في الحلم يتلاقى الأحبة. بقلم: سيد الوكيل

” رأيتني في حي العباسية أتجول في رحاب الذكريات، وذكرت بصفة خاصة المرحومة (عين) فاتصلت بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتي عند السبيل، وهناك رحبتُ بها بقلب مشوق، واقترحت عليها أن نقضي سهرتنا في الفيشاوي كالزمان الأول. وعندما بلغنا المقهى خف إلينا المرحوم المعلم القديم، ورحب بنا، غير أنه عتب علي المرحومة عين طول غيابها، فقالت إن الذي منعها عن الحضور الموت. فلم يقبل هذا الاعتذار، وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة.”(1)

الست عين هي الشخصية الرئيسة في رواية (عصر الحب- 1980م) للأستاذ نجيب محفوظ. يقدمها محفوظ في مفتتح الرواية، فيصفها امرأةً قويةً، لا حدود لإمكانياتها.. وعلى الرغم من أن الرواية قصيرة ومكثفة، أو ربما هي قصة طويلة لم يتوقف النقاد أمامها، ربما لهذا استدعاها محفوظ من جديد في أحلامه، ليضعها في فضاء أكثر تكثيفًا واحتشادًا بالرموز. وكأنما ثمة شيء لم يُشبع في الرواية، أراد التركيز عليه هنا. أو كأن ذكراً عابرًا في الرواية، أراد اختباره وتأكيده بعد كل هذه السنين التي مرت على رواية عصر الحب.

كان موت الست عين في الرواية ملتبسًا بواقعة غريبة. ففي ليلة القدر دب في جسدها العجوز الواهن نشاط مفاجئ، وراحت تغني بصوت خافت ونبرة حزينة: (يمامة حلوة.. ومنين أجيبها.. طارت يا نينا.. عند صاحبها) ثم هتفت: إني أرى الذين ذهبوا ينادونني. سمعًا وطاعة.. عين قادمة.

عين قادمة: كانت هذه آخر جملة في الرواية، قبل أن يعقب (شاعر الربابة) في المقهى بالقول إن الست عين لم تمت ولكنها ذهبت لزيارة الحبيب النبي وآل بيته. هكذا تذكرنا الست عين بعاشور الناجي، ونتوقع ظهورها من جديد، لكنها تظهر في حلم نجيب محفوظ، وبفارق ربع قرن عن رواية (عصر الحب) وتقترح عليه أن يصحبها في عالمها الجديد. وكأن ثمة استباق في وعي محفوظ، بأن الموت لا يعني نهاية الوجود. فقط.. الموتى يغادرون المكان ويعيشون في الزمن، ممثلاً في عصر لحب لا ينتهي.

يؤكد عالم النفس يحيى الرخاوي أن (أحلام فترة النقاهة) أنبتت ثمارها خلال الفترة التي انقطع فيها نجيب محفوظ عن الكتابة. حيث تعطلت يده اليمنى لست سنوات بعد الاعتداء عليه بطعنه في كتفه. كان الرخاوي يتابعه ليؤهله نفسيًا، ويدرب يده لتعود إلى الحياة. وكان أول ما خطت يداه على نحو شبه مكتمل، نص أقرب إلى الحلم.

قد يبدو الأمر أشبه بمعجزة، ولا مشاحة أن نتوقع المعجزات عندما يتعلق الأمر بنجيب محفوظ. لكنني أرنو إلى المغزى الأعمق في حكاية الدكتور الرخاوي، إن التجربة النفسية التي عاشها محفوظ بعد واقعة طعنه، منحته الفرصة للتحديق في واقعه الداخلي، وفيه تتجلى أحلام اليقظة كما يصفها (جاستون باشلار) في كتابه (شعرية أحلام اليقظة).

هكذا..كتابة الأحلام، قد تبدأ بتهويمات، أو نغبشات كما يسميها نجيب محفوظ والعهدة على (يحي الرخاوي) لكن إذا كان الحلم نفسه جزءً من مهمة اللاوعي، فإن كتابته، هي مهمة واعية بالدرجة الأولى، حيث يقوم العقل الخبير بطرائق السرد، بعملية معالجة فنية لتصوراتنا عن ماهية الحلم. وهذه العملية التي تتم أثناء الكتابة، تضع الحلم المكتوب في أقصى نقطة ممكنة بعيداً عن حلم النوم، ومع الوقت، يستطيع كاتب الأحلام، أن يستنطق أحلام النوم في يقظته، لتصبح إبداعًا خالصًا، منسوجًا من مادة الحلم وآلية عمله.

أكد (سيجموند فرويد) على أن الحلم، مرتبط بالحياة الواعية؛ أو بمعنى آخر بالواقع المعاش، ومن ثم فهو يكشف عن المقموع في الوعي، ولا علاقة له بالنبوءات. هكذا يصبح الحلم خلقًا خياليًا مرجعه الواقع كأي نص أدبي، وفي نفس الوقت، تعبيرًا عن المكبوت في اللاوعي. معنى هذا أن الحلم يقدم صورة عن الذات الإنسانية في حالات الوعي واللاوعي معاً. ومن ناحية أخرى فلغة الحلم من مادة الصور والرموز وبهما تُمثّلُ المشاعر والمكبوتات، وهى تقريبًا نفس الآلية التي يعمل بها العقل المبدع. وفي النهاية فإن الأحلام تعكس صراع الإنسان مع محيطه السيسيوثقافي كأي نص أدبي.

هكذا يبدو اللاوعي عند (فرويد) هو صندوقنا الأسود، أو سلة قمامتنا التي نخفيها. أما (كارل جوستاف يونج) فقد ذهب لأبعد من ذلك كثيرًا، مؤكدا على أن اللاوعي هو تكوين بدائي يرجع لطفولة الإنسانية، حيث الأساطير الأولى التي تفسر الوجود، وتنتج نماذج قبلية موجودة عند كل البشر، وهذه النماذج، تمضي في سيرورة رمزية عبر التاريخ لتسكننا، وهي شديدة المراوغة، ذات طبقات ومستويات عدة، ومن ثم ، فهي محملة بكل رموز التاريخ البشري: فالنار، والنجوم، والماء، والبيوت، والمعابد، والرحلة، والموت، والتيه، وغيرها الكثير، هي رموز قد تظهر في الحلم، ويجب أن تقرأ في سياقها الموضوعي وليس على إطلاقها،

ومن ثم، فتفسير الحلم، هو قراءة لرموزه في سياق موضوعه، طبقة بعد أخرى. إن للحلم بنية كلية مثل أي نص، تترابط علاماته فيما بينها. لكن (الرخاوي) يرى أن الأهم من البحث عن الرمز هنا وهناك، هو رصد هذه النهايات المفتوحة برؤية تشكيلية محركة لوعي المتلقي، والمغزى في كلام (يحيى الرخاوي) أن التعامل مع الأحلام المسرودة كتابةً، لا يكون بتفسيرها الرمزي فحسب كتفسيرنا لأحلام النوم، ولكنها قراءة تشمل كل طرائق وأساليب تشكيل الحلم، بوصفه نصًا أدبيًا.

كان السرياليون قد التفتوا إلى أهمية توظيف اللاوعي وآليات إنتاج الحلم، وكتبوا بها قصصهم ورواياتهم، فجاءت مميزة في لغتها وعوالمها عن الأدب الواقعي. إذ أن السرياليين رأوا أن الانهماك في الواقع يعمق عزلة الفنان عن ذاته المبدعة، ومن ثم يتحول الإبداع إلى وظيفة فاقدة للروح. وتقوم فلسفتهم على إخضاع الكتابة لقوة داخلية تقهر الوعي، وتسمح بانفلات محسوب للاوعي، فثم اعتقاد أن قوانين الواقع فرضت على الإنسان أن يعيش عبر أقنعة.

والمبدع السريالي الذي يسعى لاستنطاق اللاوعي، يهدف إلى تحطيم هذه الأقنعة، وتحرير الداخل، بإطلاق الصور، والأخيلة، والرؤى السجينة فينا لنعرف أنفسنا قبل أن نعرف الآخر…. عندئذٍ يصبح للحلم وظيفة تعويضية، تحدث الاتزان بين كثير من الرؤى المتناقضة التي تسكننا بوصفها ثنائيات متضادة مثل: الأنا والآخر، الوعي واللاوعي، الجد والهزل، الحقيقة والخيال، الوجود والعدم، الحياة والموت..إلخ.

اللغة البدائية للحلم تفسر لنا وجود أحلام مشتركة في موضوعاتها بين البشر. فمثلاً: أحلام السقوط من المرتفعات، أو الاحتجاز في الأماكن الضيقة، أو التيه في الأماكن المظلمة، أوالتعري بين الغرباء، أو الخوف من خطر النار، التي تعتبر من أشهر الرموز البدائية، والتي حظيت باهتمام واسع في التحليل النفسي على نحو ما تناولها (جاستون باشلار) في كتابه ( النار في التحليل النفسي) ولذلك تظل أهمية الحلم مرتبطة برموزه، كما هي مرتبطة بموضوعه، بل وحبكته سواء جاءت مفككة على هيئة صور متناثرة، أو جاءت عبر وقائع وأحداث متسقة فيما بينها. ومع ذلك فحتى الأحلام المشتركة في موضوعاتها بين البشر، تحظى بخصوصية ترتبط بالتجارب النفسية والممارسات الحياتية لحالميها.

فأطفال المدارس مثلاً، قد تروادهم أحلام التأخر عن مواعيد المدرسة، أو التيه في الطريق إليها، أو نسيان شيء من مستلزماتها، كالحقيبة أو كراسة الواجب. لكن تفسير مثل هذه الأحلام يعتمد على رمزية موضوع النسيان لا النسيان نفسه. فمثلاً: نسيان التلميذ للواجب المدرسي قد يعكس معنى تعويضيًا يسقطه التلميذ على المدرس، فتجاهل الواجب المدرسي هو تجاهل للمدرس نفسه، وعقاب له، هكذا ينتقم التلميذ من مدرسه ويتحرر من الخوف بعمل لا يجرؤ عليه في يقظته.

و قد يكون نفس الحلم مجرد حافز ينبه التلميذ إلى أهمية العناية بواجباته المدرسية، كما قد يكون تعبيرًا عن إحساس عميق بالذنب والتقصير في مجال آخر لا علاقة له بالواجب المدرسي، حيث يرى (فرويد) أن الإحساس بالذنب ينشأ في طفولة مبكرة مع المرحلة الشرجية.

وعلى ما تقدم فإن رموز الأحلام ذات مستويات وطبقات متعددة، تمنحنا فرصًا لتأويلات وتفسيرات متعددة للحلم الواحد، تمامًا كما نفعل مع النص الأدبي الثري.

وسواء كانت وظيفة الأحلام، فضح المقموعات التي تسكننا، أو إحداث الاتزان من قبيل التعويض النفسي، فإن كتابة الأحلام يمكنها أن تقوم بهذا الدور على نحو آمن. أي أن كتابة الأحلام ليست مجرد نشاط أدبي فحسب، بل هي مواجهة مباشرة مع ذواتنا، واستنطاق للاوعينا، وتحريره من تراكمات رحلة وجودنا. لذلك، فكتابة الأحلام، هي رحلة استشفاء، وتجديد لطاقة الحياة فينا، ربما لهذا، اختار نجيب محفوظ أن يسميها: أحلام فترة النقاهة.

إن النجاح الذي حققته كتابة الأحلام، والتحليلات النفسية لها، كتلك التي عكف عليها (يحي الرخاوي) ملتزما بنزعته الصوفية، والقراءة الروحانية التي قدمتها تلميذة الرخاوي السيدة (فردوس عبد الرحمن) أعطت لكثير من المبدعين الحق في كتابة الأحلام، وتجلت في إصدارات عديدة، حتى أصبحت فناً مستقلاً من فنون القصة لتؤكد مرونتها، وقدرتها على عبور الأنواع التقليدية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- نجيب محفوظ: أحلام فترة النقاهة- الحلم رقم 104- دار الشروق- القاهرة -2007م.

قد تكون صورة ‏‏شخصين‏ و‏نص‏‏

كل التفاعلات:

١٣Abeer Suliman Abd-Elmalek، وفاطمة الشريف و١١ شخصًا آخر

أضف تعليق