نرمين دميس

آلية الذاكرة بين استدعاء الحلم والهروب من الواقع في “مثل رتينة كلوب قديمة لحاتم رضوان

 نرمين دميس

للوهلة الأولى أحالني هذا العنوان إلى نفسي عندما كنت طفلة، أجلس في مواجهة “الكلوب”، أتأمل عن قرب ذاك الوهج شديد البياض المنبعث من غشاء رقيق كالشاش، تلفح وجنتيّ هالاته الدافئة التي تلف الحجرة، تنهرني أمي محذرةً إيايّ من خطورة ذلك على عينيّ، فلا يثنيني كلامها عن ممارسة تسليتي المفضلة، وسط الظلام الذي يفرضه انقطاع الكهرباء لساعات قد تمتد حتى الصباح، لحدوث عطل كبير في المحول العموميّ، أحسب الوقت الذي تبقى فيه تلك “الرتينة” صامدة،  قبل أن يخفت وهجها، وتتطاير منها بودرة رمادية ، حتى تقارب على الانطفاء.

قد يبدو الأمر مجرد نوستالچيا وحنين لأيام الطفولة، لكن مع تخطي تلك العتبة وتتابع قراءة النصوص، اكتشفت أنني مارست دون وعي مني نفس ما مارسه شخوص وأبطال القصص من تفعيلٍ للذاكرة، في محاولةٍ لإحياء حلم قديم، أو اللجوء إلى الخيال، بحثا عن الخلاص وهروبا من الواقع ولو لبرهة من الوقت.

فجميع النصوص تقع في منطقة خاصة ما بين الخيال والواقع، منطقة كفيلة بأن تضع أبطالها في مواجهة مع ذواتهم الإنسانية، فتنكشف عوراتهم، ويعترفون بذنوبهم، بل ويوقظون أحلامهم من مخدعها، علّهم يتذوقون متعة تحققها ولو للحظات.

كل شئ حقيقيّ ووهمي في ذات الوقت، لذا فالأبطال ترى وتسترجع وتأمل لكن من بعيد، دون أن تقبض كفوفهم على شئ، تبدو المشاهد أمامهم جليةً واضحة مثل ضوء منبعث من رتينة كلوب، ثم سرعان ما يتبدل الحال وتصبح رؤيتهم ضبابية تماما، كما يخبو ضوء “الرتينة” مخلفا بعض الرماد.

فنتساءل هل نحن هنا أم هناك؟!

هل نعي ونلمس، أم نتخيل ونحلم؟!

هل نُقبل ونقترب، أم نُدبر ونُولي بأنفسنا بعيدا؟!

ففي قصة المفتتح ” قصر يحيطه الفراغ” والتي انطبق عليها مصطلح ، القصة المعيارية ” الذي أطلقه أستاذنا “سيد الوكيل” فتمسك بتلابيب القارئ، وتحفزه على الإمساك بطرف الخيط، والبدء في خلق الدلالات والتفاسير، وإكمال الرحلة مع الكاتب حتى النهاية، وهي أيضا القصة النموذجية لملمح الذاكرة والتذكر الذي أطرحه، نجد البطل محاصرا في صندوق سيارة -يبدو من وصفها أنها أشبة بعربة الترحيلات- يتشبث بقضبان شباك وحيد، في محاولة يائسة للحفاظ على تواصله مع العالم خارجه، ثم يبدأ في إنعاش ذاكرته القريبة باستدعاء أحداث ما قبل هذا الاعتقال، والتواجد وسط الحشود في ميدان عام يهتفون ويطالبون، ليدخل بنا في سلسلة من مشاهد  الحلم المتلاحقة، لا ندري هل بعضها من الماضي البعيد أم هي ترجمة لأمنيات لم تتحقق، لنشهد معه ذاكرة مقحمة عبر شاشة تواجهه بأخطائه وزلاته، ليكتشف ونكتشف معه أنه ليس بالشخص المثالي_وهو أمر يحسب للكاتب_ فبطله خطاء مثله مثل سائر البشر،  لينتهي به المطاف إلى نفس الشباك ولكنه في إحدى حجرات ذاك القصر- الأشبه بسجن أو معتقل – الذي بات يحيطه فراغ ضبابيّ بلا قرار، أُلقي به إليه بلا رحمة.

 تتعدد صور الذاكرة الخلاقة على مدار المجموعة.. فنجد استدعاء لشخصيات ذات ملمح صوفيّ،  ففي “نهاية المدى” تطالعنا شخصية “عم إبراهيم المجبراتي”  الرجل الطيب المبروك، الذي تحول إلى طيف يبتسم للسارد ابتسامة يختلف مغزاها باختلاف الموقف، فيراه يبعث له الرسائل، ويوجه النصح، يقول:

“أفرغ حقائبك

وأعد أشياءك حيث كانت

لديك متسع من الوقت

تنفس يود البحر..واسبح فيه كيف شئت

الماء ساكن

والموج محبوس خلف المصدات العملاقة

فقط استمع لوشيشه

تمتع بأيامك حتى ميعاد العودة.”

وهو نفس التصدير الذي اختاره الكاتب للمجموعة، والذي يعبر عن المغزى بل الرسالة التي يحملها الكاتب نفسه لقرائه.

كذلك في القصة التي تحمل عنوان المجموعة “مثل رتينة كلوب قديمة ” نجد استدعاء صوفيا آخر لشخصية “الشيخ منصور الولي” الذي ينقذ من الموت، ويضئ الطريق للسائرين في الظلمات، وعند الاضطرار إلى هدم ضريحه ونقل جثمانه، كان الأمر شديد الصعوبة.

كلتا الشخصيتان خلقتا شكلا من أشكال الحلم غير المفسر، فاختُزن في الذاكرة، تاركا أثره في نفس السارد.

أما في “بيرسترويكا” التي تعني “إعادة الهيكلة” وهو برنامج اقتصادي وضعه “جورباتشوف” يقال أنه كان من أسباب تفكيك وانهيار “الاتحاد السوڤيتي”

هنا استدعت الذاكرة حدثا اقتصاديا عالميا، تخيله السارد سببا فيما آل إليه حال تلك الشابتين روسيتيّ الجنسية، حيث تعيشان غريبتان لا تجيدان شيئا سوى الترفيه عن الناس بالمشي على عصيان خشبية طويلة، أو أن حالهما وانهيار حياتهما تماهى مع الانهيار الذي أصاب وطنهما، والذي رأيناه في مشهد النهاية عندما ودعتاه بعصاهما الخشبية، بينما جلست كل منهما بعدها شاردة في وجهة ما، وفي وسط كل ذلك نجد السارد يسترجع لحظة إنسانية نادرة وفريدة – على حد تعبيره- من خلال صورة سيلفي له معهما يقول:

“ التقطت صورة سيلفي معهما، اقتربت فيها رؤوسنا الثلاثة، حتى كادت أن تتلامس، وكانت وجوهنا تعلوها ابتسامة واسعة…”

وكأن حاله لم يكن يختلف كثيرا عن حالهما، حيث اقتربت الرؤوس وكادت أن تتلامس.

نجد أيضا ذاكرة الأرواح  والتواصل معها، التي إما أن تخلق حلما كما في قصة “استغاثة” حيث يعاني السارد من حلم أشبه بكابوس، ليشهد بعده حادث انقلاب سيارة، وعند تتبع الأمر وربط رموز الحلم برموز الواقع، يتضح أن الجثتين لشاب وفتاة لقيا حتفهما منذ عدة أشهر، وما كان الحلم سوى استغاثة لتهدأ روحاهما بعد أن يواري أجسادهما الثرى.

أو تخلق طيفا ليليا غامضا كما في قصة “ضباب شفيف” حيث كان طيفا لفتاةٍ تبدو من بني البشر، لكن صفاتها ليست مثلهم في نفس الوقت، لازمت السارد الطبيب، وسألته الصحبة بشرط ألا يسألها حتى عن اسمها، ليراها جثة هامدة في الصباح، وكأنها كانت تأتنس به في آخر لحظات حياتها، أو لنقل في أولى لحظاتها في عالمها الآخر، والجميل أنه حفظ وعده معها، فبلا وعي منه لم يلتفت حتى إلى اسمها في شهادة الوفاة.

نوقشت المجموعة في فعالية قصة اونلاين

تجلت أيضا ذاكرة المكان في قصة “متحف الذكريات” بدءا بالعنوان ذاته، ومرورا  بالجد الذي يحتفظ بحجرته القديمة منذ أن كان طالبا، ويتخذها ملجأه وملاذه للهروب من الواقع الآني بشيخوخته، يتكأ على ذكريات بسيطة لكنها شديدة القيمة بالنسبة له، خبأها في هذه الحجرة، حتى صارت سره ومتحفه شديد للخصوصية.

ويبدو أن المكان حاضر بقوة بشكل أو بآخر في المجموعة، حيث أهدى الكاتب مجموعته إلى مدينته الجميلة “بنها”.

ومن ذاكرة المكان إلى ذاكرة الزمان، والتي تتضح منذ العنوان  في قصة “نتيجة حائط لعام ١٩٨١” واستدعاء واقعة حدثت للسارد في ذلك الوقت، تستدعي معها موقف جيل تلك الفترة من “الجهاز الأمني البعبع” وزوار الفجر آنذاك.

وهنا يحضرني سؤال..كيف تتعاطى أجيال اليوم مثل تلك الأفكار، التي لا يعيها على الأكثر سوى أجيال الثمانينيات والتسعينيات، ممن شهدوها، أو حتى سمعوا عنها وقت كانت محتفظة بطزاجتها؟

كيف تتفاعل معها شعوريا، وهي التي لم تعاصر مثل تلك الظروف، ولا تعرف الرتينة ولا الكلوب؟

من حق أي كاتب أن يعبر عن أفكاره، ويحرر مشاعره، ويجتر تجاربه إبداعيا، لكن كيف له أن يجتذب الأجيال الحاضرة؟

وهناك أيضا ذاكرة الحب التي أسفرت عن قصتين هما “خلف زجاج النافذة” حيث استدعت قصة حب فاشلة للسارد طيف فتاة، تجذبه في شباك مقابل، ليكتشف أنها محض خيال، عندما ينشب في حجرتها حريق هائل، ويفاجأ أنه مجرد مخزن قديم.

 وقصة “شارع جانبي” قصة الحب التي استعادها السارد، عندما هاتفته الحبيبة القديمة، ليفاجأ أيضا بأنها في مرحلة متأخرة من مرض السرطان، وكما عجز عن الحفاظ على حبه بالماضي، يعجز اليوم طبيبا عن إنقاذ حياتها.

وطالما وجدت النزعة الصوفية بين النصوص، كان هناك تواجد لذاكرة الموروث الشعبي، وخرافة النداهة التي كانت ملمحا من ملامح قصة “ضباب شفيف” أو من خلال العارفين بالله وأصحاب الكرامات كما في قصة حملت نفس الاسم بشكل مباشر “كرامات”.

هكذا كان تفعيل الذاكرة على مدار نصوص المجموعة بصور مختلفة، تبث الراحة تارة، وتبعث على الحزن أو الحنين تارة أخرى، لكنها في كل الأحوال كانت وستظل جزءا أصيلا من روح الإنسان وتكوينه.

من ملامح المجموعة أيضا هو روح الطبيب التي تؤكد أن حرف الكاتب يحمل دوما شيئا منه، وإن لم يقصد ذلك، فكاتبنا طبيب بشري، عاصر الكثير من المواقف، وتراكمت لديه الخبرات والتجارب..

فنرى الطبيب بطلا للقصة بشخصه كما في “مركبة الشمس” و”شارع جانبي” و”ضباب شفيف”

كما نراه في بعض تفاصيل رسم ملامح الشخصيات مثل نادل البار الذي وجدناه أنيقا، يرتدي بالطو أبيض نظيف في قصة “الخروج عن السطر”

أيضا شهدنا مشاعر العجز التي يخفيها الطبيب في صدره، فليس من حقه أن يطلع عليها أحد، وهو المسئول عن بث الطمأنينة في نفوس مرضاه، فنجدها تعلن عن نفسها في قصتي “مركبة الشمس”، و”شارع جانبي” ومشاعر الطبيب العاجزة أمام مرض عضال ألَّم بأستاذه أو حبيبته القديمة.

بقى أن أتحدث عن النهايات..

ذكرت آنفا أن أغلب النصوص تقع في منطقة بينية بين الحلم والواقع، ولخصوصية تلك المنطقة التي لاهي بالمرئية أو اللا مرئية، جاءت النهايات معبرة عنها، ففي اللحظة التي نخطو فيها من عالم الحلم والخيال إلى عالم الواقع، ينفك السحر، وتغيب تلك الحالة تماما، كأن يتطلع من الشباك فتنعدم الرؤية إلا من ضباب كثيف كما في قصة “قصر يحيطه الفراغ”

أو يتحول جسد “منصور الولي” إلى بودرة أشبه برماد رتينة الكلوب عندما تشرع الأيدي في لمسه وحمله كما في قصة “مثل رتينة كلوب قديمة “

أو يموت الجد في اللحظة التي انكشف فيها سره، عندما نجح حفيده الأقرب إلى قلبه في تتبعه، وقفز من شباك الحجرة إلى داخلها.

أو اختفاء الفتاة، وتحول يدها إلى شواشي ذرة في يد الطبيب، عندما يلمسها جاذبا إياها بعيدا عن القطار، فهل يلمس أحد الطيف، أو يقبض على الحلم؟!

جاءت النهايات معبرة ومتسقة مع مضمون المجموعة، تعبر عن الموت والفراق، الرحيل أو لنقل “العودة”، التلاشي والفناء مثل رتينة كلوب قديمة، لم تكن هنا الإحالة فقط للعنوان، ولكن أيضا للتصدير المأخوذ عن “جبران خليل جبران” حيث كلما قبض كفه وفتحها وجد شيئا مختلفا، حتى كان الضباب من نصيبه مع آخر انفراجة لهذا الكف.

ولأختتم قراءتي باقتباس دال من قصة “قناع”..

التي كتبت بشكل مغاير إلى حد ما عن باقي نصوص المجموعة، حيث المشاهد القصيرة التي تحرك الحدث بإيقاع معين يقول:

“ على عتبات الحلم يتحطم المستحيل، وتتوحد الأشياء، لا أول ولا آخر، نقطة وحيدة أبدية بلا بداية أو نهاية، تسقط المحظورات، تختلط الأشياء، يتداخل العلوي بالسفلي…”

      ********                   

 

 

 

 

 

 

 

 

أضف تعليق