جثمان في مقبرة المُخيِّلة….طارق إمام

قراءة في” موسيقى لليلة قصيرة” لحاتم حافظ           

حاتم حافظ
موسيقى لليلة قصيرة

في أحد نصوص المجموعة القصصية الأحدث لحاتم حافظ «موسيقى لليلة قصيرة»، (دار روافد، القاهرة) يعثر كاتبٌ على جثة في منزله. إنها تلويحةٌ مقصودة لمسرحية يوجين يونسكو «أميديه»، غير أن مجموعة حاتم حافظ بأكملها تبدو تلويحة للعبث واللامعقول: تلويحة استقبال وليس توديع، ترفعها يدٌ مرحبة نحو جثمان هائل يتمدد حيث يقطن كاتب المجموعة نفسه، موزَّعاً على أركان القصص والأقاصيص الأربعة والعشرين التي تؤلف هذا الكتاب. وسواء نبع ذلك العبث من أشد لحظات الحياة اليومية مواتاً وعادية، أو من أحلام النوم واليقظة على حد سواء، فإنه يسيل تحت جلد جميع النصوص ليمنحها دماءها الفنية وقوامها الرؤيوي. عبثٌ كالطوفان، قادرٌ على الولوج من كافة الفَرجات المتاحة في واقعٍ مثقوب الأبواب لذوات تقطن عراء العالم.

لن ينفصل ذلك العبث عن مفارقة جوهرية، فالعنوان الذي صار لافتةً للمجموعة كلها، هو عنوان قصة يفكر صاحبها في كتابتها، أي أن القصة المتممة لهذا الكتاب لم تُكتَب بعد، ورغم ذلك حملت المجموعة عنوانها. في «موسيقى لليلة قصيرة» هناك دائماً هذه اللعبة العبثية: عنوان بلا قصة، وقصة بلا عنوان، شخصيات تبحث عن حكاياتها، وحكايات تبحث عن شخصيات تؤديها، وشخصيات تبحث عن مؤلف (وهذه العبارة الأخيرة هي تلويحتي الخاصة لبرانديللو، الذي لا أظنه ضيفاً على أفق هذه المجموعة) وهناك في الأخير سردٌ قلق لا يكف عن اللعب مع المتلقي، وبه أحياناً.

بمشهدية لافتة، ورصد محايد (والأدق بالنسبة لي: لا مبالٍ) يُشفِّي اللغة من أية حمولات عاطفية، يتأسس النص القصصي عند حاتم حافظ، متهادياً كأنما اكتفى بسطحه التقريري ومن خلفه سارد يبدو غير منفعل بما يرصد، فالعادي يتساوى مع ما لا يُصدَّق، والواقع الفني يستوعب الواقعة العابرة والحدث الاستثنائي بالقوة نفسها. لكن تحت هذا السطح، (وهذا هو رهان المجموعة الناجح في ظني)، يمور العمق بسخرية سوداء وعنف مكتوم وعالم قاتم معلق في المسافة العمياء بين الواقع والحلم. طبيعة اللغة والتأسيس المشهدي لن ينفصلا عن لغة حوار تلغرافية متقشفة، موحية وتلخيصية، بالعامية المصرية، تبدو كأنما تقمع حوارات كاملة أو بالأحرى تنوب عنها منتقيةً جوهرها الدال والموحي كأنما تستخلصه من ركام الكلام. نحن أمام شخصيات تتلفظ دون أن تتحدث، كأن الحوار المُقطَّر هو وجه الوحدة عندما يترجمها النطق.

تُفتتح المجموعة بــ«المساء والسهرة »، ذلك العنوان المنتزع من الركود الدعائي لأمسيات الثمانينيات والتسعينيات في شاشتي القاهرة الرسميتين وصحفها الثلاث المتطابقة. وبالضمير الثالث ينهض بطل النص، تحت حراسة سارده الذي يكتفي بتتبعه سلوكياً في مشهدية دقيقة، مُختصِراً مونولوجه الطويل المقموع في كلمتين: «أنا خلاص». باحثٌ آخر عن «جودو»، وإن لم تحيِّه القصة بالاسم كما ستفعل لاحقتها مع «اليونسكو». محكيات مبذولة تلتم في متوالية من اللحظات المبتسرة: مباراة كرة قدم تنتهي لحظة أن يعثر عليها البطل، تصبح تكئة لمونولوج داخلي طويل وعدمي. رجل وامرأة، بلا أسماء، لن تقدم القصة شيئاً عنهما سوى أنهما «موجودان». للدقة، موجودان لكن بلا ماهية. آدم وحواء مغدوران في جحيم سيرة يومية لا تنتظر بطلاً أو مخلِّصاً. سؤال هذه القصة، في ظني، هو: «أين القصة؟» لقد تشكلت القصة بوجود بطلها، نشأت بظهوره حيث تُمثِّل أي لحظة لهذا الظهور قصة مختلفة وتصلح أي لحظة لبذر مأزقها. كأن «المساء والسهرة» ارتجالية تعلن أن القصة توجد حيثما وُجد الشخص، أو «الممثل». نعم، هذا سؤال آخر: هل نحن أمام ذات إنسانية أم «دور»؟ في مجموعة حاتم حافظ تؤدي الشخصيات أدوارها بأكثر مما تعبر عن إنسانيتها، كأن الواقع، أو ما يمكن أن ندعوه الواقع، محض نصٍ بدوره لا ينقصه سوى أن يتحوّل لموضوع للفرجة أو التلقي ليصبح «خطاباً».

في القصة الثانية «الجثّة)»، سيُكسر الإيهام وينفتح النص على وعي سارده به، فبعد حضور الجثة في البيت، وهي لامرأة، يحل السؤال: هل نحن أمام قاتل سفك دماء امرأة في بيته، أم جثة طارئة قادمة من المجهول لتتعفن في الحاضر المرتبك لكاتب مجهول؟ فضلاً عن «الأخلاقية» التي تحكم الاحتمالين حيث الإدانة أو التبرئة، فإن القطع بأحدهما سيجذب النص لمنطقة مختلفة تماماً عن الآخر: لو أننا أمام قاتل فنحن أمام نص واقعي يقبل أن يُرد للمعقولية المحاكاتية، أما ترجيح الكفة الأخرى، فيعني أننا أمام فانتازيا خالصة.

يتدخل السارد، ليجعل من القصة «اليونسيكية» عرضاً «بريختياً»: «دعنا نتوقف هنا لنسأل، فعلينا نحن أيضاً إذا ما قررنا الاستمرار في القراءة أن نسأل سؤالاً مهماً بالنسبة لنا بقدر أهميته لسكان هذا البيت المسكون بالمحبة والخبل. ليكن سؤالنا هو إذا ما كان صادقاً أم لا؟ أو- وهذا هو الأهم- إذا ما كان علينا أن نصدقه أم لا». لن يكتفي السارد بتدخله، لكنه سينهي القصة بـ»مداخلته» ولن يعود مجدداً لخدعة الإيهام التي انطلق، لنكتشف أننا أمام قصة «مشقوقة» إن جاز التعبير، مستبدلةً قانون الانسجام التقليدي باتكاءٍ واضح على التنافر يدعمه قطعٌ خشن: ست صفحات سردية، ونحو ثلاث صفحات تشكل مونولوج السارد التعليقي. لعبة نار وثلج يُزج بالمتلقي فيها ليستيقظ من رخاوة الاستقبال لتحفز المشاركة.

في قصتي «قصة قصيرة» و«قصة قصيرة أخرى»، (والمتممين دلالياً في ظني لقصة «جثة»، وإن اختار الكاتب أن يباعد بين الثلاثة في ترتيب القصص)، يتحول الـ«هو» إلى «أنا» كأننا في متتاليةٍ مرئاوية تتبدل فيها الضمائر دون أن ينقطع الأفق الدلالي. نحن أمام «لعبة الكتابة» نفسها هذه المرة، دون مواربة أو تمويه أو خلق مشهد قصصي لتعريته. نحن أمام كاتب حائر أمام عملية الكتابة: «كان عليّ كتابة قصة قصيرة. وكان عليّ _ من أجل ذلك_ التفكير في شخصية. لا قصة بلا شخصية». يبدأ السارد بالشخصية لا القصة، بالضبط مثلما فعل في «المساء والسهرة» ومثلما سيفعل بعد ذلك. نص تهكمي في الأخير، يناضل فيه كاتبه لينهي قصة عليه أن يقدمها في مسابقة أدبية، خلال ستة أيام ( بارودي لقصة خلق رخيصة في المدى الزمني نفسه). في الحقيقة، فإن نهاية هذه القصة هي بالضبط مدخل القصة المتممة «قصة قصيرة أخرى» التي تبدأ: «لم أعد في حاجة لكتابة قصة. انتهى موعد التقديم للمسابقة ولم أقدِّم قصتي. بعد القراءة الثانية أقنعتُ نفسي بأن القصة غير صالحة للفوز بأية مسابقة. في القراءة الثالثة عرفتُ أنها غير صالحة للنشر. أما منتصف القراءة الرابعة، أو ربما الخامسة، فهمتُ أني لا أصلح لكتابة قصة». الهدم هنا أسرع بكثير من البناء، ليس فقط في أفكار القصص، بل في إيقاعها نفسه. ثمة مناطق تلخيصية تكثف الحدث في حيز سردي ضيق، تآخيها «مسرحة» تُفرد للتأمل أو التملّي مساحته الكاملة، ما يمنح قصص «موسيقى لليلة قصيرة» ذلك النسق الإيقاعي المتململ، والذي يحول دون المتلقي والنعيم المجاني «للاتفاق» على بنية إيقاعية يمسك بطرفها ليبقيها بين أصابعه للنهاية. تبدو نصوص «موسيقى لليلة قصيرة» لذلك معنية بفكرة التلقي كشراكة حقيقية، فالعرض قائم، كثيراً ما يُنفّذ «الآن»، حاملاً قلقه حيال بنيته نفسها.

«مأساة كاملة أو ملهاة كاملة». عبارة مفتاحية للقراءة الدلالية لهذه المجموعة، اجتزأتها من من السطر الأخير في «شارع لا يعبره الغرباء». فبدلاً من الجثة، نواجه هذه المرة «لا أحد»، حيث العابر ليس موجوداً، (أيضاً في تقرير من السارد)، وبالتالي فنحن أمام قصة تقوم على الحضور المبهر لشبح. حضور الشبح يلي التحوّل لجثة، فهو الصورة النقية وقد أخلصت لنفسها: توهم بالتجسد لكنها لا تملك قواماً. و»شارع لا يعبره الغرباء» تمثيل، يكاد يكون شعرياً، لذلك الجذر الدلالي، فهي تنحرف بالكناية لتصبح استعارةً كاملة.

تتصل مجموعة حاتم حافظ بالأقصوصة، لكن الأقصوصة في هذه المجموعة تنهض وظيفياً بدور لا تحققه القصة، هو الاتصال الكامل بعالم الحلم. جميع أقاصيص «موسيقى لليلة قصيرة» تمثل ما يبدو أحلاماً جرى تدوينها، وفق منطق الحلم، الذي ينتهي فجأة ولا يحيل أوله لآخره وتحكمه علاقات أوتوماتية تجعله نصاً سوريالياً تعوزه قراءة شعرية. لا توهم الأقصوصة هنا بأي واقع، بل تدلف مباشرة للعالم الموازي لتقدم بطلها، مرة بعد أخرى، مداناً أو تائهاً أو ضائعاً. في واحدة من أقاصيص المجموعة يبحث السارد عن نفسه، بالمعنى الحرفي، ويدعو الآخرين للبحث معه فيفعلون بجدية. تطيح هذه الأقصوصة بالرمزية المبذولة لصالح طرافة المفارقة، وتنتهي في اتجاه آخر تماماً. في كافة الأقاصيص تحضر هذه الروح، واقع كابوسي يرجع أصداء كافكا أحياناً وأحلام نقاهة محفوظ في أحيان أخرى لكنه يبقى كابوس «حاتم حافظ» الذي سيحتل لاحقاً، ودون مواربة، عنوان القصة النهائية «عزيزي حاتم حافظ»، حيث «التعرية النهائية»، (ولا أقول التطهر)، في حوارية تتخذ قالب الرسالة بين السارد «قناع المؤلف الفني» والمؤلف الواقعي. كسرٌ نهائي عنيف للإيهام بظهور «الذات» بمعزل عن معطف «الدور»، وحيث الاثنان هما الشخص نفسه، لكنهما، بالقوة نفسها، شخص ثالث لم يعد ينتمي تماماً لأي منهما.

أضف تعليق