أرشيف الأوسمة: زينب

زينب: قصة نورهان صلاح

( زينب )

قصة :
.. هناك خيال في الغرفة …. أنا أعرف ملامح هذا الخيال .
إنها زينب … إنها تبكي …. ثم تضحك ….
الذين لا يحملون ضغينة لأحد .. يفعلون ذلك ..
الطيبون يبكون كأنهم يغسلون عيونهم من صدأ الماضي..
ليروا الدنيا أكثر نضارة .
الدنيا ليست نضرة ..
الحزن يُدمي العين . ويجعلك تحمل الهم .
الهم حجر على القلب ..
الشوق حارس على الروح .
والروح مقيدة في سجن مفتوح .
.. النوم هروب سريع من الأفكار المزعجة ..
لكني لا أنام …
الأرق يلعب معي من سنين .. عيني ذابلة . وقلبي محطم .
زينب حزينة …
إنها وحيدة . لهذا تشعر بالحزن .
إنها تنام وحيدة على سرير مزدوج
ولا تسمع سوى أنفاسها الرتيبة .
وأنا في التيه …. أنام بلا نوم . وأغفو بلا غفوة .
الأوغاد صنعوا سريرا مفردا من الشوك .
ونمت عليه مُكرها ……
والليل طويل جداا والغرفة بائسة …
وزينب خيال يجلس عند رأسي تعاتبني
على العمر الذي راح دون أن نحظى بالشبق الكافي .
.. قَرب الفجر أن يؤذن له … وأنا لم أنام .
السرير عليه شوك . وفئران تلعب في عبي ….
ورأسي مشوشة …
وأتجرع بقايا كوب شاى بارد ليخفف وطأة دخان السجائر الحارق
. عينى يتملكها السهاد .
عينى جافة تماما . أفرغت من سنين كل الدموع .
لا ماء يرطب جفناي الذابلة ..
ويبدو لي أني أنفقت الحزن كله على مدار سنوات ..
الغربة قتلتني …..
أنا مجرد مومياء تتحرك مازالت الروح تسكنها .
مهمتها الاساسية الآن .. تنظيم الانفاس .
وتسريب بعض الاكسجين ليدق القلب ..
أريد أن أنام …….
زينب تتحرك في فضاء الغرفة المظلمة ..
زينب خيال يحمل سكين حاد . يريد أن يذبحني .
رأسى على منضدة حمراء فداء للحب الذى راح ..
عينى زينب ذابلة ومرهقة .
وكأنها أفرغت دموعها مثلي منذ زمن بعيد ..
الزمن قطار مر علينا وقطعنا تقطيعا …….
أريد أن أنام .
لكنى خائف من الاحلام ..
الآمال المعلقة سقطت منذ فترة وأخذتها المياه الجارية
لبلاعة في الشارع العام .
اليأس معلق كستائر على الشباك .
الشباك مغلق وهواء الغرف جاف وبليد
وأنا أريد أن أخرج من جسدى . وأرتدى جلد كلب .
لأهيم في الطرقات ………………
ويطاردنى ابناء السبيل ويقذفونى بالحجارة …………..
وأقسم الشوك بينى وبين قطة .
.. الغربة نموذج مصغر للموت …..
إنها قبر مفتوح ..
كل مافيه ميت .. أموات يمشون بلا روح …
أرواح هائمة في برزخ في فضاء هائل …….
أنا بلا روح .
جسد يمشى بين الاحياء الاموات مثلي .
كلنا غرباء جئنا من أجل الدينار . ولم نجمع شيئا .
رغم أننا دفعنا ما علينا من دم ودمع ..
في الجانب الاخر من الدنيا . وعلى أعتاب التيه
استبدلنا الهواء النقي والزرع الاخضر والابتسامة الصافية . بحفنة من رمال الصحراء وقنينة ملأى بالهجير …..
وحياة خشنة ……
واستبدلنا أهلنا بكفيل بائس . ومصير في علم الغيب .
لاشئ له طعم ..لا شئ له رائحة ..
لا شئ له رونق ..
نزيف رجولي يومي يكفي لإنجاب ألف طفل .
والنساء في حاجة إلى قطرة …..
وحدى أمشي . لا عزوة ولا سند .. ولا أنيس ….
لا أحد تأمن له … ولا يأمن لك أحدا ….
كل مختلف عن الآخر … اختلافا كليا .
في الأفكار .. والأطماع … والنفس الأمارة بالسوء ..
وحدي أنا على سرير من شوك .. وزينب وحدها تنام …….
وكل يوم اطحن رغباتي وأقتل شهواتي وأنتحر .
ثم أفيق ..
فعل مكرر كل يوم …. وكلام مكرر ومعاد ..
وصراع بين زملاء أوغاد على لقمة عيش مغموسة بمذلة .
أنا لا أعرف ما الذي جاء بي إلى هنا ..
ومن أوحى لي بالسفر والاغتراب …..
آآآآه يا ضيق العيش …
آآآهن يا زينب .
أعلم أن ملامحك قد تغيرت . ووجهك النضر قد ظهرت عليه الشيخوخة .. وأن متاعب القولون والضغط قد زاد عليه السكر
لا بأس يا حبيبتي . سيعوضك الله .
فأنا لا أستطيع تعويضك فما دفعتيه يفوق خزانتي
حتى ولو كانت ملآنة بكل حسنات الارض .
وأعتقد أن لا حسنات لي .
فقد أنفقتها كلها تسديدا لذنوبي ….. ؛؛
_ ابراهيم ….
_ نعم يا زينب ..
_ ألم تشتاق إلي ……….
.. أنفاسك عالقة في صدري . قبلاتك محشورة في فمي . رائحة جسدك مخزونه في أنفي … أنت معى كظلي ..
أنا الظل ………….
وأنت الجسد الذى لا يفنى ……………
أنت الحقيقة وأنا الخيال ..
أنت الأمل وأنا اليأس .
_ ابراهيم .
_ نعم . يا روحى الهائمة .
_ العمر مضى . وقارب القطار محطته الأخيرة .
_ دعينى أنزل قبلك ..
_ ……………………………….
_ .. ؛؛؛

زينب..قصة: أشرف الخضري

قصة زينب سبتمبر 2017



الذئب قتل كلبنا الوحيد الذي يحرس البيت والبهائم، استدرجه حتى عبر إليه المصرف الذي يروي الأرض، وقتله من المحاشم.
أبي كان يتعمد المشى في الأماكن الموحشة حتى يلقاه، يومها وقفا أمام بعضهما البعض ، جدك ألقى إليه عامود ملبن كبير فالتصق بين أنيابه وانشغل فيه، ألقى عليه العباءة وقفز عليه؛ حاصره بداخلها بقوة وطعنه بالخنجر طعنات قوية متتالية حتى سمع صرخة عوائه الأخيرة الخاطفة، حمله إلى البيت كفارس مهزوم، شق بطنه وأكل كبدته نيئة وعلقه على التوتة أمام البيت.
في صباح اليوم المشؤوم الرجل الشائب أباظة أغطست رأسه فى ماء الطلمبة ،وضربته على رأسه بسطل اللبن، وجرسته أمام حريم العزبة، لكي يتوب عن الاحتكاك بالبنات والحريم، كنت أشعر وأنا أجذبه من شعره كأنني أمسكه من قرنيه، كانت قرونه حقيقية كالماعز.
جدك رحمه الله لم يكن يأكل من غيري أبدا، كنت ذراعه اليمين، كان أجمل رجل في العزبة، شعره أصفر ولون عينيه أخضر،طول وعرض وهيبة،كان الناس يسمونه النزيه.

القمر ليلتها كان بدرا، أخذت العشاء لجدك في الغيط مثل كل يوم، أذهب إليه بالعيش الطري المخبوز في فرن البيت، والجبنة والبيض والبصل، أجمع القشدة يوما بعد يوم وأصنع منها السمن البلدي والعجوزة، كنت أحب أن أراه وهو يشرب لأسمع زغردة الماء من شفاه القلة الفخار و جريان الماء البارد على رقبته وصدره بعد لقمة هنيئة ،وحينما يعيد القلة مكانها على شجرة النبق أحس أبي أطول رجل فى البلد.
“وقيد الطابونة ” والكوانين أصنعه بيدي من الأقراص التي أجمعها من روث الجواميس ، و قلاويح الذرة الشامية بعد أكلها نخزنها كالفحم.

كنت أغني ( يا أمه القمر على الباب ) وأنا أسير على حرف الأرض، شعرت بخطوات تتبعني، توقفت، إلتفت فلم أر أحدا، عيدان الذرة عالية ولها هيبة، انقبض قلبي لكن أبي على مرمى بصري فأحسست بالأمان ، أمام شجرة الجميز العامرة بالشهد، رأيتها بعيني!

  • ماذا رأيت يا أمي؟
  • أرانب ! أرانب كثيرة تلعب، قلت : ( رزق أرسله الله )، وضعت الصينية على الأرض، شمرت جلبابي الواسع وجعلت له حجرا مثل إناء، حاولت الإمساك بأرنب أو أكثر، أرانب بيضاء وسوداء ، ظللت أقبض على أرنب بعد الآخر وأضعه فى حجر جلبابي العميق، أمسكت أربعة أو خمسة لم تحاول الهرب مني، كاد قلبي الصغير ينفجر من الفرحة، أغلقت حجر الجلباب جيّدا، قعدت على قرافيصي وحملت صينية الأكل بيد واحدة ووضعتها على رأسي ومضيت إلى البيت، كنت أمشي خفيفة كفراشة دون أي شعور بثقل الأرانب في حجري.
    عندما وصلت طرقت الباب بعجيزتي، سألتني جدتك – ماذا تحملين في حجرك يا زينب ؟
    قلت لها أرانب يا أمه أرانب !
    أمي لطمت خديها وصرخت ياااااااا مصيبتي.
    ظللت طريحة الفراش عدة أسابيع، حلاق الصحة عجز عن معالجتي من الحمى الغريبة التي ظلت في جسدي، الشيخ مراون الكفيف جارنا قرأ سور قرآن كثيرة ،
    الحاجة مريم أعدت لي حجابا وأمرت أمي بعمل ( تبييتة بعد تبييتة ) وقدمنا قرابين، ديوك ذبحتها أمّى وطلت وجهي وبطني بدمها الساخن، شموع أشعلتها، وضعتها مع حلوى وحمص ولبن وعسل وفول سوداني وملبس وورد أسفل السرير، ليالى كثيرة رأيت الموت بعيني ولكن الله أنجاني.

بعد ثلاثة أعوام من فرحي، رأيت امرأة عريانة تمشي فى صالة البيت باتجاه الحمام.
ضوء لمبة الجاز الوحيدة التي تضيء شقتنا هذه وهي ما تزال طوبا أحمر لم تجعلني أشك أنني أنظر بعيني إلى امرأة عارية فائقة الجمال، شعرها الذهبي يغطي ظهرها كله ويستر عجيزتها تماما.
كنت أرضع أخاك ضياء، لم أنطق بحرف تجمدت عيناي عليها وصوت أنفاسي يتسارع ونبضات قلبي تنتفض ورعشة تهز جسمي كله، قالت لي بلهجة واضحة ( لا تنظري لي! ) كنت متيبّسة ككوز ذرة تحمص في الشمس،كنت مشلولة لا أستطيع تحريك أصبع أو رمش، فوهة اللمبة الجاز أخذت تفيض بالهباب كمدخنة فرن كبيرة، الدخان الأسود ظل يتعاظم حتى أظلم البيت، عندما أفقت لم أجد ضياء على صدري، أخذت أفتش في أركان البيت كالمجنونة وأنا أبكي ( والنبى يارب ) ، ظللت أبكي وأتوسل، طلبت السماح، نحيبي الهادر هز حيطان الشقة دون أن يسمعني أحد، فتشت تحت السرير، بحثت عن أخيك في الحمام، فتحت الدولاب ضلفة ضلفة وأخرجت ثيابي وثياب أبيك،ولم أجد لأخيك أثرا، قعدت على الأرض وأخذتك في حجرى وأنا أبكي وأملي في ربنا لم ينقطع، بعد ساعة أو ساعتين ، الدخان تلاشى، وذابت العتمة، سمعت صوت بكاء أخيك باهتا وضعيفا ،تتبعت الصوت ، وجدت ضياء محشورا بين كتف الدولاب والحائط ، أخرجته برفق ضممته في صدري وظللت أبوسه وأبكي وأنا آخذ أنفاسه في أنفاسي قبل أن أهوى على الأرض ساجدة لله .

مجموعة في ثقب بيضة.

لوحة محمود فتيح

سوق السيدة زينب.. قصة قصيرة/ عبده جبير.

  خرجت السيدة “أم علي” من باب الحجرة وأصبحت في المدخل المظلم في الساعة السادسة صباحا، بعد أن حبكت الملاءة حولها وهزت يدها بسلسلة المفاتيح وأغلقت الباب جيدا، متجهة إلى السوق كالعادة، في هذا الوقت المبكر وقبل أي شخص آخر، وسرعان ما أصبحت في الحارة ونظرت إلى النوافذ والشرفات، رأت الغسيل “البايت” والمفارش المتدلية وقارنت بين نظافة هذه المرأة وتلك، وتشربت غضبها على هذه الأشياء، وفي الغالب كان الأمر يبدو لها بتلك المعاملة التي تبديها إحداهن لها في هذه المناسبة أو تلك، ووجدت مبررات كثيرة لغضبها معتبرة أن المسألة تبدأ بالتجاهل الذي تلقاه من سكان الحي، وفسرته على نحو خاص: لموت زوجها الذي ترك لها الدكان واضطرت لبيعه ووضعت عائده في البنك لتحصل على ربح تعيش به ما تبقى من العمر، فليس هناك حل آخر بعد أن تركها ابنها الوحيد وهاجر إلى “الدول العربية” كما تقول هي، وأن لم تكن تعرف أي بلد على وجه التحديد، لكنها ظلت تنتظر العربة التي سوف تقف أمام البيت عدة سنوات حتى نسيته، على الرغم من أنها عندما تبدأ في البحث (داخل بيتها المكون من حجرة وفسحة ودورة) عن شخص تتحدث إليه، تقول لنفسها ـ عندئذ: أريده أن يأتي حتى ولو بلا شيء، أشعر بأن قلبي يخفق وأن الموت هناك، أخشى ألا.. وعند هذا الحد يتوقف بها التفكير، على الرغم من أنها سمعت عن إحداهن (في الناحية الأخرى من السيدة زينب) تعفنت دون أن يعرف أحد بموتها، وتقزز الجميع (ما عدا الحانوتي الذي طلب مبلغا مضاعفا لقاء غسلها وحملها) بعد أن اكتشفوا الحادث ورفعوا أيديهم بالمناديل إلي أنوفهم، كما تفعل هي الآن وهي تقترب من كوم الزبالة المكتظ بجثث الفئران والقطط، ومشت بسرعة أكبر متحاملة على نفسها، ليس فقط لتصرف تلك التداعيات داخل نفسها، بل، وحقيقة، لتبتعد عن تلك الروائح، وحتى (وهذا بدوره يصحو داخلها دفعة واحدة) لا تتأخر عن الوقت المناسب لتكون في السوق، قبل أن تأتي جحافل النسوة من كل صوب فيقضين على كل ما تحتاجه. وها هو ذا الغضب نفسه يجتاحها، لكن بمعدل أكبر، عندما بدت الصورة نفسها، وقبل أن تصل إلى الميدان (ميدان السيدة) وتدخل السوق: النساء غليظات جدا تتدلى مساحات ضخمة من صدورهن الغليظة خارج فتحة الصدر، يحملن الشنط البلاستيك والقفف ويمسكن بأكياس النقود في أيديهن ولا يبالين بالرأس التي انكشفت أو بالجلاليب التي غالبا ما انفكت عند المفارق أو تحت الإبط لتبدو منهن مساحات إضافية. وكانت (هي نفسها) ترى الشرر يكاد يقدح من عيونهن، وفي الصورة التي تراها قبل أن تتخطى الطوار إلى الناحية الأخرى من الميدان (ميدان السيدة زينب) وجوه كثيرة متقاربة على مسافة من عينيها وهي ـ تراها جميعا متجاورة ودفعة واحدة، فأحست بالعداء، واجتاحتها قشعريرة أشعرتها بالخوف فاندفعت تركض بقدر ما استطاعت لتتخطى الميدان وتصبح علي الطوار الآخر بالقرب من مدخل السوق. كانت العربات الكارو محملة بأقفاص الطماطم والخضروات الأخرى، إلا أن أهم ما يقلقها ألا تجد الطماطم؛ أو تجدها بالسعر الذي يعني تعدي الميزانية التي لا تستطيع (وقد حسبتها بعمر الإنسان) تجاوزها، أو تستطيع إلا أنها تصبح في جو أكثر كآبة ووحدة، لذا فإنها في الغالب كانت تلجأ إلى الانتظار: حتى يحمل الرجال الأقفاص من فوق العربات إلى الأرض، ثم تنتظر مرة أخرى حتى يفرغ التجار الأقفاص ويفرزونها فتشتري هي من تلك التي تباع ـ لعطبها ـ بسعر أقل، وهي لكي تنتظر ولا يشعر بها أحد، فهي هناك دائما، ويعرفها تقريبا، كل الباعة، كما أنها تحسب بسرعة هائلة الوقت الذي تضيعه، تظل يقظة للغاية، ولكن: تمشي من بداية السوق إلى نهايته وتدور في الشوارع المتقاطعة التي هي جزء من السوق لكنها متفرعة عنه، حتى تدخل الحارة التي تنتهي ببائع “الحصر”، وتفكر في أن تذهب إليه لتشتري واحدة، لكنها سرعان ما تصرف الفكرة عن رأسها وتعود (مرة أخرى) لتمشي بأقل ما يمكنها من السرعة، دون أن ترفع عينيها عما يتم، ودون أن تغفل الوقت (تحسب حسابه) قبل أن تأتي الجحافل وهي بين هذا وذاك، حيث تزداد مشاعر الوحدة، تقول لنفسها: “الطماطم الدامعة. الطماطم التي تبكي”. لكنها، وغالبا، بل ربما كل صباح، وهي تذكر ذلك، ولا تعرف ما الذي جعلها تحسبه بالوقت الذي مات فيه زوجها، بتلك الأيام، وينتهي بها الأمر أمام ذلك الرجل، الذي يظل عجوزا ومتجهما وهي تقف فيقول:

استمر في القراءة سوق السيدة زينب.. قصة قصيرة/ عبده جبير.