كتابة الأحلام

كتب: سيد الوكيل

في كتابي الذي سيصدر من مؤسسة (بتانة) خلال أيام، كتبت فصلا كاملا عن فن كتابة الأحلام، بعد دراسة وافية لماهية الحلم، وآليه عمله في اللاوعي، وعمق صلته بالإبداع، نتيجة لطاقة التخييل المكتنزة به، وطبيعته الزمانية والمكانية. كان هذا هو رهاني الشخصي عندما كتبت مجموعتي ( لمح البصر).

وعندما صدرت مجموعة (أحلام الفترة الانتقالية) للقاص محمود عبد الوهاب، أرجأت قراءتها حتى أنتهي من لمح البصر، وبعد ذلك قرأتها، وقرأت ( دفتر النائم) لشريف صالح، وقرأت ( ما وراء الجدار) لمصطفى يونس، وأحلام سرية لمصطفى بيومي، التي أكدت طواعية الأحلام لتنسج نصا روائيا كاملا قبل أن يكتب نجيب محفوظ أحلام فترة النقاهة.  

لم يكن أي من هؤلاء يعلم عن الآخر انه سيكتب مستفيدا من بنية الأحلام، لكن النتيجة أن كان لدينا طرائق مختلفة، لكتابة سردية مميزة، تلحق بفن القصة القصيرة الرحب والمرن، فإذا كان قد استوعب القصة عبر النوعية، و الرقمية، والومضه، والقصة الشاعرة، كما مرر جمالياته إلى قصيدة النثر.. فليس ثم ما يمنع أن يستوعب طرائق جديدة من التعبير القصصي..

 وظني أن كتابة الأحلام أكثر نضجا في هذا السياق، نظرا لطبيعتها الجمالية التي أشرنا إليها في البداية. فالأحلام ذاتية كما أجمع علماء النفس، واقع داخلي، يخص صاحبه، ومهما تشابهت أحلامنا، فلكل حلمه الدال عليه، بمعنى أن البصمة الشخصية للحالم، لا يمكن تزييفها، أو تقليدها مهما تشابهت الأحلام.

إن كتابة الحلم، تحفظ لكل كاتب هويته، وعمقه الذاتي، لهذا فالاعتقاد بأن كتبة الأحلام مقلدون لنجيب محفوظ هو وهم ساذج.. وفي هذا الملف الذي نفتتحه بأحلام محمود عبد الوهاب، سنقدم نماذج لفن كتابة الأحلام، ونتعهدها بتعقيبات وشروح يسيرة.

 وهذه دعوة لتكتبوا أحلامكم.. إنها تجربة ثرية، فريدة، لتعرف ما بداخلك.

لكن كتابة الحلم لا تعني أننا نحلم ونكتب ما حلمنا به، إنها تأمل للمحة وامضة في ذهنك، تفضي إلى تتبع عميق في مسارات اللاوعي، بعوالمه الغامضة، تستهدف بحثا في صندوقك الداخلي فقد تجد فيه كنزك، وقد تجد رعبك، وقد تجد ما لم يخطر لك على بال. لكنك حين تنتهي، ستعرف أن بداخلك إمكانات كانت مهدرة، وتري ذاتك في كل مناطق ضعفها وقوتها.

وفيما  يلي ننشر نصين من نصوص الأحلام، متفقين في الموضوع ، وهو الحلم بالأم، ولنرى كيف تتفاوت التجربتين من حيث الرؤية، وطرائق التعبير، بما يعني أننا أمام نصوص فنية، أكثر من كونها مجرد حلم، يمكنها أن تتميز بالشاعرية، والشفافية، أو بالغموض والغرائبية، على نحو ما تكون الأحلام.      

الأم 531583_10151375550041821_581649886_n.jpg

قصة لمحمود عبد الوهاب    

 رأيتها كثيرا بعد وفاتها، في البدايات كل ما كنت أشعر به هو وجودها –فقط-في المكان، ثم عند تتالى المرات أخذ الوجود يزداد اقترابا وكثافة، لم يكن قد مضى على موتها أكثر من شهر عندما بدأت أراها ثانية، كان هذا عكس ما حدث مع الأقرباء الآخرين، وأقربهن خالاتي.

 ظهرت لى كثيرا بعد ذلك، وعقب كل ظهور كنت أفيق على حالة من السعادة غير مكتملة، كأني أريد شيئا أكثر من مجرد الوجود، وصالا أكبر يدوم، إلى أن رأيتها مرتين متتاليتين، وبدا لى الأمر كأن إحداهما تسليم للأخرى، ففى البداية رأيتنا خارجين من مكان أشبه بمول ذى باب زجاجى كبير، وما إن تركت يدها لانشغالى بشأن ما حتى اختلط عليها الأمر فاتجهت نحو الزجاج ظنا منها إنه الباب. أسرعت إليها وأخذت يدها غير أن نتيجة الحركة السريعة أن قدمها التوت.

وفى المنزل أحضرت الماء الساخن وبعض الملح وبدأت أدلك قدمها، ويبدو أنى دلكت بطريقة خاطئة مما حدا بها إلى أن تنهرني قائلة:

–         ده تدليك ده؟

أثر الحلم كان السرور بعد الاستيقاظ، لم يهمنى نهرها لي، بل أسعدنى أن صوتها كان قويا ووعيها كاملا. رأيتها قوية.

ثم رأيتنى ثانية وقد أوصلتها بالسيارة من مكان إلى آخر، ثم فتحت باب السيارة ومددت لها يدي على اتساعها لتمسك بها كيفما ترغب، ثم رفعت يدي بها فقامت، مشينا خطوة إلى الخلف كى نغلق الباب، نظرت إلى حيث تريد أن تذهب، كان سورا ممتدا لناد كبير، وقد تكاثفت عليه الأشجار بصورة جميلة، أما الشمس فكانت رقيقة إلى درجة أن أشعتها تكاد تبين، خلال الأغصان، كخطوط ذهبية متقطعة.

كانت داخلة وحدها إلى النادى للقاء بعض الأقارب، وطلبت منى ألا أنتظرها لأنهم هم من سيقومون بتوصيلها فى آخر اليوم، فسألتها:

–         أوصلك لجوه طيب؟

قالت لى بابتسامة شجاعة:

–         لا مفيش داعي، أنا عارفة طريقى كويس.

وقبل أن تغادرنى فاجأتنى بشئ لم أعهده من قبل، قبلتنى على عينى وغادرت، فصحوت أتحسس رطوبة شفتيها وأبتسم من فرط القرب.

 

 

حبر على ورق

قصة لسيد الوكيل  images.jpg

 

كل شيء هنا قديم، سجائر البحار، زجاجات الخمر المعتق، الأدوات المكتبية، أوراق الكتب الصفراء. وللدكان رائحة عميقة وغامضة، أشمها كلما مررت من هنا، وفي كل مرة، سأجد نفسي أدفع الباب الزجاجي، وأقف في مواجهتها، وستلقاني بنفس الابتسامة حتى أشعر بالخجل، فأحنى رأسي وتغمرني رغبة في بكاء. أغالبها وأقول:

ـ أريد حبرا لأكتب.

ـ كم مرة قلت لك أنك صغير على الكتابة بالحبر.

أعرف أن أمي أوصتها ألا تبعيني الحبر أبدا، وتعرف أن محاولاتي لن تتوقف عن سؤالها. في كل مرة تواجهني بابتسامتها الغامضة، وملامحها الذكورية، وعريها النبيل. كانت قوية كأنها منحوتة من رخام وردي. ولما رأت دموعي، جلستْ على الأرض، فانحسر فستانها الحريري عن فخذيها. أغضمتْ عينيها، وأنا اتسلل وأجلس على حجرها، وأدس رأسي بين نهديها حتى شممتُ رائحة البحر، وسمعتها تهمس:

 ـ المرحومة أمك كانت زميلتي في المدرسة.

 أظنها بكت، لأن ملحا رقيقاً علق بشفتي، فمصصتُ شفتي وأغمضتُ عيني حتى سمعتُ صخب زملاء المدرسة من حولي، ورأيتُ كاترينا بينهم. لا أعرف متى كبرتْ وطلع لها نهدان جميلان، حتى أنهما غمراني برغبة وشبق، فأخذتني من يدي إلى المخزن.

كان مكتظا بالورق والحبر وعلب سجائر وزجاجات خمر، و ثَمَ لوحة كبيرة  لنساء جالسات على البحر، أغراني عريهن أن أقترب، حتي رأيتُ أمي بينهن، فوقفتُ خلف كرسيها المتحرك، صامتا حتى لاتشعر بوجودي، لكنها التفتتْ إليّ فجأة.

 كانت حزينة، وربما مريضة، وغير قادرة على الكلام. أشارت إلى لحيتي المهملة، ونظارتي، ففهمتْ. ثم نهضتْ، ومضتْ. فتبعتها إلى شارع شبرا. لكنها تجاوزتْ المدرسة، وبيت جدي. وعندما اقتربنا من سينما مسرّة، تركتني هناك،  وعادت إلى البحر.

 

أضف تعليق