قصر الأموات

..قصة: شريف صالح

من المجموعة القصصية دفتر النائم

هبطنا من الباص السياحي أمام بوابة عملاقة. كانت منقوشة بزخارف عتيقة وتواريخ وأسماء باللغة الفارسية.

أشار الدليل: هذا هو القصر!

ثم مضى أمامنا بخفة جرو.

تأملت طريق الأشجار الصاعد أمامنا. كانت أشجار عملاقة طويلة تتعانق من أعلى لتشكل قوساً ممتداً بالكاد تتسلل منه أشعة الشمس في الصباح. تبدو الأشجار التي لا أعرف اسمها، كأنها في هذا العناق منذ عشرات السنين. غير مبالية بآلاف السياح الذين جاءوا وذهبوا، ومروا أسفل منها.

كان القصر الأبيض في نهاية طريق فرعي ناحية اليمين. وكنتُ أشعر برهبة غير مبررة. خوف غامض ينتابني من زيارة قصور الأموات هذه. ربما لهذا السبب يعتاد السياح أن يزورها في أفواج صغيرة. يحتمون ببعضهم البعض. ربما أبالغ قليلاً، فالناس كانوا يدخلون ويخرجون أمامنا بألفة وهم يلتقطون لأنفسهم الصور التذكارية وابتسامة كبيرة تملأ وجوههم. معظمهم كانوا مشغولين بتوثيق صور لأنفسهم داخل القصر وليس خارجه، وكأنهم يرغبون في الإيحاء بأنهم من سكانه الذين عاشوا فيه.  لقطات على السلالم الرخامية العريضة بعروقها الصفراء الشبحية.. لقطات في البهو الرئيسي وأخرى أسفل لوحة زيتية عملاقة لصورة برنسيسة شاحبة وحزينة، كانت تضع يدها على خدها.

من سيفكر في سبب حزنها أو حتى في مصير الرسام الذي أفنى الليالي في رسم ملامحها قبل أكثر من تسعين عاماً.. أو ما المكافأة التي قد تكون منحتها له مقابل رسم وجهها؟!

زملائي في الفوج السياحي انشغلوا هم أيضاً بالتقاط صور لبعضهم البعض بجوار رأس أسد ومنحوتة فارس برونزي فوق حصانه.. كانوا يخفون نصف وجوههم خلف الأواني الفضية أو يلتقطون انعكاس وجوههم على المرايا والألواح الزجاجية.. أحد الزملاء سأل الحارس الذي كان يجلس خارج الباب الرئيسي، إن كان يحق له الاسترخاء على تلك الأريكة لالتقاط صورة. لا أعرف لماذا كنت الوحيد بينهم الذي تجنب بشدة التقاط أي صورة له؟! كنتُ أشعر بأطياف سكان القصر وهي تتحرك حولنا.. أنفاسهم.. أصواتهم.. ظلال أجسادهم وهي تسبقنا وتصعد السلالم إلى الطابق العلوي قبلنا.. أسمع همسهم وهم منزعجون من بلاهتنا وتلصصنا عليهم.. لوهلة لمحت البرنسيسة الشابة في لوحتها العملاقة وهي تبتسم وتغمز لي كأنها تغويني بالتقاط صورة بالقرب منها.

غادرت مسرعاً تحت وطأة دوخة خفيفة وانتظرت زملائي على مقعد في الحديقة المواجهة لباب القصر الرئيسي. كان الجو الخريفي قد انقلب فجأة إلى زخات من المطر فاحتميت بتعريشة أمام القصر، وعندما وصلوا إليّ انتبهت أنني فقدت الزر الأوسط من الجاكت الذي أهدته لي أمي في عيد ميلادي. استأذنتهم وعدت للبحث عنه في ردهات القصر متتبعاً نفس الممرات التي سرت فيها. لابد أنه سقط مني أثناء جولتي في الداخل.

في هذه المرة دخلت مندفعاً وليس في رأسي سوى العثور على الزر واللحاق بالفوج، وكان الدليل يراقبني من بعيد ويستعجلني بإشارات يده. ما إن وضعت قدمي عند مدخل الردهة حتى شعرت بالرعب. لم يكن هناك أي زائر في القصر سواي. اختفى السياح جميعاً بكاميراتهم وضجيجهم وأحاديثهم التي تترك صدى مبتوراً في ممرات القصر.. لا أحد سواي هنا وسط الأطياف التي رأيتها أكثر وضوحاً عن ذي قبل. كانت تسير وتمارس حياتها الطبيعية دون أن تبالي بي. من يسكن في قصر مثل هذا لن يتخلى عنه بسهولة، حتى بعد الموت! رغم ذلك استجمعت شجاعتي. لا قوة على الأرض ستمنعني من العثور على الزر الذي فقدته.

جريت مسرعاً بين أكثر من ردهة، أمام المكتب الرئيسي وصالة الطعام والبهو الواسع وقاعة المناسبات والمكتب الرسمي لصاحب القصر. لكن الخوف الذي ضاعف نبضات قلبي كان يمنعني من رؤية الزر المفقود. وقبل أن أعود مرة أخرى في اتجاه المدخل الرئيسي رأيت البرنسيسة الشاحبة تغادر لوحتها الزيتية وتسير أمامي. وبألفة وبساطة مدت يدها الناعمة والتقطت لي الزر من جوار مزهرية عليها نقوش صينية. ثم التفتت نحوي وابتسمت.

وقفت مذهولاً وهي تقترب مني. خلعت الجاكت عني وبدأت في رتق الزر وهي واقفة أمامي. كانت تحرك أصابعها الرقيقة كخياطة متمرسة، قبل أن تجذب الخيط بجانب فمها وتقطعه.

بالألفة ذاتها التي نلتقط بها صورنا التذكارية في القصور العتيقة، ساعدتني البرنسيسة الحزينة في ارتداء الجاكت وناولتني برتقالة. ثم ابتسمت لي للمرة الأخيرة قبل أن تعود إلى اللوحة التي كانت تحمل توقيع الرسام الإيطالي فرانشيسكو هايز. ولا أدري لماذا ظللت أردد اسم فرانشيسكو هايز في سري!

رأيان حول “قصر الأموات”

أضف تعليق