تتجلى في اللغة وفي سرد الأحلام (كجماليات الأحلام، خفّتها ومخالفتها للمألوف،غرابتها وكشفها بأقل جهد وعبر وسائل سحريّة ودراما داخلية عن الحقيقة)

 في الأحلام كلنا مبدعون وحكاؤون من الطراز الرفيع. نرمِّز حكاياتنا لتصبح أكثر تشويقاً وإمتاعاً وتحريضاً للعقل على تفكيكه فالحكاية التي يؤلفها الحالم منبع ثرٌّ للسيمياء وهي مساعد مهم لعالم النفس لفهم الرغبات الداخلية والصراعات والمخاوف.

 لكن ثمة جانب آخر يرتبط بعلاقة الأحلام بالكون أو وحدة الوجود بالمعنى التنويري والنوراني لا المعنى التقليدي الكلاسيكي بالمعنى العالِم والعارِف الذي يجعل كل كائنات الكون حيّة وغير حيّة ترقى لبلوغ إجابات تساعدها على فهم وجودها. وهذا يتآلف مع فكرة ” لا شيء يفنى” في الفيزياء وهي ذاتها فكرة المحبة واندماج الكائنات في روح كلي عارف وحكيم. وتحولها إلى بعضها البعض.

يمكن لسؤال لم يجد إجابة، أو ضل عبر الزمن أن يظهر في حلم أحدهم.

ولعل هذه الحكاية تمكنني من بلوغ المعنى الذي أريد توضيحه.

والبداية ستكون مع مولد الأرواح -كما يطلق على نفسه-فبعد أن ينهي زيارته للمعبد الحجريّ، يذهب الرجل الذي لم يدوِّن حرفاً ولن يترك كتاباً تحت إلحاح النعاس إلى فراشه.  إنّه متعب -فتوليد الأرواح أشقُّ من توليد الأبدان-ورجّة السؤال أشدُّ على الروح من هناءة الجواب-وما إن يدلف إلى عالم الحلم حتى تأتيه عرّافة دلفي. لقد تركها في المعبد بعينين مطفأتين – لكنها هنا مُبصِرة وذات نظرة أموميّة-أشارت للكلمات المنقوشة بحروف بارزة فوق بوابة المعبد وقالت: “ياسقراط اعرف نفسكَ بنفسك”

لم تكن هذه العبارة لتعني “معرفة دواخلنا أو مواجهة أنفسنا” فقط وهذه جزء من تأويلها بل رسمت وحددت النبع الذي يجب أن يتدفق منه نبع الفلسفة باختصار“الإنسان” وكانت وستبقى بمثابة البوصلة التي تشير للاتجاه الصحيح. لكن لن يمضي وقتٌ طويل حتى تُسدَل ستائر النسيان وهو -طبع أصيل فينا-على جهد سقراط. وستغزو الأعشاب الجافة والسامة للفلسفة الوسيطة التي اضطهدت الذات فيتوقف السؤال ويعم التقليد والاتباع.

 نحن الآن في العصر الوسيط عصر الشك. والصراع بين الأفكار والمذاهب، واضطهاد العلماء. الظلامية ومحاكم التفتيش التي أعدمت وقطعت ألسنة دون وجه حق لسادة الفكر التنويري (راموس –برونو-كامبانيلا-فانيتي)

ولنقرأ هذه العبارة من مقدمة كتاب رينيه ديكارت مقال عن المنهج”وهكذا أسدل الشك سحب ظلمته على كثير من العقول فزلّت، وتغيرت القيم الخلقيّة والروحيّة فضلّت؛ حتى ظهر ديكارت”

فما الذي حدث! وما هي نقطة البدء؟ ما الإشارة التي قدحت زناد أهم العقول في تاريخ أوربا الحديثة! وما علاقة كل ذلك بالذي أنزل الفلسفة من السماء للأرض (سقراط)!

لنقرأ ما يلي: في ليلة باردة يغفو ديكارت بجانب المدفأة، فيرى ثلاثة أحلام وهي على التتالي.الأول ريح عاصفة تهاجمه بينما يسير في طريق (والثاني باحة كنيسة حيث يقف رجال دين يناقشون أموراً وقضايا دينيّة حتى أنهم لا ينتبهون للريح العاصفة وهي تعبث وتكاد تمزق أرديتهم الكهنوتية (والثالث وهو ما يهمنا هنا: يرى ديكارت فوق طاولته كتابين: الأول معجم والآخر مختارات شعرية، يفتح أحدهما فيجد عبارة (أي سبيل من سبل الحياة أتبع)

تعالوا لنقرأ الحكاية سيميائياً: الريح العاصفة هي عصره العاصف والمضطرب)

باحة الكنيسة ورجال الدين الذين لا ينتبهون لشدة الريح في (الكنيسة التي تنفصل عن الحياة وتتحول إلى لغو وسفسطة)

ولنضع رحالنا ونستريح عند العبارة الأخيرة (أي سبيل من سبل الحياة أتبع)

 سنرى أنها تتمة لعبارة سقراط (اعرف نفسك بنفسك) وكأن هناك تصادٍ بين الأزمنة والعصور والأفكار يجعل كل فكرة تتابع مسيرة سابقتها. وفي مثالنا تبدو رؤيا سقراط مختلفة(وذلك لا يعدو الظاهر فقط) فمضمونها يشير إلى محنة ضياع الذات ورغبتها بمعرفة الطريق وهذا لا يتم دون أن تتعرف الذات إلى داخلها من خلالها لا من غيرها (اعرف نفسك بنفسك) لقد حلقّت عبارة سقراط عبر العصور وأتى حلم ديكارت ليحييها فالشيفرة السريّة للوجود الملغز الذي أتينا إليه تحل على دفعات وعبر أرواح قوية وعالمة وحية ويقظة تتبادل المعرفة بينها وهي عابرة للزمان والمكان. من أجل فهم الوجود الذي يكشف عن نفسه عبر معرفة الإنسان لذاته (إذا عرفت نفسك عرفت الطريق)

سيحدد ديكارت الذات ويشعل فتيل العقل ويرى أنه”أنا مفكر”لكن كانط سيعثر عليه عن الأنا الأخلاقي الترانسندنتالي والمتعالي أما نيتشه فقد فكك القيم ليعثر تحت مظهرها على الجذر المتعفن! مع الوجودية وأبرز أعلامها سارتر وهايدجر يتحدد الأنا في الانفعال بالوجود والشعور والتغير ونفي الثبات وسيؤسس للحرية. وكل ذلك سيخرج من معطف سقراط (اعرف نفسك)

يكشف تاريخ العلم عن أن التحولات الكبرى هي نتيجة أحلام أو رؤيا أو هزات عنيفة وجدانية تعرضت لها أرواح مستنيرة ومستعدة للتلقي والمتابعة فيه. وهي بدت كإشارات أو نجوم هادية وسط حيرة الكائن وسؤاله عن وجوده. لقد اعتدنا أن نرى في الحلم كاشفاً عن دواخلنا وذواتنا. لكنه يمكن أن يكون طريقاً للعلم.  ما جعل فرويد يصف حلم ديكارت بأنه ” حلم يأتي من أعلى” وهذا الأعلى ما أحببت في هذا المقال مشاركتكم أياه…رغم غموضه! وكأنه دعوة من قوى تفوقنا للاكتشاف! أو رسالة من روح ملهِم (بكسر الهاء) لروح ملهَم (بفتح الهاء) ومن الطرافة أن يسهم حلم في تأسيس العقلانية والحرية الأوربية التي ترفض الميتافيزيقا والماورائيات

وبعيداً عن فرويد ومنهجه التعميمي بالنظر للجنس كأساس للوجود.ومدرسته التي تسند الحلم إلى الصندوق الأسود الذي يحتوي أشياء مخجلة ومخاوف مكبوتة وخبرات سيئة وتسرح وتمرح طليقة في عالم الحلم. وهي أذكى من الجزء الواعي بحيث ترمز نفسها وتبدو كأحجية او لغز للوعي الذي سيحاول فكها. وعن يونغ الذي ينسبه إلى لغة منسيّة بنسبتها إلى مصدر علوي فنحن الآن نفكر في أهمية الحلم معرفياً ودلالتها على وحدة الوجود هذه الأحلام التي تتلقاها أرواح مستنيرة. فقراءة الاكتشافات العلمية وأحلام كبار الحالمين تدل بما لا يدع مجالا للشك ما يمكن أن نطلق عليه (وحدة الوجود) وكأن الكون بتنفس وينام مثلنا ويستيقظ ويحلم أيضاً بنا؟ وهذا يؤدي إن ننتقل من مجال الفهم والتفسير إلى مجال القبول والمشاركة في الوجود.

إن القضية التي نطرحها ليست علاقة الحلم بالإبداع وهذا موضوع تم التطرق له بكثرة. لكن علاقة كل حلم بوضع لمسة أو صدفة أو ياقوتة هذه الفسيفساء الوجودية وكأن كل حلم هو حرف في عبارة كبيرة وحيدة هي ” الإنسان

وهو حدس سليم يفرض علينا أن نرحب بالحياة من خلال المعرفة والجمال ودعوة للمشاركة في الوجود “أن نتلقى لا أن نستقبل فقط”وحتى لو ضيع أحدنا الطريق سيأتيه دائما حلم ما لإنقاذه لا لفهم الذات فحسب بل لإفهامها أن لها دوراً تتجاهله في غمرة الحياة ومشاغلها ولهوها وأن تحت المظهر العبثي واللاعقلاني للكون يوجد هدف جمالي وروحي سام يجعل منّا لا أدوات كما تحسب العدميّة وشقيقاتها، وكما أرادت منا الحداثة السائلة والرأسمالية الجشعة التي يهمها منطق الربح والاستغلال.بل فاعلين ومرسلين. ولن يتسنى للجميع إزاحة الستارة المتآكلة عن وجه الوجود الجميل.

ولنقرأ هذا الحلم لرجل سكير غضوب

“في الليلة الأولى بينما كان في فراش مومس،رأى مايكل انجيلو، الرسام والرجل الغضوب أن الله يزوره بواسطة المسيح ويشير إليه بإصبعه، كان في حانة يجدف باسم المسيح ويضحك.

أنا؟ تساءل مايكل انجيلو مريزي بذهول،

 لكني لا أتمتع بكرامات القديسين، لست إلاّ آثماً.

 في ذلك الأوان بقي وجه المسيح متصلب القسمات. جاء نادل الحان بطبق فاصولياء ونبيذ.انهمك مايكل أنجلو مريزي بالشرب، ولم يكن أحد يتحرك من حوله.وحده يحرك يديه وفمه كشبح.

كان المسيح بدوره ساكناً…

نهض مايكل أنجلو وسار في زقاق معتم وتبعه. وصل أحد الأركان ووقف يتبول كل ما احتساه من النبيذ في ذلك المساء

إلهي لم تبحث عني؟ ساءل مايكل أنجلو مريزي المسيح. فنظر إليه ابن الإنسان دونما جواب

أنا حزين. قال مايكل أنجلو مريزي نظر إليه المسيح دونما جواب

جلس على دكة حجرية وخلع صندليه. وقال: لقد تعبت، أتيت راجلاً من فلسطين بحثاً عنك

-كان مايكل أنجلو مريزي يتقيأ مستندا إلى زاوية جدار.

لكنني، أنا، آثم.. صاح: لم يكن عليك أن تبحث عني.

دنا منه المسيح ولامس إحدى ذراعيه.

أنا من جعل منك رساماً، ومنك أريد رسماً، بعدها لك أن تقتفي آثار قدرك.

 في كل الأحوال سواء كان الحلم يتجه للمستقبل ويبدو كرؤيا (من حلم زوجة قيصر إلى حلم الفرعون إلى حلم يوسف) أو يظهر كانفتاح معرفيّ كحلم ديكارت الذي ألهمه بيت شعريّ “منهجه الفلسفيّ” أو كحلم سقراط الذي قَلَبَ مسار التفلسف. وسواء التفت الكتّاب لجمالياته وغموضه كما فعل بورخيس، أو إلى الجانب الكابوسيّ منه كما نجده عند “إدغار آلان بو” يبقى الحلم انفتاح على الذات التي وصفت بالمرآة لكنها ليست مرآة عاكسة بل تحوي بداخلها عالم آخر مشابه للعالم الذي دخلته أليس في قصص “لويس كارول”. عالم ثريّ يفوق قدرة الوعي حيث يتخبط الأنا وحيداً، فوق أرض اللاوعي وعليه أن يعثر على أجوبته منفرداً لا ينتظر معونة أحد! في جمهورية الحلم لا يسمح للزمن بتجاوز العتبات، ولا يُقبَل أيّ وجود للمنطق وعلى الحالم أن يدخل عارياً. فلا يستطيع أحد أن يقرأ تجربتنا أفضل منّا! والحلم هو إشارة ضمن مجموعة كبيرة من الإشارات ليس هو أولها ولا آخرها بل ربما أغناها وأكثرها أهمية.

هل تخاف أحلامك؟  هل تهرب من الأسئلة التي تطرحها عليك إلى النسيان؟- (لقد تساءل البعض إذا كان هناك وعي في الحلم، إن غرابة الحلم تدفعنا إلى الاعتقاد أنّ هناك ذاتاً أخرى تحلم فينا،

لا يمكننا أن نعرف إذا كانت الأحلام وسيلة الكون للتواصل معنا عبره.ومع أن الحلم هو نشاط للفكر. -هذا أكيد-لكن يبدو كل حلم وكأنه حلقة في سلسلة أكبر. بحيث يمكن أن يكون حلم في القرن العشرين إجابة أو تتمة لسؤال طرحه أحدهم في القرن الخامس قبل الميلاد. أحياناً تظهر الأحلام مترافقة مع الأحداث المؤلمة والحروب التي إضافة للتدمير والأذى الذي تسببه تكشف الستار أكثر عن الإنسان والعالم يكتب جوف (إن المآسي التي لم تنته تعطي أعمالاً، أعمالاً حيث النفس مازال نشطاً، واضح الرؤية، حذراً،جسوراَ، ومعقداً)

كل هذه الأحلام التنبؤية أو العالمة تبدو –وهذا ليس حكماً قطعياً-وكأنها تأتي لتكمل أو لتحل جزءاً من أحجية الوجود فلا فهم للوجود ولا جمال ولا تقدم بدون فهم الذات وربما كل حلم هو قطبة أو غرزة في نسيج الكون الذي لو رفرفت فيه فراشة بجناحها لأحدثت عاصفة في مكان وزمان آخر.  فكل الأسئلة والأفكار تدور في الكون كطاقة ثم تأتي مبثوثة في أحلامنا لنعيد فهمه من جديد أو فهم ما استعصى علينا في هذا العالم.لقد كان جواب ديكارت على أي سبيل تتبع؟ هو سبيل الفكر سيصحح له بعد ذلك كانط ويخبره انه السبيل الأخلاقيّ، فالإنسان غاية بذاته. لكن الوجودية ستنحاز للأنا موجود وهو ينفعل ويشعر ويتغير

يبدو الحلم إشارة للحقيقة بشقيها المعرفي والذاتي أو قفزة في المستقبل وربما يساعدنا فهم الأساس الحلمي للحياة أن نفهم أكثر تناقضات النفس البشرية وان نؤول هذه التناقضات في إطار جمالي لا إطار (هوبز أو ميكا فيلي أو فرويد) وفي فهم تناقضات الحياة وفي قبول هذا التناقض الذي يحتوي في نواته على النظام وعلى وحدة الكون وسمو الجمال. فكل سؤال هو خطوة إذا تعثرت في الواقع أمكن للحلم أن يحلها ويصوبها

وربما لو كانت حياتنا بدون أحلام لانهارت الكثير من الانجازات العلمية والإبداعية ولأصبحت حياة جافة وسواء وافقنا كارل يونج الذييرى أن من يتحدث في الأحلام ليس العقل الباطن بل صوت الغيب وأنه إلهام من الملأ الأعلى، أو خالفناه يبقى كل حلم بمثابة إكمال أو تعزيز لحل أحجية الوجود التي تبدأ واضحة للطفل وتصبح غامضة وكأننا كلما تقدمنا في الحياة نزداد عماء حتى لتبدو الحكمة التي نتشدق بها أحيانا وكأنها عماء من نوع جديد. فالوجود بكل مكوناته يبرهن لنا يوما أثر يوم أن نكون “كالأطفال لا نتلقى فقط بل نستقبل بحب وامتنان”

فكرة واحدة بشأن "الحــــلم والشيــــفرة الســريّـــة للمعرفــة والــوجود"

أضف تعليق