شهادة بقلم الأديب أ.. سمير أحمد ندا
تأخذني هذه الشهادة إلى مطالع الأربعينيات من هذا القرن، وبعد أن اكتملت آليات إدراكي للمحيط الذي أعيش فيه بتعاملي المباشر من خلال حواسی. مع هذا المحيط الذي هيأ لي المناخ لتذوق مفردات الحياة وفرزها ما بين نغم أسر ونشاز منفر، ما بين جمال المشهد الطبيعي وقبح الخرائب، ما بين نقي الرائحة وكريهها.
أسمع من النشاز المخيف.. صافرة الإنذار، وصيحات الجنود لطفي النور” وطلقات المدفعية
المطاردة لطائرات دول المحور، ومن الكلم الملحون والموسيقى الأسرة تنجذب مسامعي إلى
افتتاحية قصيدة كليوباترا المتسعة بالجلال والعظمة ونداء محمد عبد الوهاب علي مليكته كليوباترا
ثم مناجاته لها:
أی حلم من لياليك الحسان
طاف بالموج فتى وغني الشاطئان
وقصيدة الجندول تتهادي على صفحة المياه مع نفس الصوت – عبد الوهاب:
أین من عيني هاتيك المجال
يا عروس البحر يا حلم الخيال
. وتعرفت مسامعي على ميلاد الرسول من خلال صوت أم كلثوم، وموسیقی رياض السنباطی :
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وقم الزمان تبسم وثناء
مسيح أم كلثوم لآخر المرسلين في نهج البردی :
ريم علي القاع بين البان و العلم
أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
وعرفت طريقي إلى القرآن الكريم، سماعا أول الأمر بصوت الشيخ رفعت المتبتل الوقور،
وأول ما تفتحت عيناي عليه بعد أسرتي، حديقة منزلنا بزهورها النضرة وألوانها المتعددة وتكعيبة
العنب التي تخللتها أغصان الفل والياسمين وأشجار الجوافة وشجرة التمر حنة
وأول ما تنسمته من روائح الطبيعة تضوع عبقا من شجرة النمر حنة
وتخلقت من خلال هذا التعامل المباشر مع محيط أسرتی بحواسي المختلفة أسئلة كثيرة عن معانی
بعض كلمات القران وما سمعته من قصائد وغناء، وما يتردد في نشرات الأخبار عن وقائع الحرب
بين دول المحور والحلفاء، وما تقع عليه عينای من صور نشرات الدعاية الملونة عن قوات
الحلفاء التي كانت تغرق شوارع مدتيا.
١٠٣
وما أن استكملت عدتي في القراءة من خلال حفظي لمعظم القرآن الكريم ما بين الخامسة
والسادسة من عمري حتى تنقلت ببصري بين العديد من الصحف والمجلات والدوريات الشهرية
والأسبوعية وغيرها من الكتب الأدبية وطرح الواقع السياسي على تساؤلات عدة: ما هي حكاية
4 فبراير، وبعض المحلات هنا وهناك ترفع لفتات باسم هذا التاريخ 4 فبراير، ودلالة هذا اليوم
هتفت وأنا في الثامنة ضد معاهدة صدقي بيفن ، وبكيت أحمد ماهر الذي اغتيل بيد القدر عام
1945، ومن بعده رفيق دربه، محمود فهمي النقراشی ، و بينهما بكيت مصارع المئات من طلبة
جامعة فؤاد الأول الذين تساقطوا من فوق كوبري عباس الذي أمر إسماعيل صدقي باشا بفتحه
ليواجه المظاهرات المعادية لسعادته مع بيفن و التي سقطت بالفعل ولم تكتب لها الحياة.
وفي عام 47 وكنت في الثانية من عمري عشت مؤامرة اغتصاب فلسطين، وسمعت حكايات
الجنود والضباط وتتبعت مقالات إحسان عبد القدوس عن الأسلحة الفاسدة.
في هذه الفترة وبعد أن حفظت الكثير من القرآن الكريم انفتحت لي الدروب لقراءة طه حسين
ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم وإسماعيل مظهر واحمد حسين الزيات، بل أن والدي أتاح لي قراءة
بعض مصنفات الجاحظ و العديد من مؤلفاته “البيان والتبيين “البخلاء” “التربيع والتدوير.
والمحاسن والأضداد ” وعشرات الروايات المترجمة في سلاسل “روايات الجيب – روايات الهلال
– ودار الكاتب المصري.
هذه فترة التأسيس الأولى مشتبكة بالظرف التاريخي الذي تفتج فيه وعيي وتواسي على العالم
المحيط بي والذي عتقه جو صوفي تممته في رحاب الشيخ محمد الحافظ التيجاني والشيخ إبراهيم
محمد أبو خليل، وامتد معي هذا التيار الصوفي مستترا تارة مفصحا عن كوامنه تارة أخرى حتی
وأنا اتعامل مع فلسفتين في الخمسينيات هما : الاشتراكية العلمية، والوجودية بين يدي المفكر
الشاعر الكبير محمود أمين معالم، والكاتب القاري الشهير أنيس منصور. وفي مطلع الخمسينيات
حررت مجلة منزلية أسميتها “الفن العصري” نثرت فيها بعض الأخبار الفنية والموضوعات التي
تتناول حياة عدد من الفنانين شجعني على ذلك إعجاب أساتذة اللغة العربية بموضوعاتي الإنشائية
وحصولي على الدرجة النهائية، ولا أنسى ما كتبه الشيخ إبراهيم في كراسة الإنشاء عام 1951م
حيث قال أتنبأ لك بمستقبل عليم” وأرسل كراسة الإنشاء إلى والدي حتى لا يطلع عليها أحد
مفتشي اللغة العربية، ذلك أنني حملت بشدة على النظام الملكي والفساد الذي فاحت عفونته في ذلك
الحين 1951م