الليل شتاء، والحارة مظلمة زلقة، وأنا أتحسس طريقي بجوار الجدران، تجنباً للبالوعة المفتوحة في منتصف الحارة.
رأيتها، تتخطى الأحجار القلقة حول البالوعة، طفلة لاتدري ماذا تفعل، ولا أي خطر يحدق بها، صرخت لها:
ـ احذري البالوعة يا أسماء.
هذا ما طننت أنه اسمها، لكنها لاتبالي، وربما لاتسمعني، حتى رأيت يقيناً سقوطها فصرختُ، ورأيتني في قاع واحد معها. وثَمَ ماء يعلو حتى صدري، فعرفتُ أنها هلكتْ، وأنا هالك بعدها، وعندما هممتُ بنطق الشهادتين، ظهرت ـ من وسط الماء ـ عجوز محنية، يطال الماء ثدييها الجافتين بالكاد، فتشاغلتُ بها عن أسماء ومددت لها يداً.
كلما دنوت منها ابتعدت، حتى استحال لقاءنا، فوقفت مكاني يائساً، لا أدري ماذا أفعل؟ وأيقنتُ أنه الموت لا محالة، عندئذ رأيتها، تشير لي إلى ناحية النفق:
ـ أنج بنفسك.
سبحت وقتاً غير هين في نفق طويل، وأنا أشعر بخوفي وعجزي يثقلاني، أسمع أصداء أنين العجوز وأحس رجفتي، حتى انتهيت إلى كوة أبصرتها من بعيد، ورأيتها تقف على فتحتها، بثوب يشف عن جسد فتي، ورأيت من خلفها نوراً، فاقتربت ملهوفاً فيما هى لا تبارح مكانها، حتى وصلت إليها، ومددت لها يداً، فأخذتني في حضنها، ووضعتُ وجهي بين ثدييها وبكيت كأني أعاتبها، فيما هى تربت على رأسي.
ـ لماذا تفعلين بي هذا يا أسماء؟
أمسكتْ بيدي، وسبحنا معا إلى مصب كأنه بحيرة من ماء رائق، تعلق فيه زهور وقناديل، وأسماك ملونة تسبح حولنا، وتطوف بنا جوانب البحيرة.
اغتسلنا في البحيرة ثم عدنا إلى الفتحة التي دخلنا منها، فعاودني خوفي واستبدت بي رجفتي من جديد وهي تودعني عند نهاية الضوء، وأول النفق المظلم.
لم يكن مظلماً كأول مرة، وكان الماء رفيقاً ناعماً، يدفعني بلاعناء إلى مسقط البئر، والعجوز مازالت واقفة هناك، تشير إلى سلم من حديد، وتقول: اخرج إلى الدنيا.
تسلقت السلم حتى خرجت إلى الشمس، فإذا بي في صحراء لا أول لها ولا آخر، والقيظ يضربها من كل جانب، حتى ظننت أنه الموت جفافاً. عندئذ رأيت شبحا يقترب، ففكرت أنه سراب من وحى الصحراء، ولكنه مازال يقترب، حتى عرفت فيه أسماء، تجر خلفها شاة تتعثر، فجلست مكاني بلا حيلة. فيما هى تضحك من يأسي، وتمد لي يداً بكوب حليب، وكسرة خبز، أخذتهما في لهفة، وأنا حانق عليها قلت:
ـ أنت وراء كل هذا.
قالت: بل أنا كل هذا.