كل المقالات بواسطة مختار أمين

جنية الكلمات.. قصة قصيرة بقلم: رفقي بدوي

 

كنت فارساً ،وترجلت لما قتلت جوادي حين صهل ، وعلم أعدائي موضعي ، دعيني أبكي جوادي الذى خانني ، وصهل .
أذهب حين تغيب الشمس ،متوكئا علي عصاى التي لم أعد أهش بها علي أحد لحظة غضبي ، وليس لي فيها سوى مأرب واحد ،أتساند عليها لتسندني ، وما جئت لأجلس علي المقهي الذى لم تعد مقاعده من سعف ،إلاّ لألقاها ، تتمايل بضفيرتها ، وأنا أجالسني واجتر، فيؤلمني رقصي علي ما مضي ، فأكتبها حكايات وروحي تحترق كما فتيل القنديل ،انير وانير قبل أن أنطفأ ، وترتاح عصاى مني.
أغني اجترارًاً،وألحاني أنتِ أنا ، أدق ناقوس الوقت وحوريات الليل يبكينني ،ويبكين أجسادهن اللاتي لم أخط عليهن خطا ،والتصقت بقلبكِ ، وتحصنت بحضنكِ ،أقلب البومات مُخيلتي لأستعيدني من أزمنة مضت ،فلا أجد سوى صورتكِ محتضنة كراساتكِ علي صدركِ وضفيرتك تتراقص علي ظهركِ ، فأغفو علي كرسي السعف ،أغفو علي هوى السنين .بعدما انسربت فحولة الوقت ولم يعد الناقوس يدق فاتشمم رائحة العشب الذى بللته ، ولم يبق لي سوى اجترار .. سوي اجترار .
حان وقت اللقاءفي السيئات والحسنات، وقصتي لم تكتمل ، لما حبستني جنية الكلمات ومنعت عني المدد وقالت :-“ياسيد الكلمات التي لم تقل ،قل في عينيَّ ولا تجتر ذكرياتك ،فلقد جئتك من كل الجهات ،سأسجنك في حروفك المنثورة فلا تقدر علي نسجها كلمات ومعان ، وا اسفي عليك،فلقد ابيضت عيناك من الحزن قبل أن تقول كلماتك التي لم تقلها ، ،أبكي فلست وحدك من بكي .”.
– اجيريني وبوحي ،اجيبيني هل سكن جسدى النسيان،حين ادرككِ نسياني ، اجيريني لتدركني الكلمات فاصير صرخة في ضلوعك ، قولي لي كيف نسمي لقاءنا لقاءً ونحن بعده نفترق، وما ابيضت عيناي إلاَّ من فراقك،ولا اسألكِ عن الأسباب فاسئلتي مذبوحة علي مذبح شفتيكِ ،اجمعي حروفي،تزيني بها عقداً لجيدكِ أو قرطاً ،واسمعيني هسيس روحك فيعيدني لنول الحروف ، فقد سئمت كرسي السعف ،وسئمت ذاكرتي المثقوبة ،وليس لي غيركِ اجيريني لاشبُك وردتي بشعركِ فينفتح بابك الموصد وأنسل من فرجته .
-:”وا اسفي عليك، لن امنحك أكثر مما منحتك إياه ، تستحلبه كلما جلست علي كرسي السعف بعدما ذبلت ورداتك التي اهديتها للعابرات ،وما اكتفيت بطيبي يفوح عبقه فيك ، فتنجب كلماتك التي عجزت عن إنجابها بدوني ،و ما اكتفيت بي !!أنا جنيتك فالزمني طوعاً أكفيك .”.
– فلمن أجئ بالوردة سيدتي ،لمن ؟ وأنا ما فعلت شيئاً يباعدكِ عني ،أنتِ أنتِ ـ وأنا أنا أدق ناقوس الكلمات كلما أتت حوريات الليل ليجلسن معي ويرتشفن دموع اشتياقي لكِ ،أعيدى لي حمحماتي وصهيلي ،فقد قتلت جوادي حين خان ،وأنا لم اخنكِ لتهجريني بعدما صرفتِ حوريات الليل عني وصرت موقوفاً عليكِ ،ليس غيركِ،اجيريني وبوحي هل سكن جسمي النسيان حين ادرككِ نسياني ،اجيريني وانطقيني،فأشبك وردتي علي صدركِ وينفتح بابك الموصد وانسل من فرجة التمني حاملاً الوردة السؤال .
لمن أجئ بالوردة ؟
” لا تبكي طفلي ، لا تبكي فأنا التي دللتك، ضع الوردة علي صدرى ،ضعها ، ولا تبتعد عن مداري فتهجرك كلماتي ،ضعها ينفتح بابي ،ومن فرجته ادخل وخذ كنزى “.

قراءة ونص من كتابي الجديد / (دق الناقوس في فنيات كتابة النصوص “القصة القصيرة والقصيرة جدا”) طباعة داري دار المختار للنشر والتوزيع لسنة 2020

الفرق بين القصة القصيرة والقصيرة جدا:

باستدلال على نص مؤامرة للكاتب: بدوي الدقادوسي.

بدوي الدقادوسي
بدوي الدقادوسي
1ـ النص:
مؤامرة
ما الذي دهى هذه النظارة؟ قمت بمسحها ألف مرة وبمناديل حريرية ولكن دون جدوى، ناولتها زوجتي لتتولى مسحها بطرحتها الحرير، ولكني ما زلت لا أرى بوضوح، تناولتها من يدها.. ساخطا عدت للقراءة؛ ما زالت الحروف تفر من أمام عيني متلاعبة بي، وابنتي تراقبني من الخلف وهي تبكي؛ فتقدم نحوي ابني أمسك بيدي قائلا: دع هذا الجهاز (دع جهاز الكمبيوتر) الآن وتعال نسير سويا بعض الوقت. لا أعلم كيف غيروا درجات السلم فصارت صغيرة بهذا الشكل المزعج.
انفعلت على ولدي قائلا: صاحب البيت يتفنن في التقشف، حتى
سِلّم البيت لم يسلم من مؤامرته الخبيثة.
أمسك الولد بيدي ولا أعلم لمَ نظر نحوي وهو يبكي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
111256864_2938142532962318_2393337425588322907_n
مسودة داخل الكتاب
2ـ تنويه على الفرق بين القصة القصيرة والقصيرة جدا:
تكلمت قبلا في كتابي “فن القصة القصيرة ونصوص تطبيقية”(1) في خصوصية القصة القصيرة، وتحدثت في هذا الباب عن (المضمون والشكل)، بما أن القصة القصيرة لها خصوصية كجنس أدبي، إذن هي لها سمات محددة لا تتشابه مع جنس أدبي آخر..
ومن أهم هذه السمات والخصوصية الموضوع والفكرة؛ فموضوع القصة القصيرة خاص ومتميز، وكما قال أوكونور(2) في كتابه “الصوت المنفرد” ترجمة د. محمود الربيعي، في معرض حديثه عن المقارنة بين فنون الآداب، تكلم عن الرواية والقصة، حيث قال: “أن الرواية هي صوت المجتمع في حين أن القصة القصيرة هي صوت الفرد” ومن هنا تتميز موضوعات القصص القصيرة، فإن موضوع القصة القصيرة هو من ضمن خصوصياتها، بل هو من أهم خصوصياتها.

استمر في القراءة قراءة ونص من كتابي الجديد / (دق الناقوس في فنيات كتابة النصوص “القصة القصيرة والقصيرة جدا”) طباعة داري دار المختار للنشر والتوزيع لسنة 2020

غياب دور المؤسسة النقدية له التأثير السلبي على النص الأدبي والإصلاح الاجتماعي.. بقلم : مختار أمين

   على الناقد الأدبي دور مهم وفق المعيار المجتمعي الخلقي والديني والبيئي جنبا إلى جنب بجوار علمه التخصصي، ولم يكتف حتما بفتح البطن، فتح البطن من قبل الجراح ليس للفرجة أو لاستبيان جغرافي ولا للالتقاط الطبوغرافي الذي لا يترك أثر إلا لمجرد مشاهدة الجرح، ولكنه بالطبع ليسجل تسجيلا مهما، وهو غياب دور المؤسسة النقدية الأدبية في نواحي ومجالات عديدة، وتوغلها بدارسة النص الأدبي من الناحية الشكلانية في كل مراحلها، وهي غافلة تماما عن دراسة النص الأدبي وعلاقته بالمجتمع والبيئة، وأسباب نشأته الشكلانية والمضمونية كفكر وثقافة مجتمعية، وهذا يعبر أشد التعبير عن قصر الرؤية والعلمانية الكاملة لدى الناقد الأدبي المعاصر، وأرى أنه لا يكفي أن تنصب رؤية الناقد وقراءته للنص الأدبي على مدى قدرة واحترافية النص الأدبي كجنس أدبي مكتمل العناصر في حدود الشكل والفكرة والموضوع، ولكن لابد أن يضع الناقد في اعتباره أنه مسئول عن النص الأدبي بعد خروجه مسؤولية كاملة من نواحي عدة، وهي دراسة النص من ناحية أثره على المجتمع، وإلى أين يجرفه هذا النص بما جاء عليه من خلال أفكاره ولغته وشكله ومضمونه، ويكون الناقد له الحارس الأمين الرقيب المعلم المرشد، إذ أن الناقد الأدبي الحديث هو الإمام الفقيه الذي يرشد المصلي ويدله ويصلح ما اعوج من نهج عبادته، هو رقيب متخصص في الأدب، وهو رقيب يمثل ضمير المجتمع، ولا يجب أن ينفصل هذا عن ذاك، ولا يغفل أنه ضمير المجتمع بمعتقده وعاداته وسلوكه، وإن هذا من أولويات مهامه بما يجيزه علمه، وإلا ما دور الأدب في تأثيره الإيجابي على المجتمع، ولا يجب أن ننحدر بالأدب على أنه أداة للتسلية، أو أداة للتعبير الحر بلا ضوابط أخلاقية أو دينية أو معتقدية، وينحو نحو التعبير الشاذ عن المختلين عقليا وعرايا الأخلاق والدين، ولا ينبغي للمبدع أيا كان أن يغلق رؤيته على حدود هواه وهواجسه الخاصة التي تطمس الرؤية عن أحوال المجتمع بشكل عام، لأنه يسجل مراحل الإنسان والتاريخ في عصر من العصور، ويرمز لبيئة بعينها وفكر سائد فيها، ولهذا ينبغي العودة إلى ترجمة وفهم الأديب بوصفه المعلم والحكيم والمميز في أمته بالإطلاع والحكمة، والمبدع الذي لا يرتقي بخلقه وعلمه إلى المعنى الذي أعنيه بمفهوم لكلمة أديب لم يكن مبدعا على الإطلاق، وإن ما وصلنا إليه من تردي من نصوص تدعي حرية الإبداع بتقيّؤها علينا بما في بطنها من خلاعة وإسفاف ولغة أهل الدعارة تجرفنا إلى تيار الإلحاد والكفر والمجون، وتفتقر إلى اللغة البليغة الأديبة، ما هو إلا تعبيرا عن جهل ثقافي ومعرفي، وجهل كتاب اليوم ومدعين الثقافة، والجري وراء “التوك شو” آفة العصر في حب الظهور وتسيد المشهد العام فيما نراه على التلفاز والميديا والجرائد والآن في الأدب والكتب الأدبية، هو تعبير عن مارثون لأكبر قدر من الفجاجة والخلاعة والجرأة وقلة الأدب، هو تعبير عن انحدار الإنسان.

كيف تحكي المحكي بأثر فاعل جديد يتجلى بالإبداع في النصوص الأدبية؟ تطبيقا على نص قصة قصيرة بعنوان: “خطأ الحمار” للكاتب المصري د. محمد منصور.. بقلم/ مختار أمين

  عُرف عنا كعرب وبخاصة المصريين خفّة الظل، ويقولون أولاد البلد “شعب ابن نكتة”، وهذا لأننا اعتدنا على تحويل مأساتنا إلى نكتة للسخرية منها؛ فغلب على طبيعتنا المزاح في أحلك المواقف وأوجعها حتى تهون وتضعف ونقوى عليها..

  وفي هذا الصدد نلتف حول بعضنا في أمسياتنا وجلساتنا لتكون النكتة هي الحديث الذي تلوكه أفواهنا، وتعلو ضحكاتنا لتطفئ نار الثورة والحنق والغلّ المكتوم بداخلنا، حتى نولد من جديد بنفس رائقة تضع كل همّ فينا على حسب قدره وفي موضعه لنتعايش، وتمضي أقدارنا المكتوبة على مسيرة حياتنا كي نحيا وفق ما كفّله الله لنا نثاب على فعلنا ونجازى به.

استمر في القراءة كيف تحكي المحكي بأثر فاعل جديد يتجلى بالإبداع في النصوص الأدبية؟ تطبيقا على نص قصة قصيرة بعنوان: “خطأ الحمار” للكاتب المصري د. محمد منصور.. بقلم/ مختار أمين

عرضٌ أوّل.. قصة قصيرة لـ ريتا الحكيم ـ سورية

عرضٌ أوّل

للسّينما سحرٌ لا يُقاومُ، تلكَ الشّاشةُ الآسِرَةُ تقتحمُنا ببهائِها، وتلجمُ ألسنتَنا؛ فنتّخِذُ مِنَ الإيماءِ وسيلةً للإفصاحِ عَنِ انبهارِنا بحرفيّةِ المُمَثّلينَ وإتقانِهم للدّورِ الموكلِ إليهم.

عشّاقُها كُثُرٌ، خاصّةً أولئكَ القاطنونَ في قاعِ المدينةِ، أو بالأحرى المُبعَدونَ، والمُهَمّشونَ؛ فلا وسيلة للتّسليةِ لديهم سوى صالاتِ السّينما التي تنقلُهم إلى عوالمِها بأبخسِ الأثمانِ، قياساً بوسائل التّسليةِ الأخرى مِنْ مُنتجعاتٍ ومطاعمَ باهظةِ الثّمنِ.

في قاعِ المدينةِ.. كلّ شيءٍ أسود الملامحِ، مُعتِمٌ كقبرٍ ينزوي في عمقِ الحزنِ. الملابسُ، الوجوهُ، حتّى الضحكاتُ والابتساماتُ التي نادراً ما كنا نراها تتّخذُ مكانَها الصّحيحَ على الشّفاهِ، والتي كنا نخجلُ مِنْها إنْ حدثتْ ذاتَ خطأ غيرِ مقصودٍ في منظومةِ الألمِ التي نعتمدُها كمنهجٍ في حياتِنا البائسةِ.

ثلاثُ نقَراتٍ على زجاجِ النّافذةِ كفيلةٍ بأنْ أعرفَ القادمَ إليّ كلّ ليلةٍ، وفي نفسِ التّوقيتِ، إنّهُ صديقُ طفولتي فؤاد، يأتيني لنتسامرَ ونتداولَ موضوعَ العتمةِ التي تُطبقُ على صدورِنا وتستنفذُ طاقاتِنا.

جاءني هذهِ المرّة بنبأ عاجلٍ، حولَ عَرْضٍ مجانيّ في إحدى دورِ السّينما لحضورِ فيلم سبارتاكوس، وذلكَ بسببِ عزوفِ سُكانِ الأحياءِ ذاتِ الخمسِ نجومٍ عنها، وانشغالِهم برحلاتٍ سياحيّة داخلَ وخارجَ البلدِ. يُقالُ إنّ أحدَهم يُقيمُ في يختٍ فخيمٍ، يجوبُ بهِ الشّواطئَ والبلدانَ معَ ثُلّةٍ مِنْ مُرافقيهِ وأصحابهِ الذينَ يَحارونَ في كيفيّةِ تبذيرِ المالِ، ما بينَ حفلاتٍ، وأثوابٍ مِنْ بيوتاتِ الأزياءِ العالميّةِ، يخصّونَ بها زوجاتِهم الفاتناتِ الخائناتِ.

أثلجَ صدري فؤاد بخبرهِ هذا، خاصّةً وأنّني خاليَ الوفاضِ منذُ أكثرَ مِنْ شهرٍ، قضيتهُ أتسكّعُ هُنا وهُناكَ دونَ أنْ أحظى بشيءٍ يسُدّ رمَقي ويُدفئُ جيوبي، لكنني كنتُ مُمتعضاً مِنْ حتميّةِ حضورِ هذا الفيلمِ الذي سمعتُ عَنْ قسوةِ مشاهدهِ وهولِ أحداثه. أخبرتُ فؤاد بانزعاجي، وبأنّني مُتردّدٌ في الذّهابِ معهُ، لكنهُ وبحنكتِهِ المعهودةِ أقنعَني، واتفقنا أنْ نلتقيَ في اليومِ المشهودِ قبلَ بدءِ العرضِ كيْ نحظى بأماكنَ لنا في الصّفِ الأماميّ. وأصرّ أن يُبلغَ كلّ مَنْ سيصادفهُ في طريقِ عودتهِ؛ فهذهِ فرصةٌ ربّما لنْ تتكرّرَ.

أشرَفْنا على هذا الحدثِ غيرِ المسبوقِ، الذي سيجعل قاعَ المدينةِ بأكملهِ في صالاتِ السينما ولمدةِ شهرٍ، ساعاتٌ قليلةٌ وسيتوافدُ إليها الناسُ كيومِ الحشرِ، لكننا كنا أوّلَ القادمينَ، لمْ يبقَ على إطفاءِ الأنوارِ إلا بضعَ دقائقَ، وما زالتْ الصّالةُ خاليةً إلا منّا نحنُ الاثنينِ.

فؤاد، أبدى قلقَهُ مِنْ تأخيرهِم وخشِيَ أنْ يكونوا مُحتجزينَ عندَ أحدِ الحواجزِ؛ فهم لكثرتهِم، ستُظَنّ بهم الظنونُ وبأنهم يخطّطونَ لمسيرةٍ مناوئةٍ أو أنهم مأجورونَ مِن إحدى الجهاتِ لإثارةِ الفوضى وإشعالِ الفتنِ. بهذا صرّحَ لي فؤاد بمخاوفهِ وهو يتلفّتُ يمنةً ويسرةً، لكنني هدّأتُ مِنْ روعهِ وربّتُ على كتفهِ مُطمئِناً إياه، وبأنهم لا بدّ قادمونَ بينَ لحظةٍ وأخرى.

انقطعَ الحديثُ بيننا حينَ بدأتْ تظهرُ شارةُ الفيلمِ وأسماءُ الممثلينَ والمُخرجَ، وكلّ مَنْ ساهمَ في هذا العملِ الضّخمِ.

لحظاتٌ قليلةٌ وظهرَ حيّنا على الشاشةِ بكلّ تفاصيلهِ، وأزقّتهِ، ونفاياتِه التي كنا نتعثّرُ بها في كلّ خطوةٍ.

صرخَ فؤاد مُشيراً إلى أمّهِ وهي تلملمُ أشلاءَه بعدَ تلكَ الغارةِ المُفاجِئَةِ، وما زادَ مِنْ ذهولهِ ودهشتهِ، هو أنّ أمّهُ متوفاةٌ أثناءَ ولادتهِ. لمْ يكدْ يلتقطُ أنفاسهُ حتى سمعَ نحيبي أنا حينَ رأيتُ طفلتي الوحيدةَ وسطَ أقدامٍ تدوسُها، وأنيابٍ تنهشُ براءتَها.

رأيتُ أمامي قاعَ المدينةِ يتحرّكُ على الشّاشةِ بكلّ شخوصهِ، وبكلّ معاناتهِ، ها هو سالم يلوّحُ لي بيدهِ المبتورةِ، وهذهِ سنيّة تدفنُ ولدَها الوحيدَ بيديْها، ومِنْ بعيدٍ يبدو فادي تلميذيَ الأثيرُ ، يزحفُ نحوي مُستنجداً. تتابعتِ المشاهدُ بسرعةِ الضّوءِ ونحنُ وحيدانِ في صالةٍ مُغلقةٍ تحتَ الأرضِ، لا منفذَ لضوءٍ فيها ولا حتّى هواء.

ثارتْ ثائِرَتي على فؤاد وأطلقتُ عليهِ قاموساً مِنَ الشّتائمِ.

لمْ يكنْ سبارتكوس الثّائرُ على العبوديّة، إلا قاعَ المدينةِ، إنّه أنا وفؤاد وأمّي وجارتُنا صفيّة، وبائعُ الخضارِ أبو أحمد، ونيرمين بائعةُ الهوى، وسُلَيْمة الخيّاطة، والعجوزُ هيلانة العمياء. كلّنا وقفْنا في صفّ واحدٍ على شاشةٍ كبيرةٍ، تنزفُ وجعَنا وخيبتَنا على الملأ، ولا أحدٌ يعيرُها اهتمامَه إلّا أنا وفؤاد مِنْ خلالِ كفنيْنا.

احترافية الكتابة بقلم/ مختار أمين

احترافية الكتابة                                                                
  أخي الكاتب وأختي الكاتبة والنقاد المتدربين لكي تصل للاحترافية الحقة وزيادة مهارة الكتابة والنقد، عليكم الاشتغال على أنفسكم باجتهاد حقيقي غير زائف..
أولا بتطوير غريزة القراءة الورقية من خلال الكتب، لأسماء معروفة عالميا وعربيا ـخارج أسماء الفيس بوك- مشهود لهم بالكفاءة في الجنس الأدبي الذي يميل قلمك ونوازعك له.
ولتطوير غريزة القراءة عدة نقط أنا مسؤول عنها بعد التطبيق الجيد والصادق مع نفسك:
1ـ اقرأ وأنت تدرك أنك سوف لا تحيط فهما بكل ما ستقرأه حتى يأتي عليك يوم تفهم ما قرأته.
2ـ ابدأ بقراءة خمس صفحات من كل كتاب (قطع صغير 14×20سم) وثلاث صفحات من القطع الأكبر، وإن أردت زيادة الصفحات لا تزيد حتى يولد بداخلك الشغف للقراءة لمدة أسبوع، وإن كانت عملية زيادة القراءة لا تقاومها زد قراءة عدد الصفحات في الأسبوع الثاني، شرط ألا تجعل حرصك على زيادة عدد صفحات القراءة مع كل أسبوع أكثر من حرصك على فهم ما تقرأ، فلا تزيد عدد الصفحات إلا إذا اصطحب القراءة الفهم والإدراك.
3ـ كن صديقا وفيا للكتاب الذي تقرأه ولمؤلفه، حاول بعد عملية القراءة استلهام شخصية المؤلف -حب روحه- من خلال البحث عنه.
4ـ ممنوع القراءة على الفيس بوك أو جوجل أو النت، ليس لها أثر إيجابي سيكولوجي، وأحيانا عدم الضمانة والأمانة العلمية، وعلى المقابل الآخر حب الكتاب له أثر إيجابي ستشعر به بعد شهر من تطبيق هذا البرنامج.
5ـ بعد قراءة كتاب كامل لابد أن تكتب ما قرأت في نوتة خاصة من خلال فهمكم المباشر بلا تدخل أو مساعدة (التلخيص لأبوابه أو أجزاءه أو نصوصه) لمعرفة المغزى الذي ينطوي بين السطور.
6ـ عندما تصل إلى قراءة أكثر من كتابين أو ثلاث عليك بتعليم نفسك بنفسك من خلال كل كتاب تقرأه..
إن كان لديك مشكلة في اللغة بكل مشتقاتها:
  أ) من ناحية النحو والصرف والإملاء، حاول أن تعود للكتب المدرسية الأولى التي تشرح دروس النحو والصرف بلغة مبسطة وبناء الجملة البسيطة، وبعض ألفاظ الهمزة مرتبط بموقعها إعرابيا في الجملة ونطقها اللغوي السليم، ولحل مشكلة الإملاء عليك بنصيحتي باقتناء كتاب قديم جدا مازال موجود في الأسواق اسمه (معلم الإملاء) من سلسلة معلم القراءة “أصفر عليه ولد وبنت يقرآن في كتاب” هذا الكتاب صغير الحجم ولكنه يحتوي على شواذ الكلم وصورة كتابة اللفظ بطريقة صحيحة.
  ب) لو لديك مشكلة في البلاغة اقرأ في البلاغة وتعلمها، وأول دروسها من خلال الكتب التي ستقرأها.. ركز في كل جملة وطريقة بنائها ومحاسنها وجمالياتها، وحاول التقليد والتعبير بهذه الطريقة، وكتب البلاغة كثيرة وهي علوم كل منها علم بذاته. واجبة لكل أديب محترف متمكن.
بعد تنفيذ برنامج القراءة بنجاح وتشعر من داخلك أنك تقرأ كتبا كبيرة الحجم في وقت قياسي، وبعد أن تشعر أن وقت القراءة يزداد ساعاته:
   ـ عليك بالتحاور مع آخرين فيما قرأت قبل التحاور والتشابك مع غريزة الكتابة لديك.
  ـ عليك بحضور الندوات الموثوق في إدارتها، واجعل دورك فيها الاستماع في البداية، ثم بالتدريج حاول التعليق برأيك عما أعجبك وعما لا يعجبك مما سمعت في الندوة، وعليك ألا يغرّك حديثك الجميل ولحنه في أذنيك الذي قوبل بالاستحسان ممن يسمعك، لابد أن تعترف بينك وبين نفسك أن موهبتك لم تنضج بعد، وأن قراءاتك لم تصل مهما قرأت لحد الكفاية.
  ـ مع تكرار القراءة التي تصبح عادتك اليومية، وتكرار التلخيص، والمداومة على حضور الندوات.. ابدأ باستخراج مشاعرك على الورق في بداية تجريبية لعمل من إبداعك..
هنا كن جريئا واعرض ما كتبت على متخصص، وأنت تدرك أنك مازلت تتعلم، حتى وإن كتبت شيئا ناضجا ذا قيمة.
  ـ اعرض نفس العمل على أكثر من ناقد متخصص أو كاتب كبير له باع احترافي مشهود له.
  ـ ركز في كل الملاحظات الإيجابية والسلبية على عملك حتى ولو بالتدوين.
  ـ اقرأ في فن كتابة العلم أو الجنس الأدبي الذي تهواه، من خلال الكتب موثوق بها.
  ـ اجعل نفسك طويلا في السرد، أي أنك تتجنب الكتابات التي تحتاج كلمات قليلة، ومسميات الأصناف والأجناس الأدبية التي اشتهرت على الفيس بوك (يوجد منها خزعبلات ليس لها أساس علمي).
  ـ لا تتخصص في كتابة الخاطرة الأدبية حتى وإن كانت لها جوائز على الفيس بوك كما تحدثنا، الخاطرة أدب قاصر لا تصنع أديبا محترفا متخصصا، انما هي تدريب على الأسلوب الأدبي. ولا تبدأ في كتابة الومضة مثلا. كل هذه الأشياء تضحك عليك في بداية طريقك الاحترافي، منتجك الأدبي لابد أن يكون منتجا له قيمة يبقى.
  ـ لا تكتب للفيس بوك فقط، ولا تعرض في بداياتك أعمالك على صفحتك أو في مجموعة، ستخدع خدعة كبيرة من طابور أصدقائك ومحبيك والمطبلين والمزمرين المجاملين بأنك أصبحت أديبا محترفا لا يبارى. (غالبية الموجودين على الفيس غير محترفين.. قرّاء كانوا أو كتّاب أو نقاد).
اللهم بلغت اللهم فاشهد، والله على ما أقول شهيد..

قصة قصيرة: “ديمقراطية الحمار” بقلم: مختار أمين

ديمقراطية الحمار

   رفسه رفسة كادت أن تودي به إلى القبر، ولكنه ترفّق بآخرها حتى يتركه حيا يتجرّع مرار الهزيمة والذل، ويصبح عبرة لمن تسول له نفسه ويتجرأ ويأخذ منصب رئيس الحيوانات.. لم يكن الأسد موجودا، ولكنه فضل أن ينسحب انسحاب العاجز غير القادر، إنه يعلم ما يدور ويتوعّد للبين أنه سوف يعود ويدخلهم كلهم الجحور كما سابق عهده..
حكم الحمار مملكة الحيوانات، بعد أن ركل، وسجن، وعضّ كل من خاف منهم على مستقبله المنشود في المملكة .

استمر في القراءة قصة قصيرة: “ديمقراطية الحمار” بقلم: مختار أمين

صنائع زيطة/ قصة قصيرة للكاتبة المغربية خديجة آجانا

صنائع زيطة

زيطة صانع العاهات، عنوان قصة للكاتب المصري يوسف الشاروني، أهداها لنجيب محفوظ، لأن بطلها زيطة شخصية من شخصيات روايته زقاق المدق.
زيطة صانع ماهر للتشوهات/ العاهات تحت الطلب، لا يضاهيه في صناعته أحد، ذلك أنه كان لديه فهم رائع لمعنى العاهة الذي يدركه بحدسه وعبقريته، ويقوم هذا الفهم على أن التشويه ليس مجرد معنى جمالي في الجامد أو الميت بل هو معنى نابض حي سيأتيه من أجله المجهولون والمخفقون، ثم يغادرونه رسلا وحواريين له في مختلف أحياء وزوايا وطرق وميادين ومساجد وكنائس ومقابر ومقاهي القاهرة. لذلك وقف حياته على تلبية حاجة ملحة وضرورية لهؤلاء الذين يقصدونه ليشوه بنياتهم السليمة، التي كانت تحول دون استدرار شفقة المتصدقين والمحسنين، الذين كانوا يطالبونهم بما يؤهلهم للشفقة والإحسان كيلا يبعثروا أموالهم على غير مستحقيها…
وهكذا صارت خرابته، التي يستأجرها من حسنية الفرانة، في زقاق المدق، مصنعا للعاهات يقصدها كل من كانت صحته تقف عثرة في سبيل حياته، هؤلاء الذين يمدون أيديهم فترد إليهم فارغة، يقصدونها أصحاء، ويغادرونها عميان وكسحى وحدبا وكسعى، ومبتوري الأذرع أو الأرجل، وقد وهبهم حقهم في الحياة، وما يبرر لهم الاستجداء.
وكان زيطة ينشط، بعد منتصف الليل، في تفقد صنائعه، فيقصد حي الحسين، وميدانه، والباب الأخضر، والقبو القديم، والجامع الكبير، والمسجد وغيرها من الأماكن التي ينتشر فيها صنائعه، فيأخذ من كل واحد منهم مليما، يوميته، ثم يشتري رغيفا وتبغا وجبنا أو حلاوة، ويعود إلى خرابته حيث يستأنف صناعته…
القصة، قرأتها في مكتبي أثناء العمل، وكان من الممكن أن أنساها كما أنسى أشياء كثيرة بسبب آفة النسيان التي تصيبني، نهارا، بسبب نقص منشط الكافيين، فغالبا ما أنسى أسماء وعناوين وطرقات، والطريق إلى بيتي، لأن الطرق تتشابه علي بما يميزها ويوحدها في دماغي من فوضى وضجيج واكتظاظ وأصوات أبواق السيارات… كان من الممكن أن أنساها لولا أنني وجدتني مندسة في صلبها حقيقة لا خيالا، بعدما قادتني ضرورة ملحة إلى ارتياد شارع المكسيك، بدءا من قيسارية عين قطيوط، وأشدد على الضرورة الملحة، لأن لولاها ما كنت لأغامر بارتياده، ذلك أنني، أثناء رمضان أتحاشى شوارع وأحياء؛ كالمصلى وكسبارطا وشارع المكسيك وشارع فاس وشارع الحرية… خوفا من ضربة سكين، أو سيف أو ساطور، وتجنبا لخصام مفتعل يكون الهدف منه توفير فرصة للسرقة والنهب، وابتعادا عن سماع ما يؤذي سمعي من سباب للدين والوالدين…
وأنا أمر بشارع المكسيك، وجدتني أتعثر بصنائع زيطة، وقد سيطروا سيطرة تامة على الشارع فقطعوه على المارة، مشهرين عاهاتهم المختلفة؛ فهذا مبتور الذراعين، وذاك مبتور الرجلين، والآخر أعمى، وووو، رافعين أصواتهم بلازمات استجدائهم، وكأنني أشهد مهرجانا أو استعراضا عالميا للعاهات، وكلما حولت بصري عن أحدهم وقع على غيره، فلا مهرب منهم إلا إليهم، وصرت أتخبط في مشيي بينهم وأتعثر بهم. اختلط علي الأمر، فلم أعد أميز إن كنت أعيش واقعا أم ما زلت أقرأ قصة الشاروني، إن كنت بشارع المكسيك أم بميدان الحسين بالقاهرة. لكن المشهد، رغم أن مشاعري تأذت منه كثيرا، ظل ناقصا في نظري لغياب الصانع الفذ زيطة عنه، لذلك تعلقت عيناي بالمارة، أبحث بينهم عنه، وكلما بدا لي شخص بجلباب أسود، خلته هو، ولحقت به، لكني أدركت أن بحثي كان عبثا ومضيعة للوقت، لأن زيطة له كبرياء يحول دون حلوله،نهارا، في المشهد، وكشفه عن نفسه وهو يطوف بصنائعه ويجمع المليمات منهم، وكان الوقت عصرا. لذلك اصطنعت لنفسي ظلاما بأن ارتديت نظاراتي الشمسية، واستدعيت من القصة زيطة، فإذا هو يسعى أمامي بجلبابه الأسود القذر، وشعره المشعث، وعينيه البراقتين، ورائحته المقرفة، يمر بصنائعه واحدا واحدا، يركل هذا و يضرب على قفا ذاك و… فيمدون له المليم، فتسحبه يده القذرة في حركة سريعة ويدسه في جيبه، وأنا وراءه أقتفي أثره، حتى إذا أكمل جولته التفقدية، دخل مخبزة واشترى خبزا، ثم محلبة وخرج منها بجبن ملفوف في صفحة من جريدة قديمة، وأخيرا عرج على بائع الدخان واشترى علبة سجائر.. وسرت خلفه إلى أن انعطف إلى زقاق المدق، الذي يلفه ظلام دامس، عدا بصيص من نور ينسل من بعض النوافذ، واقتحمت الزقاق خلفه غير مبالية بخطورته، لأن فضولي والسؤال المعلق على شفتي هونا علي الأمر.. حتى إذا صار قرب فران حسنية، اعترضت طريقه وطالبته بالإيجار، فأخرج، من جيبه، ما تبقى فيه من نقود ودسها في صدريتها، فتراجعت إلى الخلف قائلة: ” وله، اختش ليشوفك المعلم جعدة زوجي.” فأتى صوت جعدة من داخل الفرن سائلا: “مين يا سميحة؟” وواصل سيره إلى آخر الزقاق حيث خرابته، وهو يشتم ويسب سميحة وجعدة، وما أن هم بالدخول حتى استوقفته، فالتفت إلي مندهشا وكأنني جنية انبعثت من الأرض، ومسحني من رأسي إلى قدمي بنظرة زلزلت كياني، وكادت تفقدني وعيي لولا أنه ابتسم، فبادرته بسؤالي: “لماذا، يا فنان، يا عظيم، يتحول شهر رمضان المبارك إلى شهر لإشهار صنائعك؟ أطرق يفكر وقد توجس خيفة مني، فلربما ظنني عينا من عيون السلطات، أو صحفية أسعى إلى سبق صحفي، ثم أشعل سيجارة، فتجرأت ووجهت إليه سؤالا أتهمه فيه صراحة: ” لم، يا زيطة، تسلط، في رمضان، صنائعك علينا ليؤذوا أنظارنا ومشاعرنا، ويفقدونا الشهية؟
حينذاك قهقه عاليا وأجابني: “هم صنائعي، وأنا، كأي صانع تنتهي مهمتي حين إنهاء الصنعة، فلا أعود مسؤولا عنها إذا خرجت من بين يدي إلى السوق.” لم يقنعني كلامه وقد رأيته يتفقدهم ويأخذ منهم يوميته، لكنه استدرجني ليصنع لي عاهة يشتري بها صمتي، ويضمن المليم، يوميته، واستسلمت ليده البارعة حقا. وخرجت من خرابته عمياء، عمياء بمحض إرادتي واختياري، أتلمس طريقي اعتمادا على العكاز الذي أهداني إياه. نعم عمياء، لا لأزاحم صنائعه وأنافسهم في الاستجداء وقطع الطرق، بل لكيلا أراهم ولا أرى تشوهات كثيرة أصبحت شائعة في مدينتي…

حافة الانهيار.. قصة قصيرة للكاتب / فلاح العيساوي ـ العراق

حافة الانهيار قصة قصيرة

للكاتب / فلاح العيساوي ـ العراق

بين الصمت والهذيان يعالج صور تتصارع على آثار خطوات مبعثرة في غرفته، صوت في داخله يصرخ: لِمَ أنا؟ ومن أنت؟ وماذا تريد مني؟ لماذا اخترت روحي؟ هل يعقل أنك أنا وأنا أنت؟. يزداد صراعه، سكرات تنقله من زمن لآخر، تتداخل فيه الصور، وتزكم الماضي البعيد عبر بوابة شروق اللامعقول، يجد نفسه شخصا آخر لا ينتمي إلى هذا المكان، رجل يفتش عن ضحية بين أكوام ذكرياته، في ذات الوقت يرى كيان قد تعّود على الخيانة وموت الذات، على الرغم من رفضه الدخول إلى هذا العالم الغريب، يرى نفسه يعرف جميع من حوله، الأب والأم فيما مضى، والأخوة والحبيبة والحقيقة في هذا الزمن المريب. ليلة ممطرة، شوارع المدينة شبه خالية، يقف عند مفترق طرق بجوار عمود النور، تراوده نفسه عن التراجع، يتمتم مع نفسه مبررا: تلك الشهية اللذيذة؛ لها في خانة الحاجة جزء لا يتجزأ من الأنانية المكينة، لكن أمام الأنا؛ تعجز الجزيئات عن المقاومة، فمن الممكن إيجاد الحلول، بالحصول على الحاجة من سوق النخاسة… أمام الدراهم توجد من تبيع الجسد؛ إلى عابر سرير، أنتِ لستِ الوحيدة في هذا العالم، لكنكِ بلا ريب الأجمل، مع أسفي الشديد. يتحرك بخطوات سريعة والمظلة بالكاد تحميه من وابل المطر، مشاعره كانت تتضارب أكثر كلما اقترب من الزقاق رقم (17). عندما وصل البناية رقم (6) وقف أمامها يتفرس بعينين ثاقبتين، حرّكت فيه ذكريات جميلة بعدما مضى إلى سلم العمارة، -إنه في زمن ليست فيه مصاعد-. في الطابق الثالث طرق باب الشقة؛ نادته وهي تقف خلف الباب، أجابها… سمعت صوته؛ فتحت الباب بسرعة، وأخذت تعانقه وتقبله. دخل وأغلق باب الشقة، وما تزال القُبلات تزيد من حرارة اللقاء، وما هي إلا بضع خطوات وصلا بها إلى غرفة النوم، وقعا فوق السرير الذي بقي يهتز بشدة، حتى سكنت الأنفاس، وأحسّا بالانتشاء، تركها مستلقية تنعم بالراحة، نهض برهة وعاد، بعد لحظات عادت الضربات المميتة تنهال عليها بقسوة، لحظات من الجنون والألم؛ نزفت دماؤها في محراب الغدر، بعد جولة حميمية بين عاشقين. وقف ينظر إليها، فاغرة فاها، عيناها ترمقه بخوف، جسد غادرته الأنفاس اللاهثة وراء قطيع الأحلام، لم تستطع التوسل إليه، كان يضع يده بقوة على فمها المشبع بقبلاته، ودّعها بقبلة على شفتيها الذابلتين، خرج يحمل مظلته، تاركا خلفه ماضيا غارقا في الانحطاط. يفتح عينيه بالكاد، يتحسس جسده والمكان، ينظر إلى يديه، لا يجد تلك الدماء الوردية التي سالت على سرير الغرور في زمنه الآخر، حالة الرعب تتوغل في نفسه، يجلس القرفصاء، يضع رأسه بين ركبتيه، يضرب فوق دماغه، يصرخ، يرتعش، يجن جنونه. دخلت زوجته مسرعة، قلبها يخفق بقوة، احتضنته، رفعت رأسه من بين ركبتيه:

– توقف، لا ترتعش، لا تخف، أنا معك.

– أنا لم اقتلها، هو الذي قتلها، طعنها بالسكين، كم هو ظالم ومجرم.

  – حبيبي، لا تخف، أنه مجرد حلم، بل هو كابوس عابر.

– كابوس؟.

 وضعت أناملها على صدغيه، فركتهما بحنان، حولت أناملها إلى جبهته دعكتها برقة، قربت شفتيها إلى شفتيه، منحته إحساسا بالسكينة ثم ساعدته على الوقوف، أخذته إلى الحمام، وقفا تحت الماء، الذي غمره بالهدوء والراحة. عندما وضعت رأسها على الوسادة، طلبت منه أن يحدثها عمّا شاهده في سفره هذه المرة، أخذ يقصّ عليها الأحداث حتى نهايتها، أخذت تمسد شعره الناعم؛ فأخذه النوم إلى عالم آخر… يرى نفسه يركض، يقود مجموعة من الشرطة، بيده مسدس، وذلك المجرم يحاول الهرب، دخل بناية مهجورة، دخل خلفه بحذر مع بقية الشرطة الذين توزعوا إلى جميع الاتجاهات، نادى عليه: سلّم نفسك إلى العدالة، أجابه برصاصة كادت تصيبه، أطلق عليه الرصاص فأردته أرضا، هرول الجميع إليه وجدوه ميتا، ابتسم وأحس بالسكينة. مع شروق الشمس، نهض من فراشه، وجد نفسه مرتاح البال، قرر عدم إيقاظها من نومها، قبل الخروج وضع قُبلة على شفتيها؛ أحست بها فعانقته:

– حبيبي، انتظر حتى أعدّ الفطور.

– حبيبتي، عودي إلى النوم غاليتي، فما تزالين بحاجة إليه.

– لا بد أن تفطر.

– سأفطر في العمل.

  أغلق الباب خلفه ومضى، راحت تفكر في ليلتها الماضية، استرجعت الأحداث لحظة بلحظة، وكلما توغلت فيها أكثر؛ يزداد فيها شيئا فشيئا، أمل ينشر نسائمه في قادم الأيام. أخذت جهازها المحمول، اتصلت به، طلبتْ لقاءه على وجه السرعة، ضرب لها موعدا، نهضت من فراشها وهي تتمايل فرحا بالحدث الأخير، فراحت ترقص في خيالها الرحب مع الحبيب على أنغام أغنية العاشقين، وبعد لحظات من اللهو والمرح تذكرت الموعد وبادرت لتحضير نفسها للخروج. ركبت السيارة وقادتها نحو لقاء خاص مع رجل أحبته بصدق، على الرغم من لقائها المتكرر معه بين حين وآخر، لكن حرارة الاشتياق ما تزال مستمرة، لا يمكن نسيان حضن طالما أشعرها بالدفء. عندما وصلت إلى حديقة المشفى، وجدته في انتظارها مثل كل مرة، فتح ذراعيه وأخذها في حضنه، قبلها على وجنتيها وبادرته بالمثل، جلسا وما يزال يمسك بيديها:

– عزيزتي ماريا، أراك اليوم زاهرة مثل وردة الربيع؟ والابتسامة الغائبة منذ فترة طويلة قد عادت إليك؟.

– نعم يا غالي، حادثة يوم أمس تنبأ بالبشرى.

– أخبريني عنها بكل تفاصيلها حتى المملة منها. راحت تسرد كل شيء، حتى أتت على نهايته، ابتسم في وجهها:

– عزيزتي: طبعا ليس خافيا عليك تفسير ما حدث ومعرفة نتائجه، أنت نجحت في مغامرة غير مأمونة الجانب، كنت الطبيبة المتفوقة على نفسها دوما، وكنت الطالبة الأقرب لقلبي، خطؤك الوحيد هو؛ تولي معالجة مريض كان وما يزال حبيبك، وهذا ما لا تقبله أعراف الطب، مع هذا جازفتِ وفزت.

– أستاذي، تعرف أنني لم أستطع التخلي عن حبيبي، وكنت أعرف أنني سوف أكون طوق نجاته.

– عزيزتي، قد تكون أعراف الطب نسبية وقابلة النقض في حالات خاصة، المهم أن الانتقال الأخير يؤكد تجاوز مريض (العصاب) حالة الانهيار النفسي، فقتل العشيقة التي تعرف تفاصيل حياة عشيقها والتي يعتبرها مصدر تهديد على حياته، وهو يعرف أنها لا تتوانى في فضحه مع أقل حالة ضغط أو خوف، لذا قرر العشيق طي صفحة الماضي والخوف إلى الأبد. ضغطت على يده برقة وقالت:

– أريد أن أسمع منك النتيجة.

– قد أستطيع الجزم، أن زوجك قد تخلص من حالته المرضية وقد لا يتلبس في الأيام القادمة، بجسد ذلك الشخص الذي كان يعيش في زمن من الماضي، والأيام القادمة ستكون كفيلة في طي هذه الصفحة أو…، لا أريد أن أكون متشائما، لكن هو شهر واحد وتتضح الصورة.

قراءة في قصة قصيرة للقاص عبد الكريم الساعدي ـ العراق/ بعد عشرين عاما.. للناقدة التونسية / سهيلة حماد

قراءة في قصة قصيرة (بعد عشرين عاما) للقاص عبدالكريم الساعدي ـ العراق.. للناقدة التونسية / سهيلة حمد (بعد /قبل في بعد بانورامي يتجاوز الزمن إلى ما بعد الحداثة)

للنص إشراقة، تتجدد مع كل قراءة، كانتصار الزمان على بائعة الهوى، سلمى، التي سكنت ذكرى ذكراها ذاكرة صاحبها، فكانت سماءً مدرارا، لصور احتفظ بها، أسير جنون عشق ووجد، لصاحبة مجد، مضت وشاخت، وما شاخت، وإن طرق الباب بعد عشرين عاما، ف”القبل”، حاضرة مباشرة في الاستهلال، اسدلالا، على عدم الاعتراف بمضي العشرين عاما، والعشق ظل خارج الزمان، وإن استحضر اليل والصباح والأيام الخوالي، والأمس مذيلة بفجر.
” الساعة واحدة بعد منتصف الليل”، إشارة إلى أن ساعة الزمن، توقفت، وكأن الحواس غامت، واختنقت الأنفاس وسرت قشعريرة غيبت الزمان، من أجل استرجاع ساعة عشق، لاستعادة “أنفاسه التي تركها فوق جدائلها”، لاسترداد” رعشة ” هزه الشوق إليها ليشرق وجهها من خلف الباب مهما كان، فهي سلمى الفاتنة قبل أن يطرق بابها طرق باب قلبه فإذا بالماضي يسطع في ارتعاشة ….
نص به من الجمال والتكنيك ما يجعلنا ننبهر ونحيي صاحبه لسلاسة السرد ورشاقته ….تشويقا.حبكة وابهارا…
اهتم بالزمن، إيقاعا و استردادا ، كما اهتم بالقبل والبعد في أبعاد بانورامية تفتح على ما بعد الحداثة …
كما اهتم بالذاكرة والنسيان
و بتأثر الجسد بالزمن ….

بعد عشرين عاما قصة مستوحاة من قصيدة قرأها قبل عشرين عاما ………ما رأيكم؟؟؟؟؟

سهيلة بن حسين حرم حماد

بعد عشرين عاماً*

قبل الكأس الأخيرة قال النادل:
– لم يبقَ غيرك في الحانة.
حدّقت في الساعة المعلّقة على الجدار، كانت تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل. يحاصرني القلق في ظلّ حواس غائمة، فلا باب أطرقه ولا صباح ينقذني. أختنق بأنفاسي المتقطّعة وبسعالي الجاف، تعتريني رعشة مزدحمة بتساؤلات غير واضحة ” إلى أين سأذهب وكلّ الذين عرفتهم قد رحلوا؟”. سألت النادل عن بائعة الهوى “سلمى: “
– هل ما زالت تقطن الزقاق؟ ترتسم الدهشة على ملامحه. يقترب منّي، يهمس في أذني:
– نعم، لكنّها شاخت وما عادت تلك الزهرة الفواحة التي تجذب عشاقها.
لا أدري لماذا ذكرتها الآن. أكرع كأسي، أخرج مسرعاً، أحثّ الخطى إليها، غير مبالٍ بالمطر. كنت وحدي أسير في الزقاق، يسبقني ظلّي إليها، سألت نفسي كيف ستكون بعد عشرين عاماً؟ يخفق قلبي شوقاً للأيام الخوالي ” مهما تكن فهي سلمى الفاتنة… ألم تذكر ضحكتها وغنجها الآسر؟”… يا لك من قلب! أبعد الشيب تحنّ وتخفق لتلك الأيام؟
أحاول أن أستمطر ذاكرتي، لعلّي أقتنص ملامحها بعد هذا الفراق الطويل، سأراها كما الأمس مترعة بالضياء، أغنية تقطر ندى، تقاسمني حلكة الليل، سأستعيد أنفاسي التي تركتها فوق جدائلها عند ليلة بحّت بها مواويل الفجر، وألثم عنقها بلهفة عاشق مجنون، وأملأ جرتي من خمرها المشعشعة.
وقبل أن أطرق بابها ارتجفت ضلوعي لتطرق باب القلب، فإذا بالماضي بكامل أرقه يسطع في ارتعاشة دقّاته المتوالية على باب سلمى:
– من الطارق؟
– أنا…
– من أنت؟ وماذا تريد في مثل هذا الوقت؟
– سلام عليك يا سلمى، لقد هزّني الشوق إليك، ألا تفتحين…؟
– صوتك ليس غريباً عنّي، انتظر دقيقة واحدة.
وانتظرت عشرين عاماً أخرى؛ ليشرق وجهها من خلف الباب.
———————————————————-
*القصة مستوحاة من قصيدة قرأتها قبل عشرين عاماً.

قصَّة قصيرة : الأزهارُ لنْ تموتَ، أبدَ الدهرِ… بقلم مديح الصادق ـ العراق

الأزهارُ لنْ تموتَ، أبدَ الدهرِ…
بقلم مديح الصادق

لا ترمِ المرأة ولو بزهرة، قالها بلا استثناء بحرف أو فعل أو اسم، ولم يسبقها بحصر أو تخصيص، ولم يغضب من قوله الرجال، سواء الذين استعبدتهم النساء جهراً، أم أولئك الذين يفتلون الشوارب في الصباح بعد ليل طويل من الدعابات، والحكمة تلك أدخلت البهجة في قلوب الحليمات من جنس حواء، في حين أشهرتها سيفا قاطعا، بلا حق مَنْ لا تُثمِر جنانُهُن سوى الأشواك والعلَّيق، وفي الأحوال جميعها تبقى المخلوقة التي من ضلع آدم خُلِقت نبعاً غير ناضب يديم الحياة، وقطباً به يستقرُّ مدار الكون؛ بل نجماً تهتدي به عبر الدياجير قوافلُ العابرين، حصرا تلك التي سُقيت من ماء المكرمات.

 

إذا عشقتْ حوَّاء فحتما تعشق الجمال في الرجال، وللجمال وجوه تعددت قدر تعدد الأذواق، والألوان، والعطور، منهنَّ من تهوى اللون والشكل، والأخرى يأسرها صوت شجي، أو موهبة بها تفرَّد فارس الأحلام، وهنَّ كثيرات أولاء اللائي أحببن في الرجال اللاشيء، واهماتٍ بأنه الجمال، وهي معضلة كبرى ساعة يختفي القبح في رداء الجمال، كما يرتدي الشيطان جلباب الملاك، أو مثلما تلفَّع جاحد غريب الأطوار بالبياض، وأحكم العمامة مُكمِلا هندامة بعصا زيتون أطول من قامته، بلحية أجاد رصف ذوائبها، وصوت رخيم يأسر الألباب، لا يطيل التأمل في وجوه النساء خشية أن يزلقه الشيطان، أو أن يُشاع عنه أنه مالح الطرف؛ فتفسد بذلك حيلة أجاد حبكها مُذ زمن غير قريب.

(آخ)، في حضنها صرحتْ ذات الاثني عشر ربيعاً وهي ترصف لها شعرها، كالعادة كلَّ يوم، وحين يسرح المرء منا مستذكراً رحلةً محطَّاتُها عثرات، وشوطاً من العمر لم تزل توجِع ما مرَّت خلاله من غصات؛ فإنه قد يوجع نفسه، أو أقرب الناس إليه، و(غيداء) تلك – رغم صبرها وما عاهدت نفسها عليه من تحمل للأهوال – اعترفت مع نفسها أكثر من مرة أنها قد تفقد التوازن بين الفينة والأخرى، وابنتها التي بدأت تُنبئُ نبرة صوتها أنها على أبواب ولوج عالم غريب الملامح، تستجدُّ فيه كل يوم أحاسيسُ ليست كما بالأمس، في عالم الليالي الحمراء، والسوداء، في بلد يُعلِّمون أطفالهم – قبل طاعة الوالدين – رقما سهلا للبوليس كي يطلبوا النجدة في حال واجهتهم مضايقات من الأبوين، وهل يُضايق الآباء أطفالهم؟ اللهمَّ إلا حين يشتد خوفهم من أن صاعقة على وشك الانفلاق، فما يُسمُّونه حرية في فعل كل ما يشتهي الفرد – وما أدراك ما أبواب الاشتهاء؟ – لهُوَ كارثة في منظور سيدة فاضلة تشرَّبت في دمها مكارم أخلاق ورثتها من أبوين فاضلين، حرصا كل الحرص على أن تحظى وإخوانها الأربعة بما يستحقون من درجات الأدب والعلم، مع الشجاعة في حسم القرار وفق الحدود، وأسرة متدينة نهلت منها، ومما طالته بنفسها، أنْ لا خوف من الخالق طالما يصون ابن آدم يده واللسان عمَّا نهى عنه، وما أقرته العباد.

يتحدَّر دمعها وحولها قلوب تجلَّدت كالصخر من فرط ما أوغلت في أذى الضعفاء، والغربة التي ليست رغبة مسبقة للمرء لا تُنسيه الهموم مهما كانت مظاهر الحلاوة، أوتعدَّدت وجوه الجمال؛ بل بالعكس قد تزيدها، كما تزيد جبالَ الثلج مواسمُ الشتاء، والطامعون في امرأة جميلة، رقيقة، غير خافٍ رقيُّها في السلوك والأخلاق؛ تباينت أهواؤهم بين قصد شريف على سنَّة السماء، ونزوة لا تحمي الزهرة بعد شمَّة العطر، وأية سيدة مثلها لا بد أن تكون كحبة قمح في حلوق الرحوات، والزواج ستر، خصوصا للمُطلَّقات، وفي البلاد هذي – إن كنت من قوم (غيداء) – لابد أن ترتدي حزام الأمان ليل نهار فهي ملغومة، ملعونة، شوارعهم، والأزقة، والحانات.

لم يشغل بالها خوف المُطلَّقات من أقاويل سوء أو إشاعات، بقدر خوفها على مُراهِقة تُطيل وقفتها، كلَّ ساعة أمام المرآة،

على جسمها الطري

تراقب ما يطرأ من تغيرات، والخوف هذا يُبطن خوفا آخر؛ فالأعوام تدور دورتها، وتطوي الأعمار طيَّاً، تقرِّب المسافات، وماذا سيحدث لو أن ابنتها بلغت المرفأ وعلى حصانه الأبيض أردفها ابنُ الحلال؟ فمن يُسامرها غير جدران الدار؟ أم أن أخوة ترافقهم خيوط الفجر، لتعيدهم لعوائلهم عتمة الغروب، قادرون على ملء هذا الفراغ؟ الوالدة المسكينة قد هدَّ عودها خريف العمر، وقد تعزف ابنتها عن الزواج – كما يحدث بكثرة هذا في بلاد الحريَّات – فيكون حالها كمن لم يرضَ بالجزَّة فصار مُرغماً على الرضا بكليهما؛ بالجزَّة والخروف، مسحت بلطف على شعر الصغيرة كي تخفِّف ما سببته لها حماوة (الشسوار)، انحنت لتمسح جبينها بالشفتين الرقيقتين (سودة عليّ) لم أكن قد قصدت، رائحة الكيك المحروق من الفرن مع الدخان، هرولت، فتحت الشبابيك، وأغلقت أبواب غرف النوم، على خدِّها ضربت، دمدمت بعبارات مبهمة، هو أمر طبيعي أن تجني مثلها حرقا للخبز أو الكيك، أو شياط الطعام، إن لم يكن دهساً تحت العجلات؛ حين تأسر نفسك في شرنقةٍ حبالُها ما تراكم حولك من تالد الهموم.

أهي ابنتها، وما تخشى منه على مستقبلها في عالم تحكمه الذئاب، وتستسلم لها طواعية النعاج؟ أم أنه حنين خفي تحت الظلوع، تكابر خادعة نفسها لا تريد إخراجه للعالم أبعد من حدود التفكير؟ فقد نعلن كرهنا المقيت لمن كنا نحب، وقد نؤذيه ما قُدِّر لنا من سبل الإيذاء؛ لكننا نعجز عن قتل بذرة حب زرعناها سوية، في يوم طيب من أيام الصفاء، عجبي منك أيها الإنسان! أنت كالصبَّار، قشرُه أشواك، ولبُّه دواء، والنار مهما استعرت في الحقل فهي لا تحرق سوى الهشيم، قد نضغط الجرح البليغ بقبضة شديدة؛ ولا نفلح في كبت آه تكسَّرت بين الضلوع.

بحركتها اللولبية السريعة تمكنت من إنقاذ جزء مما تعرض للحرق من الكيك، ابتسامة شفيفة علت محياها؛ لعلها نجحت في تصحيح موقفها أمام أولئك الذين أعدَّته لهم، بجانب بعض أصناف شهية من الطعام العربي اللذيذ، شهي هو مثل طيبتهم، مثل ما يحملون من أنبل الخصال، والعلم، وحبٍّ للناس وللحياة، من كفَّيها الكريمتين ذاقوا الأطايب حتى زادوا طالبين المزيد، وطيبة النفس قد تغلب على طيبة الطعام.
ُأحقٌّ أنَّ ما ألمَّ اليوم بها هو الحنين لماضٍ طوته كما تُطوى الذكريات المُرَّةُ، السودُ، وهل يستأهل مثل ذلك الماضي التعيس أن يُحنَّ إليه، وقد أثقل وطأته عليها إحساسها الدائم بذنب جنته على نفسها حين أخطات في الاختيار، مَن منا لا يحلم؟ مَن منا لا تداعب يقظته الأمنيات؟ وقد تتخطى أحلامنا المعقول واللا معقول، ألف ليلة وليلة، وواق واق، والمأساة أننا نصدِّقُها، تلك الأحلام، ولا نفيق منها حتى تشجَّ هاماتنا حوائط الملموس، والأدهى أن نتوهم الصدق فيمن بينهم وبينه خصام أبدي، وهي ليست جريمة هذا وذاك؛ لكنَّها لعبة لا رابح فيها، فالأول والثاني كلاهما خسران.

رابحةٌ أنا، ومعي راجحة كفة الميزان؛ فقد رافقتني ابنتي منذ انفصالي عنه، وجعلتُ من جفنيَّ رداء يقيها من الشرور، وبين أضلعي افترشتُ لها مرابع الحب والحنان الأمومي، وخيرة الرجال رفضتُ عروضَهم للزواج، هذا إن كان لا تزال بقية من الأخيار على الأرض، ثعلب ماكر تقلَّد فروة الحمل، بصوته العذب الرقيق يغني التراتيل، والدعاء، تلاميذه في دار العبادة يُنصتون خاشعين، مأسورين بكائن ليس ككل الناس، نصح وإرشاد، ونهي عن المنكر، إيَّاكم والرذيلة فهي من رجس الشياطين، والمرأة من ضلع آدم خُلقتْ فأكرموها بما تستحق من حبٍّ وتقدير، شريكة الدنيا هي، وفي يوم الدين، لاتكذبوا، لا تزنوا، ولا تخونوا الأمانات، ولا…، ولا…، وما أكثر اللاءات في خُطبٍ تقشعِّر لها الأبدان، بل تتهاوى قلاع الجبَّارين، وتستسلم عاصيات النفوس؛ واستسلمتْ لسحره (غيداء) وصمَّت السمع عما حذرتها منه أمٌّ حريصة، خبيرة بالحياة، أو صديقات خبرن الشِعاب؛ لقد تخيَّلتْ فيه سلوى تعوّض لها فراغاً بفقدان والد عطوف حنون؛ فلم تُصدِّق ما قالته عنه الصديقات خشية أن تلقفه واحدة منهن، إنْ هي تخلَّتْ عنه، ومن ذا الذي يعيب على رجل الدين وهو يُشبه الملاك، في خلقته، والأخلاق؟ إذن هو مُبرَّأ من أي ذنب، وهاهو الحلم اللذيذ قد قطَفت ثمارَه ملء اليدين، فكيف لها أن تفرط بكنز قبضتْ عليه، وأحكمتْ القبض؟

ليتها لم تقبض عليه، ليته حلماً لذيذا كان، يمرُّ كما تمرُّ بها كل ليلة كوابيس وأضغاث أحلام، في ليلة العرس كشَّر عن أنياب ذئب تعطَّش مسعورا للتمثيل بصيد طال صبرُه عليه، تجملّت كما تتجمل العرائس للزفاف، ارتدت أحلى الثياب، مما يؤدي الغرض المطلوب في الليلة تلك، والعطر يذيب القلوب، انتظرت طويلا كي يقول ما يجب أن يقوله مثلُه في الليلة تلك؛ بلا جدوى أدارت ظهرها، ولم يغمض جفنها حتى الصباح، وبعد شهر، وشهرين، أسعفتها معجزة المُنشِّطات؛ فكان في العون من أكثرت منه الدعاء، لكنه لم يُخفِ في سلوكه وإياها عقدة الشعور بالنقص، وصارت حياتها جزءاً مما كان يَنهى عنه من المحرَّمات، كلَّ يوم يمرُّ يحجب الماء، والنور عن زهرة يانعة راهنت على أن الحياة بصحبته جنة من الجنان، وبعد البحث عن كتب كان يقرؤها لم تعثر إلا على صحائف فارغة بلا حروف أو سطور، فخافت على سطورها من الضياع، وفتَّشت في طيَّات جُبَّتِه فانصدمت بالبقع السوداء قد لوثت أبيض الرداء، وحين اشتهت تقبيله فاحت من جوفه كريهةٌ تقطِّع الأمعاء، ويوم احتمت بها لم تكن سوى رقطاء، ولم تكُ آيةً عصا الزيتون، فغادرته وفي أحشائها، تحت ردائها كنزٌ عظيم.

باص المدرسة خارج الدار يطلق البوق، في بلد عليك لزاماً أن تقدِّره حق قدره؛ الوقت، وقد فات الموعد، والصغار بالانتظار، أكفٌّ كأجنحة العصافير الغضَّة طرقت برفق على الباب :عيد المراة هو اليوم،عيد الأمَّهات، ونحن بانتظارك (يامس غيداء) أحضرنا الهدايا، والطعام، والألعاب، فأين منا أنتِ؟، بسرعة البرق لملمَتْ الحاجيات، نظرة سريعة إلى قوامها الرشيق بالمرآة، ألقت في القمامة ما تبقى من كيك محروق، باقة زهر جميلة، من حديقة الدار، وأسطوانة شجيَّة، لها طربتْ مجاميع اللواتي طلَّقنَ الرجالَ التعساء.

استمر في القراءة قصَّة قصيرة : الأزهارُ لنْ تموتَ، أبدَ الدهرِ… بقلم مديح الصادق ـ العراق