الحلم الذي لن أرويه لجدتي…قصة: صفاء النجار

رأيتُ حلمً.. وأنا كثيرًا ما أصنع أحلامي، لكنني هذه المرَّة لا أخترع حكاية، كما أن التردد الذي أُبديه، وعدم رغبتي في حكيه، والقتامة

الباردة التي تقبض صدري كلها تؤكد أنه فعلً حلم، وليس نسيجًا صنعته مخاوفي.. في الغالب لا تحتوي أحلامي على أُمنيات، ولكنها رُؤى تُحمِّلني وزر تحقيقها، ولأن التجارب تجعلنا أكثر حنكةً فنتعلم كيف نتخيَّ الفصلات، والنقاط، والحروف، التي نُخبر بها عن رُؤانا، فإنني أتردَّد الآن أمام مجرد الرغبة في إعادة رواية حلمي. ثم إنه لماذا عليَّ أن أتطوَّع وأحكي عن شيء أنا وحدي الشاهد عليه، ولم يعرف أحد بحدوثه غيري؟ ربما وحدها جدَّتي تعرف، لو أنني أستطيع التأكد من أنها حقًّا رأت ما رأيت.

التجارب التي تعلمنا الحكمة تثقلنا بالشك، وتبتلينا بعدم اليقين، فعندما كنت صغيرة كانت جدَّتي تعرف كل أراه من أحلام، كأننا كنا

نشاهد الحلم نفسه، أو كأننا نتشارك مشاهدة المسلسل التركي «حريم السلطان »، كما نفعل في التاسعة مساء كل ليلة، وفي ظهيرة الغد التالينستعيد معًا قصة الحب بين «السلطان » و «هيام .»

قدرتها على إكمال حلمي تبهرني، وتؤكد لي أن الآخرين يمكن أن يشاركوني الحلم نفسه، هذه الفكرة في طفولتي كانت مُطمئنةً ومُريحةً،

خاصة إذا كان بحلمي أشباح ونساء وأيادٍ مقطوعة، كنت واثقة وأنا في الحلم أن جدَّتي التي كنت أنام بجوارها في السرير ستدفع هذه الأيدي قبل أن تلمس بأطرافها المُهترئة وجهي، ففي الصباح تجدني جدَّتي مُلتصقةً بها فتسألني: «حِلمتِ بإيه يا بيضا؟ .»

نادرًا ما أبدت جدَّتي انزعاجًا من أي حلم رأيته، ولكنها كثيرًا ما أوصتني

بألا أخبر أحدًا بحلمي، كما حذَّرتي ألا أتفوَّه بكلمة عندما أخبرتها أني رأيت «سماح » ابنة عمَّتي تقف حزينة حائرة في حقل برتقال كبير، وكيفأن كل ما كانت تجمعه من برتقال كان يفسد في يدها، ويتحول من اللون البرتقالي الزاهي إلى اللون الأسود، قبل أن تنكمش البرتقالة وتصغر وتصغر، وتتحول إلى رماد أسود، جعلني أستيقظ وأنا أعطس. لا أعرف

لماذا قلت لجدَّتي بعد أن انتهيت من روايتي للحلم: «تيتة، سماح رسبت في امتحان الإعدادية .»

اندهشتُ لمقولتي، وأنَّبتُ نفسي، وتوقعت أن تلومني جدَّتي، أو تنهرني عن تفكيري السيئ تجاه ابنة عمَّتي، لكن جدَّتي ربتت بأسى على كتفي وقالت بشرود: «كل واحد يا بنتي بياخد نصيبه .»

منحتني طفولتي يقينا بأن جدتي تشاركني أحلامي، لكنني في لحظة ما، ومع بداية المراهقة انتابني شعور بالشك، ورصدت أن جدَّتي

تستخدم خبرتها وفطنتها كي تكمل بعضًا مما تستنتج مما أحكي، فشعرت بالخديعة لسنوات، ولم أخبرها بكشفي، لكن الأيام لما طالت، وعندما تساوى ظل حياتي أيقنت أن النعمة بين روحينا كانت موصولةً.

عُدتُ أروي لجدَّتي كل أحلامي، في حين لم تُبادر هي أبدًا بأن تحكي لي أحلامها، حتى كان صباح الجمعة الماضي، استيقظت مضطربة.. كان حل مً قصيرًا خاطفًا، لكنه كان مُوجعًا، وكنت أخشى تفسيره، أو كنت أخمن التفسير، ولكن أرفضه، من هي الشمعة التي طوَّحت شعلتها رياحٌ ساكنةٌ؟! شعرت بأن روح الشمعة تستقر في صدري، وكان اختراق الشعلة لصدري خاطفًا مؤلمًا، وكان مجرد تذكُّري لتلك اللحظة كافيًا بشعوري بالانقباض، فبقدر ما امتلأ صدري بكثافة لم أدرك كُنهها بقدر ما انسحب الضوء من حلمي، وحل ظلام بارد لَزِج.. لم أستطع أن أحكي حلمي لجدَّتي، وهي في ذلك الصباح لم تسألني.. بل قالت لي بابتسامةهادئة:

«لا تخافي أبدًا، ستجدين كل ما يضيع منك. وسيسير طريقكِ إليكِ.  وسأكون معكِ دومًا »، لكن جدَّتي لم تعد معي، وصرتُ أحلم

وحدي. هل كان حلمي بالألوان أم بالأبيض والأسود؟!

كنت في الحلم في مكان ما خارج القاهرة على الطريق بين المنصورة والقاهرة، بالتحديد بين بنها والقاهرة.. لم تكن هناك معالم واضحة تمنحني يقينًا بمكان وجودنا، غير أن الغريب أن زوجي كان يقود السيارة، ولم يكن معنا سائق، لم يكن هناك معالم محددة غير امتداد الزراعات على جانبي الطريق، وبينما نسير والمقود في يد زوجي اليُمنى، أخرج بيده اليُسرى ساندويتش من كيس ورقي بجانبه، اندهشت، هذه ليست عادته، فهو غير أكول، ونادرًا أو قليلً ما يأكل أثناء السفر، أردت أن أساعده، بينما يفك غلاف الساندويتش، فأمسكت بالمقود، لكننا انحرفنا عن الطريق.. لا لم ننحرف، فجأةً ظهرت شجرة في وسط الطريق، وقد وقفنا، أو تجمَّد  كادر الحلم قبل أن نصطدم بالشجرة التي انبثقت قبل سنتيمتر واحد من مقدمة السيارة، لم يكن زوجي غاضبًا، لكنه لم يكن راضيًا، وشعرت في الحلم بأن وجودي لا فائدة منه، بالعكس بدا وكأن إمساكي بالمقود هو الذي استدعى الشجرة كأنني ضغطت على زر النداء الآلي لها، أو أنني أستدعي كل المعوقات في طريق زوجي، لم ينطق لسانه بذلك، لكن طريقته في إزاحة يدي عن المقود، صرخت: «هذا يكفي »، كانت حركته

محملة بطاقة من الغضب والاعتيادية كأن هذا الأمر يتكرر دائمًا، وأنه لا فائدة أو أمل، كما تصيغ الأمهات تعبيرهن عن مللهن من تكرار عدم غسل الأطفال لأيديهم بعد الأكل، أو غسل أسنانهم، أو قذف الملابس في  كل مكان على الكنبة والسرير والسجادة.

هل أُذكِّره بأنني أحمل كل صباح جواربه من «الريسبشن » إلى الحمَّم دون تذمُّر؟ سأكون الخاسرة في المقارنة، فقد كنت ممتنة لنظامه

الدقيق، وإصراره على أن يخلع جواربه في مكان محدد تحت كرسي الفوتيه المُواجه لتمثال العبد البحَّارة.. أنا دومًا مُمتنَّة له.. نظامه الصارم

يجعلني أخجل من المعاناة التي أسببها له باستدعائي الدائم للأشجار والطيور والأمطار في طريقه. هي أشياء لا تعوقه عن مساره كثيرًا، لكنها تخرجه من إطار الانضباط إلى عالم الفوضى الذي يكرهه.. استدعائي للحكايات.. لأخبار الجيران،

لحكايات الصديقات، وقصص الأولاد.. أنا لا أحلم أبدًا بأولادي.. دائمًا في أحلامي أكون وحدي في مواجهة العالم، أو وحدي مع زوجي.

بعد أن ثبت كادر الشجرة أمامنا، تحركت السيارة، دخلنا قرية من القرى التي على الطريق، لم يظهر في الحلم مدخل القرية، أو كيفية

دخولنا لها، لكني وجدت بمهارة مونتير، وبحركة مونتاج حادَّة أننا في وسط بيت ريفي، أجلس على «كنبة »، بينما زوجي واقف ساند كتفه على حائط طيني، مرتديًا بالطو أسودَ طويلً، يطابق أداؤه في هذا المشهد من الحلم أداء «أحمد السقا » في النصف الثاني من فيلم «تيتو »

مسيطرًا، ذا خبرة، كأنه يعرف هذا البيت جيدًا، وله أيادٍ على أصحابه، صورة عصرية من المعلم «سلطان » في فيلم «سمارة ». من خلف باب خشبي في وسط الدار خرجت سيدة طويلة وعريضة، تذكَّرتُها، واحدةً

من الشغَّالات الكثيرات اللاتي مررن بأيامي، هممت أن أُحيِّيها: «ازيِّك يا… ». لكنها أبدت فعلً غريبًا، حيث نظرت لي من فوق لتحت وبتفحُّص،

لم أستطع متابعة تفاصيل انسياب عينيها على جسدي وملابسي، وقالت:

«إنتِ بقى سامية؟ .»

سامية.. سامية، دون ألقاب؟ دون حواجز؟ كأني غريمتها، أو كأن هناك أي مجال مشترك يمكن أن نتساوى فيه، لماذا يبدو أنها لا تعرفني، كأننا

لم نلتقِ من قبل، عملت لديَّ لمدة ثلاثة أشهر، واختفت فجأةً، أنا أيضًا لم أخبرها أنني أعرفها، ظهرت بغتةً، واختفت بغتةً، وظل وجودها جاثمًا على

المكان، وبقيت رائحتها التي هي مزيج من اللبن الرائب، والماء العطن، والعرق، تملأ أنفي، في حين سيطر جلبابها بزهوره البرتقالية الفاقعة على

مجال رؤيتي على الرغم من اختفائها.

طالب زوجي بتجهيز الأشياء التي سنأخذها معنا، خمَّنت أنها الفطير

المشلتت، والبط، والجبن، والعسل، المأكولات التي يُوصي بها زوجي عندما نعود من أي زيارة للأرياف.

اختفى الجميع من المكان، غابوا خلف الباب الخشبي البدائي المصنوع  من ألواح عرضية من الخشب، يفصل الباب بين الصالة وجزء من البيت

لا أعرف ما خلفه.. يأخذني هذا الباب للباب الذي يفصل بيت جدِّي، حيث الجزء الأول قاعتان للضيوف تطلان على الحديقة الأمامية،

وتكعيبة العنب، وتفتحان على ساحة واسعة ترتفع عدَّة درجات عن مستوى الحديقة، تؤدي الساحة لفناء آخر تفتح عليه أربع غرف نوم،

ثم باب ثانٍ يؤدي إلى مساحة أوسع يفتح بها المطبخ، والمخزن، وغرفة الخزين، والحمَّمات، وينتهي هذا الجزء بباب حديد يفتح على الحديقة

الجانبية، حيث تنمو أشجار البرتقال والجوافة واليوسفي والمانجو، وتطل غرف الجلوس والنوم البحرية بشبابيك طويلة عليها، بينما تطل الغرف

القبلية على أرض واسعة وساقية تدور بها جاموسة مغطاة العينين، وغيطان تمتد للترعة التي تروي أراضي القرية.

تجلس جدَّتي خلف الباب الخشبي لغرفة الخزين حينما تُناقش أمرًا عظي مً مع أولادها، كانت غرفة الخزين مكمنها، وإذا أرادت معاقبة

أحد منَّا نحن الصغار، أو الخدم، أو لوم أحد من الكبار من أعمامي وعمَّتي تختلي به في غرفة الخزين، الباب دائمًا مفتوح، لكن إغلاقه يعني

أن هناك أمرًا خطيرًا، سرًّا.. عندما رفضت عمَّتي «ضحى » الزواج من ابن عمِّها، اجتمعت جدَّتي مع أبي وعمِّي في هذا المخزن، حشدتهما ليُناصرا موقف شقيقتها، وخرجا ليُعلنا لجدِّي تأييدهما لموقف أختهما، فلا يُعقل أن تتزوج «ضحى » المتعلمة من فلاح حتى لو كان سيرث نصف أملاك

القرية، تسمَّعتُ لجدَّتي من خلف الشباك المشغول بالسلك الحديدي، ولما بدأت صحَّة عمَّتى في الاضطراب، وظهرت عليها أعراض هلوسة

وسرحان وهياج، وذهبوا بها للأطباء في القاهرة، والزقازيق، ولم تكن هناك من فائدة غير الكدمات الزرقاء وتساقط الشعر الذهبي لعمَّتي «ضحى »

التي ورثت زُرقة العينين من جدِّي، وذات يوم جاءت زوجة عم أبي، سحبتها جدَّتي لغرفة الخزين، وقالت لها: «أبوس إيدك، تفكي اللي انت عملاه لبنتي، هجهّزها لك وأجيبها لحد عندك من غير شبكة ولا مهر .»

لكن زوجة العم صاحت: «عيب يا حاجَّة، وحياة اللي حطّيت إيدي على قبره، مالي صلة باللي فيه ضحى.. أعدم صحِّتي، والعيش والملح.. ده كل

شيء نصيب. أنا خلاص خطبت لابني .»

انهارت جدَّتي في البكاء، وكان هذا آخر أمل لديها. ما زالت نهنهة جدَّتي وحيرتها يأتيانني من خلف باب مغلق، وأنا وحدي

متكومة في صالة، لا أعرف ماذا يدور بالضبط في الداخل، لكن مخاوفي هي السائدة كأن حزنًا ثقيلً لن أتحصَّل على سواه عندما يفتح الباب.

لم تكن عادة زوجي أن يختلي بأحد، ويتركني وحدي، حتى في بيت أهله؛ عندما يدخل من الباب يُنادي «سامية فين؟ »، وعلى الرغم من

محاولات أمه وشقيقاته شغله عن سؤاله بطرح تساؤل مثل: «شُفت خالك؟ عامل إيه؟ الحاج سميح باع.. »، فيقاطعهن: «فين سامية؟ سامية .»

وأكون خلف أحد الأبواب أنتظر للحظة المناسبة التي أظهر فيها، فيحيط عنقي بذراعه، ويهمس لي: «كويسة؟ فأرفع عينيَّ إليه، وأبتسم .»

وعندما تطلبه شقيقته في كلمة سر، أو موضوع على جنب، يتحرك وذراعه حول كتفي، فأتحرك معه، ويدفعني بحركة جسده للأمام، فكأنه

يقدمني على نفسه، وأنه لا أسرار تخفى عليَّ، لكنه لم يدعُني لمصاحبته

لما وراء الباب المُستعرض. طالت مدة انتظاري، وزادت مخاوفي، لكني لم أجرؤ على النهوض والتحرك ودفع الباب المغلق، لديَّ إحساس بالخوف، الخوف من مجهول سيكون عدائيًّا تجاهي.. يمكن للمرء أن يضع يده مرَّة واحدة في قُبَّعة الساحر ليلمس ورقًا مقصوصًا مُتلوِّنًا، وإذا بهذه القصاصات الملونة تتحول لفأر تلمسه الصغيرة في قُبَّعة الساحر دون حذر، تقترب الفتاة

التي لا تعرف أبعاد ما بالقُبَّعة القطيفة السوداء، والمزينة بنجوم ذهبية، تتحرك يدها على الجسد الفرائي اللدن حتى تقترب من الرأس، لكن ألمًا حادًّا يُباغتها، فتسحب يدها صارخةً لتخرج يدها وفأر أسود يغرس نابه في إصبعها، تنطره للأرض، ومعه تتناثر قطرات دم على ملابسها، وعلى التورتة، وعلى الحاضرين، وتقضي ليلة ميلادها العاشرة في المستشفى،بين الغُرز الثلاث لسن الفأر السحري ومضادات التسمم والسُّعار، انتهى عيد الميلاد، واختفى الساحر، وبقيت ندبة في إصبع الصبية تؤلمها إذا أقدمت على مغامرة، أو دخلت عالمًا مجهولً.

ظهر في كادر الحلم رجل ضخم قوي مفتول العضلات، يمتلك قوة لا تُتاح لمزارع، قوة من تفرَّغ لتربية عضلاته. جلس بجواري على الكنبة، رحَّب بي، ومدَّ وجهه لخدِّي، حاول أن يُقبِّلني، ترصد العدسة حلمي فقط بحركات «بان رايت »، و «بان لفت »، لم تكن لها نظرة بانورامية، أو دائرية. ظهر زوجي، فكأني استنجدتُ به، كوَّر قبضته، فتوقَّعته سيُسدِّدها لوجه هذا الغريب، لكنه لم يفعل، نظر له الرجل نظرة غريبة، نظرة تحدٍّ، مُقايضة، مساومة، فقبض زوجي يده وضربها في كفِّه الثانية.. نظرت له وخرجت مسرعة من المكان، لم يغضبني أنه لم يضربه، أغضبني التواطؤ الذي لم أفهم سرَّه، جريت غاضبة، وأنا أتوقع أن يلحق بي زوجي، وأنينتهي هذا الحلم، لكن أحدًا لم يتبعني، وشوارع القرية كانت طينية، وبها حفر طولى لإدخال الصرف الصحي، وأنا أرتدي فستانًا أحمرَ بدوائر

سوداء، وأرى قدميَّ وهما تجريان، تتعثَّان وسط أكوام التراب والطين، ويداي تستندان على الجدران خوفًا من الانزلاق.

خرجت للطريق الرئيسي؛ طريق به سيارات تسير في اتجاه واحد لم أعرف في أي اتجاه تسير، هل للقاهرة، أم للمنصورة؟ ألتفتُ خلفي..

لم يكن هناك أحد، لم يلحقني زوجي، تزايد غضبي، أوقفت أحد المارَّة، سألته عن هذه السيارات، هل تذهب للقاهرة؟ هزَّ رأسه بأنه لا يعرف، سألت صاحب محل عصير «فواكه الجنة » وصاحب مطعم «الصبر ،» لكن يبدو وكأنهما لا يعرفان أين يمضي الأسفلت الذي يخترق بلدتهما.

أخذت أسير، تُحاذيني محلات وشوارع تتعامد على الطريق السريع..

الشوارع الجانبية متشابهة مع الشارع الذي خرجت منه، حاولت أن أتذكَّر أي علامة تدلُّني على اتجاه السيارات التي تمرق من جواري، دون أن يلتقط أحد حيرتي وغُربتي في حلم لا يُريد أن ينتهي. ظهر مبنى حكومي ضخم، اقتربت منه، إنها محطة مترو، تشبه

محطة مترو شبرا، لكنها مدهونة باللون الأصفر، حاولت أن أتذكَّر مرَّات سفري السابقة للمنصورة، هل كان شريط القطار عن يميني أم عن يساري، لكنني فشلت.. صعدت درجات المحطة التي كانت تتفرَّع إلى درجات أضيق منفصلة تؤدي إلى اتجاهات مختلفة، وعندما وصلت لأعلى المحطة استطعت أن أرى الناحية الأخرى من المحطة، هي نسخة متطابقة للناحية التي جئت منها دون اختلاف، والسيارات تجري بسرعة شديدة دون توقُّف أمام مطب. وجدت في وجهي فتاتين ترتديان ملابس من التي يرتديها الشباب

الذين يؤدون الخدمة العسكرية، استوقفتهما، سألتهما: «لو سمحتِ، إنتم لمَّا بتركبوا للقاهرة، لمصر.. مصر، بتركبوا منين؟ »، أجابت إحداهما:

«إحنا عُمرنا ما ركبنا لمصر .»

– لمَّا بتروحوا الوحدة بتاعتكم، الخدمة، الجيش بتروحوا ازّاي؟

أطلقت فتاة منهما ضحكة طويلة، ونهضت، فظهرت لي ملابسها التحتية الرثَّة.

أنا لابسه ده -وأشارت للزيِّ العسكري- علشان أدَّفا. وعادت لجلستها.

لم يكن لديَّ وقت أو طاقة للتفكير، كيف حصلتا على هذا الجاكت الميري..

حتى إنني أسندت ظهري للسور المجاور لهما، وكدت أجلس بجوارهما،

ويبدو أنهما لم ترغبا أن يزاحمهما أحد في جلستهما، فأشارت إحداهما

لباب جانبي أعلى البسطة التالية، وقالت لي بنفاد صبر: «شوفي، هنا فيه

ناس بتدخل من هنا .»

صعدت درجات السلالم الرخامية الزَّلِقة.. واقتربت من الباب الموارب،

كان مكتوبًا عليه «للعاملين فقط »، وقفت على عتبة الباب، في الداخل

عتمة شديدة، أخذت بُرهة حتى أتب يَّ إلى أين يؤدي.. بدا المكان مثل

قاعة عروض القبة السماوية في مكتبة الإسكندرية، تملَّكني إحساس

بضرورة ارتداء نظَّارة الأبعاد الرباعية، رأيتهم، يتحركون في طابور، بين

كل واحد منهم مسافة قصيرة، يرتدون ملابس تشبه ملابس الرهبان

الفرنسيسكان، وظهورهم محنيَّة، يسيرون في طريق نصف دائري في

صمت ومهابة، وعلامات لشواهد قبور على يسارهم، ويبدو أن الطريق

نصف الدائري الذي يسيرون فيه كانت نهايته تخلو من تأثير الجاذبية

الأرضية، إذ كانوا يسقطون من فوق سطح الأرض ويتوهون في فضاء

الكون، هذا الجزء للأمانة في رواية الأحلام لم أشاهده، لكن شعرت بأنه

ما يحدث، لم يكن باديًا أن هذا يمكن أن يكون طريقًا للقاهرة أو لأي

مدينة أخرى؛ لذا ابتعدت عن الظلمة والصمت، وعُدتُ أبحث عن

الاتجاه المؤدِّي للقاهرة.

تذكَّرت الموبايل، لم أسمع رنَّته طوال الحلم، أخرجته، ووجدت أني

جعلته على الوضع صامت، ووجدت رسائل كثيرة من زوجي ومكالمات،

عشر رسائل. فتحت آخر واحدة: «إنتِ أنهيتِ الموضوع بطريقتكِ

القاطعة، مجرد غلطة، أنتِ دائمًا تنقذينني، الحكاية بدأت تهريج، من

خط فودافون .»

ما معنى هذا؟ ضغطتُ على الرسالة الأولى، أفزعني صوت سايس:

«مصر، مصر، نفر لمصر .»

استيقظتُ من النوم وأنا لا أعرف محتوى الرسائل السابقة، أو حقيقة

الحكاية، لكن الشيء الوحيد اليقيني، أنني كنتُ النَّفر الأخير الذي أكمل

«البيجو » الذاهب لمصر.

فكرة واحدة بشأن "الحلم الذي لن أرويه لجدتي…قصة: صفاء النجار"

أضف تعليق