الحلم ..قصة : مصطفى لغتيري



وحدها لفظة “الحلم” انسلت من ثنايا الذاكرة.. في طريقها مضت، تخاتل كل العوائق، متقدمة في تؤدة، لكن بإصرار لا يلين..أحس بها قادمة من أغوار الذاكرة، وعنها تنكشف حجب سديمية، فتطفو واضحة جلية، تناضل في صراع مرير من أجل أن تكون..تلقفها ذهنه بلهفة واشتياق، حينئذ، فقط، وجد نفسه وجها لوجه مع حلم الليلة الماضية.. مدد أطرافه، طاردا بقايا النوم، وقد أمسك بأول الخيط..الحلم كان قويا ومؤثرا، لكنه، اللحظة، لا يتذكر منه شيئا..فرك عينيه بقوة. ثم تهادى مع إحساس لذيذ، أيقن معه أنه، لابد، متذكر رؤياه. لاح في ذهنه النهر..نعم يتذكر الآن أن الماء كان طاغيا في الحلم.. أجال بصره في الغرفة القاتمة. مد قدميه نحو نعليه..النهر كان يتدفق بقوة.. ثم ماذا بعد ؟ دلف نحو الحمام.. أطرافه تنفض عنها الإرتخاء..عمد إلى المغسل.. أدار الصنوبر.. اندلق الماء.. تأمله للحظات.. رش وجهه بحفنات منه..أحس بالبرودة تبعث فيه بعض اليقظة..آه الحلم.. إنه ينفلت من الذهن كما ينفلت الماء بين أصابعه..لكن، لابد من التذكر..هاجس ما أسر لبه.. لا يدري كيف ألقي في روعه أن هذا الحلم يمثل رسالة ما..واضحة المعالم..النهر..الماء يتدفق.. بدا له أن لونا ما كان طاغيا على الأحداث.. لا يكاد يتذكره..ثم أشجار..نعم أشجار تتمدد سامقة.. كان يركض.. الركض لا يمكن نسيانه..نظر في المرآة..سحنته شاحبة..تأمل شعيرات ذقنه المتنامية.. أكسبت وجهه حزنا مضاعفا ..تذكر أن ركضه كأن لا يبارح مكانه.. وإلا ما معنى أن نفس المشهد ظل يتكرر طول الحلم.. الماء.. الأشجار. خرج من الحمام..أهم شيء في الحلم لا يتذكره. وبدونه لا جدوى منه..رسالة ما.. كلمة.. رمز..معنى.. ربما رائحة..تذكر أنه حاول تفسيره وهو يعيش في كنف الحلم..حين فاجأ نفسه وهو يحلم..اطمأن إلى ما وصل إليه ثم انقذف في النوم بعد يقظة خفيفة تلت نهاية الحلم..دلف نحو المطبخ..هل كان ذلك صوتا..صورة..إحساسا..كيف يمكنـه أن يتأكد ؟..أعد بعض الطعام لفطوره. الحلم ألقى بظلاله على كل شيء” كان الركض متعبا.. والنهر يتدفق ماؤه بقوة..أكاد أجزم أن اللون كان أرجوانيا” اقتعد كرسيا.. ارتشف بعض الشاي.. فجأة تذكر أنه نظر إلى أعلى. وأن طائرا ما لاح في الأجواء..حسن السمت أغرم به.. علت الفرحة الآن محياه..إنه في الطريق الصحيح، والطائر بدايته..كان يلوك دون وعي منه قطعة خبز..الأمور تتضح تدريجيا..ود لو يمسك الطائر بين يديه. لذا انخرط في الركض..لكن الطائر كان مصرا على الطيران. ما أدهشه حقا، أنه لم يكن يبعد عنه إلا بأمتار قليلة.. ربما لذلك انفتحت شهيته للإمساك به..انتبه فجأة أن الطائر في الضفة الأخرى للنهر. ها هي الأحداث تنساب مطواعة.. أفرحه ذلك..ارتشف جرعات متتالية.. ثم ماذا بعد ؟ ..نعم، اللحظة يتذكر..انذهل بحسن الطائر وجماله..أحس في أعماقه وهو يحاول تفسير الحلم أن إمساكه بالعصفور – لو تم – فأل خير. وإذا ضاع منه كان ذلك إشارة سوء..وطد عزمه على عدم إفلاته..ضاعف ركضه..مع أنه كان يركض في مكانه.. وبغتة وجد نفسه يركض فوق الماء..أشعره ذلك بانتشاء لا يقارن..قدماه لا تغوصان، بل ولا تبتلان وفي غمرة انشراحه، وهو يركض على صفحة الماء تقدم نحوه الطائر..دنا منه إلى حدود كبيرة..وكأنه يدعوه إليه..فجأة أحس أن شيئا يتغير داخله. وإذا به منبهرا يرى نفسه يحلق جانب الطائر.. كان الطيران متعة..النهر، وهو يطل عليه من عل روعة.. تمدد على كرسيه منتشيا حين بلغ هذا الحد من التذكر..وإذا برسالة الحلم أضحت واضحة لا لبس فيها.. حينها فقط، بدا له أن العالم ملك يديه، وأن حدثا مفرحا في طريقه إلى التحقق، وما عليه إلا الانتظار.

3 رأي حول “الحلم ..قصة : مصطفى لغتيري”

أضف تعليق