علاء الدّين وامرأة تحلم..قصة: روعة سنبل

قضيتُ الصّباح في سريري، أدخّن وأقرأ بمتعة كبيرة قصصاً للياباني “موراكامي”، بينما خنصر يسراي يعبثُ كلّ قليل بثقب صغير على ملاءة السّرير، واحد من ثقوب كثيرة أصنعها دون قصدٍ، عندما أدخّن بحماقة.

 حين خرجتُ لأحضّر الغداء، رأيتُ على طاولة المطبخ ثلاث حبّات مختلفة الألوان من الفليفلة، وسكّين كبيرة إلى جانبها، بدا المشهد غريباً، ليس فقط لأنّني لا أملك سكّيناً بهذا الحجم، ولا لأنّنا لم نشترِ فليفلة مؤخّراً، بل أيضاً بسبب الحدود المبهَمة للأشياء حولي، وحضور إطارٍ شبه قطنيّ يغلّف المشهد كله، “كأنني أحلم” همستُ لنفسي، وجلست.

“يبدو أنّ عليكِ أن تطبخي الدّجاج المكسيكيّ”، قال صوتٌ في رأسي بيقين، ووجدتُ هذا منطقياً، فبدأتُ بتقطيع الحبّات. حين التقطتُ الحبّة الحمراء، لفت انتباهي ثقلُها غير المعتاد، ثمّ لحظةَ صنعتِ السّكّين بدايةَ شقًّ فيها، شاهدتُ لبرهة شيئاً جعلني أجفل، وألقيها من يدي: رؤوس أصابع ضئيلة جداً، خرجت عبر الشقّ. وقبل أن أستوعب تماماً، أكملَ هو شقَّ الحبّة بكفّيه، وقفز منها برشاقة، تشبه رشاقته حين يقفز من سطح واطئ لآخر من سطوح بيوت بغداد القديمة!

وقف على الطّاولة مقابلي، بطولٍ لا يتجاوز السّنتيمترات العشرة، نظر إليّ بفضول، وهو ينفض آثار الماء عن شعره الفاحم، كان هو، بسّمرته الجذّابة نفسها، وبصدره العاري بارز العضلات، وبعينيه الواسعتين بلون القهوة، وحين قلتُ بصوت جعلتْه دهشتي هامساً:”علاء الدّين!”، وضع كفّه الأيمن على صدره وانحنى قليلاً: “أيوة، علاء الدين، صباحك سعيد يا هانم”، قال هذا باللّهجة المصريّة، وبصوته كما يُسمع تماماً في النّسخة الأخيرة المدبلَجة من فيلم (ديزني). استوى واقفاً وارتسمتْ على وجهه الوسيم ابتسامته الجذّابة الجانبيّة، الابتسامة المشاكِسة الّتي أحبّها.

“لا، انتي ما بتحلميش”، اقترب منّي، ثمّ دار حول نفسه مرّتين وأضاف: “بصّي، أنا حقيقي، حقيقي جدّاً”.

 تقبّلتُ وجوده برحابة صدرِ شخصٍ يحلم: “حسناً، سيّد علاء الدّين، أتسمحُ لي أن أكملَ إعدادَ الغداء؟”، أومأ برأسه، وجلس متربّعاً على الطاولة أمامي، أضفتُ: “أمرٌ آخر، ما رأيكَ أن تتكلّم معي بالفصحى، يبدو الحوار بيننا مضحكاً هكذا”.

 وافق متفاخراً بأنّه يتقن لغات كثيرة مختلفة دُبلج إليها الفيلم، تلعثم قليلاً في البداية ثمّ اعتاد الفصحى سريعاً، قفز بعدها مرّات عديدة ليبقى قريباً منّي وأنا أطبخ، متنقّلاً بين الطّاولة، والموقد، وحوض غسيل الأطباق، طرح في البداية بضعة أسئلة ليتعرّف عليّ قليلاً، ثمّ حكى لي عنه، أخبرني أنّه سئم من حياته، وحكايته، ” سئمتُ حتّى من ياسمين”، قال هذا بصوت منخفض خجول:

  • –         “كما تعلمين، الحبّ شيء، والزّواج شيء آخر”.
  • “أتفهّمكَ تماماً.”
  • –         “ولهذا فقد بدأتُ (العب بديلي)”، قالها بشقاوة مرِحة، صمت بعدها قليلاً، ثمّ ذبلت ملامحه، وتابع بحزن: “اكتشفتْ ياسمين أمري، ساءت علاقتنا وأصبحتُ أنام خارج غرفة نومنا أغلب اللّيالي، كان هذا محرِجاً أمام الحاشية، وأمام جنّيّ المصباح، الّذي تعاطف مع ياسمين، دون أن يحاول التفكير بي أنا، بسأمي، وبرغباتي كرجل”.
  • ” يا للرّجال! أنتم أنانيّون، أحاولتَ مرّة أن تفكّر بسأمها هي؟ برغباتها هي؟”
  • –         “ظلّت أخبار مغامراتي تصلها، فتغضب وتثور وتكسّر الأواني الزّجاجيّة في القصر، أصبحتْ مجنونة.”
  • ” الغيرة جعلتها مجنونة، لأنّها تحبّك”

تجاهل مقاطعتي مرّة أخرى، وتابع:

  • –         ” طلبتْ ياسمين الطّلاق، لكنّه أمرٌ غير متاح في الحكايات، لم يحدث أن سمع أحدٌ عن طلاق أميرةِ حكايةٍ ما!”
  • “إذن؟”
  • –         “استشرنا حكيماً معروفاً في بغداد، قطّب حاجبيه، حكّ جبينه المجعّد، ثمّ عبث بشعر لحيته الرّماديّة العظيمة، وقال أخيراً: ” لو أنّ بإمكانك مغادرة الحكاية مؤقّتاً”، أكّد جنّيّ المصباح بحماسة أنّه يستطيع تدبّر الأمر، فتابع الحكيم: “هذا الفراق لفترةٍ سيفيدكما معاً، أنت وزوجتك”، اشترطتْ ياسمين أن تحدّد هي طريقة خروجي من الحكاية، رفضتُ أنا، لكنّ الجنّيّ اللّعين اقترح التّصويت، وجاء رأي الجميع بالموافقة على شرطها؛ بدت ياسمين سعيدة و لئيمة جداً ، لكنّها انهارت بعدها بلحظات باكية، أنتنّ النساء غريبات الطباع!”
  • –         “مسكينةٌ ياسمين”.
  • –          “مسكينة! أنا المسكين والله.. “
  • –         “حسناً سيّد مسكين، أكمل.”
  • –         “كان منطقيّاً أن أغادر الحكاية على بساطي السّحريّ، كما يليق بي، لكنّ ياسمين قالت إنّها حوّلته منذ سنوات لسجادة صلاة، ثمّ بسرعة مدهشة، ابتكرتْ طريقة لئيمة، نفّذها المارد على الفور”.

صمت علاء الدين قليلاً وبدا حزيناً، وبدا مع حزنه وسيماً لدرجة مربِكة.

  • –          “حبسني الجنّيّ في حبّة فليفلة حمراء اللّون، وألقاني من حافّة الحكاية، و..”
  • “للحكايات حواف؟”
  • “طبعاً، ألا تعرفين هذا؟!”
  • –         “لا، أين تكون الحافّة؟”
  • تقع الحافّة عادةً قبل النّهاية بقليل، في حكايتي كانت تماماً قبل أن يقول الرّاوي: “وعاشا بسعادة إلى الأبد”، وقف الجنّيّ هناك، قذفني على طول يده خارج الحكاية، وقال إنّني لن أخرج من الحبّة إلا إن عثرتْ عليّ امرأة تحبّ الحكايات و..” صمَتَ، ثمّ تابع مبتسماً بمكر: “و.. تحبّني.”

جعلني كلامه أحمرّ خجلاً، أدرتُ ظهري له، وانهمكتُ بغسيل الأطباق.

  • –         “الغبيّان! اعتقدا أنّ وجود امرأة مجنونة بما يكفي لتحبّ شخصية من حكاية أمرٌ لا يحدث.. لكنّه حدث كما ترين.”

قلتُ بصوت خرج مرتجِفاً:

  • “أنا أحبّ الحكايات فعلاً، و.. لكنْ.. من قال إنّني أحبك؟”

بقفزة واحدة، صار أمام الصّنبور، نظر بتحدّ، في عينيّ مباشرة:

  • –         “لم يقلها أحد، لكنّني خرجتُ كما ترين! بكلّ الأحوال حتّى لو لم تكوني..”، ابتسم ابتسامته الجانبية، ثم غمز بعينه، “ستفعلين قريباً، ثقي بي!”

تجاهلتُ جملتَه وأخبرتُه وأنا أصبّ له صحناً من الطعام، أنّ زوجي وطفلي سيصلان خلال عشر دقائق تقريباً، التهم طعامه سريعاً، وقال: “خبّئيني في مكان آمن.”.

خرجتُ من المطبخ، وتبعني راكضاً.

  • “غرفة نومي هي المكان الأفضل، الخزائن والدروج كثيرة كما ترى”

قفز برشاقة على مقابض الدّروج، ووقف على الرّف أمام المرآة، نظر إليّ مبتسماً، وقال:

  • –         “حسناً، بين ملابسك الدّاخليّة إذن.”
  • –         “قليل التّهذيب! تستحق كلّ ما فعلته بكَ زوجتك”، قلتُ وأنا أكتم ابتسامتي.

 فتحتُ درج الملاءات، فقفز داخله، أغلقتُه مع إبقاء فتحة صغيرة تمكّنه من التنفّس، ثمّ فتحته، وسألتُ بدهشة:

  • “أتشمّ رائحة حبّ الهال.”
  •  “إنّها رائحتي! لرجال بغداد رائحة حب الهال، على الأقلّ في الحكايات، ألا تعرفين؟”
  • –         “لا، لم ألتقِ من قبلُ بغداديّاً هارباً من حكاية!”

قاطع حديثنا صوت مفاتيح زوجي في قفل الباب الخارجي، “حتّى لو كان صغيراً بحجم الكفّ، لكنّه رجل، رجل تخفينه في غرفة نومك! “، قال الصّوت في رأسي فشعرت بالخوف، وكنتُ حينَها في واحدة من لحظات الإرادة، لحظات مبهَمة يملكها المرء أحياناً في الحلم، فيعرف أنّ بإمكانه الاستيقاظ أو الاستمرار، حسمتُ أمري بسرعة، وقرّرتُ أن أكمل بحذرٍ حلمي.

أخرجتُ ثياباً نظيفة لأرتديها في الحمّام، فسمعتُ صوته المشاكس:

  • “بدّلي ثيابك هنا، سأدير وجهي”.
  • “لا أثق بك”، همستُ مبتسمة.
  • –         “هل أخبرتكِ أنّك جميلة جداً؟”

اتسعتِ ابتسامتي، وغادرتُ الغرفة.

***

أيام ثلاثة أمضيناها معاً، كان يبقى مختبئاً طوال الليل، ويخرج صباحاً حين أصير وحيدة، تشاركْنا كثيراً من القهوة والكلام، رافقني حين كنت أنجز أعمال المنزل، وراقب العالم بدهشة من داخل حقيبتي حين خرجتُ للتسوق.

لم يلحظ زوجي شيئاً، لكنّه في اليوم الثالث، ليل الخميس تحديداً، همس بحرارة في السرير: “تبدين فاتنة كأميرة في حكاية”، لم تفلح محاولاتي في التّظاهر بالنّوم، وبدأتُ أتصبّب عرقاً، محرَجةً أمام علاء الدّين بسبب قبلات زوجي ومداعباته، تنفّستُ الصّعداء حين أنقذني صوت بكاء طفلي من الغرفة المجاورة، ضممْتُه حتّى نام ، ولم أعد لغرفة نومنا، خرجت إلى الصّالة وتبعني زوجي، كان كلّ شيء بيننا مثالياً، ” هذا لأنّك تحلمين! ” قال الصّوت في رأسي ساخراً، حين كنتُ أعود لغرفة نومي بعد منتصف اللّيل على رؤوس أصابعي.

 في صباح الجمعة، كنت أتهيّأ للخروج من المنزل، حين فوجئتُ بجواربي كلّها ممزّقة، استسلمتُ لهذا واستغنيتُ عن ارتدائها، تحدث كثيراً في الأحلام أشياء كهذه، كأن يكون المرء متأخّراً، فلا يعثر على أشيائه أو يجدها ممزقة، همستُ قبل أن أخرج: “يوجد طعام على طاولة المطبخ، اخدم نفسك يا عزيزي”

مساءً لم يبد أن الطعام قد مسّ، بحثتُ قلقة عن علاء الدّين في غرفة نومي دون أن أجد له أثراً، لم أنم سوى ساعات قليلة في تلك اللّيلة والّتي تلتها، وحين غادر زوجي وطفلي صباح الأحد، بحثتُ عنه كثيراً، ناديته ظانّة أنّه يمازحني، وأنّه سيظهر في أيّة لحظة ساخراً من لهفتي.

 وقفتُ بعد ساعات أعدّ القهوة، مستسلمة بحزنٍ لحقيقةِ أنّه غادر، “يبدو أنّكِ تحبينه”، قال الصّوت في رأسي، وفكّرتُ أنني أحببته فعلاً، أحببتُ مشاكساته ومرحه، سحرتني عيناه الجريئتان، وأعجبني غزله الوقح.  لم أستطع منع نفسي عن البكاء، وقرّرتُ أن أستيقظ بعد أن أنهي شرب قهوتي.

***

عاد علاء الدّين.

 أدركتُ هذا حين وجدتُني معه فجأة في سريري، كان مستلقياً على ظهره، ورأسي على صدره.

 متى، وكيف أصبح بحجم رجل حقيقيّ؟ لا أدري. أسأله فيقول:

  • “أنتِ منحتني حجماً، أنتِ جعلتني هكذا.”
  • “كيف؟”
  • –         “…..”

أحاول أن أستعيد ما حدث من قبل، دون أن أدري إن كان هذا الـ (قبلُ) موجوداً، أعرف أن قفزات مكانيّة وزمانيّة غير منطقية تحدث أحياناً في الأحلام، من العبث محاولة ردم الفجوات بينها، ومع ذلك أسأله:

  • –         “متى، وكيف عدتَ؟”
  • “لا يهم.. المهمّ أنّني هنا الآن”
  • “شعرتَ بالغيرة؟”
  • –         “لم أنمْ لحظةً، شعور حقير، يجعل المرء يختنق، آسفٌ بخصوص جواربك، الغيرة جعلتني مجنوناً”.

كانت أصابعي تلعب بشعر صدره، وكفّه تمسّد ظهري حين همستُ:

  • ” أحبك مجنوناً!”

انتابتني قشعريرة حين قال الصوت في رأسي:

  • –         ” انتبهي للخشونة الإضافيّة التي طرأتْ على نبرته، ولأنفاسه الحارة، ولكفّه تتحسّس جسدك”

كان جسدي قد بدأ يستسلم، لكنّني لم أكفّ عن الجدال مع الصّوت في رأسي، يسألني الصّوت:

  • –         “لمَ أنتِ متوترة؟ ترفضين حدوث هذا هنا، على سرير غرفة نومك؟”
  • –          “أرفضه عموماً، لا يتعلّق الأمر بمكان السرير فقط!”
  • –          ” اسمعي.. يتورّط الرّجال في أحلام كهذه أحياناً، ويتقبّل الجميع هذا، حتى أنتنّ الزّوجات، تلتقطن بصمت الثّياب الدّاخلية المبلّلة الملقاة في الحمام، وتضعنها مع الغسيل”.
  • –         “إذن؟”
  • –         “يمكنكِ أن تجرّبي ربّما”
  • –         “……”
  • –         “قبلة واحدة فقط”.
  • –         “…..”
  • –         “قبلة بطعم الهال، الهال الذي تعشقين، وبعدها توقِفين كلّ شيء”.

أستسلم للذّراعين تضمّانني بعنف، وللسّاقين تلتفّان حول حوضي، وللشّفتين، ولرائحة الهال قويّة، تملأ رأسي، وأغرق في القهوة المختبئة في العينين.

 “تماماً كما تحبّين، رجل يقبّلك وعيناه مفتوحتان”، يهمس الصّوت في رأسي، وأغرق في دوار لذيذ؛ تعبرني فجأة لحظةٌ من لحظات الإرادة، أتشبّث بها، أحسم أمري: “سأستيقظ، لا يمكنني التورّط أكثر”.

 شفتاه ما زالتا مطبقتين على شفتيّ، ومع ذلك ينتابني إحساس مشوّش بقبلة تطبعها شفاهٌ على جبيني، للحظاتٍ أتأرجح في المنتصف، بين الصّحو والحلم، أحشرُ خنصري بلهفة داخل ثقب على الملاءة، أحاول بإلحاح أن أوسّعه، وكأنّني سألج عبره نحو الصّحو، تسري فيّ طمأنينة رقراقة حين أشعر- بشبهِ يقين- أنّ زوجي في هذه اللّحظة يقبّل جبيني ليوقظني، وأكاد أجزم أنّ فنجان القهوة سيكون في يده كأغلب الصباحات، وسيفسّر رائحة الهال المغوية التي تسرّبت لحلمي منذ البداية، والّتي يخونني جسدي، ويستسلم لها تماماً في هذه اللّحظات فأشهق.

 أشهق، أشهق وهي تخترق عميقاً جسدي وروحي معاً.

بكلّ إرادة الصّحو التي أمتلكها أغمض عينيّ، أشدّ عليهما، ثمّ أفتحهما، أفعل هذا مرّة، ومرّة، ومرّة.

 أفشل.. أبكي، ويلهث علاء الدين بحرارة، يهمس وهو يمرّغ وجهه على عنقي: “أعشق رائحة النّساء الباكيات”.

أستسلم لرعشة مجنونة، أبكي، ويضحك الصوت في رأسي.

 يستلقي علاء الدّين على ظهره، يتنهّد ويضمّني إلى صدره المبلّل بعرقه، ثمّ يمسح على شعري بكفّه بحنان: “ألن تكفّي عن الشّعور كلّ مرة بأنّك تحلمين؟”

أخبّئ وجهي في صدره، وأبكي بصمت، لا أجرؤ على إخباره أنّني أحلم دوماً، أحلم كثيراً ببيت، فيه رجل، وطفل، وامرأة، امرأةٌ تقرأ في سريرها قصص موراكامي، وتدخّن بحماقة.

فكرة واحدة بشأن "علاء الدّين وامرأة تحلم..قصة: روعة سنبل"

أضف تعليق