قفل صدىء. قصة: عمرو أبو جودة

(الشخص الذي لديه فكرة خاطئة عن الحياة، ستكون لديه دومًا فكرة خاطئة عن الموت)

تولستوي

********
كعادتنا نلعب الكرة عصر الخميس، نحب يوم الخميس كثيرًا، نلعب فيه كما يحلو لنا، نسهر حتى التاسعة دون أن يزجرنا أحد، أو يطالبنا بالنوم مبكرًا كي نستيقظ للمدرسة. نلعب دومًا في مكان فسيح عند طرف القرية بالقرب من مقابرنا، هناك نتقي زعيق الناس وتوعدهم وتهديداتهم بالشكوى لآبائنا. المكان خالٍ تمامًا من كل شيء عدا بيوتٍ ثلاثةٍ قديمة غير مسكونة. بيتان بارزان بينهما بيت غائر، يتأخر عن البيتين قليلًا، مدخله عبارة عن منحدرٍ يقودك إلى الباب العتيق.
بدأنا اللعب، تعالت أصواتنا، كثر الجري النشيط، وكثر معه الزعيق والقَسم والأيمان. علانا الغبار، اللعب ممتع والحماس فائر. يجري كلٌّ منا كمهرٍ عفي، نتكالب على الكرة، نستخلصها تارة وتُسلب منا تارة أخرى.


في ثورة اللعب وعنفوانه، ركلت الكرة بكل ما في رجلي الصغيرة من طيش، مرقت بسرعة كفرس نشيط، سبقت يد الحارس ومرت بين الحجرين اللذين نحدد بهما المرمى، صرخنا فجأة: غووول! تقافزنا، ظللنا نجري ونتمايل من شدة الفرح.
غمرتنا الفرحة غمرًا، لم ينتشلنا منها سوى رؤية الكرة تطير باتجاه البيوت الثلاثة. حسب قانوننا الكروي من يركل الكرة بعيدًا هو من يتحمل مغبة إرجاعها إلى الملعب. قلبي يلاحقها، يسترضيها لعلها تتوقف. لكنها بدت كفتاة غاضبة لم تبال بصرخات قلبي الصغير. تدحرجت في منحدر البيت الغائر. بينما أبصارنا تتبعها، وأيدينا على أفواهنا، لا بد أنها استقرت حيث الباب العتيق، زاد تعرقنا من هول ما نرى، فقد كنا نشفق أن تصل الكرة هنالك.
ترددت في إحضارها وحدي، المزيد من الأساطير والحكايا سمعناها عن البيوت الثلاثة، كلها تجري في خيالي الآن كفيلم سينمائي، كدت أرجع إليهم ليأتوا معي لكنني خشيت أن يقولوا عني جبانًا، الموت أهون من الذل! مشيت بخطواتٍ مرتجفة، أو تكاد تكون كذلك، اقتحمت المنحدر بعد تردد، بحذر مشيت، الباب لونه أحمر باهت، عليه مطرقة حديدية على هيئة قبضة يد، ويمسك دفتيه قفل حديدي صَدِئ، عيناي شاخصتان عليه، ويداي تمتدان تجاه الكرة، فُتح الباب ببطء، له أزيز كغلي المراجل! تسمرت قدماي، جحظت عيناي، شيخ أسمر ذو لحية بيضاء غير مشذبة، يخرج متكئًا على عصاه وظهره منحنٍ. وقعت للوراء، قمت بسرعة، حاولت الوقوف لكني فشلت، حبوت وحبوت، كلما وقفت تعثرت، أخيرًا قمت ناظرًا خلفي مطلقاً ساقيّ للريح.
وصلت حيث رفاقي، أنفاسي تتلاحق، الكلمات محشورة في حلقي، عيناي ذاهلتان، لوني أصفر شاحب، ويدي تشير تجاه الشيخ.
كانوا خائفين، لقد ضاعت الكرة، هكذا قال أحدهم بصوت خفيض بائس. صرخ آخر: سيضربني أبي لو رجعت دونها.
الشيخ خرج إلى الطريق معتمدًا على عصاه بيدٍ، وبالأخرى يمسك الكرة، جلس على الأرض ووضعها جانبه. تشاورنا في الأمر، هل نتركها وننجو بأعمارنا، أم نذهب إليه ونطلبها منه؟ قال أحدنا: من أدرانا أنه عفريت؟! لعله مجرد رجل عجوز يسكن هاهنا ولا نعلم، بالتأكيد سيعطينا الكرة لو طلبناها، لمَ نخافه إذن؟!
ـ لم نسمع عن أي شخص دخل هذه البيوت من قبل! فمن ذا الذي يجرؤ على سكناها؟!
ـ العفريت لا يخرج لمجموعة مثلنا!
قلت: وجدتي حدثتني أن العفريت لا يخرج للعدد الزوجي، كم عددنا؟ عددنا أنفسنا فإذا نحن عشرة، ارتسمت على شفاهنا ابتسامة ظفر يشوبها خوف ليس قليل، عزمنا وذهبنا إليه كلٌّ منا يُقدّم صاحبه.
شكله مخيف، عيناه لامعة ومتورمة، أسنانه طويلة تليق بعجوز مثله إلا أنها كاملة لم يُفقده الزمن أيًا منها، جلبابه رث متسخ، لحيته بيضاء تغطي معظم وجهه المتعرّق.
وقفنا أمامه كلٌّ منا يتوارى خلف صاحبه، لم يجرؤ أيٌّ منا على الكلام. نظر إلينا بحدة، عيناه تخفي فتوة بائدة. أربكتنا نظرته، وددنا لو أننا انطلقنا جميعًا ولتذهب الكرة إلى الجحيم، لكننا خفنا إن هربنا أن يتلبّسنا أو أن يُرهقنا من أمرنا عسرًا، يقولون من يهرب من وجه العفريت يتلّبسه!
بصوت متقطع قلت: هذه كرتنا يا جد أعطنا إياها من فضلك! نظر إلينا برهة دون أن ينطق ثم قال بصوت أجش كالبرق زلزل قلوبنا: أبناء من أنتم؟ كل واحدٍ منا أخبره باسمه. تنهد وزفر زفرة حنين كأنه يرثي بها ماضيه. زعم أنه يعرف جد كلٍّ منا. ظل يحكي لنا عن أجدادنا وعن البلدة قديمًا، وعن مغامراتهم أيام كانوا في مثل أعمارنا، وعن شقاوتهم مع صبايا البلدة وغرامياتهم. سرت الطمأنينة إلى قلوبنا، وغمرتنا نشوة الحديث، ودهشة الحكايات. التففنا حول الشيخ وظللنا نضحك ونتهامس، نقول بصوت خفيض:(يبدو أنه كان فلانتينو القرية هههه)، نتضاحك خفية. حدثنا أنه يلتقي بأجدادنا دومًا، أصابتنا الدهشة، جميعنا مات جده! سألناه: كيف تلتقيهم؟! لم يرد، فجأة قام، تركنا واستدار، نزل المنحدر. أخذنا الكرة بين الفرح والذهول، مشينا خطوتين، تيبست أقدامنا، وجفت الابتسامة على شفاهنا، نظرنا جميعًا إلى الباب في وقت واحد، ثم نظرنا إلى بعضنا، القفل الصَدِئ لم يزل مقفولًا من الخارج!

أضف تعليق