أرشيف الأوسمة: التفكيكية

الجامعة والنتاج النقدي

                                    الدكتور محمد حسن عبد الله

1-                         توطئة

 في سياق محور “أسئلة النقد” لا يجوز إغفال دور الجامعة في إنتاج النقد،سواء على المستوى النظري أو في مجال التطبيق وتوجيهه، وحتى استعارة مدارسه، أو مبادئه، لتصنيف فنون الإبداع عندنا، تلك الفنون التي صنعها من بيننا مبدعون ليسوا بالضرورة على معرفة صحيحة بتلك المدارس أو المبادئ التي توافقت إبداعاتهم مع معطياتها أو بعض تلك المعطيات. هذا الكشف مهم جدا.ولكن دون القيام بهذا الكشف عوائق واحتمالات من الالتباس تؤثر على التصور المستخلص للمحاولة.  قد يبدو التفحص لمعطيات قرن كامل بحثا وتصنيفا ووصفا عملا يتجاوز قدرة شخص واحد مهما كانت طاقته وكان الزمن المتاح له، وهو كذلك بالفعل، والحقيقة أن ظاهرة الإنتاج النقدي تتجاوز القرن المحدد عمرا لإنشاء الجامعة المصرية(جامعة فؤاد الأول ثم جامعة القاهرة فيما بعد)-1908- 2007، ذلك إذا دخل في نطاق البحث كل ما يصنف في النسق التعليمي على أنه فوق التعليم المتوسط(الثانوي وما في مستواه) فالجامعة المصرية حين أنشئت لم يكن الهدف منها تأسيس مرحلة معرفية مفقودة أو مفتقدة في الهرم التعليمي المصري، الذي عرف قبلها مدرسة الطب ومدرسة المهندسخانة، ومدرسة الإدارة والحقوق، ومدرسة دار العلوم، كما كان”الأزهر” يمثل كيانا تعليميا مستقلا بمراحله بما فيها المرحلة العالية التي تمنح الأستاذية، أو العالمية. من ثم يمكن استعادة دعوة الزعيم مصطفى كامل إلى إنشاء الجامعة، وإعلان تكوينها عام رحيله، والأسس التي أقيمت من أجل تحقيقها، وتوجهات القيادات التي تناوبت على إدارتها(بصفة خاصة الأستاذ أحمد لطفي السيد)(1)- أشهر مديري الجامعة المصرية وأهم من حرص رسالتها وسيكون المعنى الكامن لدى هؤلاء جميعا الدعوة إلى تحديث المعرفة، ومواكبة المنجز الحضاري العالمي(الأوربي) الذي اقتحم أبواب القرن العشرين منفردا بصيغ التقدم العلمي والاجتماعي والفكري، ترتيبا على حرية مناهج البحث والتوسع في مفاهيم التجريب بصفة خاصة. ومن الممكن- دون حيف على الحقيقة- أمن نقول إن هذين الجانبين: حرية المنهج وحق التجريب هما الجانبان المفتقدان(بدرجات متفاوتة) في تلك المنشآت العلمية(العالية) التي أشرنا إليها من قبل، ولهذا أسبابه من سطوة الأفكار والمعتقدات(التاريخية) الدينية والاجتماعية وغلبة التقليد وخوف المغامرة، فضلا عن ضعف المخصصات المالية الموجهة إلى البحث العلمي، بحيث يبدو دائما هزيلا محدود التأثير. خلاصة ما سبق أن “الجامعة”- من حيث هي مصطلح ومؤسسة قد استكملت القرن عمرا بهذا العام، أما من حيث هي ذروة نظام تعليمي ذي مراحل فإنها كانت متحققة في صورة هذه المدارس”العالية”التي أسس بعض منها في عصر محمد علي، وبعض آخر في عصر حفيده إسماعيل، وفي الأزهر أيضا وإن آثر اسم”الجامع” على “الجامعة”، وزمنه- عند تأسيس الجامعة يقارب الألف من الأعوام. وإذا طرحنا احتمالا آخر يتجاوز “شكل” المؤسسة، إلى المنتج النقدي- وعليه المعول في اكتشاف الظاهرة ورصد نموها وتوجهاتها، فإننا سنجد بين أيدينا- وقبل تأسيس الجامعة- اسم الشيخ حسين أحمد المرصفي، صاحب كتاب:”الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية”، وقد حققه وقدم له الدكتور عبد العزيز الدسوقي، وفي التعريف بالكتاب ومؤلفه ذكر أن “الوسيلة” طبع الجزء الأول منه عام 1875، وطبع الجزء الثاني عام 1879(2)، وقد وصف الشيخ المرصفي بأنه ظاهرة باهرة من الظواهر العلمية والأدبية في مصر القرن التاسع عشر، إذ كان مكفوف البصر، أتقن فنون العربية، كما أجاد الفرنسية وترجم عنها، أما كتابه فإنه- كما يرى الدسوقي وكما يدل الكتاب نفسه، وكما تشهد أجيال ذات قدر قرأته وأخذت بتوجيهاته المنهجية- يعد نقطة تحول في مجال النقد والدراسة الأدبية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر واستهلال القرن العشرين. إن عبد العزيز الدسوقي الذي يذكر بالفضل ما كتب علي مبارك في “الخطط التوفيقية” عن الشيخ المرصفي، وأنه الوحيد من معاصريه الذي أشاد بجهده العلمي، ينبهنا الدكتور الدسوقي نفسه إلى كتابين آخرين مجهولين، أو أقرب إلى التجاهل ألفا على مقربة من زمن تأليف “الوسيلة الأدبية”، وهما كتاب: تاريخ آداب اللغة العربية، من تأليف محمد دياب، وقد طبع عام 1901، وكتاب: تاريخ آداب اللغة العربية من تأليف حسن توفيق العدل(3)، لا يزال مخطوطا، كتبه نساخ محترف عام 1904(4). كان الشيخ المرصفي(ولد نحو عام 1815 وتوفي 1890) ابنا لأحد شيوخ الأزهر، نشأ على أبيه، وتلقى دروس الأزهر، ونهض بالتدريس في دار العلوم، كان يدرس علوم البلاغة والنحو والصرف والمنطق والعروض والقوافي(5). أما “العدل” فقد ألقى دروسه في المدرسة الشرقية ببرلين خمس سنوات، ثم في كمبردج(انجلترا)- وبينهما في القاهرة، وكان موضع تقدير عظماء عصره حتى سار في جنازته مصطفى كامل ومحمد عبده، وكذلك كان محمد دياب(6)، فأثر هؤلاء مشهود له، واهتمامهم بصناعة الأدب وفنون اللغة تدل عليه عناوين كتبهم، وفي التكوين العلمي لكل منهم يذكر الأزهر ودار العلوم، وإذا كانت نجومهم قد توارت أو تراجعت عن المدار قبيل تأسيس الجامعة فليس هذا مما يقلل من قيمة الجهد العلمي الذي بذلوه في التأليف وفي التدريس، وأنه من الحيف ألا ينوه بجهوده حين نؤرخ للنقد الأدبي(العربي) الحديث .

استمر في القراءة الجامعة والنتاج النقدي