محمد الراوي

عبرالليل نحو النهار(الحرب والموت وجماليات المكان وتداخل الزمان) : أنور فتح لباب

مثلت  الكتابة القصصية عند محمد الراوي  من منتصف السبعينات نوع من الحكي والسرد  الحديث الخارج عن أطر السرد التقليدي التي كانت سائدة آنذاك .  شاقا طريقا الي آليات السرد الحديث المتأثرة بتطور الكتابة القصصية  العالمية والتي تطورت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية  وحتي الستينات  حيث تطورت عنده اشكال الكتابة السريالية  وتيار الوعي فضلا عن تأثره بكتابات  ألن روب جرييه وناتالي ساروت  وكلود سيمون  في وقت ساد فيه تيار الواقعية الاشتركية كان الراوي يشق طريقا مختلفا يتوجه نحو الجمالي والتشكيلي المختلف في الكتابة  بفضل استاذه ضياء الشرقاوي .


وقد مثل المكان عنصرا هاما في  اعمال الراوي خاصة ثلاثيته ( الركض تحت الشمس – عبر الليل نحو النهار- الرجل والموت ) فالأعمال الثلاثه يجمعها مكان واحد  ربما يكون السويس وهم انساني واحد هو الحرب والموت  وإن كان المكان يُمثل عنصرا رئيسيا  في كل اعماله ومجموعاته القصصية  (أشياء للحزن – الجد الأكبر منصور – الزهرة الصخرية  (حيث عالم غرائبي يجمع مابين البحر والصحراء) ثم روايته تل القلزم التي تدور في مستويات متعددة للمكان والزمان عبر  مستويات من القص الواقعي والفنتازي والتاريخي ، ويتداخل المكان مع الزمان في اعمال الراوي حيث الزمان ليس زمانا متصلا  بل زمنا متداخلا يجمع مابين الزمن  الواقعي واستعارة الوقائع (الذكريات والاحلام )  جامعا مابين تفاصيل الحياة اليومية وعالم الأحلام بإضطرابه وقوانينه الخاصة .

ولعل رواية عبر الليل نحو النهار ( اتحاد الكُتاب العرب دمشق 1975م ) تجسيدا لهذا الاتجاه في الكتابة فالرواية تتحدث عن حرب ومدينة لايحددها القاص قد تكون السويس أو غزة أو البوسنة أو أي مكان يشهد حربا وهو لايُعني بتفاصيل الحرب او وقائعها  اليومية لكنها يتحدث عن الناس في الحرب من خلال ( الشوارع – البيوت المهدمة – المخابيء- الأقبية – الفنادق ) ويدور ذلك في خلفية حرب من قصف صاروخي او مدفعي حيث الجثث ملقاه في  الشوارع او البيوت  منتفخة بسوائلها او علي هيئة هياكل عظمية تحيط بها العناكب وحيث الفزع الإنساني المتعايش مع الواقع اليومي للحرب.
ولعل استعادة مشاهد البيوت  التي يحرص البطل علي تفقدها او الصعود إليها وتفقد محتوياتها فيها الحنين للبيت والمكان ” عند الباب الحديدي المغلق تراءت اكوام الحطام تملأ المدخل ، تتكوم الأحجار والأشياء بعضها فوق بعض تخفي درجات السلالم  الطويلة ، بقيت حجرات بأكملها سليمة في الأدوار العليا بكل محتوياتها “
                                                                      [عبر الليل نحو النهارص 10 ]
يفسر جاستون باشلار  في كتابة جماليات المكان هذا الحنين بقوله ” حين نحلم بالبيت الذي ولدنا فيه ،وبينما نحن في أعماق حالة الإسترخاء القصوي ننخرط في ذلك الدفء الأصيل ، في تلك المادة لفردوسنا المادي ، هذا هو المناخ الذي يعيش الإنسان المحمي في داخله ………. يقول ريلكة:
البيت ، قطعة المرج ، ياضوءالمساء
فجأة تكتسب وجها يكاد يكون إنسانيا
انت قريب منا للغاية تعانقنا ونعانقك
[ جاستون باشلار . جماليات المكان . ت. غالب هلسا –المؤسسة الجامعية للنشر والدراسات بيروت 1984م  ص 38]
ثم ينتقل الراوي لمستوي آخر  في وصف المكان  من الميدان ببيوته المتلاحقة وروائحه الخاصة التي تملأ الحواري والممرات الضيقة والأزقة ذات المدخل الواحد والبيوت القديمة قاتمة تعوق التقدم خلال بعض الحواري . المكان هنا ليس امتدادا جغرافيا  ولامكانيا بل يتداخل معه الزمن  بروائحه المميزة فالرائحة هنا جزءا  من الزمن وتاريخ المكان والرابط النفسي الذي يجمع الأشخاص به .[مؤخرا قرأت للروائية الكرواتية سارة نوفيتش رواية فتاة في حالة – سلسلة ابداعات عالمية ديسمبر 2016م   استخدمت تقنية الرائحة للاستدلال علي المكان وتصوير الحالة النفسية في استعادة المكان في زمن الحرب ومابعدها ]  من هنا يتداخل الواقع مع الحلم مع الزمن السردي الواقعي.
في زمن الحرب يكون الموت حاضرا ورغم ان الموت ظاهرة إنسانية  ثابته  فالناس يموتون يوميا  إما لمرض او لكبر السن او لحوادث او كوارث طبيعية  لكن الموت في الحرب هو موت عبثي غير منطقي يأخذ الناس بغتة  ودون مقدمات  فيصيرون أرقاما ضمن ارقام كثيرة حيث تنتهي الذات والكينونه  ويتحول  الإنسان إلي مجرد جثة  . يقول الراوي واصفا  صديق البطل الذي مات  تحت انقاض بيته  ثم عثر عليه  بعد فترة من الزمن ” أصبح جثة قديمة ، حُني صدره فوق حافة السرير تدلت بقية جثه قديمة  ،جثته متهرئة تآكل لحمها فالتصقت بالبيجاما ، والدم المتخثر  علي الجسد والفراش فوق الأرض ، السائل الأصفر  المنثال من الجثة  بعد تحللها ….لم يبقي  من الرأس سوي الجمجمة ومنافذ العينين  والأنف والفم ” صـ63.
القاص هنا قد يبدو أنه يتأمل الموت كظاهرة فيزيقية تعتور من يصيبه الموت ولكن المتأمل  لابد ان يتأكد انه يرصد لحظة الفناء الإنساني وجوديا . إنه الإنسان خارج كينونته  خارج وجوده الواعي المتصل انه الفناء الإنساني بسبب عبث الحرب واجرامها.
في لحظات الفناء والنهاية تبقي ذاكرة المكان تصنع نوع من جدلية الوجود  بين الفناء والاستمرار والبقاء  “عدت مرة أخري الي حجرته نفذت من فتحة الباب  كانت الرائحة قد خفت حدتها ، ضوء الشمس نفذ من فتحة الباب  يضييء الحجرة ويذوب فيها اللون الرمادي ، أخذت انقب في أشياءه : الكتب فوق المكتب ، وعلي الارض ملابس بدت قديمة بلا الوان  لها رائحة ثقيلة ، عندما اخذت افتح ادراج المكتب لم تفتح . صممت علي فتحها وجدت في الدرج الأول علبة كبريت  وقلم كوبيا  وبعض الأوراق وإيصالات إيجار قديمة “
الحرب هنا لاتتوجه للافراد كذوات  ولا لحياتهم فقط  بل إلي المقدس منها  لتدمره وتشوه معناه ” أقتربت من الكنيسة  .انتزعت الصواريخ  سورها الحديدي من الأرض والقت  بأبوابه  الحديدية بعيدا  ، وعلي الحائط المواجه كان المسيح المصلوب قد أنزلق  طرف صليبه العلوي  من فوق الحائط  فأصبحت قدماه منفرجتين  الي فوق  ورأسه بتاجه الشوكي إعلي اسفل  وبقي باب الجرس واقفا تملؤه الحفر والفجوات . ص 32 ، 33.
في هذه الرواية انت إزاء زمن متقطع متشظي لايحكمه الواقع بل يحكمه الاضطراب  الناتج عن ادراك مدي ماتصنعه الحرب من دمار عبر تمزيق علاقات البشر  بالتفريق بينهم بالهجرة أو الموت كذلك تدمير الزمان والمكان حيث يندثر الجميع  يصبحون مجرد ذكري متداخلة يحاول خيال القاص تجميع شتاتها  وتوحيدها في جمالية سردية تحاول ان تصنع تاريخا للذاكرة بترميمها واعادة بناءها  من جديد ضمن اطار جمالي وتشكيلي مُعقد ومتداخل وهذا سر جمال هذا العمل وغيره من اعمال الراوي.

فكرة واحدة بشأن "عبرالليل نحو النهار(الحرب والموت وجماليات المكان وتداخل الزمان) : أنور فتح لباب"

أضف تعليق