أرشيف الأوسمة: حبر

كتب الأستاذ: أحمد طنطاوي عن: (نص الأزمنة المخاتلة) /حبر على ورق) لسيد الوكيل

كتب: الأستاذ أحمد طنطاوي عن:
 
“حبر على ورق” لـ سيد الوكيل
 
(نص الأزمنة المخاتلة)
 
 تتالي الأزمنة والوعي القافز على مدرج الذاكرة الموسيقى بتوقيعاته الزمانية المتباينة…
الزمان هنا مضفر بالمكان (أقنوم زمكاني) والذاكرة صنو التمنى الضبابي، تمنٍ يجوب الوعي واللاوعي في آنٍ واحد ليستحضر معه كل علامات الذاكرة الحزينة الحائرة.
 الأم وزميلتها ملمح أوديبي يعلن عن نفسه بإصرار، والنص يبدأ بما يرسم القِدم والأزمنة التي ولت ليلوّن المكان بعبق العتاقة الرمادي، ويؤطر النص زمنيًا في تسلسل كرونولوجي وهمي ما يلبث أن يتغير إلى انبعاجات زمنية محدبة ومقعرة ممتزجة ومبعثرة.
 
“أريد حبرا لأكتب”
تكرار سيزيفي معلوم نتيجته المخفقة سلفًا
 
 نهاية النص لحظة تنوير فائقة ملتزمة بالمفهوم الكلاسيكي في بناء القصة القصيرة، حيث تُفك خيوط التشابك السابقة التي تجمعت، وتحقق التفجير الشعوري المطلوب، والأثر الكلي المبتغى.. النهاية اصطراع أمواج في بحر لجي، وصخب موسيقى عارم كما نهايات السيمفونيات الكبرى، وإدماج الأزمنة والأماكن في نفس الوقت يصيب بالدوار الإبداعي:
 
** طفل المدرسة الصغير.
** الدخول والتمثل والانتقال إلى البحر داخل حيز الدكان المكاني والتجسد الأمومي.
** واقع البطل الكبير الآن (اللحية و النظارة).
** انتقال مكاني وزماني إلى شبرا بالقاهرة.
** ثم عودة إلى شاطىء البحر المختفى في سراديب الذاكرة.
 
  الماضي والحاضر إذن لا معنى لهما في ذاتهما كتحديدين، بل إن (التمثل العميق) هو الأساس بمماثلة السؤال عن الكينونة بما هو متحقق الآن.. أي نسق الارتباطات والخيوط المضافة التي ترسم صورة مكتملة للذات، أو أمام الشخص نفسه، وأيضًا الزمن كما يدخل في نطاق خبرته الخاصة جدًا (الزمن النفسي) لا الفيزيائي شغف الطفل بالكتابة يُقابل بالصد والرفض وكأنه الإشفاق على الطفل من مجابهة الحياة أو الوقوف أمام النفس (كما التحديق فى المرآة) الذي أشار إليه “ألبير كامو” كأبسورد (عبثي أو لا معقول بالمفهوم الفلسفي أو الأدبي):
 
[النظر إلى هذا الغريب الماثل أمامنا المتحفز المتسائل والذي يصيبنا بالرعب والانفصال].
  كمتلقين… نتشرب شعرية النص المنساب كزورق على سطح بحيرة هادئة منومين، لنكتشف أخيرًا حقيقة أننا نعيش حياتنا كنقاط حبر على ورق، تكفي نقاط من ماء أو دموع لإذابتها، وخلط كل تلك الوقائع الحروفية على ذلك الورق، والتي حفرت خطوطها فى نفوسنا لتتلاشى أخيرًا كذرات تراب في يوم عاصف.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(النص)
“حبر على ورق”
  كل شيء هنا قديم، سجائر البحار، زجاجات الخمر المعتق، الأدوات المكتبية، أوراق الكتب الصفراء. وللدكان رائحة عميقة وغامضة، أشمها كلما مررت من هنا، وفي كل مرة، سأجد نفسي أدفع الباب الزجاجي، وأقف في مواجهتها، وستلقاني بنفس الابتسامة حتى أشعر بالخجل، فأحنى رأسي وتغمرني رغبة في بكاء. أغالبها وأقول:
 
 ـ أريد حبرا لأكتب.
 
 ـ كم مرة قلت لك أنك صغير على الكتابة بالحبر.
 
  أعرف أن أمي أوصتها ألا تبعيني الحبر أبدا، وتعرف أن محاولاتي لن تتوقف عن سؤالها. في كل مرة تواجهني بابتسامتها الغامضة، وملامحها الذكورية، وعريها النبيل. كانت قوية كأنها منحوتة من رخام وردي. ولما رأت دموعي، جلستْ على الأرض، فانحسر فستانها الحريري عن فخذيها. أغضمتْ عينيها، وأنا اتسلل وأجلس على حجرها، وأدس رأسي بين نهديها حتى شممتُ رائحة البحر، وسمعتها تهمس:
 
  ـ المرحومة أمك كانت زميلتي في المدرسة.
 
  أظنها بكت، لأن ملحا رقيقاً علق بشفتي، فمصصتُ شفتي وأغمضتُ عيني حتى سمعتُ صخب زملاء المدرسة من حولي، ورأيتُ كاترينا بينهم. لا أعرف متى كبرتْ وطلع لها نهدان جميلان، حتى أنهما غمراني برغبة وشبق، فأخذتني من يدي إلى المخزن.
 
  كان مكتظا بالورق والحبر وعلب سجائر وزجاجات خمر، و ثَمَ لوحة كبيرة لنساء جالسات على البحر، أغراني عريهن أن أقترب، حتي رأيتُ أمي بينهن، فوقفتُ خلف كرسيها المتحرك، صامتا حتى لاتشعر بوجودي، لكنها التفتتْ إليّ فجأة.
 
  كانت حزينة، وربما مريضة، وغير قادرة على الكلام. أشارت إلى لحيتي المهملة، ونظارتي، ففهمتْ. ثم نهضتْ، ومضتْ. فتبعتها إلى شارع شبرا. لكنها تجاوزتْ المدرسة، وبيت جدي. وعندما اقتربنا من سينما مسرّة، تركتني هناك، وعادت إلى البحر.