ـ بما أن الأدب نشاط لغوي فلنبدأ بتناول أدب الراوي و ( شخصيته ) أيضا من هذا المنطلق الأولي : أنشطة اللغة الإنسانية ، وهي على التوالي : الاستماع ـ الكلام ( التحدث ) ـ القراءة ـ الكتابة .
والحق أن كل المتصلين بالراوي اتصالا من قريب يستطيع تلمس هذه المناشط بجلاء في حركته الأدبية والحياتية ـ بما أن الأدب كان حياة الراوي ، وقد حمل اسمه نصيبا من نشاطه العملي وعطائه ( في القص والرواية ) .
أولا : السمع : فبدءا من مطلع حياته الطفولية الحافلة بالطبع ـ كما كان يحكي ـ بقصص الجدة والأم والنساء المقيمات ، وكل من امتلك في بيئته حاسة القص والحكي .
ولكن الاستماع اتخذ مجرى آخر في تطور حياته ونضج إدراكه . فنمت تلك الحاسة مع نموه الثقافي ليظل متمرسا بالاستماع للموسيقى الكلاسيكية ، مقتنيا لأدواتها ( الجرامفون والاسطوانات ) . بل تمادى في هذا العشق ، فأورثه رهافة للأصوات والإيقاعات انعكست على كتابته وإبداعه ، ليعطي كل كلمة حقها ونصيبها في موقعها من العبارة ، مصيخا السمع منتبها للكلمات الدالة والملفتة ـ ليس في الشعر بطبيعة الحال فقط ، بل في القص النثري أيضا ـ
وعلى الصعيد الشخصي واصل الراوي لعدة سنوات سنة ثقافية حميدة ـ حرمنا منها في السويس بعد ذلك ـ ألا وهي عقد جلسات استماع موسيقى منتظمة كل أسبوع ، نصغي مع شرحه الحماسي لإحدى سيمفونيات بيتهوفن أو تشايكوفسكي أو كورساكوف أو مقاطع / رباعيات لباخ أو موتسارت .
واستمر لعدة سنوات يدأب على تلك العادة , يحمل من بيته الجرامفون والاسطوانات ، وهو أمر لم يكن هينا مع كبر حجم هذه الأدوات وحساسيته ، وحرصه عليه وحدبه بها .
أما تجلي هذا الملمح ( الموسيقى والسماع ) في كتابته ـ فهو أمر واضح للعين القارئة ولو قراءة سريعة ، فالتفاته للأصوات واضح في سرده ، بل يحتل مساحات واسعة من إدر ااك الشخصية الروائية ( إسماعيل في الزهرة الصخرية عندما نزل في الكوخ تمهيدا لصعوده للجبل في رحلة الكشف التي عاينها وعاشها ) : بل الأصوات توجه حلمه ، أصوات الشارع الذي يذكره ، أصوات السابلة ورواد المقهي ولاعبي النرد .
ومن البين في عدة قصص هذا التضمين والإيراد المباشر للموسيقى في حياة شخوصه الفنية ، ولكن في سياق مقنع وليس مفتعلا .
ثانيا : الكلام ( التحدث ) : حاضر في نشاط الراوي وحياته الخصبة ، من خلال الندوات والمؤتمرات الثقافية ( أدباء الأقاليم رغم نفوره من هذا التعبير التصنيفي الجائر ) . ولكن ولعه بالتواصل والاتصال مع الناس دفعه دائما للانخراط في أي فعالية أو نشاط عام (ثقافي ) بشكل عام ـ أدبي بشكل خاص : يقبل بكل تواضع ، يجلس منصتا للمحاضر مبديا إعجابه وانبهاره بكل معلومة أو فائدة معرفية .
ولكنه عندما ينطلق في الحديث ( الأدبي خاصة ) ـ تتلبسه حالة خاصة من الجدية ( الغريبة) ، والتركيز الذهني والاستطراد والإسهاب ، فيصير من العسير إيقاف انطلاقه في التحليل والتفنيد ، و الوقوف على متابعاته للحياة الثقافية داخل وخارج مصر . و حتى في جلساته الخاصة يواصل التحدث بصبر ودأب عن نتاجات القصاصين الآخرين ، وجديدهم باعتناء واهتمام … وتغيض معالم هذا الجد عندما يخوض متحدثه في أي مجال آخر غير ثقافي جاد ( سياسة واقتصاد أو اي أمور حياتية ولو كانت معيشية ضرورية ) ، فعندئذ تنفجر شهية التهكم والمرح ، وتفكيك الموضوع المطروح وتمييعه ، والتهوين من شأنه .
أما مجال السرد ( القصص) ، فلا يتركه للنشاط الشفاهي ، ولايجعله عرضة للتحدث ، فالتحدث للثقافة ، أما القص فله الكتابة ، لدرجة أن من يسمعه لا يظنه قاصا . بل يحار في تخصصه ، او يظنه ناقدا أو محررا ثقافيا .
ثالثا : القراءة
فهي ديدن الراوي ومحور حياته ، لدرجة أن من الممكن لأي سارد لسيرة محمد الراوي أن يفرد مجلدا لتناول هذه العلاقة الحميمة بين محمد الراوي والكتب ، والمطبوعات بشكل عام : علاقة ممتدة عبر عقود من المعاناة والبحث والترتيب والتنسيق والانتقاء ، والتواصل أيضا ـ مع الاتحادات الثقافية العربية والمثقفين المصريين في شتى محافظات مصر بالمراسلة والسفر .
وكل من يعرف الراوي يلمس هذا الشغف بالكتب وجديدها ، الأمر الذي تجسد في مكتبة نادرة ـ لا أظنها في مكان آخر بالسويس على الأقل ، لا من حيث ضخامتها و وفرة ما تحويه من كتب ـ بل من حيث تنوعها ونظامها وندرة مابها وحسن اختيار موادها .. فهي تجسيد لهذا النهم والغرام بالمعرفة .
استمر في القراءة راوي السويس..قراءة في عالم محمد الراوي بقلم / قباري البدري →