المحبة. قصة : ياسر العبد

رأيتها وهي تغزل شالا على البحر، وتغني له بلغة لا أفهمها، ما بالُ الصغيرةِ تتمتم بأشياء لا أعرفها، من أين أتيتِ بهذه اللغة، كان صوتها يعلو بترانيم غجرية، وأحيانا بهمهمات شديدة الرقة، تبدو كمناجاة في اتجاه ما …

كان البحر يساعدها على ذلك، فحين يعلو صوتها يضرب البحر الصخور المجاورة بموجه، فتصرخ ابتهاجا وشبقا، وحين تهدأ يسكت البحر إلا من صدى صوت ضربات الموج لصخور بعيدة .. على مسافات بعيدة ..أو ربما هو صوت معارك ما تحدث تحت الماء .. فى أعماق سحيقة، يأتي صداها ناعما بعد أن غيرته المسافة، متسقاً مع ما يحدث فوق الماء من هدوء وشاعرية، ومختلفا عن نبعه المرعب الذي خرج منه .. إنه خداع الطبيعة .. تماما مثل خداع الإنسان .. مثلنا نحن تماماً .. فكثيرا ما تنطلق ألسنتنا بكلام جميل يعكس الود والألفة والمشاعر الطيبة، ويختلف تماما عما يدور في أعماق أعماقنا .. وعما نُكنّه للآخرين من الكره والضجر والمواربة !

اقتربت منها أكثر، وما أردت أن أقطع هذه المناجاة الشجية،

نويت أن أنتظر حتى تنتهي، ولو بَقيتْ إلى نهاية العمر لبقيت معها، قليلة هي اللحظات التي نشعر فيها بهذه السعادة الداخلية، السعادة الحقيقية التي تأتي بدون ترتيب أو تَحسّب، لا أدري كم مضى من الوقت حتى بدا لي انها تنتهي وتلملم أشياءها لترحل،  قلت في نفسي هذا هو موعد الكلام،

اقتربت أكثر وأكثر حتى رأتني، لم تتفاجأ، بدت كمن انتهى من صلاته للتو، فكل علامات السكينة والطمأنينة كانت على وجهها،

سألتها لمن تغني ؟

قالت أغني للرحيل .. و الراحلين،

قلت لها وأي لغة هذه ؟

قالت هي لغتهم …

قلت اللراحلين لغة لا نعرفها نحن ….. ؟

قالت نعم …

قلت ولمن هذا الشال ؟

قالت لأحدهم ..

قلت كيف سيصل إليه ؟!

قالت .. سيصل ……

همّت أن تتركني وتمشي .. قلت لها تمهلي .. أنتِ صغيرة على هذا الحزن … قالت أنا لست حزينة .. ومشيت،

مشيت وراءها مناديا .. هل أقابلك هنا غدا، قالت لا أعرف،

ذهبت إلى نفس المكان في نفس الوقت أياما كثيرة ولم أجدها،

مرت شهور وهي لا تأتي، أصبحت قدماي تأخذاني إليه حتى في أوقات تختلف عن الوقت الذي رأيتها فيه،

دخل الشتاء برياحه وعواصفه، وفي يوم شديد المطر شديد الرياح  .. أتت ….. على نفس هيئتها في المرة الأولى ، قلت لها أين كنتِ، قالت دعني فأنا لا أجيد الكلام، لا أجيد سوى الغناء، قلت لها أريد فقط أن تعلميني أغاني الراحلين،

في أول الأمر كان صوتي يخرج مثل العَديد، إلى أن تحسن شيئا فشيئا، تعلمت المناجاة, وكيف أكون خاشعا فيها خشوع الصلاة، لكن شيئا غريبا بدأ يحدث لي،

بدأت أصمت .. في البداية كنت أصمت لأحتفظ بطاقتي كلها للغناء .. المناجاة .. وبعد ذلك بدأت أصمت لا لشىء إلا لمتعة الصمت،

وجدت أن الصمت هو النجاة، الصمت يخلق حالة من السلام الأبدي .. أو ليس الصمت هو الغالب على رحلة الإنسان منذ النطفة والعلقة .. وحتى يصير رمادا .. وحتى ينتهي إلى لاشىء .. إذا هو الأقرب إلى طبيعتنا .. وكل شىء أقرب لطبيعتنا فإن راحتنا هناك .. عنده،

صرنا أنا وصاحبتي نلتقي بلا مواعيد .. نلتقي صامتين بلا طقوس، إلا من مناجاة يقوم بها أحدنا، أو نتبادل أدوارها، وكلانا لايسأل الآخر لمن تغني،

لاحظت أنها بدأت تغزل شالا جديدا بلون جديد،

لم أسألها هذه المرة لمن أو كيف سيصل …

أدركت أن المحبة هي التي تصنع الشال، كما أنها هي التي تصنع الأغنيات،

أدركت أن المحبة تفعل .. وأنها لا تُسأل عما تفعل.

ياسر العبد

الإسكندرية

يونيو ٢٠٢١

أضف تعليق