أرشيف الأوسمة: صدى ( ذاكرة القصة المصرية )

مكحلة هدى النعيمي

قراء نقدية: سيد الوكيل

عادة ما تكون البدايات الإبداعية مع القصة، فيبدو هذا نوعاً من اختبار الذات الساردة، وقدرتها على التناغم مع حدس اللحظة الملهمة، تلك التي يشبهها ( جاستون باشلار) بأحلام اليقظة، حيث تلوح فكرةُ أو مشهدُ في لحظة مراوغة بين الوعي واللاوعي. هذا الأخير/ اللاوعي، هو ما يمنح القصة طاقتها الجمالية عبر الأخيلة التي تسكن طفولتنا الأولى وتظل تداعب مشاعرنا وتراودنا في أحلام نومنا ويقظتنا. أما الوعي فهو القارئ الضمني الساكن في الأعماق بوصفه مجموعة من الخبرات والمعارف الثقافية والمهارات التعبيرية.

د. هدى النعيمي، كاتبة قطرية.

في هذا السياق، أذكر (المكحلة) وهي المجموعة القصصية الأولى للكاتبة القطرية (هدى النعيمي) وهو ما أدهشني، فرحت أسأل نفسي: كيف للكتابة  الأولى أن تحظى بهذا القدر من النضج؟. فمن طبيعة التجارب الأولى أنها تحظى ببعض الاضطراب الذي  ينشأ عادة من رغبة ملحة في طرح كل الإمكانات الفنية في  عمل واحد.

المكحلة.. تحفل بصيغ أسلوبية متعددة، تكشف عن جهد الكاتبة – من خلال التجريب – في البحث عن خصوصيتها وهذه إشارة إلى ما تمتلكه «هدى النعيمي » من وعي بطبيعة القص ومراحل تطوره، ويتجلى في الميل إلى التجريب، حيث تحاول الانفلات من آليات السرد التقليدي وذلك من خلال كسر تراتب الإيقاع السردي الممثل في الزمن. يحتاج هذا لعدة حيل تقنية، من أهمها تقسيم النصوص وإخضاعها للحظات قص متباينة، تكشف عن طبيعة البناء الأسلوبي، وتحقق دلالتها من خلال مفردات تنصت بدقة إلى الإيقاع النفسي للشخصيات، هذا الإيقاع الذي يتجلى في صورة صراع دائم بين رغبات الذات وسلطة الآخر. تعبّر المسافة بين الذات والآخر -قرباً وبعداً – عن عمق الاغتراب الذي تعانيه معظم شخصيات المجموعة، والتي تبدو عادة متمثلة في ضمير المتكلم حيث يتيح هذا الضمير الكشف عن مستويات الشعور للذات الساردة، لتنقل النص من المستوى الحكائي المباشر إلى المستوى المشاعري.

ولقد جاء اختيار قصة ( أشياء) لتكون أولى قصص المجموعة، اختياراً موفقاً حيث يتضح في هذه القصة قدرة الكاتبة على خلق بناء سري متميز، مستفيدة من ضمير المتكلم لتصل بالنص – ولا سيما في بدايته – إلى لغة شعرية خافتة. يتكون البناء السردي لقصة (أشياء) من خمس علامات لكل علامة عنوان مختلف، هي على الترتيب:( رائحة – ابيض -اسود – احمر – اصفر) وحين نقول إنها خمس علامات، فإننا نعني بهذا أن نشير إلى الخاصية الفريدة للتقنية التي جمعت بين الاختلاف والتوحد، فعلى حين تستقل كل علامة بحدث خاص، فإنها في نفس الوقت تمهد لحدث العلامة التالية، وكأنما تمرر نفقا سريا، يجعل من العلامات الخمس نسيجاً واحداً لتؤكد وحدة المعنى ودقة البناء الدلالي العام للنص كله. وما يعطينا هذا الانطباع بوحدة البناء السردي، هو موقف الذات الساردة من العالم، الذي يظل واحداً في كل النصوص (العلامات) باستثناء العلامة الأولى التي جاءت كافتتاحية تشير فقط ولا تعين، مستعينة بلغة أكثر مراوغة واتساعاً من لغة القص وأكثر اقتراباً وتواشجاً مع لغة الشعر.

وهكذا تبدو اللغة في نص (رائحة) قادرة على حمل الإيقاع النفسي للذات الساردة، ربما تأتي هذه القدرة من استخدامها لأساليب المجاز اللغوي، واعتمادها كثيراً على الاستعارة، الأمر الذي يكاد يختفي في باقي حركات النص، حيث تفرض بنية السرد القائمة على الحدث لغة ذات مستوى حكائي ينمو بالحدث.

وعلى الرغم من ذلك فلغة الحكي هنا لا تتخلى عن طاقاتها الشعرية وتحقق ذلك لا من خلال الأساليب البلاغية فحسب، وإنما من خلال الإنصات الدقيق لحركة الشخصيات، مستفيدة من الطاقة البصرية للغة استفادة لافتة للانتباه. لهذا لم يكن من قبيل المصادفة إن تحمل الحركات الأربع . أسماء دالة على ألوان ترى بالعين، فيما تحمل الحركة الأولى التي اعتبرناها ذات أسلوبية مختلفة اسماً مختلفاً هو (رائحة) حيث لا شيء يثبت هنا للرصد والمشاهدة بقدر ما هو نوع من الاستشعار عن بعد، لكنه وطبيعة العالم هكذا مراوغة بين المجازي والحقيقي أو بين المتعين والخفي، يخلق نوعاً من المفارقة الحادة التي يقوم عليها النص.

فهذه المفارقة الواضحة بين الألوان والروائح أو بين المرئي واللامرئي، تؤكد قدرة الذات الساردة على الإنصات المرهف لإيقاع النص، وتكشف عن وعي الكاتبة بطبيعة اللغة من ناحية، وبطبيعة السرد القصصي من ناحية أخرى. لقد بدأ السرد في النص الأول (رائحة) بلا تعين حدثي فلا شيء يكون ممسوكاً. فالحدث يعلن عن نفسه فقط من رائحة القهوة التي تعبّق المكان، بل حتى لا يمكننا تحديد معالم المكان أو الزمان أو أي من الشخصيات،لتبدو لحظة ضبابية متشابكة. تقول: ( يعلو دوي صوته بداخلي – كدوي البحر تماماً، الكلمات عجينة هشة لا أفهمها – الدوي يزداد علواً، والعجينة تزداد هشاشة، وعيناي تبحثان عن نقطة تتعلقان بها).

هكذا تبدو العيون قلقة بالبحث عن العالم واكتشاف وجه الحياة الطويلة التي عاشها الزوجان بمجموعة من الأخطاء اليومية والبسيطة التي تبدأ منذ اللحظة الأولى في حياتهما، لكنها تستمر لتصبح ركاماً يستحيل الاستمرار معه.

ففي  نص (ابيض) أولى حركات الألوان الأربعة، يثير ثوب الزفاف الأبيض تداعيات الليلة الأولى في حياة الزوجين إنها تبدو مفعمة بالانسجام العاطفي، محاطة بالرعاية الكاملة، غير أن ثمة خطأ واحد يقع فيه الزوج، حين تسمعه الزوجة – وهي في حمام صبيحة الزفاف – يحادث أمه في الهاتف ويؤكد لها أن ليلته مرت كما ينبغي، وربما يصف لها بعض التفاصيل الصغيرة الدالة على نجاح هذه الليلة، حينئذ تشعر الزوجة أن جزءً من أشيائها الخاصة ينتهك لصالح آخرين، وحين تعاتبه على ذلك يقول لها:

–  لكنها أمي، فتقول هي: لكنها أشيائي.

وهكذا تمضي باقي العلامات في (أسود – أحمر – أصفر)  لتبدأ بالمثير اللوني الذي يكون (الحناء – الدم -الذهب) على التوالي لتنتهي بنفس الجملة الاحتجاجية من الزوجة: لكنها أشيائي.

إن الأخطاء التي يقع فيها الزوج تبدو بسيطة، لكنها تبدو فادحة بالنسبة للزوجة، وهذه المفارقة بين وعي الزوجين بطبيعة الخطأ هي نفسها «خطأ تراجيدي» تقع فيه المؤسسة الاجتماعية الأكثر رسوخاً، وهي المؤسسة الزوجية، إذ أن هذه المؤسسة مازالت تنظر إلى المرأة باعتبارها كياناً ينبغي أن يذوب تماما لصالح المؤسسة، دون مراعاة لخصوصية وتفرد كل واحد من أفراد هذه المؤسسة، وهكذا يطرح النص مفهوماً للعلاقة الزوجية يأتي على عكس ما هو شائع من أن الزواج هو انتقال من الخاص والفردي، إلى العام الاجتماعي .

هكذا يبدو أن انتهاك خصوصية الإنسان هو في الحقيقة انتهاك لذاته، فالذات لا تتحقق ولا توجد بعيداً عن عالمها الخاص، إن انتهاك الخاص هو في الحقيقة بعثرة للذات، هذه البعثرة التي قد تؤدي إلى الضياع والتشذي.

ولهذا، فان الزوجة حين تُنتهك خصوصيتها، تبدأ في التفتت والاندياح لصالح معنى عام، لكنها لا تكون جزء من هذا العام، ولا تشارك فيه، ويأتي هذا المعنى في نهاية النص على لسان الزوجة حين: « تقول لكنها أشيائي الخاصة بي أنا فقط أريد أن امتلك أشيائي هذه، لا أريد من يبعثرها هنا وهناك، لا أريد من يقلل من قدسية أشيائي» وهكذا.. نحن أمام ذات تقاوم بعثرتها، تحاول امتلاك خصوصيتها التي تشكل وتعادل هويتها، ليبدو أن افتقاد الخصوصية يعادل افتقاد الهوية.

ومن هذا المنطلق تقدم (هدى النعيمي) نصاً آخر تتأكد فيه هذه الفكرة، فكرة الدفاع عن خصوصية الذات وحفظها من الضياع في الآخر، يأتي هذا في نص بعنوان (العيد). وإذا كان النص السابق يتحدث عن نوع من الهوية الاجتماعية، أي هوية الفرد داخل المجتمع، فان قصة (العيد) تصعدُ بالمشكلة إلى مفهوم الهوية القومية.

تتناول قصة «العيد» تجربة خاصة وفريدة، حيث ترصد جانباً من مشاعر الاغتراب التي يعيشها بعض أبناء الجيل الجديد، الذين يحملون على أكتافهم مسئولية تحديث وتطوير مجتمعاتهم. نقول تجربة خاصة لأنها تعبّر عن مشكلات لا يعانيها سوى أبناء هذا الجيل الأحدث، الذي يخوض تجربة السفر إلى الخارج من أجل الحصول على المستويات الأعلى من العلم الغربي، إنهم يشعرون بأهمية وقيمة ما يفعلون، غير أنهم يتعرضون لحالات الاغتصاب النفسي التي تفرضها تجربة الاغتراب، والطبيعة المغايرة لمجتمعات لا يتواءمون معها، لتعبر عن حدة الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، وتزداد حدة هذا الصراع من خلال وعيهم بحتمية هذا التوائم الذي يؤدي إلى اكتساب سلوكيات وأنماط جديدة للحياة، تتصادم بالضرورة مع ما اعتادوه في مجتمعاتهم وربما تزيح كثيراً من القيم التي تمنح الشرقي خصوصيته.

تختار «هدى النعيمي» لحظتها القصصية ببراعة، لتكون أكثر هذه اللحظات تعبيراً عن المعاناة، حيث اختارت صباح أول أيام العيد، وهي لحظة تحتشد بكثير من العادات والتقاليد والشعائر والممارسات شديدة الخصوصية والارتباط بالبيئة المجتمعية، فتكون هذه اللحظة هي أحد طرفي المفارقة، ويكون الطرف الآخر هو المكان الذي تستقبل فيه الراوية لحظة العيد، حيث تستقبله في إحدى مدن الجنوب الفرنسي وهناك لاشيء غير ورقة التقويم تشير إلى العيد: “الشوارع كما هي، الجدران هي نفس البرودة، ونفس الهدوء القاتل، تكبيرات المصلين لا تأتي من المساجد الكبيرة، رائحة الطعام لا تعبق المكان، هكذا تختزل هوية العيد في مجرد رقم دال على اليوم في ورقة ملتصقة بروزنامة مثبتة على حائط صامت في مكان تقول عنه (مكان إقامتي المؤقتة) ويعني هذا أن الحياة تظل مؤجلة، ومرهونة بالعودة للوطن .

ومن الطبيعي أن لحظة كهذه تثير مشاعر الحنين وأوجاع الاغتراب، هكذا تبدأ الذات في تأمل موقفها ومراجعة حساباتها، هكذا تبدأ في طرح الأسئلة: ” توقعت أن أسمع تكبيرات المصلين من الجامع، وأن أشم رائحة الطعام المجهز لهذا اليوم.. لا شيء من ذلك .. ترى لماذا ؟.. كل شيء كعادته كل يوم.. الوجوه.. الأبعاد.. الاتجاهات. أين العيد إذن، أين عباءتك التي كنت اختبئ تحتها أنا وأخوتي ونحن صغار؟»

 تحفل القصة بكثير من الأسئلة على هذا النحو، حتى تصل إلى السؤال الوجودي الصعب: ” أشعر بالحنق… لم كل هذا؟ لم أنا بعيدة عن الديار.. عن الأهل.. عن العيد نفسه.. ماذا جئت أفعل في هذه المدينة النائية عن ذاتي في هذا اليوم.. هل يستحق ما جئت له فعلاً ما أنا فيه؟!.. يا الله !! »

ويبدو لي أن هذه الأسئلة الأخيرة، هي أهم وأخطر ما يطرحه هذا النص حيث تعبر لا عن أزمة الشرقي المغترب فقط، وإنما تعبر عن أزمة إنسان ما بعد الحداثة الذي بدأ مراجعة كل المفاهيم والقيم التي انتجتها لحظة حضارية سابقة، ومناقشة اليقينيات التي بدت دائما ثابتة وبراقة ليكتشف في النهاية إن الإنسان عليه أن يضحي بأبسط حقوقه الإنسانية من أجل معانٍ مجردة حول التفوق الحضاري، أن ضحية الصراعات الحضارية في نهاية الأمر هي الإنسان ذاته، الذي ينبغي عليه دائما أن يضحي بالخاص من أجل العام، حيث يصبح العام تعبيراً عن مطالب مجتمعية. هنا يصل الصراع النفسي لأعلى درجاته، ولا تنتظر من القضية أن تحسم نهائياً، لأن انحياز السارد للعام يعني قتلاً للمشاعر الإنسانية وطمساً لفكرة الخصوصية التي يلح عليها منذ البداية، كما أن انحيازه للخاص يعني في المقابل التخلي عن دور الفرد تجاه مجتمعه، وهي قيمة ما زالت تلقى صدى في المجتمعات النامية التي بسبيلها إلى التطور، هذا الموقف البسيط، موقف الذات والآخر – الذي نمارسه يوميا دون أن ندري-  يصبح موقفاً وجودياً في قصة من أفضل قصص المجموعة، وتتضح أزمة الراوية وصعوبة موقفها في الاستغاثة التي تطلقها في نهاية المقطع مشيرة إلى عجزها عن حسم الموقف وإحالة الأمر كله لله (يا الله!!).

يتأكد البعد الاجتماعي وما ينشأ عنه من صراعات نفسية في قصص «هدى النعيمي» ليصور حدة الأزمة، واحتدام الصراع الإنساني  في مرحلة جديدة من الوعي الاجتماعي تقع في لحظة تاريخية، تتسم بالتغير والتطور الدائبين، واختلاف كثير من المفاهيم والممارسات التي كانت سائدة ثم أصبحت في حاجة إلى تغيير، ويقف إنسان هذه المرحلة موقف الحائر بين مفردات وعي مستقر غرسه الآباء والأجداد، وبين متطلبات وعي جديد مُنتج  عن التغير الهائل في كل شيء، حتى في طبيعة العلاقات الإنسانية، وهذا الموقف الحائر هو ما يدعو الكاتبة – في جل قصصها – إلى أن تتأمل الظواهر الاجتماعية وإخضاعها للتحليل.

في قصة (علاقات) ترصد الكاتبة لمجموعة من العلاقات الإنسانية التي تحيط بها مثل: علاقات الأخوة والصداقة والأبوة والجيرة، وأيضاً العلاقات العاطفية حيث تقوم قصة حب غير مكتملة بدور الحاضر الغائب طوال النص. وكالعادة فان «هدى النعيمي» تقدم لنصوصها بمقطع يعلن عن مناسبته للنص والزمان والمكان، يبدأ هنا من صباح يوم ذكرى ميلاد بطلة القصة، التي تبدأ بطقوس الاستعداد للاحتفال بهذه الذكرى في المساء، وأثناء ذلك تتكشف العلاقات واحدة تلو الأخرى، بمشاعر مختلفة : الحب والحنان والصداقة من خلال الاتصالات الهاتفية والزيارات والهدايا، حتى الأخوة المغتربون لا تفوتهم المناسبة لمد مساحة من التواصل مع الآخرين، غير أنها تصبح مجرد تعبيرات هاتفية سريعة ومبتسرة، لا تترك أثراً حميماً في النفس كما سوف نرى، غير أن بطلة القصة تظل طوال الوقت في انتظار مهاتفة لا تجيء من الحبيب الذي تقصيه الغربة، فتقلص وجوده في ضميرها عاماً بعد عامٍ. وعلى الرغم من توقعها بأنها ستكون مهاتفة روتينية مثل كل عام إلا أنها كانت في حاجة إليها، فقط لتثبّت يقينها بقيمة الحب بوصفه من أرقى وأهم العلاقات الإنسانية في تاريخ البشرية، إنها مازالت في حاجة إلى سماع صوته وهو يقول: ” في العام القادم نكون معا يا حبيبتي” لكن المهاتفة لا تأتي أبداً. يحدث هذا في نفس الوقت الذي  يتقدم فيه شاب لخطبة ابنتها، ليكون ذلك بداية إلى علاقة زوجية جديدة، في مقابل علاقة قديمة تنحل وتنهار تلقائياً.

 هذه المقابلة  بين حب يموت وآخر يولد، توقظ في وعي بطلة القصة حالة من الصراع الداخلي، ولكنها تحسمه بالموافقة على عريس ابنتها. تفعل هذا بنوع من الاستسلام لواقع يتكرر على نحو عبثي، يؤكد مصير الأنثى في كل زمان ومكان. تصل لهذا اليقين وهي تقرأ  في جريدة مقالاً بعنوان (علاقات) يؤكد المقال على أن العلاقات بين البشر تحتاج رعاية الطرفين لتبدو أشبه بنبتة تنمو وتورق وتثمر بالرعاية المستمرة. يأتي  المقال بوصفه مقابلة جديدة، تعمق إحساسها بعبثية الواقع، وتستدعي في ذاكرتها علاقة تتفكك بين الأم وابنها الغائب لسنوات فتقول: “نظرت لوجه أمي.. ما عادت الدمعات تلمع في عينيها عند سماع صوت أخي أو سماع أخباره، في آخر زياراته للأسرة كان طفله الأول يحاول المشي، قال لأمي وهو يغادر سأعود به العام المقبل وهو يجري كالعفريت، لكننا لم نره بعدها، ولا رأينا عفاريته ثانياً.  

وإذا كان الاغتراب يؤدي إلى تحلل العلاقات الإنسانية كما في قصة (علاقات) أو يؤدي إلى تشذي الذات كما في قصة (العيد) فان الكاتبة تقلّب فكرة الاغتراب على كل وجه لتختبرها في مواقف مختلفة، حتى أن كل نص من نصوص المجموعة القصصية، يمهد أو يستعرض صوراً من تفكك العلاقات الإنسانية، فنجد في قصة (المكحلة) إحالة إلى أن الاغتراب هو بداية الطريق إلى الخيانة التي تبدأ بخيانة الفرد لذاته ثم تنتهي بخيانته لمجتمعه. وهكذا تكشف قصة (المكحلة) عن تطور الوعي بفكرة الاغتراب، بمعنى أن وحدات السرد في هذه النصوص ليست منفصلة عن بعضها البعض، بقدر ما تمثل بنية كلية تنشأ عن علاقات متشابكة وعميقة بين كل الوحدات السردية، بما يؤكد وعي الكاتبة بأهمية التوظيف التقني، وبما يعني أن الوحدات السردية لا تتوقف عند سرد الحكايات، بل تستدعي نسقاً للتفكير، فتبدو المكحلة رمزاً للهوية العربية ومرادفاً للذات الجمعية الأصيلة. تأتي المكحلة هنا ليس باعتبارها أداة للزينة، بل رمزا للحظة تنوير تشرق في نهاية المجموعة القصصية، عندما يوقفنا السرد على أن الذات في لحظات اغترابها تكون عرضة للاستلاب والضياع. الاغتراب هو ما أدى إلى وقوع الزوج في براثن المرأة الأجنبية، أسرته، كما أسرت السيرانات أوديسيوس في متاهته، أغوته بشعرها الأشقر، ولسانها المعوج:

 ” كيف استطاعت أن تسلب منك – يا سيد الكبرياء – جدائل الفرح التي اسكُنها، وواحات الدفء التي استظل بها من لهيب اغترابي، كيف استطاعت عيناها الزرقاوان أن تسرقا الكحل من عيني، وتلقي بالمكحلة في أعماق النهر البارد؟)

هكذا ينتهي السرد إلى موقف آخر غير موقف التفكك الذي رأيناه في العلاقة بين الأم والابن في قصة (علاقات) إلى موقف التخلي والانزياح في الآخر الأجنبي، وهكذا لا تجد الزوجة امامها غير ملاذها الاخير المتمثل صراحة في صورة الأم / الوطن فتقول:

 «اشتاق إلى وجهك يا أمي.. اشتاق إلى وجهك يا وطني، اغفر لي فلست فوق الخطأ، ولست فوق الزلل .. سأعود إليك يا أمي.. ولكن بدون المكحلة». العودة بدون المكحلة تشير إلى ما يحدث من تغير في الغربة، فمرارة التجربة تعلق بنا وتترك فينا ندوبا وجراحا لهذا فلن نعود من اغترابنا بنفس ذواتنا القديمة، وهكذا يصل وعي (هدى النعيمي) بمعنى الاغتراب إلى ذروته، وهكذا يبدو لحن الاغتراب أحد أهم علامات المجموعة القصصية، ومن خلاله يتغير موقع الذات بعداً أو قرباً من مركزها . فيما يظل الآخر في موقعه هناك، وبعيداً عن الذات

تمارين الموتى. قصة: هناء متولي

                               

طق.. طق.. طق

الريح التي تعبث بالشجر، المطر الذي لا يتوقف، وانقطاع الكهرباء..

رغم شيخوختها الواضحة، تعدو طائرة بقامتها القصيرة وجسدها المنكمش، صوب المنزل المقصود، لتدق بابه خمس دقات متواصلة، وعادة تنفتح الأبواب أمامها في ترقب وقلق، كلمتان ثابتتان تنطقهما: “رسالتكم وصلت”.

***

شروق خَجِل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المُطلِّ على الترعة وحيدًا، ورغم أنه قد شُيِّد من طوب لَبِنٍ ومُعرَّشٍ بسقيفةٍ من القش إلا أنه يشع دفئًا في وجه الزمن، تنادي بصوتٍ مُتَرقِّب: “يا خالة”؛ فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعيون يقظة، لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: “لا رسائل لك!”..

استمر في القراءة تمارين الموتى. قصة: هناء متولي

  معالجة جانبية للفتنة “3”. قصة: أحمد عبده

                 

         

يقفُ على أرجوحته، اقتربتُ بفمي من فتحات أسلاك القفص، فالتقطَ عود البقدونس من بين أسناني، جلستُ على الكرسي المقابل له، رحتُ أتتبع طريقته في أكل الخضروات؛ وقد ظهر عليه التلذذ بالعصارة الخضراء.

تذكرتُ ضرورة تصوير المنظر الرقيق، قمتُ لإحضار الموبايل، وحينما عدتُّ كانت عشبة صغيرة – هي ما تبقى بين منقاريه، ولا يزال يعالج التهامها, سال لعابي لتقبيله في فمه/ منقاره,! فم مدبب دقيق كطرف نبتة زنبقة، تحبُ أن تمسكهُ بين أسنانك الأمامية، وتظل هكذا, وأنتَ تنظرُ في عينين كفقاعتي زئبق على زجاج أخضر فاتح، كلون ريشَهُ، أو تضعه بين شفتيك وتمتصه لدقائق!

اقتربتُ بوجهي من أسلاك القفص، شفتاي تسبقان أنفي، تحرك من مكانه وجاء نحوي؛ مد منقاره, ربما ظن أنني أُخبيءُ له شيئًا آخر داخل فمي، أو ليشكرني على الوليمة الخضراء الطازجة، نقرني في شفتي السفلى, شفتي سمينة وقرمزيتها طبيعية وباستمرار، هل يعاقبني لأنه لم يجد شيئًا هذه المرة؟

سال الدم على قميصي القطني الصيفي الفاتح؛ فتكونت عليه بقعٌ متفرقة، ليبدو كأنه “مَحرمة” لفتاة من فتيات القرية القديمة ليلة دُخْلتها على عريسها.

وبعيدًا عن أمور العواطف أو الاستلطاف- سألتُ نفسي بعد أن صرختُ، وفور رؤيتي لسرسوب الدم المنسال على صدري:

ـــــــ  بالذمة ! هل هناك امرأة عاقلة تُقبِّل عصفورًا في فمه، أقصد في منقاره؟

المنقار لطيف، ورقيق، مثل مِرْوَد الكحل، يُغري بأن تضعهُ بين شفتيك وتبخّ فيه حبات الدنيبة؛ كي يتغذى العصفور أكثر، فينمو جسده ويصير سمينًا!  

ولأننا نساء، ولنا قلوب في رقة ألسنة اليمام، وأحيانًا في قسوة غرس سِنّ منقار العصفور في شفتي – تجدُ المرأة منِّا تجاه موقف كهذا، وقد انقسمت إلى نصفين يتصارعان، صراع  بين عاطفة وعاطفة:

 عاطفة من حديد تقول لي: أخرجيه من القفص, وأطلقي سراحه إلى الفضاء، فهو خائن، ولا يستحق أن يعيش في قصر كهذا, وينال مني هذه المحبة والرعاية – وعاطفة من الملبن تعترض وتقول: لن تتحملي غيابه ساعة واحدة، فأنتِ دائمة الجلوس أمام قفصه؛ تناغشينه وتلاغينه وتلاعبينه، وأحيانًا تُخرجينه من القفص وتضعينه على صدرك، برجليه وأظافره الدقيقة وأنتِ نائمة, أو يقفُ على أحد أصابعك, فلايحاول الطيران أو القفز.. لا يفكر في النزول من عليه!!    

تُوجعني شفتي، وأرى الدم على القميص؛ فأُصرُ على طرده وتسريبه لخارج القصر. ويؤلمني تخيل فراقه؛ فأُصرُ على وضعه في القفص!

أحبُ أن يكون أمام عينيَّ باستمرار، ولو في الحبس! 

العاطفة الأولى تقول: نقرَ شفتكِ هذه النقرة الغبية: شفتكِ التي تناغيه، وتخاطبه، وحملت له عود البقدونس الأخضر, فلماذا تُبقي عليه؟

فيما العاطفة الثانية تقول: الخطأُ خطأُكِ! وإذا أصررتِ على طرده، أخرجيه من القفص، ودعيه يمرح في أجواء القصر، فالفراغ محكم، لا يوجد فيه ثقب تخرج أو تدخل منه ذبابة، والأبواب وهي مغلقة نحسبها مفتوحة! وهي مفتوحة نحسبها مغلقة!, وكان تبريرها لذلك أنه بدلا من حبسه في السجن الصغير، فليمرح بجناحيه في السجن الأكبر، فالمفروض أن حريته على الأشجار، وفي الحقول، فعلى الأقل يمرح على أطراف الستائر، وحواف النجف والثريات، فلماذا تميَّز عن البشر بالجناحين؟

وأقول في نفسي: لكنه ليس من عصافير البيئة الخارجية؛ لكي نطلق سراحه, هو غريب عن هذا العالم, تميَّز بشكله الأجمل والأرق؛ ليكون حبيسًا هكذا! هو مثل طفلي” قرنفلة ” تمامًا, فلو أُطلقنا سراحه، وخرج معه “قرنفلة” إلى الشارع- فكلاهما لن يعرف طريق العودة إلى القصر!

وحياته في القصر هي ما جعلته هكذا: محدود النطاق، محدود النظر، غشيم التصرف! حتى وأنا أمُدُ  له اليد بطعامه.

 فلا نحن تركناه مع فصيله الذي يمتلك شواشي الأشجار وأسلاك الهاتف وحبال الغسيل! ولا نحن تركناه يمرح في أجواء القصر؛ فيطول باع جناحيه، ويقوى ريشه على مقاومة الطيران كما يقوى منقاره من كثرة النقر في الأرض. وهل ما جعله لا ينتمي لبيئة الأشجار والنقر في الحقول – إلا أننا جعلناه تربية قصور؟ 

هو، ومن كثرة الأُلفة معنا في القصر نقر شفتي، مثيله البري على طرف شجيرة، يطير هاربًا لو هشَّهُ  الصغير” قرنفلة”.

لكن كلما نقح عليَّ الثقب الذي أحدثه في شفتي، أشعر بغلظة نحوه فأقرر طرده خارج القصر, تخفت هذه الغلظة شيئًا, فأقرر إطلاقه في جو القصر مع  حرمانه من الطعام يومًا، فسرعان ما تلين تلك الغلظة أمام بكاء “قُرنفلة”، فهو لا يريد لعصفوره أن يغادر القفص؛ ولا القصر, فأرى أن رأيه أصح مهما حدث، فنحن أتينا به ليكون أقرب لنا من نجفة السقف: نتكلم معه، ننظر في عينيه، ننقله من مكان لمكان بسهولة، آخذه معي إلى غرفتي وأنا ذاهبة إلى سريري! يوجد أكثر من عصفور في أقفاص أخرى: في الصالة، في الشرفة، لكن القلب وما يهوى، فإذا أطلقناه في جو القصر- فأين سنجده؟ مره نجده مختبئًا وراء ستارة، ومرة على سلك نجفة، ومرة يطوي فراغات القصر بألعاب بهلوانية: من غرفة! إلى بهو! إلى صالة! ثم يختفي كجن! وأنا لا أطيق غيابه عن عيني، بودِّي أن أعلقه في صدري دلَّاية.

ومن بين أسلاك القفص، مددتُ له عود بقدونس آخر بيدي هذه المرة، ظل واقفًا على أرجوحته، لم يتحرك، هل يريده من فمي، من بين أسناني، شفتي؟

ظللتُ مادةً له العود الأخضر، كأنني أُلحّ عليه، أو أتوددُ له قائلة:

 لا تحزن! أنا سامحتك!

حشر العصفور منقاره بين خشبتين من خشبات أرجوحته، وانهمك في ثنيهِ شمالاً ويمينًا, حتى سقط منه طرف الزنبقة!، ثم رفع رأسه وهو ينظر لي بعينين لامعتين.. بسائل شفاف.

                                  ***

                                               مايو 2022 

عن المتعة والرغبة. بقلم: سيد الوكيل

في كتابه ( تطور المتع البشرية ـ رغبات وقيود) يطرح ( شارل كورنريخ) سؤالاً طريفًا ربما دار برؤوسنا يومًا، لكن أحداً منا لم يهتم بالإجابة عليه :لماذا نطعم قطتنا ونتركها تهز ذيلها على الأريكة في سعادة، فيما علينا أن نكدح في الشوارع ونشقى في المصانع ونتعرق في المزارع لنحصل على طعامنا؟ وقبل أن تفكر في  إجابة يطرح عليك سؤالاً جديدًا: هل ترضى بمبادلة حياتك بحياة قطة؟

 هكذا يبدو الأمر دعوة لأن نرضى بما نحن عليه. لكنه في الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك. وخلاصته أن ما نحصل عليه من متعة أكثر بمئات المرات مما يحصل عليه أي كائن على وجه الأرض. كما أن إحساسنا بالمتعة يزيد كلما كان ثمنها أكثر فداحة. مثلاً، كلما كان عملنا شاقًا وصعبًا فإن متعتنا بقيمة النجاح تتضاعف. الطريف أن هذه المتعة ترتبط برغبة عميقة لأن نكررها ونضاعف من معاناتنا  لنحصل عليها. بما يعني أن درجة من التفاعل العاطفي تنشأ بيننا وبين متعنا تكون أكثر وضوحًا عندما تلقم الأم ثديها لوليدها أول مرة بعد معاناة الحمل والولادة. في كل مرة تفعل ذلك تستدعى مشاعر المتعة الأولى. بل تزيد مع الوقت بسبب التفاعل العاطفي بينهما، الابتسامات والمناغاة بل والبكاء الذي يعكس توتر الطفل رغبة في ثدي أمه. هكذا.. سيمفونية المتع لا تتوقف عن العزف بداخلنا، ولو كانت في مجال واحد ومحدد وظيفيًا كغريزة الأمومة. فما بالنا بالمتع المكتسبة والعابرة كالتدخين،  اللعب، والغناء، والــ…

 إن المتع البشرية كلما كانت مؤقتة ولا تستهدف غير مجرد المتعة، تكون أكثر إلحاحًا لتصل حد الإدمان، لأنها لا تمنحنا إشباعًا عاطفيًا كذلك الذي نجده بين الأم وطفلها. لهذا فمثلث المتعة البشرية، يتحقق عبر العاطفة، والرغبة واللذة التي هي المرجع لإحساسنا بالسعادة. ونحن مستعدون لمزيد من المعاناة لنحصل على لذة أعظم رغم علمنا أن الألم هو الوجه المقابل للذة. 

استمر في القراءة عن المتعة والرغبة. بقلم: سيد الوكيل

بيرستيرويكا. قصة: حاتم رضوان

                                 

    ابتسمتا وأشارتا لي بالجلوس إليهما عندما مررتُ بهما وأطلتُ النظر فيهما.

    افترشتا بقعة من أرض الرصيف في جانب هادئ وخافت الإضاءة من ساحة الفندق، وضعتا سيقانهما الخشبية إلى جوارهما، وجلستا تدخنان، بينما تمسك كل واحدة زجاجة صغيرة في يدها، تتجرع منها بين حين وآخر، كانتا صامتتين، وهائمتين في عالم بعيد.

   سيدتان شقراوان ينطق وجهيهما بجمال صارخ، آيتان من الفتنة والأنوثة، حوريتان هربتا من الجنة، ونزلتا هنا إلى الأرض أمامي، خمنت عمرهما، يتأرجح حول الأربعين، أفاقتا من السرحان وانتبهتا إلى نظرتي المفتونة والمحدقة بهما، ابتسمتا معًا، ووجهتا الدعوة لي: مشاركتهما الجلوس بإشارات فهمتها من حركات الأيدي وإن لم أفسر لغة الكلمات المصاحبة لها.

    كنت أتابعهما من مكاني وأنا جالس على حافة السور الواطئ، يحيط بالنافورة التي ترقص رشرشات مياهها على نغمات الموسيقا والأضواء الملونة، تتوسط الميدان السياحي أمام الفندق ذي السبعة نجوم، كانتا تروحان وتجيئان بسيقانهما الخشبية الطويلة وملابسهما الملونة، تنشران البهجة وسط السائحين بضحكاتهما، ومشاكساتهما للأطفال والنساء والرجال، يرقصون، ويلتقطون الصور معهما، بدتا لي في طولهما المفرط مثل برجين يتحركان بخفة راقصتي باليه، احتفظُ بصورتين لي معهما، أبدو في إحداها قزمًا وهما تحوطاني عن اليمين واليسار، أتأملهما كلما خطرا بذاكرتي، واسترجع قصتهما، وحديثهما الحميم معي، تحكي كل واحدة جزءًا منها بلكنة إنجليزية أجد صعوبة في فهمها، تتخللها بعض الكلمات العربية التي تعلمتاها بحكم الممارسة والاختلاط، قاطعتهما كثيرًا لإعادة بعض الجمل من أجل استيضاح نقطة ما، لكنني استطعت في النهاية رسم لوحة لحياتهما، تكاد تكون مكتملة، وتتبع خط سيرهما من بلدهما البعيد حتى موقع جلوسهما إليَّ في هذه اللحظة.

    صديقتان من الطفولة، عاشتا حياة بسيطة، تلبي أقل ما تحتاجا إليه من متطلبات، تضمهما قرية نائية تقع في أقصى الشمال الشرقي من العالم، تنام في هدوء على حافة الكرة الأرضية، تكسوها الثلوج معظمشهورالسنة، كل شيء فيها بطابور، الخبز، الزيت، السكر، والطعام، أما الملابس والأحذية بطلب مسبق، وعندما يصيبك الدور لتحصل عليها، قد تجد أن المقاس المتوفر لا يناسبك، تعود مكسور الخاطر، تتنظر أن يحالفك الحظ في مرة قادمة.

     تعلمَ أهل القرية من زمن بعيد المشي بواسطة السيقان الخشبية، في موسم ذوبان الثلوج تصبح الأرض موحلة، تتحول إلى برك ومستنقعات شاسعة، ووعرة، لا توجد وسائل مواصلات، تساعدهم على التحرك فيها من مكان لآخر، وسيلتهم الوحيدة تلك السيقان الخشبية، تجنبهم الخوض في الأراضي الطينية اللزجة، وبعد تحسن الأوضاع النسبي، وشق الطرق، وتعبيدها، وظهور وسائل تنقل مختلفة، صارت السيقان الخشبية شاهدًا من الماضي، توارثه الأبناء، يتعلمون منذ صغرهم  المشي والرقص بها كهواية، حتى أنه لا يوجد أحد من سكانها لا يجيد استخدامها، وحدد الأجداد يومًا من كل عام يجتمع فيه أبناؤهم وبناتهم في ميدان القرية الفسيح، يقيمون فيه احتفالًا كبيرًا، يلبسون بأقدامهم هذه العصي الخشبية الطويلة ويرقصون بها، ويأتون بحركات بهلوانية في تقليد يحيي هذه العادة القديمة، واطلقوا على هذا اليوم مهرجان السيقان الخشبية.

    أحسست مع السيدتين بألفة لم أعهدها مع الغرباء، وخصوصًا الأجانب منهم، من أجهل لغتهم وعاداتهم، زالت الحواجز بيننا، واحدًا إثر آخر، وحُلَت عقدة اللسان، وتجاوزنا مرحلة الارتياب والخوف من الآخر، وزادت مساحة الصدق والارتياح، وانساب تدفق الحديث والكلام بيننا، وكأن تَعَارُفَنا كان ممتدًا منذ سنوات طويلة، التقينا بعدها مرة أخرى من جديد بعد قطيعة وغياب.

     في أول تسعينات القرن الماضي ومع هبوط العلم السوفيتي الأحمر بنجمته وشعار المطرقة والمنجل من أعلى قبة قصر الكرملين تغير كل شيء، انقلبت حياتهما البسيطة، لتنحدر إلى ما تحت خط الفقر، عاشت كل منهما سنوات مراهقة صعبة، في أحيان كثيرة لم تجدا طعامًا كافيًا، يخمد آلام الجوع المتأججة في البطون، بحثتا عن أي عمل دون جدوى، لم يكن أمام الفتيات غير شوارع المتعة المنتشرة في المدن البعيدة، أو إعلانات العمالة في الخارج، كجليسات للأطفال، أو مضيفات في الحانات والفنادق، أو راقصات في فرق موسيقية مغمورة نظير أجور مغرية، مجرد التفكير فيها تجعلهن طائرات في السماء، تحلمن بالعيش في رغد، جافاهن طوال سنوات عمرهن الفائتة.

    قدمت لي إحداهن سيجارة، تناولتها رغم أني لا أدخن، وأشعلتها الأخرى، كنت كمن فتح لهما بابًا للذكريات، والبوح، انطلقتا من خلاله تحكيان لي ما حدث لهما، أيام الطفولة والصبا الأولى، مخاوفهما المتجددة من مستقبل غامض، مغادرتهما القرية والبلاد كلها، حتي ركوبهما الطائرة، والنزول في مطار شرم الشيخ بتأشيرات سياحية.

    ساقهما إعلان توظيف إلى هنا، لتكتشفا أنهما وقعتا ضحية لعصابة تمتهن الدعارة والاتجار في البشر وليس مكتبًا للعمالة، كان المخطط أن تقادا مع غيرهن عبر دروب ومسالك سيناء الوعرة، وغير المأهولة، ويتم تهريبهن إلى إسرائيل، واستغلالهن كفتيات ليل، يعانين من الامتهان، والعنف الجسدي، لو استسلمتا ورضيتا بهذا المصير لكان أحرى بهما أن تظلا بقريتهما، ولفتحت لهما شوارع المدينة ذراعيها، تعملان في بيوتها السرية، تحققان ثروة كبيرة، تغنيهما عن السفر والغربة، لكنه ولحسن حظهما ولمفارقات حدثت، يطول شرحها، استطاعتا التحايل، وسرقة جوازي سفرهما والهروب من الفخ المنصوب لهما، والمصير المجهول الذي ينتظرهما، لينتهي بهما الطريق بعد سلسلة من المطاردات والمغامرات إلى هذا الفندق، كل ما تحملانه من مؤهلات: إجادة المشي بواسطة هذه السيقان الخشبية، تعملان به للترويح عن الزائرين والترويج للسياحة كمهرجتين مقابل غرفة في السكن المخصص للعاملات ووجبتي طعام، وبعض المال، يكفي بالكاد لشراء الشراب والسجائر.

    التقطت صورة سيلفي معهما تجمعنا فيها لحظة إنسانية نادرة وفريدة، اقتربت فيها رؤوسنا الثلاثة حتى كادت أن تتلامس وكانت وجوهنا تعلوها ابتسامة واسعة، استأذنتهما في المغادرة، نهضتا معي من على الرصيف، وفُزْتُ من كل منهما بحضن دافئ، ذابت بيننا فيه المسافات، وأمسكتا بعصيهما الخشبية، التي ارتفعت بأيديهما لأعلى ملوحتان لي بها في الهواء، لتجلسا مرة ثانية، وتضعاها إلى جوارهما، وتصمتان، لمحتهما وأنا أبتعد عنهما، تريحان ظهريهما على سور الفندق في استرخاء ظاهر، تدخنان وتشربان وتدندنان بلحن معبأ بالشجن، أجهله، بينما عيني كل واحدة منهما تنظران في اتجاه مختلف.

تقنيات السرد بين التطبيق والتنظير. أ.د. محمد عبد المطلب

(1)

ظهر مع الحداثة ما سمي(علم الرواية) وتابعه (علم السرد) تأسيساً علي أن هناك نوعا من النصوص الأدبية التي حصرت وظيفتها في إعادة إنتاج الواقع بمجموع وقائعه وشخوصه، والعلاقة الجدلية التي تربطهم، ثم تقديم هذا المنتج في لغة توصيلية ذات مواصفات أدبية، وكان ظهور مصطلح (علم الرواية) وتابعه (علم السرد) ذا تأثير واسع في المحيط الأدبي والنقدي، وازداد هذا التأثير عندما زاحمت الرواية سواها من أجناس القول، وسعت أن تجد لها مقعداً في المقدمة.

إن ترديد هذين المصطلحين في زمن الحداثة، قد استهدف تخليص الرواية من القراءة الانطباعية التي صاحبتها منذ بواكيرها حتي أوائل القرن العشرين، ومما لاشك فيه، أن هذه الانطباعية كانت وليدة (المحكاة) التي كانت تنظر في النص بوصفه محاكاة الواقع، إذا كانت المحاكاة أمينة وصادقة نال النص الرضا والقبول النقدي، وإذا انعدمت الأمانة والصدق، كان الرفض الفوري، دون نظر إلي الأداة التعبيرية التي وظفها الأديب، سواء أكان صادقا أم غير صادق، ذلك أن الانطباعية احتكمت إلي (المرآة) النصية، وأهملت سواها من الأدوات المنتجة للنص، وتناست الهيكل البنائي للرواية.

استمر في القراءة تقنيات السرد بين التطبيق والتنظير. أ.د. محمد عبد المطلب

إنعكاسات. قصة: عزة مسعود

.. تطارده الأفكار ، تصارعه الظنون والشكوك ، تتقاذفه الأوهام . . يرفع جسده عن الفراش ينهض كل جوانحه ليسألها : من أنا ؟

يرتفع صوت الريح يضرب بنافذة العقل ، ترتعش الخلايا تتصلب بعد تجول في تلافيف المخ، تصبح مشلولة لا تستطيع الإجابة .

يبحث في أوراق مرصوصة على مائدة قذرة ، ينكر صلته بها وتنكره، يمسك بالقلم يصرخ : دعني .

يرفع رأسه رامياً القلم ، تلتقفه مجموعة الأوراق المبعثرة ، تصطدم عيناه بمرآة معلقة فوق المنضدة ، يتلمس وجهه ، يتفحص ملامحه وهو يسأل : من أنا ؟

تعكس المرآة الضواء الخافت و”المتسرسب ” من فسحات الشباك ، معها  “تتسرسب ” المشاهد متلاحقة .. تتداخل الأحداث تنتحر الذاكرة دون الفصل بينها ، فيعجز عن مقاومة الأشعة  ذات الخيوط المعقدة والمصوبة إليه انعكاسات يحللها لقطرات نور متجمدة يقهرها الظلام ، فتذوب ويذوب معها السؤال .

يفتح الباب .. تقوده قدماه ليلقي بجسده على أول مقعد ، يجلس متجمد الرأس والحركة إلا عينيه أخذت تقلب المارة ساعات ،، بعدها انتصب محملقاً في الجسد المار أمامه قسمه بنظراته إلى وجه .. عينان يفصلهما اَنف نهايته بقليل فم ما أحلاه .

تجرى عيناه مع خصلات الشعر المذهب تنسدل مع انسدلتها لتختطفها حبات العقد المعلقة بالرقبه، والتي تتلاصق متفرعة إلى أن تتجمع وترتكز عند التقاء “….. ” تتصلب نظراته ..

 يفكر .. ماذا لو رمى برأسهفي ذلك الحضن  ؟

يرفع مقلتيه المثقلتين عائداً لتلك الشفاه تصدمه سابه

 : من أنت أيها الوقح؟

يقذفه السؤال لدائرته يعود إليها من جديد ليسأل

:  من أنا ؟؟؟

مرونة القص وفاعلية الرمز في (حكايات البنت المسافرة)

بقلم / سيد الوكيل

 تقف نصوص ” من حكايات البنت المسافرة ” لمحمد عبد الحافظ ناصف على مجموعة من الروابط الدلالية والإحداثيات السردية المتداخلة ، بما يجعل منها تجربة واحدة ، جديرة بمفهوم ( حلقات القص ) الذي نوه إليه الكاتب في تقديمه لها ، وحلقات القص : شكل يشغل المسافة الفاصلة بين القصة القصيرة والرواية ، بما يعنى : أن القصة القصيرة التي تتمتع بدرجات قصوى من المرونة، وقابلية التجريب ، تكتسب – أيضاً – مقدرة على التشكل ، ومجاوزة قوالبها ، فالقصة القصيرة كانت – ومازالت – هي مقام التحولات السردية المثيرة ، وفضاء التجريب الجمالي  وقد نجحت ( القصة القصيرة ) في تسريب رهاناتها الجمالية وخصائصها، من ذلك قدرتها على مجاوزة النوع  إلى اقتراح  أشكال مختلفة من السرد، بل وجاوزت ذلك إلى الشعر ، إذا لم تعد قصيدة النثر خالية من تأثيرات سردية، وبهذه الإمكانات التجريبية والإحالات التقنية لفن القصة القصيرة ، الذي أصبح بمثابة معمل الطاقة المغذية، ليس فقط لفنون السرد المكتوب ، بل والمصور والممثل على نحو ما نجد في انتشار أفلام السينما القصيرة ولوثائقية، والتسجيلية والفيديو كليب، والمسرح النثري الذي يقوم على حلقات (اسكتشات) يغلب عليها الحكي، وغير ذلك من فنون السرد المجزوء.

       وفى ( حكايات البنت المسافرة ) ، نلمح – بوضوح – نوازع التجريب اللغوي والتقني  وتعدد مستويات الخطاب بين التوثيقى / التسجيلي المعايش للتجربة الذاتية، والشعري،  والمنولوج الداخلي والممثل لضمير الشخصية ، كما نلمح – وهذا هو الأهم – مجموعة من المترابطات التي تؤكد وحدة الذات الساردة بين النصوص على استقلاليتها فتقترب من فضاء الرواية، إذ تحضر هذه المترابطات، يوصفها مجموعة من الخبرات والمعارف والملامح النفسية والفكرية لمدرس في مدرسة بنات، قد يكون هو المؤلف نفسه، لما يتمتع به من صفات ثقافية تدخله عالم الكتاب، فضلاً عن الخبرة الحية التي يمتلكها الكاتب، بما يمكنه من رؤية عالمه عن كثب، والاشتغال على التفاصيل الدقيقة، والملاحظات التي تبدو عابرة، بما يمنح السرد ثراء وطزاجة، ليس لأن كتابة تجربة المدرس تجربة فريدة في السرد القصصي، ولكن لأن الكاتب لم يقع أسير الإعدادات الجاهزة، والنمطية عن صورة المدرس، بقدر ما اشتغل على قراءة هذه الصورة، من الواقع والخبرة العملية والمعايشة .

استمر في القراءة مرونة القص وفاعلية الرمز في (حكايات البنت المسافرة)

الأشياء. قصة: يحي فضل سليم

طاف بأنحاء الشقة، يبحث عنه، لكنه لم يعثر عليه.

وقف حائراً، أين يكون ؟

عيناه القلقتان صعدتا رفوف مكتبة صغيرة، تحمل كتيبات مختلفة الأحجام، يجهل محتواها، يتباهى بها أمام زائريه.

تعثر بصره في الولاعة التائهة منذ يومين، وجدها الآن بعدما فقد ولاعة جديدة اشتراها هذا الصباح، وضع سيجارة بين شفتيه، أجابت الولاعة ضغطات إصبعه بعدة تكات دون لهب، معلنة خلوها من الغاز، لكنها تعاونت معه بشررها في إشعال بوتاجاز تعطل إشعاله الذاتي.         

لفح لهب عين البوتاجاز وجهه، كاد يحرق رموشه، شاربه، وهو يقترب منه بالسيجارة المحشورة في فمه.

شد نفساً طويلاً من الدخان، طوح بالولاعة على الأرض، تقافزت، سكنت بجانب مقص صغير، داخ عليه في الصباح ؛ ليسوي شاربه.

كان مختبئاً في ذيل الطاووس، المنقوش في ركن السجادة، هذا الطاووس المختال بريشه الملون، يتحالف ضده دائماً وهو يرفع رأسه في غرور.

أمسك بالمقص، قصص ريشه، تركه منزوياً كفرخ بائس.

 رماه بنظرة مهملة، و أرجأ شأن شاربه الآن.

الساعة المعلقة على حائط الصالة، المنبه القابع فوق التلفاز،يتباري عقرباه في الجري، الوحيد الذي يرتاح إليه هو المنبه العاطل فوق ( الكمودينو) بحجرة النوم.

هاجس غامض داخله يتمنى أن تصمت كل الساعات،

ماذا سيحدث ؟، ستكون نهاية العالم !، وماذا أعد لذلك، هو فقط يتسابق، يتصارع مع عقربي الساعة، عيناه تتعلقان شاخصتين؛ لحركاتهما السريعة، أما نبضاته فتحاول مجاراة دقاتها، عندما يتعب يسرع إلى حجرة النوم ليرتاح بجانب المنبه.

حركاته الرتيبة في الشقة، لا تعرف أي اتجاه تخطو إليه ؛ لإيجاد ما يبحث عنه، لام ذاكرته التي لا تعي مكان الأشياء، ثم لعن كل الأشياء،التي تظل قابعة أمامه طوال الوقت، وتختفي فقط حين يعوزها.

عاود البحث، لكن اعتراضا من معدته الخاوية قاده إلى الثلاجة، اخرج جبناً وخياراً وخبزاً، وضعهم على السفرة وقام ليحضر زجاجة المياه.

فوجئ بمشط الشعر، فرشاة الأسنان، قابعين بجانب زجاجة الماء على رف الثلاجة، داعبت أنامله شعر رأسه المنكوش، تأكد له أن أنبوبة المعجون على خلاف دائم مع الفرشاة، وأثر هذا الخلاف واضح على أسنانه.

بعد الأكل ترك الأطباق على ترابيزة السفرة، وراح يواصل البحث، أشعل سيجارة أخرى بنفس الطريقة مع الحرص، دخل بها الحمام، يتلذذ بدخان سيجارته وهو مرتاح على القاعدة، كان الدخان يتشكل على صورة مارد دائم التلاشي،رفض أن يساعده في عملية البحث.

أمام مستوى بصره ـ وهو جالس ـ لمح الولاعة التائهة، مركونة على أحد جانبي حامل ورق ( الكلينكس)، هز رأسه، فهو لا يدخل الحمام إلا بصحبة السيجارة والولاعة.

عاود بحثه، وجد فردة جوربه، المفك، شاحن ( الموبايل )، في درج دولاب المطبخ، وعندما أغلقه مستنكراً، وجد في انتظاره قلامة الأظافر و(ريموت) التلفاز، يتصارعان فوق رخامة المطبخ، ألقى عليهما بالفوطة، لمحها معلقة بمقبض ضلفة الدولاب، تعثر إثر انسحابه السريع في أشياء كثيرة، ملقاة على أرض الصالة، رنا إلى سماء الشقة، رمته بصهد شديد، نبهه بحرارة الجو، غزا جسمه ـ في الحال ـ عرق كثيف، جعله مخنوق، هرول يستنجد بالمروحة، سحب من على وجهها قميص الخروج، أطاح به على طول ذراعه، أدارها وألقى بنفسه على الكرسي المقابل لها، ندت صرخة من فرشاة الأحذية، الجالسة متربعة على الكرسي، حاول زحزحتها فعالجته بضربة في مؤخرته.

نزل إلى الأرض، تمدد بجانب منضدة الصالون، فرد ذراعيه، شد جسمه، تمطى وتثاءب، ثم استرخى متلذذاً برطوبة الأرض، أمال رأسه يميناً، صدمت عينيه الصينية، تطل من تحت الكرسي المقابل، بجوارها كوب، يقبع في قعره تفل شاي، تحت الكرسي المجاور له فردة حذاء، وفانلة داخلية، أدار رأسه شمالاً لمح منفضة السجائر، قلم، ( شبشب ) الحمام، يرتاحون تحت كرسي الجانب الآخر، اعتدل جالساً، رأى صحيفة الصباح محشورة بين الكرسيين.

نهض واقفا، شرع في إنهاء هذه الفوضى، وإعادة كل شئ إلى موطنه الأصلي، فوجئ بالمماطلة، التسويف،ثم الرفض والمقاومة الشديدة.

تظاهر باستيعاب الأمر على مضض، وجد نفسه مجبوراً على قبول هذه الوضع، فكر إن كان من الأفضل له أن ينام على السرير، أو فوق ترابيزة السفرة، لكنه أرجأ التفكير في ذلك، محاولاً  تذكر ماهية الشئ الذي كان يبحث عنه، لم يفلح في ذلك أيضاً، أهمل التفكير فيه، مقنعاً نفسه بأنه مادام نساه، فهو إذن شئ غير ذي أهمية، لن يحتاجه الآن.

في المرآة بدا وجهه مجهداً، غريباً، منفوخاً ومنبعجاً كالكرة الأرضية، وبعينيه ملوحة حارقة، جعلته كالموشك على البكاء،تحتهما سحابتان داكنتان، لم يعهدهما من قبل، أنفه كان متورماً كالبطاطا المشوية  إثر زكام ألمَّ به، تماوجت صفحة المرآة، وعلا هدير البحر في أذنه، دغدغت سور الكورنيش همسات حالمة وأنامل متشابكة؛ لفتيان وفتيات يغزلون شباك الهوى، تاقت نفسه إلى البطاطا، لكنه خجل من وحدته، أشعل سيجارة وابتعد عن طريق البحر، تسرب من أذنه هديره، واختفي من صفحة المرآة تموجه، بدا فوق رأسه شعره كسلك المواعين، فتح درج التسريحة، وجد به شوكة وسكّينة هائمتين في جو رومانسي، انسابت موسيقى حالمة تسرح في روحه، رفع يديه، دار عدة دورات راقصة،، ضحك وهو يحتضن الفراغ هامساً لنفسه: المهم أن الأشياء موجودة.

مكالمة عشوائية. قصة: عادل مناع

كانت ليلةً من تلك الليالي التي شعرتُ فيها بالهزيمة أمام فصل الشتاء رغم ولعي بأشهُرِهِ سريعةِ الانقضاء، فآثرت أن أقوم بذلك الاختباء المُحبّب فيما بين الفراش الوثير والأغطية الناعمة.

الدفء الذي أجده، مع البرد الذي يشاغب وجهي الذي لم أستطع قطعًا إخفاءه، يتموجان كضدّين متحابّين، يصنعان معًا مزيجًا فريدًا من الدفء البارد أو البرد الدفيء، والشعور المُدْمَج بين ما أفر منه وما أهواه.

تثاقل جفْناي كإرهاصٍ لزحف سلطة النوم الساعية لفرض سطوتها، لكنني انتفضت بشكل عفوي على نغمة هاتفي المزعجة، رقم غريب من خارج الحدود.

تناولت الهاتف، وألقيت التحية على المتصل، فأتاني الرد خافتًا بطيئًا واهنًا وكأن صاحبه يؤهلني لكي أتلقى خبرًا عاصفًا، خُيّل إليّ في البداية أنه صوت طفل، إلى أن سألتُ المتصل عن هويته، فأجاب وقد تلاشى منه الوهن والخفوت، كأنه مريض استردّ عافيته فجأة: أنا المنسيّة.

وهنا أدركتُ أنني أتحدث مع فتاة، عرضتُ صوتَها على ذاكرتي السماعية، لكنه لمْ يبد لي مألوفًا، فأعدتُ السؤال ذاته، فتلقيتُ الإجابة ذاتها.

أنذرتُها بإنهاء المكالمة إنْ لم تفصح عن شخصيتها، فباغتتني بما أثار فضولي ودهشتي معًا: “كيف حالك مع الصقيع، أتمنى أن تكون قد تناولت وجبة العشاء ومشروبك الساخن وآويت بعدها إلى فراشك الوثير، لم يبق لك سوى حلم سعيد تقصه على محبيك في الصباحِ”.

لفّني الصمت برهة وأنا أسلط تركيزي على نبرة صوتها وكلماتها التي باحت بها في ذات الوقت، ليست بنبرة استهزاء أو هزل، ليست نبرة غضب أو حنق، وليست بالقدْر الذي يجعلني أصفها بالودود، كان الصوت في حسِّي أشبه باجتماع زبَدِ البحر وأعماقه معًا على ظهر غيمة، هذا التصور هو ما داهمني في تلك اللحظات، ولم أجد لذلك تفسيرًا.

ارتكزَتْ هي على صمتي لتسترسل في حديثها: “عذرًا لأنني أصبتُك بالارتباك، صدقًا أنا لا أعرفك ولا تعرفني”.

لم تمهلني الفتاة لأطلق سؤالي، فتابعَتْ: “كل ما في الأمر أنَّ آخر وجبة تناولتها كانت منذ ثلاثة أيام، وحال البرد بيني وبين النوم حيث لا غطاء لي ولأبي سوى رداء من الصوف من رائحة أمي، فخرجتُ من خيمتي بلا هدف، كل ما جال بخاطري أن أرى كيف يعيش الناس في العالم الآخر هذه اللحظات، فضربت أزرار الهاتف بشكلٍ عشوائي”.

كأن الكلمات قد ارتطمتْ بوجداني فأحدثت فيه زلزلة، وقفز إلى ذهني مكان واحد رغم أشباهه المتناثرة في بقاع الأرض، فسألتها: “هل أنت مِنْ….”.

قطعت سؤال بقولها: “نعم أنا من الأرض المنسية”، هنالك تسارعت أنفاسي وأنا أقول: “ليس صحيحًا أننا نسيناكم يا…، عفوًا ما اسمك؟

أجابت: “وما الفارق لو كان اسمي “آمال، أحلام، وئام، زهرة، ياسمين، كلها معانٍ صارت مبتورة أو ذابلة، يمكنك أن تدعوني “نور”، كان هو اسمي قبل الانطفاء”.

حاولت جاهدًا أن أرتب أفكاري لأتمكن من الحديث مع هذه التي بعثرتْ استقرار منطقي، فشرعتُ في الحديث معها على الأساس الأول: “ليس صحيحًا أننا نسيناكم يا نور، بل إننا نعيش حالة غير مسبوقة من القهر بسبب عجزنا عن دعمكم”.

التزمت هي الصمت فأخذت نفسًا عميقًا مستطردًا: “لا أخفيك سرًا إن قلتُ بأننا مأخوذون كثيرًا بأمور المعاش ومواجهة أعباء الحياة، لكن أنتم في القلب، لا نكف عن الدعاء من أجلكم”.

أعقبْتُ كلماتي بصمتٍ، حاولتُ تبريره بسُعالٍ مُصطنع تلاهُ شهيقٌ عميق، فكأن الفتاة قرأت المشهد بتمامه، فقالت بصوت هادئ لا ينمّ عن أي لون من ألوان المعاناة التي تحدثت عنها: “لا تجهد نفسك بالتفسير والشرح، أجمل ما في محنتنا هذه أنها جعلتنا أقوى مما يجول في خيال بشر، وفوق ذلك جعلتنا ننظر إلى العالم بأسره في وضوح: من معنا، ومن علينا، من يناصرنا ومن يخذلنا، عرفتنا الأزمة بالصديق والعدو، سقطت جميع الأقنعة، لا عليك، لا أعاتب شخصك، فأنا لا أعرفك ولا أنت تعرفني، فقط تركت نفسي لرغبة جامحة في هذا التوقيت لم أستطع منعها”.

أزال حديثها أطنانًا من الأثقال عن كاهلي، لكن الفتاة قد أثارت إعجابي بحديثها وشعرت بألفة غريبة معها، وكأنني أعرفها منذ زمن بعيد، وتمنيتُ في تلك اللحظات أن أترك أثرًا طيبًا في نفسها، أو أقدم لها أي دعم معنوي.

وحتى لا أمنحها فرصة لإنهاء المكالمة، سألتُها عن أحوالهم مع القصف والنزوح، فقد استنتجتُ من حديثها عن الخيمة أنها لا تعيش بدارها.

ألفَيْتُها فتاةً تتمتع بنسبة عالية من الذكاء، يلتقط ذهنها أطراف الحديث الخفية في مهارة، وتُحدد المغزى في يُسر، فقالت بنبرة تكشف ابتسامتها وكأنها سوف تحدثني عن موقف طريف: “خرجت وأبي من تحت الأنقاض بعد أن قُصف منزلنا”.

شهقتُ بعد أن أخذتني رجفة وأنا أحوقل في تتابع، لكنها تابعت كأن لم تسمعني وبنفس اللهجة التي تظهر استعلاءً فريدًا على رهبة الموت: “ربما كان القصف الذي طال عددا من المنازل حولنا مقدمة جيدة لكي نتلقى الضربة، وأحمد الله أنني وأبي لم نُصب بسوء، شعرت حينها مع الفزع الرهيب بأن أسقف وجدران المنزل الذي قضينا فيه عمرنا تحمينا، كأنها تواطأت على أن تتساقط في أوضاع تخلق لنا فرصة للنجاة، كنا مُمَدَّدَيْن على الأرض وفوقنا متسع يكفي لأن نزحف في أريحية، إلى أن أنقذنا الأهالي.

بعدها خرجنا من هذه المنطقة مع الناس في رحلة النزوح، كانت منطقتنا عبارة عن عالم آخر لم نعرفه، لم نعد نعرف أين كانت بيوتنا، تاهت عنا الشوارع، ولم يعد شيء مما كان على ما كان.

لم نستطع أن نأخذ شيئا من أمتعتنا، ولاحتى عصا والدي التي كان يتوكأ عليها، فقمتُ بوظيفتها، وأمسكتُ بيده وهو الشيخ المريض ضعيف البصر، لنشق طريقنا وسط الركام والأنقاض في المنطقة التي صارت أثرًا بعد عيْن.

آثار الدمار في كل مكان، فكنت أتحرى ممرات سهلة، من أجل والدي لكيلا أُجهده، فأدور يمينًا ويسارًا، لأجد الآخرين في كل مرة يتزاحمون لشق هذا الطريق السهل، فحدّثني أبي بأغرب ما يكون الحديث”.

هنا تنفست في عمق، بينما يسيل لعابي لأن أستمع إلى ذلك الأمر الغريب، وبدا زمن تردّد أنفاسها كأنه دهْر، ولم أكبح جماحَ نفسي عن إطلاق أمنيتي: “أكملي”.

تابعت الفتاة بقولها: “قال لي: يا بنيتي، لم نعد نملك مالا ولا قوتًا لكي نعطي هذا وننفق على ذاك، فاتركي السهل للناس، واستبقي لنا الصعب، تعلمي أن تفتحي لنفسك أبوابًا مختلفة من الصدقة، ثم أنشدني بيتًا من الشعر خالف فيه المتنبي بمفردة واحدة”.

قلت في شغف: “وما هو”، أجابت على الفور:

لا خيلَ عندك تُهديها ولا مالُ…….فليُسْعِد (السيرُ) إنْ لمْ يُسْعِد الحالُ”.

هنا شهقتُ من فرط الدهشة وأنا أقول: “يا الله، يا الله، أي رجلٍ هذا، وأي قومٍ أنتم، لم أر مثل هذا في التصالح مع الذات والثبات والرضا”.

هنا طرق جزءٌ من حديث الرجل ذهني في عنف، وكأن هذا المقطع يُعلن عن نفسه أنه بيت القصيد: “اتركي السهل للناس، واستبقي لنا الصعب”، ماذا يعني بها؟ أهو توصيف لحالهم وحالنا؟ أهو عتابٌ في ثوبِ إقرار؟

برهة من الصمت المتبادل، لم يشقه سوى صوتٌ بغيض، اعتدنا على سماعه في وسائل الإعلام، صوت القصف، وعلى الرغم من الخوف الذي أثاره الصوت في نفسي، غمرتني الدهشة إزاء حديثها المازح: “ها قد جاءت تحايا الموت الليلية، في ودائع الرحمن”.

قالتها وقد أغلقتْ هاتفها، تاركةً إياي صارخًا: “انتظري، انتظري”، أجريت اتصالا على الرقم فجاءتني رسالة بأن الهاتف مغلق.

 وضعتُ هاتفي إلى جانبي وقد تسارعت أنفاسي، شعرتُ حينها أنني أعاين حلمًا لا واقعًا، وتدفقت الأفكار برأسي في تزاحمٍ مُرهِق، أتراها تنجو هذه الليلة؟ وهل تعود لتقص عليّ مزيدا من حكايات الحياة والموت؟ هل ترجع فتفسر لي حديث والدها؟

عصفتُ ذهني في التفكير بهذه المكالمة العشوائية، وما إذا كانت رسائل حملتها الأقدار إليّ، وإلى اليوم أرتقب أن يظهر ذلك الرقم مجددًا على شاشة هاتفي، لأعثر على إجابات لكل الأسئلة الهائمة في عقلي.

على السكين. قصة: محمد فيض خالد

لم أجد شبيها له في سمرته، تشعر حين تراه ، وكأنه خليط بين السمرة والزراق،مزجا في لمعة أضفت على وجهه مسحة من البساطة والوقار، في هدوء ينزل حمل البطيخ في غرارة كبيرةتدلت من فوق ظهر حمار ضخم ، يستقر في وقفته مطمئنا كصاحبه، على رأس الدرب مكانه منذ أعوام ،لا أذكرها تحديدا  يذكرني بها المعلم ” نصحي” النجار، وهو يلملم طرف جلبابه تحت كعبيه ، يتقي برودة الصباح :” محمد الأسمر ، يبيع البطيخ منذ كان صبيا مع والده، هو أسمر لكنه أبيض القلب” ، في نبرة تداخلت حروفها كبربري يصرخ في ابتسام ، تشع البهجة من بين أسنانه البيض :” ع السكين ” ،لا يمنع حر القيلولة من توافد النسوة ، وفي أعقابهن الحفاة من أبنائهن ،قد غابت ملامح وجوههم خلف قناع شفاف لزج ، خليك من الدموع ومقذوف الأنوف ،وبكاء وتوسلات لا تنقطع لأجل الشراء ،في هاته الأثناء وجدت ” آمال ” فرصتها ، تجلس القرفصاء ،وتقوم بدحرجة البطيخة أسفل منها ، ليلتقطها ابنها من خلف ، ويسلمها بدوره لأخ يتولى توصيلها للبيت القريب.

تقتصد قدر الإمكان في سرقتها، لاحقا أغواها شيطانها فضاعفت غلتها ، لتهدي أقاربها من خيراتها، تثير أفعالها المشينة حفيظة الجيران ، زجروها ، طالبوا أن تتوقف ، لكنها قابلت النصح بشيء من الاستخفاف ،اهتدى “الأسمر” لسرقتها أخيرا، بعدما أكل الغيظ كبده، قدم رشوة سخية لعاطل دله عليها ، وذات ظهيرة لم يتورع عن التشهير بها ، بعد إذ وقعت في الفخ ،انقطعت عن المجيء ، لكنها أرسلت أبنائها ليحوموا كالبوم ، في انتظار الفرصة..

الركن الذي تنتمي إليه. أسماء عواد

          الركن الذي تنتمي إليه لا يزيد عن مترين فقط . تذكر الآن وهي تقبع فيه الأركان المماثلة التي مرت عليها في مراحل عمرها. ولعها بالأركان منذ الصغر جعل لها ذكريات لا يشاركها بها أحد.  أولها  ذلك الذي كان أسفل الدرج في منزلها الصحراوي الكبير. كانت تفوح منه رائحة الطلاء الجيري ممزوجة بالرطوبة، تلك الرائحة التي كلما صودف وأن صادفتها في مكان ما، تعود إليها ذكرى ذلك الركن، وتشعر بالحنين إليه وإلى السنين المتتالية التي عاشتها فيه .

          الركن السفلي هو الاسم الذي أطلقته على ركنها الأول في منزلها الصحراوي الكبير. كانت في السادسة وهي تلعب فيه بفستانها القصير، تشعر ببرودة أرضيته الأسمنتية تتسلل إلى ساقيها وهي تقبع فيه مثل قطة صغيرة. تعودت أن تستمتع فيه بكونه لها وحدها، الشيء الوحيد الذي تمتلكه ويحوي أشيائها التي لا يشاركها فيها أحد. دمية بلاستيكية بلا رأس، علبة مناديل ورق فارغة جعلتها سريرا للدمية. غطاء قارورة الكلور الأزرق والذي جعلت منه طاولة في غرفة نوم الدمية. كرة بينج بونج بيضاء، وحصان بلاستيكي صغير انشق إلى نصفين بمرور الزمن.

الآن لا تعرف لماذا كانت محتويات هذا الركن  تمدها بالخيالات، وكيف كانت تأتيها بالأحلام المتجددة كل يوم؟ لكنه يظل ركنها الحبيب والذي حفر في ذاكرتها خلايا الفرح .

           ركنها الثاني انتقلت إليه بانتقالها إلى العاصمة، مقعد كبير يقع خلف الباب مباشرة بجوار المكتب الذي تقتسم أدراجه مع أختها الكبرى، درجين فقط اعتادت أمها أن تعبث في محتوياتهما . كانت تغوص في المقعد وهي تمسك في يدها بكتاب مدرسي وبداخله كتاب آخر، تخفيه عن عيني والدتها. هي لا تنسى ما اكتشفته وهي تقبع في ذلك الركن، روايات الجيب، أغاني عبد الحليم، ومساحيق الزينة. تذكر كيف أغرمت بطلاء الأظافر على وجه الخصوص، وتذكر كيف اكتشفت عشقها للرسم بسبب فرشاته التي ألقت عليها بسحرها الأبدي. تلك الفرشاة التي تموج لها أحاسيسها وهي تسحبها على أظافرها، كم من متعة عاشتها في كل مرة كانت تضع فيها الطلاء ثم تزيله لتعود وتضعه من جديد. لم تقلع عن هذه اللعبة حتى انتقلت للصف التالي في المدرسة، وبدأت تتلقى دروس الرسم بالفرشاة بدلا من أقلام الخشب .

استمر في القراءة الركن الذي تنتمي إليه. أسماء عواد

ديانا وتشارلز \بنت وولد. قصة: ماهر طلبة

…..والبنت إللى كانت طول عمرها شغالة فى بيوت الناس قررت النهاردا إنها ماتشتغلش.

… والولد إللى كان دايما بيطبخ فى بيوت الناس قرر النهاردا إنه مايطبخش ..

… والبنت قالت لنفسها..”يعنى هيحصل إيه لو إنّى ماشتغلتش النهاردا الشقق مش هتنضف؟؟!.”

…. والولد قال لنفسه ..”يعنى هيحصل إيه لو إنّى ماطبختش النهاردا الناس مش هتاكل؟!”.

…. والبنت قالت لنفسها.. “وأفرضى الشقق مانضفتش يوم.. يعنى خلاص الدنيا هتتقلب؟؟!!”.

…. والولد قال لنفسه.. “وأفرض إن الناس ماكلتش يوم يعنى خلاص هيموتوا م الجوع؟؟!!”.

…. والبنت اتخيلت نفسها وهى قالْبه الدنيا وحلمت إنها مهمة جدا حتى أكثر من ديانا إللى دايما سارقة أحلامها بصورها إللى مالْيَه الجرايد.

…. والولد اتخيل نفسه وهو متحكم فى حياة الناس، وحلم إنّه مهم جدا حتى أكثر من تشارلز إللى خطف منه ديانا إللى غرق فى عينيها ومات فيها يوم ماَشافها فى الجرنان بالمايوه.

…. والولد والبنت قفلوا كراسة يومهم وخرجوا ..

…. من أول بيت عدت عليه البنت بصت ديانا ونادتها.. طلعت.. وبكت.. وبدأت تنضف الشقة..

…. ومن أول بيت عدى عليه الولد ناداه تشارلز.. طلع وبكى وبدأ يطبخ…

….. والبنت إللى شغالة فى بيوت الناس أصرت إنها بكرة ماتشتغلش..
…. والولد إللى دايما بيطبخ فى بيوت الناس أصر أنه بكرة مايطبخش..

…. وقالت لنفسها…

…. وقال لنفسه…

وخرجت ديانا تقابل تشارلز….

ماهر طلبه

mahertolba@yahoo.com

الكلبة. قصة: محمد عبد القادر التوني

الكلبة ( قصة قصيرة )

بقلم / محمد عبدالقادر التوني

بين نباح الكلبة وعواء الذئب ، استحضرت صورة أبي لأقوى بها على خوفي ، فقد سلك هذا الطريق ذهاباً وإياباً على قدميه أكثر من عشرين عاماً وفي نفس هذا التوقيت ! .

أما أنا فلم أفعلها قط ولو على سبيل التجربة ، لكن يبدو أن الظروف التي أعيشها الآن سوف تضطرني لذلك .

للتو وصل القطار الذي يقلني من القاهرة إلى مدينتي في الصعيد ، كانت الساعة تقترب من الرابعة صباحاً ، لقد تأخر كثيراً عن موعد وصوله ، كان الجو قارس البرودة ، والرياح الشديدة تجعل من الصعب أن أجلس في هذا العراء ، وحتى إن جلست وتحملت لسعات الهواء البارد ؛ فسوف أكون موضع شك ، رغم أن الانتظار فوق محطة القطار ليس فيه شكوك ، لكن ليس في هذا الوقت الذي أجلس فيه بمفردي ، لذا قررت أن أتحرك .                                                               موقف السيارات المتجهة إلى قريتي يبعد ثلاثة كيلو مترات عن المحطة ، وما من وسيلة تظهر ملامحها حتى تصل بي إلى هناك ؛ فعربات السرفيس بالكاد تعمل في السادسة صباحاً ، وما من ( توك توك ) ، حتى التليفون استهلك بطاريته ! . لذا قررت أن أتحرك مترجلاً على قدمي حتى أصل إلى هناك .

كانت الحقيبة التي أحملها في يدي ثقيلة جداً ؛ فهي مملوءة بالكتب التي اخترتها من معرض الكتاب ، لذا قررت أن أحملها فوق ظهري ، كانت مريحة جداً وساعدتني على الدفء .

في بداية الطريق لمحت ثلاثة من الشباب قادمين ، يبدو من ملبسهم أنهم يعملون في مخبز ، وعندما وصلت قبالتهم أخذوا جانباً ، كان أحدهم يتألم ، وآخر يطلب منه أن يضع أصبعه في حلقه ، مضيت في طريقي ولم يستوقفني ذلك ، وبعد بضع مترات كان بعض عمال في شادر الخضار يلتفون حول النار حتى يجلبوا الدفء لأنفسهم ؛ فألقيت عليهم السلام ؛ فنظروا إلى الحقيبة باستغراب وهم يردون التحية .

وواصلت السير حتى وصلت عند مقلب للزبالة ؛ فانتابني شيء من الخوف عندما لا حظت الكلاب من بعيد ، لكن لم يحدث شيء ، كلبين يستعرضان أمام كلبة تهز ذيلها ! .

الحمد لله ، وصلت عند موقف السيارات المؤدي للقرية ، لكن ما من أحد ، ولا توجد سيارات ؛ فجلست فوق حجر كبير ومريح كنت دائماً أرى سائقي العربات في هذا الموقف يجلسون عليه في انتظار دورهم . وبينما كنت أحدق هنا وهناك وأحلم أن أجد عربة بالصدفة ، لمحت من بعيد شاباً يمسك بشيء رفيع وطويل ، لكن لم أستطع معرفة هذا الشيء ، واقترب به من سور الموقف وألقاه في المزارع الموجودة خلفه ، وعاد مرة أخرى من حيث أتى ؛ فأيقنت أنه سارق يسرق قطع الحديد ليبيعها ؛ فتطرق إليّ الخوف ، ووسوس إليّ بأن جلستي هنا يمكن أن تجلب عليّ مشاكل كثيرة ، فماذا أفعل ؟ .

الطريق طويل ، وليست هذه كتلك ! فعدت لأتذكر أبي وأنا أتساءل : كيف قضى عشرين عاماً في هذا الطريق سيراً على الأقدام ؟ كيف ولم تكن هناك كهرباء في ذلك الطريق ؟ ؛ عذره الوحيد أن وسائل المواصلات لم تكن متاحة في عهده ، والطريق نفسه لم يكن يعمل لأنه كان ترابياً ؛ فاتهمت نفسي بالضعف ! وما إن وصفتها بهذا الضعف حتى قويت ، واستحوذ عليها المخ الصعيدي وصممتْ على خوض التجربة ؛ فوقفتُ ، وقمتُ بتثبيت شنطة الكتب فوق ظهري وانطلقتْ ؛ فتهشم البرد مع الخطوات الأولى ! .

الطريق به منحنيات كثيرة ويفصل بين كل منحنى والآخر قرابة مائتي متراً ، وفي كل منحنى عامود إنارة معطل ولا يعمل مما جعل الطريق معتماً ، حتى أنني لم أستطع تحديد الطريق إلا من خلال بصيص من شعاع ضوء بعيد يكشف لي شيئاً من لمعة الإسفلت .

ما تزال المسافة طويلة ؛ فلابد أن أمر على ثلاث قرى حتى أصل إلى قريتي .

الحمد لله : انتهيت من الجزء الزراعي في القرية الأولى ، وبدأت المساكن تظهر على جانب واحد من الطريق ويفصل بينها وبين الإسفلت ترعة صغيرة .

كانت هناك كلبة تنبح ، لم أشعر بالخوف منها ، لأن الترعة كانت تفصل بيني وبينها ، لكنها تعرف الدروب جيداً ، حيث وصلت عند سد خشبي يعبر عليه المشاة ؛  فعبرت عليه ووصلت عندي ، وزاد نباحها وهي تلاحقني ، جاء نباحها في لحن واحد وإيقاع واحد لم يتغير : هوْ .. هوْ .. هوْ .. هوْ .. هوْ .. هوْ  ، ومع كل واحدة منها كانت تمط رقبتها إلى الأمام وصدرها يقترب من الأرض بينما تعلو مؤخرتها !   وتبعتني ولم ترجع رغم محاولاتي البائسة في اقناعها بالرجوع حتى شاركها كلب آخر ولحق بها ، وعندئذ تغير لحن نباحها إذ أخذ رتماً سريعاً بانت فيه أنيابها : هووووو .. هوووووو .. هووووووو ، إضافة إلى ما تحدثه من زمجرة عندما تقترب مني ،  وعندئذ فهمت مغزى لحن نباحها الأول .

صعب جداً أن تجد كلبة بمفردها ، لكن قدري جعل هذه الكلبة تعاني من الوحدة ؛ فوجدتني فرصة لنداء صديقها ، وهذا هو سر نباحها الأول !.

الآن : أنا على رأس المنعطف ، والظلام يكسو الطريق ، الترعة عن شمالي ، وأكوام القمامة والقصب عن يميني ، وخلفي طريق طويل مشيته ، وأمامي طريق أطول ، ونفسي التي سحبتني خلفها انهارت وخذلتني عند رؤيتها لهذا الظلام الموحش ، ووسوست إليّ بحادث الجندي الذي غامر مثلي منذ عام تقريباً ؛ فأكلته الذئاب ولم تبق منه غير ملبسه ( الميري ) الذي لولاه لما استدلوا على موته .

ولا أخفيكم سراً ؛ فأنا قد تراخت قدماي وتقهقرت ، والمسافة التي قطعتها تعادل ثلث مسافة الطريق كله ،  خياران كل منهما أصعب من الآخر ، التقدم أو التراجع ، والكلبة لا تكف عن النباح ، بل أصبحت أكثر شراسة بعد مجيء صديقها .

وقفتُ وقتاً ليس بقليل متردداً ، خائفاً ، من الكلبة تارة ، ومن الظلام والذئاب تارة أخرى ،  أما خوفي الأكبر ؛ فكان من الناس ، فلو استيقظ أحدهم ورآني بحقيبتي وهي فوق ظهري ؛ فسوف يطلق النار لا محالة . ولذلك فإن خشيتي من الناس شجعتني على أخذ قرار سريع ، إما بالعودة أو تكملة المسيرة .

وأخيراً قررت أن أكمل المشوار ؛ فأمسكت بحجر صغير وألقيته على الكلبة ؛ فتراجعتْ خطوتان إلى الخلف ، ثم عادت مرة أخرى ؛ فأمسكتُ بعدد أكثر من الحجارة وواصلت السير ، وكلما ألقيت حجراً تراجعت الكلبة وصديقها ، حتى إذا ما دخلتُ في المنعطف وابتلعن الظلام ، تراجعا بشكل نهائي ولم يأتيا مرة أخرى .

الآن : بقيتْ خشيتي من الذئاب فقط ، فكنت كلما اقتربت من كومة من أكوام القمامة التي يلقيها الناس على جانبي الطريق ، يُخيلُ إليّ بأن ذئباً مدسوساً فيها ؛ فأتحسب ، وأفكر ، وأتساءل :  ما الذي يمكن أن أفعله إذا هاجمني الذئب فجأة ؟ لكن لم يستمر ذلك طويلاً ؛ فسرعان ما عبرتُ المنطقة المظلمة ، وما إن حل النور من عامود الكهرباء حتى لمحت عوداً من القصب ملقى على الأرض ؛ فأمسكت به في يدي ، وواصلت السير .

في المنحدر القادم مقبرة أعرفها جيداً ؛ محاطة بسور كبير ، وبداخلها بعض قباء للصالحين الذين يظهرون علامات تدل على صلاحهم بعد موتهم ؛ فقرأت الفاتحة لهم وفاتحة أخرى للأموات .

انشغالي بالصالحين والأموات أنساني كل شيء ، ولم أشعر بذلك إلا عندما رأيت بعض أشخاص خارجين للعمل في كسر القصب ؛ فأيقنت بأنه قد أُذن لصلاة الفجر  ؛ فزدت طمأنينة ، وبدأت أمشي على مهل ؛ فأنا الآن لستُ موضعاً للشك ، فمن ينظر إليّ سوف يصل إلى ذهنه أنني بكرتُ للسفر أو عائد من سفر ؛ ولن يخطر بباله ما مشيته من كيلو مترات ، خاصة وأن طريق الخط السريع قريب مني .

لم يبق من الطريق غير كيلو واحد من المترات وأصل إلى أعتاب قريتي ، ويبدأ هذا الكيلو بنقطة مرورية وبعدها لا يعوقني شيء حتى أقف على أعتاب القرية ، كان الضابط يجلس على كرسي أمام موقد نار للتدفئة ومن حوله بعض عساكر يجلسون على الأرض ، ألقيت عليهم السلام ؛ فلم ينطقوا بشيء .

مع ضوء الصبح قبيل طلوع الشمس ، كان المنظر طبيعياً خلاباً ؛ فالتزمت يسار الشارع تحسباً من العربات القادمة من الخلف . ونفسي التي خلت بي وراحت في نوم عميق طوال لحظات الرعب ؛ استيقظت الآن بعد أن اطمأنت بالوصول بسلام وتشتهي القصب ! وهي تعلم تمام العلم أن أسناني لا تقو على ذلك ، إذن : ماذا تريد ؟ هل تريد أن تراني وأنا أتألم ؟ ! ؛ فابتسمتُ ،  واسترجعت بعقلي مواقفها معي : نفسي التي كادت أن تودي بي في التهلكة ـ نفسي التي وضعتني في موقف محرج مع والدي يرحمه الله وهي تكشف له ضعفي ـ والآن تشتهي القصب ) .  

وبينما أنا على هذه الحالة من التذمر مع النفس ، أخرجني صديقي ” عبدالرحيم ” من هذا الشرود ومن هذا التذمر ببشاشته المعهودة على أعتاب القرية وهو قاصد عمله في المدينة ، وبعد أن صافحني أمسك على يدي واقترب من أذني هامساً : جاءني والدك في المنام الليلة الماضية ، وأمسك على يدي مثلما أُمسك على يدك ، وأوصاني أن أوصيك : بأن لكل زمن رجاله وكلابه ؛ وأنه ليس من العيب أن يكون الرجل ” خوافاً ” ! .                                                                                                     

محاولات جدية للموت في نصوصي.قصة: أكرم محمد

(كاتب وصحفي)

في ذلك اليوم، بينما تطرح الذاكرة دروبها حول الشوارع، تذكر للمرة الأولى في حياته الخالدة أنه مات في نصوصه، ربما مرة واحدة ضمن المحاولات الجدية للموت.. يومها حمل الجدران على رأسه، فلم يعد في العالم جدران، اندثرت كغبار ذاكرته الفانية.. كتب نصا، محض نص أخير مبتور، وأقام شاهد قبر كتذييل للورقة، كتجييل لها بزرقتها المماثلة للبحر..

في حظوة النصوص النابتة على تلك النتوء والندوب على سريري، في المرقدين اللذين قطنتهم كانت غبشة الوجوه المتماهية لمنزلي تظهر..

كلما أكتب أحد أبطالي الضائعين الحزانى بغنائهم ذلك أرى بيتهم منزلي.

أكتب نصا به منزل ما، فيكون بيتي، أجده ذلك الملتهم قاطنيه، يشبه منزل أبي..عندما تنبت النصوص على سريري، بأبطالها الحزانى، لا تنمو بيوتهم في ذلك الخيال إلا كرواق بيتي الصغير..

نصوص تَهِب الأرض أسرتها.

كلما يساور معجزتي أحد شخوصها الهائمين في مخمر القداسة، تختال منازلهم أمام عيني، مشوشة كمثيل صورهم المطبوعة في حظوة ذاكرتي، فلا أبصر إلا منزلي..

ذلك الذي فطن فيه أنه مات في نصوصه، لمرة واحدة، وهبته ذاكرة إضافية لروح هائمة..

في الليلة التي اقتفى فيها وفاته، تنيحه الأخير نحو قبر تلك الصفحة، حول ذلك التذييل، بصر شارعا طويلا يشبه قدمه، حتى أصابعه التي تشبه نهايات درب الشارع.. عند ذلك التنيح أتذكر أنني في سن صغير، ربما أصغر من اللازم، كنت أرى وجهي في مرآة منزلنا الملتهِم قاطنيه، فأشعر أنه متغير، ليس له كنه ما. أنا الوحيد الذي يملك وجها يتغير في كل نظرة للمرآة، وجه بلا ملامح ثابتة، عكس معظم زملائي، وجه دون هوية.

حينها ظلت أمي العجوز، منذ يوم ولوجي من فرجها الأول الذابل الناضب، تبتاع “غزل البنات” وتقترضه، كرابط أخير بجنتها المقاربحين لقاءها؛ فكانت تتبلد السماء غيوم رمادية تتحرك ببطئ ، أنظرفأجد من لدن السماء أشكالا لبشر، هذه أمها، وتلك أبيها، تجول في ذهني خاطرتها عن “غزل البنات”  والسماء وقاطنيها.. يصعد بائع “غزل البنات” للسماء، فيقض مضاجع السحب، ويلمس مرابض قداسة السماء، ليقتطف حلواه تلك، الفاقدة، ربما منذ تكوينها في بدأ الزمان، مذاقها المعتاد، بعد تذوق البائع لها، قبل تنيحه، ليهب الأرض حلواه.

تقترض أمي أموالها، لتعطيها للرب، فيهبها الجنة

  تضع الأموال القليلة في صندوق صغير، يطل من نوافذ صغيرة على الهواء، يرى الشمس، والكلاب الميتة، يرى الظلال وتلك الأفئدة، يسمع الصرخات، يستمع لتنهيد القبور، من خلال نافذة صغيرة تشبه الجنة، كعين مقطوفة حديثاً.

جنيهاتها تلك ستهبها الجنة، تعلم أنها ستعطيها للرب، في لحظة خالدة..

قررت البدأ في تلك الخطة ربما بعد اندلاع تلك الخاطرة، عندما رأت في كل نظرة لإنسان أبويه، تتذكر في سنها العجوز ذيالعضو المتراخي، ذكرى لذة لم تنلها حين ميلادي، فتفكر في لحظة انبثاق سائلين على مرقد واحد.. ربما هذا أمه تنهدت ببطئ، فأثارت أبيه، وهكذا ولد بشوشًا، هذا قصير القامة؛ أبوه قاسفي إيلاج ذكره، آخرهم تعاونه الملائكة في تطاير سائله، فيولد طفله في السماء، يصول في القبور، لا يصل لجنة ولا يلامس أرضاً.

حين نداء شاهد القبر، كمكتوب أخير مبتور، يحمل اسمي، تربضه أوراق الأشجار المتطايرة في ولوجي لمرقدي الأخير، بصرت الطلّى المطلية بمرآتي، كذؤابات أحلام تطاردني في اليقظة والمنام، بين كل الأنام.. يربض كل الشوارع المرايا، كلها تقطنها ثقوب، ندوب تهبني وجوهي المتماهية..

تتجلى في ذلك السير إلى الموطن الأخير، الوطن الدائم، المندثر فيّ، قبري الأخير بظلهالمفقود، لحظة الولوج إلى قبري وعيت أن كل القبور لا تملك ظل إلا ذلك الشاهد المبتور، الشاهد تاريخ عالمي المندثر ذي الغناء المدفون معي..

في مرور القطار الأخير، الكائن بالمرقد الأول، بالقرب من أبي، أسير وراءه بهدوء، ليهبني ذاته، لأمسك بعربته الأخيرة، لأرى وجوههي في انعكاس إحدى مراياه، قبل وصوله لمدينة أخرى غير منزلي، لم يكن للقطار ظل، ذلك القطار المشابه لترام مدينتي الضائعة، الممثلمهبط قداستي،المبروء من طابقين، مصطفين، هكذا، بلا طائل، بوسيلة ما نصعد للطابق العلوي، لا أعلمها، لا أعرف كيف أصعد لهذا الطابق، حتى ظننت أن الأنجال المتشبثين بالقطعة الحديدية الصلبة في مرادف “الترام” المناقض لمجلس السائق يعلمون كيف يصعدون، فهم يرون السبيل، مهبط القداسة وهو يترك القضبان، يرونه برعب ما، أنهم سيسقطون، سيمر ترام آخر ليعصف بهم وبأهوائهم، ليمر عليهم ويسحقهم، دون الالتفات، سيصرخون،

هكذا، صرخة تشبه صرختي، أو كلما مر ترام يتذيله أطفال يمر آخر يختالون بخيلاء مختف أنه سيسحقهم.. وكأن الرب ومعاونيه يقطنون الطابق العلوي، فلا أقدر على الصعود، بيننا مزج ما، غائب وحاضر..

كبقايا كائن نافق يطارد ظله النهائي قبل تنيحه الضائع، يلامس السماء كمحض مرآة مثقوبة

تشهد محاولاته الجديدة للموت..