المزج بين الأسطورة والحلم في ” مشاهد عابرة لرجل وحيد” لأحمد أبو خنيجر

مرفت يس

حين نحلم، فإننا نبدع عالمنا الخاص من القصص، تتنوع أدورانا داخلها ، نكون البطل الخير والشريرفي نفس الوقت،  أحيانا نكون في قمة سعادتنا وأحيانا في حالة خوف ورعب شديدين .عالم نحن فيه المؤلف والمنشىء لتلك الحوادث الليلية المثيرة  نستيقظ – لا نتذكر إلا النذر القليل منها – ونحن في حالة من النشوة أحيانا والعجب والحيرة أحايين كثيرة ، نتسائل من أين جاءتنا هذه الأحلام؟

سؤال من أقدم الأسئلة التي شغلت البشرية منذ مجتمعاتها البدائية حيث أرجعوها إلى   الألهة والشياطين وأن وظيفتها الكبرى هي اكشاف ما تخفيه عنهم الأيام  من مكنون الغيب، فكانوا لايفرقون بين أفعال الفرد الواقعية التي يقوم بها في يقظته و مايراه في منامه، فإذا رأى أحدهم  في منامه شخصا اعتدى عليه، ذهب إليه لينتقم منه . ولم تختلف  الشعوب المتمدنة القديمة كثيرا عن الشعوب البدائية في أمر تقديس الأحلام وفي اعتبارها إلهاما إلهي . فكان للبابليين  إله خاص بالأحلام اسمه ” ماخر” وكذلك كان للمصريين القدماء مثل هذا الإله اسمه “بس”

وكان أول مؤلف تخصص في علم الأحلام  وعرفه العالم هو الإغريقي أرطميدورس الأفسي ” صاحب كتاب” تعبير الرؤيا “،الذي أرجعها  إلى تدخل الألهة. و قسمها إلى نوعين أحلام صريحة تنبيء عن الغيب مباشرة،  وأخرى رمزية ووضع في كتبه قواعد تفسر هذا النوع من الأحلام  وذهب إلى أن الرموز في الأحلام تستمد جذورها من شخصية الحالم ومن مركزه وظروفه وعادات مجتمعه. ولهذا يجب على مفسر الأحلام أن يفهم هذه الأمور فهما تاما لكي يكون قادرا على معرفة ماترمز إليه من أنباء الغيب “

وفي بداية القرن العشرين جاء فرويد ليؤكد أن الأحلام  غنية بالدلالات وأنه لايسعنا أن نحلم بشىء مالم يكن تعبيرا مهما عن حيواتنا العميقة وأن كل الاحلام قابلة للفهم شريطة أن نمتلك مفتاحها،   فنحن أثناء النوم لانخضع لقوانين الواقع،  فالنشاط الذهنى أثناء النوم يخضع لمنطق مختلف تماما عن منطق اليقظة ، واعتقد أيضًا أن الإنسان يستطيع إشباع رغباته المكبوتة عن طريق  أحلام اليقظة التي ينفس بها عن همومه الكائنة . وأحلام اليقظة هذه اتسعت لتشمل الشعوب التي تحلم كما يحلم أفرادها . فظهرت قصص الشعوب حاملة   أحلام البسطاء لذا قد نعتبر  ألف ليلة وليلة مجموعة من أحلام البسطاء الحالمون بالقصور وأفخر أنواع الطعام والنبيذ والزواج ببنت السلطان، كذلك فكرة المخلص والمنقذ الإلهي كعقيدة ليست سوى حلم راود وسيظل يراود  الشعوب حينما تتألم من الظلم الواقع مما جعلها تنسج  أساطيرها التي  تتخيل فيها من ينقذها ويملأ الأرض عدلا ومحبة،  وانتبه  إيرك فروم إلى ذلك التشابه  بين الأسطورة كأقدم  أشكال التعبير التي ابتدعها الإنسان والحلم كشكل من أشكال الإبداع الخلاق الذي  يبتكره الفرد أثناء نومه ، ففي  الأسطورة  نجد أحداثا دراماتيكية  تنتمي لعالم غريب عن تفكيرنا السائد ، نجد بطلا يغادر موطنه ليخلص العالم كما نجد طائرا أسطوريا يحترق ويولد ثانية من رمادة.وفي الحلم لدينا القدرة على صنع مثل هذه الروائع أيضًا.

وأصبح المزج بين الأسطورة والحلم مادة خصبة مغرية بالكتابة،  وأكثر مايغري في كتابتها،  هو فقدان الزمن فيها منطقه فهو لايتقدم بالضرورة ، وقد يعود إلى الوراء بل ويتوقف .و الماضي يتداخل مع الحاضر والمستقبل أيضا، عالم أقرب مايكون الى العجائبي،  يحرر فيه الكاتب نفسه من القيود والرقابة الاجتماعية فيوفر الحلم له أكثر من مخرج، في المجموعة القصصية” مشاهد عابرة لرجل وحيد ” للكاتب المصري أحمد أبو خنيجر كان هذا الارتباط بين الأسطورة والحلم واضحا جليا في القسم الثاني من المجموعة

حيث استلهم الكاتب  الأسطورة   فى قصة  ” سيدة الأشجار الجنوبية ” الإلهة حتحورإلهة الحب، المرحة الطروب التى تمثل كل ماهو جميل والنموذج الأمثل للأنثى زوجة و أم و حبيبة ، هى الربة الحامية للمغنيين والراقصين وكل مايدخل السرور على النفس من أى نوع كان، كذلك هى الربة الحامية للجميلات والفن والأعمال الفنية ، الملهمة . يحلم بها البطل الذي  يعمل خزافآ يشكل التماثيل  دونما روح فتزوره حتحورلتعلمه كيف يبدع صناعته ، يقول:

” وجدت نفسى فى قلب الصحراء ، أجلس على دولاب الفخار أشكل تماثيل غريبة الملامح ، أفعل ذلك بألية ، دونما روح ، دونما حس ، كأنما فقط أصنعها كى أمرر الوقت الطويل والباهظ فى قلب الصحراء ، كان نوعآ من العقاب ، ليس له ملامح بالفن “صـ 57

وفى بقية الحلم ،   تحثه  حتحور على نحت مابداخلة إشارة إلى لحظة تأمل الذات ،و بعد المرور بسلسلة من التحولات لاكتشاف الجمال والبحث عنه والتعرى من كل القيود التى تكبله،   يطلق  الخزاف لعقله العنان،  ليبدع فى نحت تمثاله الذى أوحت  به الربة حتحور، فيكتشف بعد الانتهاء من عملية النحت  أن التمثال يشبه محبوبته .

يقول

” كطلعة النور كنت ، وشهية كماء عذب فى أشد أيام الحرارة ، نحوى تنظرين ، عيونك مشجعة ، وأنا أتقدم بارتجافى وقلقى الذى يفقدنى صوابى فيما أرى وأحس ، ممدت يدى بادئآ من عند أصابع القدمين ومارآ بكل التفاصيل الدقيقة ……حين انتهيت ورأيت ماشكلت يدى ، وصرت تشبهينها أو هى التى تشبهك ، ألقيت جسدى على العشب منهكآ “صـ60

 الحلم  في قصص المجموعة هو  مفتاح لرؤية الكاتب الإبداعية  وجوهر عملية الإبداع عنده، يحضرنى هنا قول الشاعر أنسى الحاج ” أنا أؤمن بالحلم ، من لايحلم لا يفعل ، الحلم يسبق الفعل ، كما يسبق الغيم المطر …..الحلم جوهر غير أنه موجود ….والحلم هو العقل والروح والخيال .إنه الفردوس الممكن ….الحلم أولا ، الحلم فوق الجميع ، الحلم الذى هو محرض الواقع وروحة وعقله وعصبه ، الحلم الذى هو المستقبل ، الحلم الذى هو النبى والشاعر .”

كذلك  ترتكز قصة ” رجل وحيد يخشى الأحلام” على الحلم  الذي هو حالة من التأمل فالبطل يدخل في ذاته كما يقول باشلار الذى يباغت البطل فى القصة الحلم  الذى ينير متاهات ومتاعب الروح ،ويرتقى ويصعد  بها إلى فضاء أرحب وأكثر أتساعآ لذلك نجده يصف النوم بأن له ملاكآ يطير به إلى أرض أحلامه  وكأنه يطير به إلى الجنة حيث النبع والجداول والأنهار والزهور والفراشات والغناء الذى ينسكب داخل روحه ليطهرها ذلك الصعود يتناص بإشارة خفية إلى رحلة الصعود إلى الجنة فى قصة الاسراء والمعراج  حينما تحاول الذات الوصول إلى مزيد من الحقائق لتنتهى الرحلة الى حد معين  من المعرفة 

يقول

” واقفة بجوار النبع لاهية تغنى ، غير منتبهة لوجودى الضائع فى البهاء الذى ينبعث منها ويحيط بها ، أكانت تداعب فراشة ، أم تطير وردآ فى سماء الحلم ليغنى من حولى كوجقة يردد خلفها ، لم أعد قادرآ على البقاء مكانى ، وحين حاولت التقدم نحوها ، رفعت عينيها محذرة : إن اقتربت احترقت . وكأنما صوتها يقطر غواية يدفعنى نحوها ، وقبل أن أنقل قدمى ، ردنى ملاك النوم لسرير وحدتى  أحاور الخاطرة الأخير التى ما أكملتها ” صـ84

كذلك فى قصة  ” يموت كثيرآ   ” العنوان الكاشف على مضمون القصة البطل الذى يحلم بأحد أصدقاءه الذى يشبهه فى ملامحه كثيرآ يسقط فيموت فى حلمه ويتكررالحلم كثيرآ حتى يكتشف أنه هو من يموت  فى أحلامه كثيرآ

الحلم أيضآ فى قصة   “مرآة الصباح  ” وكأنها تتمة لقصة   “يموت كثيرآ   “نفس الحلم بالموت يهاجم البطل ويصفة بأنه مصر على الاكتمال الذى هو بالطبع النهاية ، ليختتم الكاتب مجموعته بتلك النهاية لرجل وحيد ترواده أحلامه دائمآ . وهنا اشترك الحلم مع الأسطورة فى كونهما عملية تخييلية كتبت بلغة رمزية واحدة على حد تعبير فروم ، تتخطى حدود الواقع الممكن ، إلى أفق أكثر رحابة

فكرة واحدة بشأن "المزج بين الأسطورة والحلم في ” مشاهد عابرة لرجل وحيد” لأحمد أبو خنيجر"

أضف تعليق