أحلام نسوة يعانين القهر والاستلاب

قراءة في قصص أمل الأسدي ” أضغاث أنفاس”

بقلم: أحمد رجب شلتوت

(1)

    أبانت الدراسات النفسية الحديثة عما يسمى بواقع الواقع، فما نعرفه في حياتنا هو الواقع المادي، لكن ثمة واقع آخر مقموع، وهو ما يستهدفه الإنتاج الأدبي في سعيه للوصول إلي المستويات الأكثر عمقا فى تجربتنا الإنسانية خصوصا حينما يحول الأحلام الى أدب مكتوب ويرصد من خلالها الواقع النفسي للشخصيات، والحلم هو أكثر آليات اللاوعي حضورا في حياة الإنسان، لذا فللحلم حضوره في كثير من القص العربي والعالمي، ويربط النقاد الحلم بقصص تيار الوعي أكثر من غيرها من القصص لوجود تشابهات بينهما تتجلى في اعتماد كل منهما على التداعي؛ فالحلم تتداعي فيه ردود الأفعال اللاواعية, ومنهج  التداعي الحر في تفسير فرويد  للأحلام من أبرز أساليب تيار الوعي بما يشمله من تداع للأحاسيس والذكريات والمشاعر والتخيلات والرموز.  

 (2)

  يتيح  الحلم الإبداعي _ بخصائصه الجمالية وعمقه الدلالي _  للمبدع إمكانية تشييد عوالم تنفلت من قيود الواقع، وقد وظفت الكاتبة والأكاديمية العراقية “أمل الأسدي” الأحلام مازجة بينها وبين الواقع، وأحيانا ما يتم التبادل بينهما فيصبح الواقع حلما أو يصبح الحلم واقعا، وذلك في مجموعتها السردية الشذرية “أضغاث أنفاس”، فالكلمة الأولى من كلمتي العنوان  تحيل إلى أضغاث الأحلام، أي الأَحْلامٌ المُضْطَرِبَةٌ التي يَصْعُبُ تَأْوِيلُها وَتَفْسيرُها، بينما الكلمة الثانية “أنفاس” أتت بديلا للأحلام، فكأن أحلامها هي أنفاسها وقد اختلطت بالواقع، فأصبحت أضغاثا.        وقد تنوعت الأحلام في المجموعة بين أحلام منام وأحلام يقظة، كما تنوعت مستوياتها بين مباشر وغير مباشر.                                                                     المستوى المباشر للحلم:  

                                                                      وهو المستوى الذي يتسم بالمباشرة في اللغة الحلمية، والتصريح بملفوظات الحلم (حلمت، رأيت) داخل النص، ثم يسرد محتوى الحلم مباشرة على اختلاف درجات عمقه، وقد يستعمل كلمات صحوت أو أفقت للتدليل على أن ما سبقها كان حلما، وقد وجدنا ذلك في ثمانية عشر نصا من بين النصوص الستة والعشرين، وفيها كان الراوي هو الحالم الذي يرى لنفسه ما تعرضه أحداث القصة، وعلى الرغم من اشتراك شخص أو أكثر في  مشهد الحلم، إلا أن شخصية الراوي تستأثر بالحضور في الحلم الذي يدور حولها، وهو أمر طبيعي إذا اعتبرنا الأحلام انعكاساً للرغبات أوتحققات حلمية لأشياء لم يحققها في الواقع.                                                    وهي بدورها توزعت بين شكلين:                                                                         حلم منام في أربعة عشر نصا هي ( موعد، روح، الفزع الأملس، خيبة، صفعة، نبض مفقود، مرآة، قدر، وهن، لحظة، فجوة، غواية، إرادة، إسقاط ) وتمثل هذه الأحلام المنامية نموذجاً للغة التصويرية باعتبارها تسلسلاً  لمجموعة من الصور المتتابعة، وهو التسلسل الذي يقوم على التراكم الاختياري الذي يتكون من صورة أولى تستدعي صورة أو مجموعة من الصور تشكل معا منظومة مركبة ضمن مسار تصويري متنامي. واعتمدت في هذه النصوص على السرد بضمير المتكلم، وهو يفيد في تقليص الفارق بين المكتوب والمُعاش إلى أقل درجة ممكنة، وهو  الأنسب في التعبير عمّا في النفس من مشاعر وأحاسيس وعواطف و أزمات، ويلاحظ أن الكاتبة في أغلب النصوص الحلمية من هذا المستوى، كانت تتألم جراء آلام شهدها الحلم الذي استحال كابوسا، فكان الصحو بمثابة فرصة النجاة الوحيدة من هذا الألم، وكأن الكاتبة تشير من طرف خفي لأهمية عدم الاستسلام لرخاوة الحلم، وضرورة مواجهة الواقع، كما في أقصوصة “موعد” حيث الراوية ملساء الساقين تُفاجأ بالشعر يغزو ساقيها وكلما أزالته يعاود الظهور، وهكذا حتى أدمت ساقيها، ولم ينقذها إلا إيقاظ الزوج لها سائلا إن كانت ستذهب للتصويت فى الانتخابات أم لا؟، وكأن الحلم كان تحذيرا من حاضر سيىء تحياه، ويحذرها من أن المرشحين كالشعر الواجب إزالته لكن بالانتخابات الصورية يعاود الظهور.    وتكمن الوظيفة الإيديولوجية لخطاب الحلم هنا في النهوض من بنية سردية مضطربة توحي برفض الواقع من جهة، ومن عالم سردي يختزل المسافة بين الواقعي والمتخيل إلى أقصى الحدود من جهة أخرى.                                 أما حلم يقظة  فقد لجأت إليه في أربعة نصوص هي ( صورة، رحيل، وسوسة، ساعة صامتة).  ويلاحظ أن الكاتبة اعتمدت على ضمير الغائب في نصوصها تلك، وكأن الراوي كان مراقبا للشخصية وقت شرودها، كما في أقصوصة “صورة”، التي بدأت بضمير الغائب “هو” بينما القصة تصور إمرأة في حلم يقظة، وكانت بداية موفقة لأن الرجل الغائب هو مناط الحلم، هو يحب أغنية رجعوني عينيك لأم كلثوم، وهي ترقص على موسيقاها في مواجهة عينيه الجامدتين المطلتين من صورته وهو يرتدي بزته العسكرية، فكأنها بالحلم تستعيد الغائب، وترتبط استعادتها له بالسعادة التي تتجلى في حضور الموسيقى وفي حركات الجسد الراقصة.                                                                                                                                                          أما المستوى غير المباشر للحلم:                                                              فالمقصود به الحلم الذي يعتمد على مستويات الشعور، ويتسم بشدة التكثيف وسرعة النقلات، وفيه تتداعى الصور والذكريات دون تدخل من الراوي الذي يكون مجرد ناقل للحدث، ودون اهتمام بالتتابع الزمني.  لذلك فإن لغته تعتمد على “الأنا” من خلال الكتابة الوجدانية التي يختلط فيها النفسي بالاجتماعي بالإنساني، ويقترن ذلك المستوى بتيار الوعي الذي يعرفه روبرت همفري بأنه “منهج في تقديم الجوانب الذهنية للشخصية في القصص يهتم بمنطقة ما قبل الكلام”. وهي المنطقة التي لا تخضع للمراقبة والسيطرة والتنظيم على نحو منطقي بحيث تعبر عن اللحظات التي تختزنها الذاكرة، وتعمد إلى استعادتها بوسائل مختلفة. وقد ظهر ذلك في ثمانية نصوص هي ( دعوة على مرآة، موعد، هي، القلب أشد تذكراً عند اليقظة، بعد الموسم، ثلج، مدد، وهوهة).                                                                  وفي هذه النصوص اختلطت اللغة بمجرى الشعور، فتتكثف الأحلام بدلالاتها التعبيرية حتى تصبح الرواية حلماً تتوارد فيه عوالم الكاتب التي يصوغها من خلال شعوره المتداعي على الشخصيات باختلاف مستوياتها. وفيها رأينا الحلم قناعا يقول من خلاله الكاتب ما لا يستطيع قوله في الحقيقة. وقد تمكنت تلك النوعية من القصص بتوظيفها للأحلام، أن تخرق أشكال وأنواع التقنيات السردية التقليدية، وتتجاوز الإيهام بواقعية الحكاية وأساليبها الإحالية. وأن تنقل مجال اهتمامها من الخارجي الملموس إلى الداخلي المحسوس، ومن الممكن التصريح به، إلى ما لا يمكن التعبير عنه إلا بواسطة صيغ فنية رمزية، ومن سرد الحدث محكوما بالنظام الزمني وقوانينه المحكمة، إلى سرد زمني متقطع مؤسس على المفارقات. كما في أقصوصة “وهوهة” وفيها تصور امرأة تجلس القرفصاء وتحدق في الوشم الذي على يديها، الوشم لاسم حبيب تكاد تجتر ذكرياته لولا أن يُفيقها من الحلم زوجها العجوز يطلب مساعدتها لينهض، فتساعده قائلة لنفسها: ” سامحك الله يا والدي” هكذا وباستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات توحي بقصة حب وأدها الأب الذي زوجها لمن يكبرها سنا فعاشت سجينة شيخوخته.

(3)

لماذا لجأت الكاتبة إلى تقنيات الحلم؟   

                                                   سؤال تفرضه نصوص المجموعة ” أضغاث أنفاس” ولا أعتقد أنها لجأت إلى تلك التقنية كنوع من الترف الفني، بل ألجأها موضوعها إلى ذلك، فهي في نصوصها تقدم نماذج لنساء مُستلبات. والمرأة في مجتمعاتنا تمثل النموذج الاجتماعي الأبرز للاستلاب والقهر، ففي وضعيتها تجتمع كل تناقضات المجتمع وفُصامه، وتعاني الشخصيات المستلبة من اتساع الهوة بين ذاتها وجسدها من ناحية، وبينها و بين مجتمعها من ناحية أخرى، وقد تزداد المسافة فتحاول البحث عن أسباب استلابها. وتبين قراءة النصوص عن قدرة الكاتبة على استثمار أساليب الحلم، من تكثيف وتصوير، ولرموزه بمرجعياتها وأبعادها النفسية والثقافية، في تجديد صيغها التعبيرية، وفي تشييد رؤى انتقادية للتصورات السائدة، وتأسيس نماذج أخرى تقوم على معرفة بالذات وشروطها النفسية والجسدية والاجتماعية. كما  زخرت لغة الأحلام بالصور الاستعارية وامتزج فيها الواقع بالخيال مما أسهم في اختزال الحدود بين المتخيل و الحقيقي.                                                              أما على مستوى بنيات الزمن والمكان، فقد شكل الحلم صيغة لخرق أنظمتها وتجديد دلالتها، وجعلها مظهرا من مظاهر المغايرة والتجديد في الشكل، بكسر خطية الزمن، عبر الاسترجاع والإبطاء والتسريع الذي يخضع لحالات الذات الحالمة ويعكس تقلباتها، وإبداع أمكنة زال أثرها بمرور الزمن، وربط دلالات المكان وأوصافه بنفسية الشخصية الحالمة ووجدانها وما تحتفظ به ذاكرتها.                   وعلى مستوى وظائف الحلم في النصوص، فيمكن إجمالها في أربع وظائف هي: وظيفة اجتماعية تتمثل فيما يهدف له الحلم من إشباع رغبات الشخصية السردية في أن تحيا حياة اجتماعية طبيعية، ووظيفة سيكولوجية تتجلى فيما يحققه الحلم للشخصية من استعادة التوازن النفسي، بتحرير المكبوتات التي تجعلها متصادمة مع مجتمعها، ووظيفة تعبيرية تتمثل في كونه قناعا لرؤى الكاتبة وتصوراتها، ووظيفة شعرية، باعتباره بلاغة فنية رمزية تثري بنية النص وتبتعد به عن المباشرة والتقريرية وتمنحه تكثيفا يزيد من شاعريته.                                                ومن الرموز التي وظفتها الكاتبة الرموز اللونية التي أسهمت في تشكيل اللغة الحلمية  بما يحمله اللون من أبعاد فنية، ويمكن تمثل انسجامها في نسيج النصوص وأبعادها الدلالية، فقد حضرت الرموز اللونية في نصف عدد النصوص، وتم ذكر اللون باسمه المباشر سبعة عشر مرة منها خمس مرات للون الأبيض ارتبط فيها بالنقاء، ويليه الأصفر بدلالته على الشحوب أربع مرات، وتمت الإشارة إلى اللون بشكل غير مباشر لأحد عشرة مرة كقولها “وردي، زهري، ذهبي” لوصف موجودات حلمية، ونلاحظ أيضا أن ثمة توازن بين الحلم والواقع في دلالات أخرى فالموسيقى صدحت والشخصية رقصت في خمسة أحلام، بينما في خمسة نصوص حضر الدم في الحلم أو في الواقع سواء بوصفه دما أو بالدلالة علية بكلمة نزيف. وهكذا لجأت الكاتبة إلى تقنيات الحلم لتساعد شخصياتها في التحرر من قيود مجتمع ضاغط يستلب روحها، ولم يكن ثمة فكاك ولا فرصة لاستعادة التوازن إلا بالحلم.

فكرة واحدة بشأن "أحلام نسوة يعانين القهر والاستلاب"

أضف تعليق