حكاية الرجل الذي لم يحلم أبدًا.. قصة: طارق إمام

كان صباحاً معتماً كالليل، عندما استيقظت المدينة على الخبر الذي كان من الصعب تصديقه، فقد مات الرجل الوحيد في هذه الدنيا الذي عاش حياته بلا أحلام.

نعم، عاش الرجل عمره بمنامات خالية من الصور، وتَعذَّب كثيراً لأنه لم يملك يوماً ما يحكيه بعد استيقاظه مثل بقية الناس.

كان الصباح استثنائياً، غير أن أحداً لم ينتبه. استيقظت دجاجات الجارات في المساء وظلت تطلق صيحات عالية بينما كان الجميع غائبين في مناماتهم. وبالمقابل، صمتت الكلاب فجأة وتوقف نباحها طيلة الليل. عندما استيقظ الناس كانت الدجاجات قد نامت وحلّ صمتٌ رهيب فوق الأسطح، وبالمقابل كانت الكلاب تركض في أسرابٍ عمياء بامتداد طريق المعجزات، مطلقةً نباحاً كئيباً كصرخات شيطان. ورغم أن كلاب البيت لا تشبه كلاب المدينة، إلا أن الكلب الذي يحرس أحلامه فكّ إساره وانطلق. كان كلباً غريباً، يركض طوال الوقت خلف أشباح يراها وحده، ثم فجأة ينقض على نقطة في الهواء ممسكاً بها كأنه الوحيد الذي يرى تجسدها، عرفنا بعد ذلك أنها كانت الأحلام التي تتحرك وحدها، والتي كان الكلب مسئولاً عن حراستها من الهرب.

لم ينتبه الناس أول الأمر للأشياء الغريبة التي تحدث خارج الحوائط، ولكنهم فكروا جميعاً، كل على حدة، أن الليلة الماضية مرت عليهم بلا أحلام. ناموا جميعاً ساعات طويلة واستيقظوا دون أن يروا شيئاً في مناماتهم، وعندما مروا على بيت الرجل ولم يجدوه جالساً كعادته على العتبة، اكتشفوا أن شيئاً غير عادي حلَّ بالمدينة، فربطوا لأول مرة بين صمت الدجاجات وجنون الكلاب وأحلام الليلة الفائتة التي خاصمتهم، وفي هذه اللحظات فقط واتتهم الشجاعة للعبور في الظلمة عبر مدخل بيته، ليجدوا الجثمان المسجى على سريره، بالعينين الذاهلتين، المتألمتين قليلاً من خيوط الشمس التي عبرت شيش نافذته وتقاطعت على وجهه الأزرق. “كان يبدو كأنه يحلم لأول مرة في حياته”.هكذا وصف بعض شهود اللحظة الرهيبة مشاعرهم تجاه الصورة الأخيرة التي التقطتها أعينهم للرجل الذي غاب عن الدنيا وحيداً، تماماً مثلما عاشها.

النساء القليلات اللائي سمح لهن أزواجهن بالدخول، أكدن بعد ذلك أن الدموع تجمدت في أعينهن، حيث بدا الرجل الذي تجاوز المائة مثل طفل يواجه الحياة لأول مرة بحيرة غير مبررة، حتى أن امرأة معمرة  قالت بعد ذلك بينما تسترجع مشاعرها: “شعرت أنه سيصرخ بين لحظة وأخرى كأي وليد باغته الضوء بعد تسعة أشهر من الظلمة”.

الأطفال وحدهم عرفوا مبكراً، لأنهم حلموا جميعاً بحياته الحقيقية المديدة في ليلتهم السابقة، منذ ولادته وحتى اللحظة الذي مد فيها يده عند الفجر وفتح نافذته، ليغمض عينيه على الضوء الشاحب الذي بدأ يجرح عتمة المساء. جميعهم رفضوا الاستيقاظ قبل أن يكملوا المنام، لأن الحلم كان أقوى من أن تقطعه اليقظة. عندما انتهى المنام، خافوا أن يحكوا ما رأوا، ليس فقط لأن أحداً من أهاليهم لم يكن ليصدق، لكن لأنهم شعروا – بالغريزة فقط- وباتفاق مبهم تواطأت عليه قوة الطفولة التي لا تُبارى، أن هذا المنام المشترك علامة لا يجب أن تُحكى.

عانى الرجل في حياته من غياب الأحلام عنه، حتى أنه خشي أن يتزوج كي لا يورِّث أبناءه نقطة ضعفه. جرَّب في فترة أن يؤلف أحلاماً ويحكيها للناس طالباً تفسيرها، ولكنها كانت أحلاماً باهتة يفوح منها الكذب، وفوق ذلك، كان الناس يفسرونها بمعانٍ مخيفة تبعث على التشاؤم. حاول مراراً أن يختلق أحلاماً تحتمل تفسيرات متفائلة، لكن التفسيرات ظلت غير مُطمئنة حتى في أشد ما حكاه إبهاجاً. هكذا قرر ألا يعود إلى ذلك، خاصةً أنه لم يكن على استعداد لأن يرتعب من طالعه بسبب مناماتٍ وهمية. من يومها كف الرجل، مكتفياً بالمقابل، بينما يجلس مع أصدقائه مستمعاً لأحلامهم الغريبة، أن يتفنن في تفسيرها كي يجد لنفسه دوراً، وليُمضِّي الوقت متخفياً خلف أحلام الآخرين، تلك الأحلام الحقيقية التي تطفو في نوم الآخرين العميق مثل سحابات ثقيلة لا تمطر إلا بعد اليقظة، قبل أن يطلب منه أحدهم سرد أحلام لم تحدث.

في تلك الفترة تحديداً بدأت حياة الرجل تأخذ شكلاً جديداً لم يكن ليتخيله، فقد راحت تفسيراته المُرتجلة لأحلام الآخرين تتحول إلى وقائع حقيقية ما تلبث أن تقع لأصحابها، بالضبط كما وصفها. كان ما يحدث نسخاً طبق الأصل من تنبؤاته. مع تكرار الوقائع صار الرعب هو الشعور الوحيد الذي سيطر على الرجل، وقد أدرك فجأةً أن الله حرمه من أحلامه الخاصة لكي يمنحه ــ بالمقابل ــ قدرةً أخرى على أن يقرأ أحلام الآخرين . قرر الرجل أن يختفي تماماً من حياة المدينة المتخمة بالأحلام، غير أنه لم يكن يعرف، عندما لاذ بحوائطه، أن الأمور انفلتت من بين يديه للأبد. انهالت طَرقات الناس على بابه، جميعهم يطلبون تفسيراتٍ لأحلامهم من الرجل الذي لا يُخيِّب القدر كلماته.

هكذا اكتسب الرجل _ دون أن يقصد أو يريد _ المهنة التي منحت حياته الخاوية معناها الوحيد، وتيقن الناس أنه لا يحكي أحلامه لأحد لأنه يعرف تفسيراتها جيداً. تنبأ الرجل بأشياء كثيرة طوال سنوات حياته: زيجات غير متوقعة وميتات لا تُصدق، سفر وترحال وعودة غائبين بعد طول بُعد، ووصلت به الحنكة حد أنه كان يستطيع أن يقرأ أحلام الناس قبل أن ينطقوا بها، حتى جاءت الليلة التي أدرك فيها أن الصباح سيشهد وداع أنفاسه.

ما لم يعرفه أحد أن الرجل في تلك الليلة بالذات شاهد آلاف الأحلام المتداخلة، أحلام حياته كلها التي ظلت مخبأة في ركن معتم، هاجمته دفعة واحدة، ما إن ينتهي أحدها حتى يبدأ الآخر. راح الرجل يسبح بينها كغريق لا يريد النجاة، وكان الرجل _ في نومه _ يعرف أنه لن يحكيها لأحد، ولن يتاح له الوقت للتفكير فيها، لأنه أدرك بحدس غامض أنه لن يستيقظ بعد الآن، خاصة أن حلمه الأخير، الذي سبق اقتحام الأهالي لغرفته بلحظات، كان هو نفسه مشهد موته.

فكرة واحدة بشأن "حكاية الرجل الذي لم يحلم أبدًا.. قصة: طارق إمام"

أضف تعليق